تفسير القرطبي الجامع لأحكام القرآن تفسير الصفحة 474 من المصحف



تفسير القرطبي - صفحة القرآن رقم 474

474- تفسير الصفحة رقم474 من المصحف
قوله تعالى: "إن الساعة لآتية" هذه لام التأكيد دخلت في خبر إن وسبيلها أن تكون في أول الكلام؛ لأنها توكيد الجملة إلا أنها تزحلق عن موضعها؛ كذا قال سيبويه. تقول: إن عمرا لخارج؛ وإنما أخرت عن موضعها لئلا يجمع بينها وبين إن؛ لأنهما يؤديان عن معنى واحد، وكذا لا يجمع بين إن وأن عند البصريين. وأجاز هشام إن أن زيدا منطلق حق؛ فإن حذفت حقا لم يجز عند أحد من النحويين علمته؛ قاله النحاس. "لا ريب فيها" لا شك ولا مرية. "ولكن أكثر الناس لا يؤمنون" أي لا يصدقون بها وعندها يبين فرق ما بين الطائع والعاصي.
الآية: 60 - 65 {وقال ربكم ادعوني أستجب لكم إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين، الله الذي جعل لكم الليل لتسكنوا فيه والنهار مبصرا إن الله لذو فضل على الناس ولكن أكثر الناس لا يشكرون، ذلكم الله ربكم خالق كل شيء لا إله إلا هو فأنى تؤفكون، كذلك يؤفك الذين كانوا بآيات الله يجحدون، الله الذي جعل لكم الأرض قرارا والسماء بناء وصوركم فأحسن صوركم ورزقكم من الطيبات ذلكم الله ربكم فتبارك الله رب العالمين، هو الحي لا إله إلا هو فادعوه مخلصين له الدين الحمد لله رب العالمين}
قوله تعالى: "وقال ربكم ادعوني أستجب لكم" روى النعمان بن بشير قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (الدعاء هو العبادة) ثم قرأ "وقال ربكم ادعوني استجب لكم إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين" قال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح. فدل هذا على أن الدعاء هو العبادة. وكذا قال أكثر المفسرون وأن المعنى: وحدوني واعبدوني أتقبل عبادتكم وأغفر لكم. وقيل: هو الذكر والدعاء والسؤال. قال أنس: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ليسأل أحدكم ربه حاجته كلها حتى يسأله شسع نعله إذا انقطع) ويقال الدعاء: هو ترك الذنوب. وحكى قتادة أن كعب الأحبار قال: أعطيت هذه الأمة ثلاثا لم تعطهن أمة قبلهم إلا نبي: كان إذا أرسل نبي قيل له أنت شاهد على أمتك، وقال تعالى لهذه الأمة: "لتكونوا شهداء على الناس" [البقرة: 143] وكان يقال للنبي: ليس عليك في الدين من حرج، وقال لهذه الأمة: "وما جعل عليكم في الدين من حرج" [الحج: 78] وكان يقال للنبي ادعني استجب لك، وقال لهذه الأمة: "ادعوني استجب لكم".
