سورة البقرة | للقراءة من المصحف بخط كبير واضح
استماع mp3 | الجلالين&الميسر | تفسير الشوكاني |
إعراب الصفحة | تفسير ابن كثير | تفسير القرطبي |
التفسير المختصر | تفسير الطبري | تفسير السعدي |
تفسير القرطبي الجامع لأحكام القرآن تفسير الصفحة 5 من المصحف
الآية: 25 {وبشر الذين آمنوا وعملوا الصالحات أن لهم جنات تجري من تحتها الأنهار كلما رزقوا منها من ثمرة رزقا قالوا هذا الذي رزقنا من قبل وأتوا به متشابها ولهم فيها أزواج مطهرة وهم فيها خالدون}
لما ذكر الله عز وجل جزاء الكافرين ذكر جزاء المؤمنين أيضا. والتبشير الإخبار بما يظهر أثره على البشرة - وهي ظاهر الجلد لتغيرها بأول خبر يرد عليك، ثم الغالب أن يستعمل في السرور مقيدا بالخير المبشر به، وغير مقيد أيضا. ولا يستعمل في الغم والشر إلا مقيدا منصوصا على الشر المبشر به، قال الله تعالى "فبشرهم بعذاب أليم" [الانشقاق: 24] ويقال: بشرته وبشرته - مخفف ومشدد - بشارة (بكسر الباء) فأبشر واستبشر. وبشر يبشر إذا فرح. ووجه بشير إذا كان حسنا بين البشارة (بفتح الباء). والبشرى: ما يعطاه المبشر. وتباشير الشيء: أوله.
أجمع العلماء على أن المكلف إذا قال: من بشرني من عبيدي بكذا فهو حر، فبشره واحد من عبيده فأكثر فإن أولهم يكون حرا دون الثاني. واختلفوا إذا قال: من أخبرني من عبيدي بكذا فهو حر فهل يكون الثاني مثل الأول، فقال أصحاب الشافعي: نعم، لأن كل واحد منهم مخبر. وقال علماؤنا: لا، لأن المكلف إنما قصد خبرا يكون بشارة، وذلك يختص بالأول، وهذا معلوم عرفا فوجب صرف القول إليه. وفرق محمد بن الحسن بين قوله: أخبرني، أو حدثني، فقال: إذا قال الرجل أي غلام لي أخبرني بكذا، أو أعلمني بكذا وكذا فهو حر - ولا نية له - فأخبره غلام له بذلك بكتاب أو كلام أو رسول فإن الغلام يعتق، لأن هذا خبر. وإن أخبره بعد ذلك غلام له عتق، لأنه قال: أي غلام أخبرني فهو حر. ولو أخبروه كلهم عتقوا، وإن كان عنى - حين حلف - بالخبر كلام مشافهة لم يعتق واحد منهم إلا أن يخبره بكلام مشافهة بذلك الخبر. قال: وإذا قال أي غلام لي حدثني، فهذا على المشافهة، لا يعتق واحد منهم.
قوله تعالى: "وعملوا الصالحات" رد على من يقول: إن الإيمان بمجرده يقتضي الطاعات، لأنه لو كان ذلك ما أعادها فالجنة تنال بالإيمان والعمل الصالح. وقيل: الجنة تنال بالإيمان، والدرجات تستحق بالأعمال الصالحات. والله أعلم.
"أن لهم" في موضع نصب بـ "بشر" والمعنى وبشر الذين آمنوا بأن لهم، أو لأن لهم، فلما سقط الخافض عمل الفعل. وقال الكسائي وجماعة من البصريين: "أن" في موضع خفض بإضمار الباء. "جنات" في موضع نصب اسم "أن"، "وأن وما عملت فيه في موضع المفعول الثاني. والجنات: البساتين، وإنما سميت جنات لأنها تجن من فيها أي تستره بشجرها، ومنه: المجن والجنين والجنة. "تجري" في موضع النعت لجنات وهو مرفوع، لأنه فعل مستقبل فحذفت الضمة من الياء لثقلها معها. "من تحتها" أي من تحت أشجارها، ولم يجر لها ذكر، لأن الجنات دالة عليها.
