تفسير القرطبي الجامع لأحكام القرآن تفسير الصفحة 473 من المصحف



تفسير القرطبي - صفحة القرآن رقم 473

473- تفسير الصفحة رقم473 من المصحف
قوله تعالى: "وقال الذين في النار" من الأمم الكافرة. ومن العرب من يقول اللذون على أنه جمع مسلم معرب، ومن قال: "الذين" في الرفع بناه كما كان في الواحد مبنيا. وقال الأخفش: ضمت النون إلى الذي فأشبه خمسة عشر فبني على الفتح. "لخزنة جهنم" خزنة جمع خازن ويقال: خزان وخزن. "ادعوا ربكم يخفف عنا يوما من العذاب" "يخفف" جواب مجزوم وإن كان بالفاء كان منصوبا، إلا أن الأكثر في كلام العرب في جواب الأمر وما أشبهه أن يكون بغير فاء وعلى هذا جاء القرآن بأفصح اللغات كما قال:
قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل
قال محمد بن كعب القرظي: بلغني أو ذكر لي أن أهل النار استغاثوا بالخزنة؛ فقال الله تعالى: "وقال الذين في النار لخزنة جهنم ادعوا ربكم يخفف عنا يوما من العذاب" فسألوا يوما واحدا يخفف عنهم فيه العذاب فردت عليهم "أو لم تك تأتيكم رسلكم بالبينات قالوا بلى قالوا فادعوا وما دعاء الكافرين إلا في ضلال" الخبر بطوله. وفي الحديث عن أبي الدرداء خرجه الترمذي وغيره قال: يلقى على أهل النار الجوع حتى يعدل ما هم فيه من العذاب، فيستغيثون منه فيغاثون بالضريع لا يسمن ولا يغني من جوع، فيأكلونه لا يغني عنهم شيئا، فيستغيثون فيغاثون بطعام ذي غصة فيغصون به، فيذكرون أنهم كانوا في الدنيا يجيزون الغصص بالماء، فيستغيثوا بالشراب فيرفع لهم الحميم بالكلاليب، فإذا دنا من وجوههم شواها، فإذا وقع في بطونهم قطع أمعاءهم وما في بطونهم، فيستغيثون بالملائكة يقولون: "ادعوا ربكم يخفف عنا يوما من العذاب" فيجيبوهم "أولم تك تأتيكم رسلكم بالبينات قالوا بلى قالوا فادعوا وما دعاء الكافرين إلا في ضلال" أي خسار وتبار.
الآية: 51 - 54 {إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد، يوم لا ينفع الظالمين معذرتهم ولهم اللعنة ولهم سوء الدار، ولقد آتينا موسى الهدى وأورثنا بني إسرائيل الكتاب، هدى وذكرى لأولي الألباب}
قوله تعالى: "إنا لننصر رسلنا" ويجوز حذف الضمة لثقلها فيقال: "رسْلنا" والمراد موسى عليه السلام. "والذين آمنوا في الحياة الدنيا" في موضع نصب عطف على الرسل، والمراد المؤمن الذي وعظ. وقيل: هو عام في الرسل والمؤمنين، ونصرهم بإعلاء الحجج وإفلاحها في قول أبي العالية. وقيل: بالانتقام من أعدائهم. قال السدي: ما قتل قوم قط نبيا أو قوما من دعاة الحق من المؤمنين إلا بعث الله عز وجل من ينتقم لهم، فصاروا منصورين فيها وإن قتلوا.