قلت: مثل هذا لا يقال من جهة الرأي. وقد جاء مرفوعا؛ رواه ليث عن شهر بن حوشب عن عبادة بن الصامت، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (أعطيت أمتي ثلاثا لم تعط إلا للأنبياء كان الله تعالى إذا بعث النبي قال ادعني استجب لك وقال لهذه الأمة: "ادعوني استجب لكم" وكان الله إذا بعث النبي قال: ما جعل عليك في الدين من حرج وقال لهذه الأمة: "وما جعل عليكم في الدين من حرج" [الحج: 78] وكان الله إذا بعث النبي جعله شهيدا على قومه وجعل هذه الأمة شهداء على الناس) ذكره الترمذي الحكيم في نوادر الأصول. وكان خالد الربعي يقول: عجيب لهذه الأمة قيل لها: "ادعوني استجب لكم" أمرهم بالدعاء ووعدهم الاستجابة وليس بينهما شرط. قال له قائل: مثل ماذا؟ قال: مثل قوله تعالى: "وبشر الذين آمنوا وعملوا الصالحات" [البقرة: 25] فها هنا شرط، وقوله: "وبشر الذين آمنوا أن لهم قدم صدق" [يونس: 2]، فليس فيه شرط العمل؛ ومثل قوله: "فادعوا الله مخلصين له الدين" [غافر: 14] فها هنا شرط، وقوله تعالى: "ادعوني استجب لكم" ليس فيه شرط. وكانت الأمة تفزع إلى أنبيائها في حوائجها حتى تسأل الأنبياء لهم ذلك. وقد قيل: إن هذا من باب المطلق والمقيد على ما تقدم في "البقرة" بيانه. أي "استجب لكم" إن شئت؛ كقوله: "فيكشف ما تدعون إليه إن شاء" [الأنعام:41]. وقد تكون الاستجابة في غير عين المطلوب على حديث أبي سعيد الخدري على ما تقدم في "البقرة" بيانه فتأمله هناك. وقرأ ابن كثير وابن محيصن ورويس عن يعقوب وعياش عن أبي عمرو وأبو بكر والمفضل عن عاصم "سيدخلون" بضم الياء وفتح الخاء على ما لم يسم فاعله. الباقون "يدخلون" بفتح الياء وضم الخاء. ومعنى "داخرين" صاغرين أذلاء وقد تقدم.
قوله تعالى: "الله الذي جعل لكم الليل لتسكنوا فيه" "جعل" هنا بمعنى خلق؛ والعرب تفرق بين جعل إذا كانت بمعنى خلق وبين جعل إذ لم تكن بمعنى خلق؛ فإذا كانت بمعنى خلق فلا تعديها إلا إلى مفعول واحد، وإذا لم تكن بمعنى خلق عدتها إلى مفعولين؛ نحو قوله:إنا جعلناه قرآنا عربيا" وقد مضى هذا المعنى في موضع. "والنهار مبصرا" أي مضيئا لتبصروا فيه حوائجكم وتتصرفوا في طلب معايشكم. "إن الله لذو فضل على الناس ولكن أكثر الناس لا يشكرون" فضله وإنعامه عليهم.
قوله تعالى: "ذلكم الله ربكم خالق كل شيء" بين الدلالة على وحدانيته وقدرته. "لا إله إلا هو فأنى تؤفكون" أي كيف تنقلبون وتنصرفون عن الإيمان بعد أن تبينت لكم دلائله كذلك؛ أي كما صرفتم عن الحق مع قيام الدليل عليه فـ "كذلك يؤفك" يصرف عن الحق الذين كانوا بآيات الله يجحدون.
قوله تعالى: "الله الذي جعل لكم الأرض قرارا" زاد في تأكيد التعريف والدليل؛ أي جعل لكم الأرض مستقرا لكم في حياتكم وبعد الموت. "والسماء بناء" تقدم. "وصوركم فأحسن صوركم" أي خلقكم في أحسن صورة. وقرأ أبو رزين والأشهب العقيلي "صوركم" بكسر الصاد؛ قال الجوهري: والصور بكسر الصاد لغة في الصور جمع صورة، وينشد هذا البيت على هذه اللغة يصف الجواري قائلا:
أشبهن من بقر الخلصاء أعينها وهن أحسن من صيرانها صورا
والصيران جمع صوار وهو القطيع من البقر والصوار أيضا وعاء المسك وقد جمعهما الشاعر:
إذا لاح الصوار ذكرت ليلى وأذكرها إذا نفخ الصوار
والصيار لغة فيه. "ورزقكم من الطيبات ذلكم الله ربكم فتبارك الله رب العالمين" وقد مضى. "هو الحي" أي الباقي الذي لا يموت "لا إله إلا هو فادعوه مخلصين له الدين" أي مخلصين له الطاعة والعبادة. "الحمد لله رب العالمين" قال الفراء: هو خبر وفيه إضمار أمر أي ادعوه واحمدوه. وقد مضى هدا كله مستوفى في "البقرة" وغيرها. وقال ابن عباس: من قال: "لا إله إلا الله" فليقل "الحمد لله رب العالمين".