"الأنهار" أي ماء الأنهار، فنسب الجري إلى الأنهار توسعا، وإنما يجري الماء وحده فحذف اختصارا، كما قال تعالى: "واسأل القرية" [يوسف: 82] أي أهلها. وقال الشاعر:
نبئت أن النار بعدك أوقدت واستب بعدك يا كليب المجلس
أراد: أهل المجلس، فحذف. والنهر: مأخوذ من أنهرت، أي وسعت، ومنه قول قيس بن الخطيم:
ملكت بها كفي فأنهرت فتقها يرى قائم من دونها ما وراءها
أي وسعتها، يصف طعنة. ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم: (ما أنهر الدم وذكر اسم الله عليه فكلوه). معناه: ما وسع الذبح حتى يجري الدم كالنهر. وجمع النهر: نهر وأنهار. ونهر نهر: كثير الماء، قال أبو ذؤيب:
أقامت به فابتنت خيمة على قصب وفرات نهر
وروي: أن أنهار الجنة ليست في أخاديد، إنما تجري على سطح الجنة منضبطة بالقدرة حيث شاء أهلها. والوقف على "الأنهار" حسن وليس بتام، لأن قوله: "كلما رزقوا منها من ثمرة" من وصف الجنات. "رزقاً" مصدره، وقد تقدم القول في الرزق. ومعنى "من قبل" يعني في الدنيا، وفيه وجهان: أحدهما: أنهم قالوا هذا الذي وعدنا به في الدنيا. والثاني: هذا الذي رزقنا في الدنيا، لأن لونها يشبه لون ثمار الدنيا، فإذا أكلوا وجدوا طعمه غير ذلك وقيل: "من قبل" يعني في الجنة لأنهم يرزقون ثم يرزقون، فإذا أتوا بطعام وثمار في أول النهار فأكلوا منها، ثم أتوا منها في آخر النهار قالوا: هذا الذي رزقنا من قبل، يعني أطعمنا في أول النهار، لأن لونه يشبه ذلك، فإذا أكلوا منها وجدوا لها طعما غير طعم الأول.
قوله: "وأتوا" فعلوا من أتيت. وقرأه الجماعة بضم الهمزة والتاء. وقرأ هارون الأعور "وأتوا" بفتح الهمزة والتاء. فالضمير في القراءة الأولى لأهل الجنة، وفي الثانية للخدام. "به متشابهاً" حال من الضمير في "به"، أي يشبه بعضه بعضا في المنظر ويختلف في الطعم. قاله ابن عباس ومجاهد والحسن وغيرهم. وقال عكرمة: يشبه ثمر الدنيا ويباينه في جل الصفات. ابن عباس: هذا على وجه التعجب، وليس في الدنيا شيء مما في الجنة سوى الأسماء، فكأنهم تعجبوا لما رأوه من حسن الثمرة وعظم خلقها. وقال قتادة: خيارا لا رذل فيه، كقوله تعالى: "كتابا متشابها" [الزمر: 23] وليس كثمار الدنيا التي لا تتشابه، لأن فيها خيارا وغير خيار.
قوله: "ولهم فيها أزواج" ابتداء وخبر. وأزواج: جمع زوج. والمرأة: زوج الرجل. والرجل زوج المرأة. قال الأصمعي: ولا تكاد العرب تقول زوجة. وحكى الفراء أنه يقال: زوجة، وأنشد الفرزدق:
وإن الذي يسعى ليفسد زوجتي كساع إلى أسد الشرى يستبيلها
وقال عمار بن ياسر في شأن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها: والله إني لأعلم أنها زوجته في الدنيا والآخرة، ولكن الله ابتلاكم. ذكره البخاري، واختاره الكسائي.
"مطهرة" نعت للأزواج ومطهرة في اللغة أجمع من طاهرة وأبلغ، ومعنى هذه الطهارة من الحيض والبصاق وسائر أقذار الآدميات. ذكر عبدالرزاق قال أخبرني الثوري عن ابن أبي نجيح عن مجاهد: "مطهرة" قال: لا يبلن ولا يتغوطن ولا يلدن ولا يحضن ولا يمنين ولا يبصقن. وقد أتينا على هذا كله في وصف أهل الجنة وصفة الجنة ونعيمها من كتاب التذكرة. والحمد لله.
"وهم فيها خالدون" "هم" مبتدأ. "خالدون" خبره، والظرف ملغى. ويجوز في غير القرآن نصب خالدين على الحال. والخلود: البقاء ومنه جنة الخلد. وقد تستعمل مجازا فيما يطول، ومنه قولهم في الدعاء: خلد الله ملكه أي طوله. قال زهير:
ألا لا أرى على الحوادث باقيا ولا خالدا إلا الجبال الرواسيا
وأما الذي في الآية فهو أبدي حقيقة.