قوله تعالى: "ويوم يقوم الأشهاد" يعني يوم القيامة. قال زيد بن أسلم: "الأشهاد" أربعة: الملائكة والنبيون والمؤمنون والأجساد. وقال مجاهد والسدي: "الأشهاد" الملائكة تشهد للأنبياء بالإبلاغ وعلى الأمم بالتكذيب. وقال قتادة: الملائكة والأنبياء. ثم قيل: "الأشهاد" جمع شهيد مثل شريف وأشراف. وقال الزجاج: "الأشهاد" جمع شاهد مثل صاحب وأصحاب. النحاس: ليس باب فاعل أن يجمع على أفعال ولا يقاس عليه ولكن ما جاء منه مسموعا أدي كما سمع، وكان على حذف الزائد. وأجاز الأخفش والفراء: "ويوم تقوم الأشهاد" بالتاء على تأنيث الجماعة. وفي الحديث عن أبي الدرداء وبعض المحدثين يقول عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من رد عن عرض أخيه المسلم كان حقا على الله عز وجل أن يرد عنه نار جهنم) ثم تلا: "إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا". وعنه عليه السلام أنه قال: (من حمى مؤمنا من منافق يغتابه بعث الله عز وجل يوم القيامة ملكا يحميه من النار ومن ذكر مسلما بشيء يشينه به وقفه الله عز وجل على جسر من جهنم حتى يخرج مما قال). "يوم" بدل من يوم الأول. "لا ينفع الظالمين معذرتهم" قرأ نافع والكوفيون "ينفع" بالياء. الباقون بالتاء. "ولهم اللعنة ولهم سوء الدار" "اللعنة" البعد من رحمة الله و"سوء الدار" جهنم.
قوله تعالى: "ولقد آتينا موسى الهدى" هذا دخل في نصرة الرسل في الدنيا والآخرة أي آتيناه التوراة والنبوة. وسميت التوراة هدى بما فيها من الهدى والنور؛ وفي التنزيل: "إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور" [المائدة:44]. "وأورثنا بني إسرائيل الكتاب" يعني التوراة جعلناها لهم ميراثا. "هدى" بدل من الكتاب ويجوز بمعنى هو هدى؛ يعني ذلك الكتاب. "وذكرى لأولي الألباب" أي موعظة لأصحاب العقول.
الآية: 55 - 59 {فاصبر إن وعد الله حق واستغفر لذنبك وسبح بحمد ربك بالعشي والإبكار، إن الذين يجادلون في آيات الله بغير سلطان أتاهم إن في صدورهم إلا كبر ما هم ببالغيه فاستعذ بالله إنه هو السميع البصير، لخلق السماوات والأرض أكبر من خلق الناس ولكن أكثر الناس لا يعلمون، وما يستوي الأعمى والبصير والذين آمنوا وعملوا الصالحات ولا المسيء قليلا ما تتذكرون، إن الساعة لآتية لا ريب فيها ولكن أكثر الناس لا يؤمنون}
قوله تعالى: "فاصبر" أي فاصبر يا محمد على أذى المشركين، كما صبر من قبلك "إن وعد الله حق" بنصرك وإظهارك، كما نصرت موسى وبني إسرائيل. وقال الكلبي: نسخ هذا بآية السيف. "واستغفر لذنبك" قيل: لذنب أمتك حذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه. وقيل: لذنب نفسك على من يجوز الصغائر على الأنبياء. ومن قال لا تجوز قال: هذا تعبد للنبي عليه السلام بدعاء؛ كما قال تعالى: "وآتنا ما وعدتنا" [آل عمران: 194] والفائدة زيادة الدرجات وأن يصير الدعاء سنة لمن بعده. وقيل: فاستغفر الله من ذنب صدر منك قبل النبوة. "وسبح بحمد ربك بالعشي والإبكار" يعني صلاة الفجر وصلاة العصر؛ قال الحسن وقتادة. وقيل: هي صلاة كانت بمكة قبل أن تفرض الصلوات الخمس ركعتان غدوة وركعتان عشية. عن الحسن أيضا ذكره الماوردي. فيكون هذا مما نسخ والله أعلم. وقوله: "بحمد ربك" بالشكر له والثناء عليه. وقيل: "وسبح بحمد ربك" أي استدم التسبيح في الصلاة وخارجا منها لتشتغل بذلك عن استعجال النصر.