الآية: 66 - 68 {قل إني نهيت أن أعبد الذين تدعون من دون الله لما جاءني البينات من ربي وأمرت أن أسلم لرب العالمين، هو الذي خلقكم من تراب ثم من نطفة ثم من علقة ثم يخرجكم طفلا ثم لتبلغوا أشدكم ثم لتكونوا شيوخا ومنكم من يتوفى من قبل ولتبلغوا أجلا مسمى ولعلكم تعقلون، هو الذي يحيي ويميت فإذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون}
قوله تعالى: "قل إني نهيت أن أعبد الذين تدعون من دون الله" أي قل يا محمد: نهاني الله الذي هو الحي القيوم ولا إله غيره "أن اعبد" غيره. "لما جاءني البينات من ربي" أي دلائل توحيده "وأمرت أن أسلم لرب العالمين" أذل وأخضع "لرب العالمين" وكانوا دعوه إلى دين آبائه، فأمر أن يقول هذا.
قوله تعالى: "هو الذي خلقكم من تراب ثم من نطفة ثم من علقة ثم يخرجكم طفلا" أي أطفالا. "ثم لتبلغوا أشدكم" وهي حالة اجتماع القوة وتمام العقل. وقد مضى في "الأنعام" بيانه. "ثم لتكونوا شيوخا" بضم الشين قراءة نافع وابن محيصن وحفص وهشام ويعقوب وأبو عمرو على الأصل؛ لأنه جمع فعل، نحو: قلب وقلوب ورأس ورؤوس. وقرأ الباقون بكسر الشين لمراعاة الياء وكلاهما جمع كثرة، وفي العدد القليل أشياخ والأصل أشيخ؛ مثل فلس وأفلس إلا أن الحركة في الياء ثقيلة. وقرئ "شيخا" على التوحيد؛ كقوله: "طفلا" والمعنى كل واحد منكم؛ واقتصر على الواحد لأن الغرض بيان الجنس. وفي الصحاح: جمع الشيخ شيوخ وأشياخ وشيخة وشيخان ومشيخة ومشايخ ومشيوخاء، والمرأة شيخة. قال عبيد:
كأنها شيخة رقوب
وقد شاخ الرجل يشيخ شيخا بالتحريك على أصله وشيخوخة، وأصل الياء متحركة فسكنت؛ لأنه ليس في الكلام فعلول. وشيخ تشييخا أي شاخ. وشيخته دعوته شيخا للتبجيل. وتصغير الشيخ شييخ وشييخ أيضا بكسر الشين ولا تقل شويخ النحاس: وإن اضطر شاعر جاز أن يقول أشيخ مثل عين وأعين إلا أنه حسن في عين؛ لأنها مؤنثة. والشيخ من جاوز أربعين سنة. "ومنكم من يتوفى من قبل" قال مجاهد: أي من قبل أن يكون شيخا، أومن قبل هذه الأحوال إذا خرج سقطا. "ولتبلغوا أجلا مسمى" قال مجاهد: الموت للكل. واللام لام العاقبة. "ولعلكم تعقلون" تعقلون ذلك فتعلموا أن لا إله غيره.
قوله تعالى: "هو الذي يحيي ويميت" زاد في التنبيه أي هو الذي يقدر على الإحياء والإماتة. "فإذا قضى أمرا" أي أراد فعله "فإنما يقول له كن فيكون" نصب "فيكون" ابن عامر على جواب الأمر. وقد مضى في "البقرة" القول فيه.