الآية: 26 {إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلا ما بعوضة فما فوقها فأما الذين آمنوا فيعلمون أنه الحق من ربهم وأما الذين كفروا فيقولون ماذا أراد الله بهذا مثلا يضل به كثيرا ويهدي به كثيرا وما يضل به إلا الفاسقين}
قوله تعالى: "إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلا ما بعوضة" قال ابن عباس في رواية أبي صالح: لما ضرب الله سبحانه هذين المثلين للمنافقين: يعني "مثلهم كمثل الذي استوقد نارا" [البقرة: 17] وقوله: "أو كصيب من السماء" [البقرة: 19] قالوا: الله أجل وأعلى من أن يضرب الأمثال، فأنزل الله هذه الآية. وفي رواية عطاء عن ابن عباس قال: لما ذكر الله آلهة المشركين فقال: "وإن يسلبهم الذباب شيئا لا يستنقذوه منه" [الحج: 73] وذكر كيد الآلهة فجعله كبيت العنكبوت، قالوا: أرأيت حيث ذكر الله الذباب والعنكبوت فيما أنزل من القرآن على محمد، أي شيء يصنع؟ فأنزل الله الآية. وقال الحسن وقتادة: لما ذكر الله الذباب والعنكبوت في كتابه وضرب للمشركين به المثل، ضحكت اليهود وقالوا: ما يشبه هذا كلام الله، فأنزل الله الآية.
و"يستحيي" أصله يستحيِيُ، عينه ولامه حرفا علة، أعلت اللام منه بأن استثقلت الضمة على الياء فسكنت. واسم الفاعل في هذا: مستحيٍ، والجمع مستحيون ومستحيين. وقرأ ابن محيصن "يستحي" بكسر الحاء وياء واحدة ساكنة، وروى عن ابن كثير، وهي لغة تميم وبكر ابن وائل، نقلت فيها حركة الياء الأولى إلى الحاء فسكنت، ثم استثقلت الضمة على الثانية فسكنت، فحذفت إحداهما للالتقاء، واسم الفاعل مستح، والجمع مستحون ومستحين. قاله الجوهري. واختلف المتأولون في معنى "يستحيي" في هذه الآية فقيل: لا يخشى، ورجحه الطبري، وفي التنزيل: "وتخشى الناس والله أحق أن تخشاه" [الأحزاب: 37] بمعنى تستحي. وقال غيره: لا يترك. وقيل: لا يمتنع. وأصل الاستحياء الانقباض عن الشيء والامتناع منه خوفا من مواقعة القبيح، وهذا محال على الله تعالى. وفي صحيح مسلم عن أم سلمة رضي الله عنها قالت: جاءت أم سليم إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله، إن الله لا يستحيي من الحق. المعنى لا يأمر بالحياء فيه، ولا يمتنع من ذكره.
قوله تعالى: "أن يضرب مثلا ما" "يضرب" معناه يبين، و"أن" مع الفعل في موضع نصب بتقدير حذف من. "مثلا" منصوب بيضرب "بعوضة" في نصبها أربعة أوجه:
الأول: تكون "ما" زائدة، و"بعوضة" بدلا من "مثلا".
الثاني: تكون "ما" نكرة في موضع نصب على البدل من قوله: "مثلا". و"بعوضة" نعت لما، فوصفت "ما" بالجنس المنكر لإبهامها لأنها بمعنى قليل، قاله الفراء والزجاج وثعلب.
الثالث: نصبت على تقدير إسقاط الجار، المعنى أن يضرب مثلا ما بين بعوضة، فحذفت "بين" وأعربت بعوضة بإعرابها، والفاء بمعنى إلى، أي إلى ما فوقها. وهذا قول الكسائي والفراء أيضا، وأنشد أبو العباس:
يا أحسن الناس ما قرنا إلى قدم ولا حبال محب واصل تصل
أراد ما بين قرن، فلما أسقط "بين" نصب.