قوله تعالى: "إن الذين يجادلون" يخاصمون "في آيات الله بغير سلطان" أي حجة "أتاهم إن في صدورهم إلا كبر ما هم ببالغيه" قال الزجاج: المعنى ما في صدورهم إلا كبر ما هم ببالغي إرادتهم فيه. قدره على الحذف. وقال غيره: المعنى ما هم ببالغي الكبر على غير حذف؛ لأن هؤلاء قوم رأوا أنهم أن اتبعوا النبي صلى الله عليه وسلم قل ارتفاعهم، ونقصت أحوالهم، وأنهم يرتفعون إذا لم يكونوا تبعا، فأعلم الله عز وجل أنهم لا يبلغون الارتفاع الذي أملوه بالتكذيب. والمراد المشركون. وقيل: اليهود؛ فالآية مدنية على هذا كما تقدم أول السور. والمعنى: إن تعظموا عن اتباع محمد صلى الله عليه وسلم وقالوا إن الدجال سيخرج عن قريب فيرد الملك إلينا، وتسير معه الأنهار، وهو آية من آيات الله فذلك كبر لا يبلغونه فنزلت الآية فيهم. قال أبو العالية وغيره. وقد تقدم في "آل عمران" أنه يخرج ويطأ البلاد كلها إلا مكة والمدينة. وقد ذكرنا خبره مستوفى في كتاب التذكرة. وهو يهودي واسمه صاف ويكنى أبا يوسف. وقيل: كل من كفر بالنبي صلى الله عليه وسلم. وهذا حسن؛ لأنه يعم. وقال مجاهد: معناه في صدورهم عظمة ما هم ببالغيها والمعنى واحد. وقيل: المراد بالكبر الأمر الكبير أي يطلبون النبوة أو أمرا كبيرا يصلون به إليك من القتل ونحوه، ولا يبلغون ذلك. أو يتمنون موتك قبل أن يتم دينك ولا يبلغونه.
قوله تعالى: "فاستعذ بالله" قيل: من فتنة الدجال على قول من قال إن الآية نزلت في اليهود. وعلى القول الآخر من شر الكفار. قيل: من مثل ما ابتلوا به من الكفر والكبر. "إنه هو السميع البصير" "هو" يكون فاصلا ويكون مبتدأ وما بعده خبره والجملة خبر إن على ما تقدم. "لخلق السماوات والأرض أكبر من خلق الناس" مبتدأ وخبره. قال أبو العالية: أي أعظم من خلق الدجال حين عظمته اليهود. وقال يحيى بن سلام: هو احتجاج على منكري البعث؛ أي هما أكبر من إعادة خلق الناس فلم اعتقدوا عجزي عنها؟. "ولكن أكثر الناس لا يعلمون" أي لا يعلمون ذلك.
قوله تعالى: "وما يستوي الأعمى والبصير" أي المؤمن والكافر والضال والمهتدي. "والذين آمنوا وعملوا الصالحات" أي ولا يستوي العامل للصالحات "ولا المسيء" الذي يعمل السيئات. "قليلا ما تتذكرون" قراءة العامة بياء على الخبر واختاره أبو عبيد وأبو حاتم؛ لأجل ما قبله من الخبر وما بعده. وقرأ الكوفيون بالتاء على الخطاب.
قوله تعالى: "إن الساعة لآتية" هذه لام التأكيد دخلت في خبر إن وسبيلها أن تكون في أول الكلام؛ لأنها توكيد الجملة إلا أنها تزحلق عن موضعها؛ كذا قال سيبويه. تقول: إن عمرا لخارج؛ وإنما أخرت عن موضعها لئلا يجمع بينها وبين إن؛ لأنهما يؤديان عن معنى واحد، وكذا لا يجمع بين إن وأن عند البصريين. وأجاز هشام إن أن زيدا منطلق حق؛ فإن حذفت حقا لم يجز عند أحد من النحويين علمته؛ قاله النحاس. "لا ريب فيها" لا شك ولا مرية. "ولكن أكثر الناس لا يؤمنون" أي لا يصدقون بها وعندها يبين فرق ما بين الطائع والعاصي.