تفسير القرطبي الجامع لأحكام القرآن تفسير الصفحة 469 من المصحف



تفسير القرطبي - صفحة القرآن رقم 469

469- تفسير الصفحة رقم469 من المصحف
قوله تعالى: "اليوم تجزى كل نفس بما كسبت" أي يقال لهم إذا أقروا بالملك يومئذ لله وحده "اليوم تجزى كل نفس بما كسبت" من خير أو شر. "لا ظلم اليوم" أي لا ينقص أحد شيئا مما عمله. "إن الله سريع الحساب" أي لا يحتاج إلى تفكر وعقد يد كما يفعله الحساب؛ لأنه العالم الذي لا يعزب عن علمه شيء فلا يؤخر جزاء أحد للاشتغال بغيره؛ وكما يرزقهم في ساعة واحدة يحاسبهم كذلك في ساعة واحدة. وقد مضى هذا المعنى في "البقرة". وفي الخبر: ولا ينتصف النهار حتى يقيل أهل الجنة في الجنة وأهل النار في النار.
الآية: 18 - 22 {وأنذرهم يوم الآزفة إذ القلوب لدى الحناجر كاظمين ما للظالمين من حميم ولا شفيع يطاع، يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، والله يقضي بالحق والذين يدعون من دونه لا يقضون بشيء إن الله هو السميع البصير، أولم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين كانوا من قبلهم كانوا هم أشد منهم قوة وآثارا في الأرض فأخذهم الله بذنوبهم وما كان لهم من الله من واق، ذلك بأنهم كانت تأتيهم رسلهم بالبينات فكفروا فأخذهم الله إنه قوي شديد العقاب}
قوله تعالى: "وأنذرهم يوم الآزفة" أي يوم القيامة. سميت بذلك لأنها قريبة؛ إذ كل ما هو آت قريب. وأزف فلان أي قرب يأزف أزفا؛ قال النابغة:
أزف الترحل غير أن ركابنا لما تزل برحالنا وكأن قد
أي قرب. ونظير هذه الآية: "أزفت الآزفة" [النجم: 57] أي قربت الساعة. وكان بعضهم يتمثل ويقول:
أزف الرحيل وليس لي من زاد غير الذنوب لشقوتي ونكادي
"إذ القلوب لدى الحناجر كاظمين" على الحال وهو محمول على المعنى. قال الزجاج: المعنى إذ قلوب الناس "لدى الحناجر" في حال كظمهم. وأجاز الفراء أن يكون التقدير "وأنذرهم" كاظمين. وأجاز رفع "كاظمين" على أنه خبر للقلوب. وقال: المعنى إذ هم كاظمون. وقال الكسائي: يجوز رفع "كاظمين" على الابتداء. وقد قيل: إن المراد بـ "يوم الآزفة" يوم حضور المنية؛ قاله قطرب. وكذا "إذ القلوب لدى الحناجر" عند حضور المنية. والأول أظهر. وقال قتادة: وقعت في الحناجر المخافة فهي لا تخرج ولا تعود في أمكنتها، وهذا لا يكون إلا يوم القيامة كما قال: "وأفئدتهم هواء". وقيل: هذا إخبار عن نهاية الجزع؛ كما قال: "وبلغت القلوب الحناجر" وأضيف اليوم إلى "الآزفة" على تقدير يوم القيامة "الآزفة" أو يوم المجادلة"الآزفة". وعند الكوفيين هو من باب إضافة الشيء إلى نفسه مثل مسجد الجامع وصلاة الأولى. "ما للظالمين من حميم" أي من قريب ينفع "ولا شفيع يطاع" فيشفع فيهم.
قوله تعالى: "يعلم خائنة الأعين" قال المؤرج: فيه تقديم وتأخير أي يعلم الأعين الخائنة وقال ابن عباس: هو الرجل يكون جالسا مع القوم فتمر المرأة فيسارقهم النظر إليها. وعنه: هو الرجل ينظر إلى المرأة فإذا نظر إليه أصحابه غض بصره، فإذا رأى منهم غفلة تدسس بالنظر، فإذا نظر إليه أصحابه غض بصره، وقد علم الله عز وجل منه أنه يود لو نظر إلى عورتها. وقال مجاهد هي مسارقة نظر الأعين إلى ما نهى الله عنه. وقال قتادة: هي الهمزة بعينه وإغماضه فيما لا يحب الله تعالى. وقال الضحاك: هي قول الإنسان ما رأيت وقد رأى أو رأيت وما رأى. وقال السدي: إنها الرمز بالعين. وقال سفيان: هي النظرة بعد النظرة. وقال الفراء: "خائنة الأعين" النظرة الثانية "وما تخفي الصدور" النظرة الأولى. وقال ابن عباس: "وما تخفي الصدور" أي هل يزني بها لو خلا بها أو لا. وقيل: "وما تخفي الصدور" تكنه وتضمره. ولما جيء بعبدالله بن أبي سرح إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، بعد ما اطمأن أهل مكة وطلب له الأمان عثمان رضي الله عنه، صمت رسول الله صلى الله عليه وسلم طويلا ثم قال: "نعم" فلما انصرف قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لمن حوله: (ما صمتُّ إلا ليقوم إليه بعضكم فيضرب عنقه) فقال رجل من الأنصار فهلا أومأت إلي يا رسول الله، فقال: (إن النبي لا تكون له خائنة أعين).
قوله تعالى: "والله يقضي بالحق" أي يجازي من غض بصره عن المحارم، ومن نظر إليها، ومن عزم على مواقعة الفواحش إذا قدر عليها. "والذين يدعون من دونه" يعني الأوثان "لا يقضون بشيء" لأنها لا تعلم شيئا ولا تقدر عليه ولا تملك. وقراءة العامة بالياء على الخبر عن الظالمين وهي اختيار أبي عبيد وأبي حاتم. وقرأ نافع وشيبة وهشام: "تدعون" بالتاء. "إن الله هو السميع البصير" "هو" زائدة فاصلة. ويجوز أن تكون في موضع رفع بالابتداء وما بعدها خبر والجملة خبر إن.
قوله تعالى: "أولم يسيروا في الأرض فينظروا" في موضع جزم عطف على "يسيروا" ويجوز أن يكون في موضع نصب على أنه جواب، والجزم والنصب في التثنية والجمع واحد. "كيف كان عاقبة" اسم كان والخبر في "كيف". و"واق" في موضع خفض معطوف على اللفظ. ويجوز أن يكون في موضع رفع على الموضع فرفعه وخفضه واحد؛ لأن الياء تحذف وتبقى الكسرة دالة عليها وقد مضى الكلام في معنى هذه الآية في غير موضع فأغنى عن الإعادة.
الآية: 23 - 27 {ولقد أرسلنا موسى بآياتنا وسلطان مبين، إلى فرعون وهامان وقارون فقالوا ساحر كذاب، فلما جاءهم بالحق من عندنا قالوا اقتلوا أبناء الذين آمنوا معه واستحيوا نساءهم وما كيد الكافرين إلا في ضلال، وقال فرعون ذروني أقتل موسى وليدع ربه إني أخاف أن يبدل دينكم أو أن يظهر في الأرض الفساد، وقال موسى إني عذت بربي وربكم من كل متكبر لا يؤمن بيوم الحساب}
قوله تعالى: "ولقد أرسلنا موسى بآياتنا" وهي التسع الآيات المذكورة في قوله تعالى: "ولقد آتينا موسى تسع آيات بينات" [الإسراء: 101] وقد مضى تعيينها. "وسلطان مبين" أي بحجة واضحة بينة، وهو يذكر ومؤنث. وقيل: أراد بالسلطان التوراة. "إلى فرعون وهامان وقارون" خصهم بالذكر لأن مدار التدبير في عداوة موسى كان عليهم؛ ففرعون الملك وهامان الوزير وقارون صاحب الأموال والكنوز فجمعه الله معهما؛ لأن عمله في الكفر والتكذيب كأعمالهما. "فقالوا ساحر كذاب" لما عجزوا عن معارضته حملوا المعجزات على السحر.
قوله تعالى: "فلما جاءهم بالحق من عندنا" وهي المعجزة الظاهرة "قالوا اقتلوا أبناء الذين آمنوا معه واستحيوا نساءهم" قال قتادة: هذا قتل غير القتل الأول؛ لأن فرعون كان قد أمسك عن قتل الولدان بعد ولادة موسى، فلما بعث الله موسى أعاد القتل على بني إسرائيل عقوبة لهم فيمتنع الإنسان من الإيمان؛ ولئلا يكثر جمعهم فيعتضدوا بالذكور من أولادهم، فشغلهم الله عن ذلك بما أنزل عليهم من أنواع العذاب، كالضفادع والقمل والدم والطوفان إلى أن خرجوا من مصر، فأغرقهم الله. "وما كيد الكافرين إلا في ضلال" أي في خسران وهلاك، وإن الناس لا يمتنعون من الإيمان وإن فعل بهم مثل هذا فكيده يذهب باطلا.
قوله تعالى: "وقال فرعون ذروني أقتل موسى وليدع ربه" "أقتل" جزم؛ لأنه جواب الأمر "وليدع" جزم؛ لأنه أمر و"ذروني" ليس بمجزوم وإن كان أمرا ولكن لفظه لفظ المجزوم وهو مبني. وقيل: هذا يدل على أنه قيل لفرعون: إنا نخاف أن يدعو عليك فيجاب؛ فقال: "وليدع ربه" أي لا يهولنكم ما يذكر من ربه فإنه لا حقيقة له وأنا ربكم الأعلى. "إني أخاف أن يبدل دينكم" أي عبادتكم لي إلى عبادة ربه "أو أن يظهر في الأرض الفساد" إن لم يبدل دينكم فإنه يظهر في الأرض الفساد. أي يقع بين الناس بسببه الخلاف. وقراءة المدنيين وأبي عبدالرحمن السلمي وابن عامر وأبي عمرو: "وأن يظهر في الأرض الفساد" وقراءة الكوفيين "أو أن يظهر" بفتح الياء "الفساد" بالرفع وكذلك هي في مصاحف الكوفيين: "أو" بألف وإليه يذهب أبو عبيد؛ قال: لأن فيه زيادة حرف وفيه فصل؛ ولأن "أو" تكون بمعنى الواو. النحاس: وهذا عند حذاق النحويين لا يجوز أن تكون بمعنى الواو؛ لأن في ذلك بطلان المعاني؛ ولوجاز أن تكون بمعنى الواو لما احتيج إلى هذا ها هنا؛ لأن معنى الواو "إني أخاف" الأمرين جميعا ومعنى "أو" لأحد الأمرين أي "إني أخاف أن يبدل دينكم" فإن أعوزه ذلك أظهر في الأرض الفساد.
قوله تعالى: "وقال موسى إني عذت بربي وربكم" لما هدده فرعون بالقتل استعاذ موسى بالله "من كل متكبر لا يؤمن بيوم الحساب" أي متعظم عن الإيمان بالله، وصفته أنه "لا يؤمن بيوم الحساب".