الرابع: أن يكون "يضرب" بمعنى يجعل، فتكون "بعوضة" المفعول الثاني. وقرأ الضحاك وإبراهيم بن أبي عبلة ورؤبة بن العجاج "بعوضة" بالرفع، وهي لغة تميم. قال أبو الفتح: ووجه ذلك أن "ما" اسم بمنزلة الذي، و"بعوضة" رفع على إضمار المبتدأ، التقدير: لا يستحيي أن يضرب الذي هو بعوضة مثلا، فحذف العائد على الموصول وهو مبتدأ. ومثله قراءة بعضهم: "تماما على الذي أحسن" أي على الذي هو أحسن. وحكى سيبويه: ما أنا بالذي قائل لك شيئا، أي هو قائل. قال النحاس: والحذف في "ما" أقبح منه في "الذي"، لأن "الذي" إنما له وجه واحد والاسم معه أطول. ويقال: إن معنى ضربت له مثلا، مثلت له مثلا. وهذه الأبنية على ضرب واحد، وعلى مثال واحد ونوع واحد والضرب النوع. والبعوضة: فعولة من بَعَض إذا قطع اللحم، يقال: بضع وبعض بمعنى، وقد بعضته تبعيضا، أي جزأته فتبعض. والبعوض: البق، الواحدة بعوضة، سميت بذلك لصغرها. قال الجوهري وغيره.
قوله تعالى: "فما فوقها" قد تقدم أن الفاء بمعنى إلى، ومن جعل "ما" الأولى صلة زائدة فـ "ما" الثانية عطف عليها. وقال الكسائي وأبو عبيدة وغيرهما: معنى "فما فوقها" - والله أعلم - ما دونها، أي إنها فوقها في الصغر. قال الكسائي: وهذا كقولك في الكلام: أتراه قصيرا؟ فيقول القائل: أو فوق ذلك، أي هو أقصر مما ترى. وقال قتادة وابن جريج: المعنى في الكبر.
قوله تعالى: "فأما الذين آمنوا فيعلمون أنه الحق من ربهم" الضمير في "أنه" عائد على المثل أي أن المثل حق. والحق خلاف الباطل. والحق: واحد الحقوق. والحقة (بفتح الحاء) أخص منه، يقال: هذه حقتي، أي حقي. "وأما الذين كفروا" لغة بني تميم وبني عامر في "أما" أيما، يبدلون من إحدى الميمين ياء كراهية التضعيف، وعلى هذا ينشد بيت عمر بن أبي ربيعة:
رأت رجلا أيما إذا الشمس عارضت فيضحى وأيما بالعشي فيخصر
قوله تعالى: "فيقولون ماذا أراد الله بهذا مثلا" اختلف النحويون في "ماذا"، فقيل: هي بمنزلة اسم واحد بمعنى أي شيء أراد الله، فيكون في موضع نصب بـ "أراد". قال ابن كيسان: وهو الجيد. وقيل: "ما" اسم تام في موضع رفع بالابتداء، و"ذا" بمعنى الذي وهو خبر الابتداء، ويكون التقدير: ما الذي أراده الله بهذا مثلا، ومعنى كلامهم هذا: الإنكار بلفظ الاستفهام. و"مثلا" منصوب على القطع، التقدير: أراد مثلا، قاله ثعلب. وقال ابن كيسان: هو منصوب على التمييز الذي وقع موقع الحال.
قوله تعالى: "يضل به كثيرا ويهدي به كثيرا" قيل: هو من قول الكافرين، أي ما مراد الله بهذا المثل الذي يفرق به الناس إلى ضلالة وإلى هدى. وقيل: بل هو خبر من الله عز وجل، وهو أشبه، لأنهم يقرون بالهدى أنه من عنده، فالمعنى: قل يضل الله به كثيرا ويهدي به كثيرا، أي يوفق ويحذل، وعليه فيكون فيه رد على من تقدم ذكرهم من المعتزلة وغيرهم في قولهم: إن الله لا يخلق الضلال ولا الهدى. قالوا: ومعنى "يضل به كثيرا" التسمية هنا، أي يسميه ضالا، كما يقال: فسقت فلانا، يعني سميته فاسقا، لأن الله تعالى لا يضل أحدا. هذا طريقهم في الإضلال، وهو خلاف أقاويل المفسرين، وهو غير محتمل في اللغة، لأنه يقال: ضلله إذا سماه ضالا، ولا يقال: أضله إذا سماه ضالا، ولكن معناه ما ذكره المفسرون أهل التأويل من الحق أنه يخذل به كثيرا من الناس مجازاة لكفرهم.
"وما يضل به إلا الفاسقين" ولا خلاف أن قوله: "وما يضل به إلا الفاسقين" أنه من قول الله تعالى. و"الفاسقين" نصب بوقوع الفعل عليهم، والتقدير: وما يضل به أحدا إلا الفاسقين الذين سبق في علمه أنه لا يهديهم. ولا يجوز أن تنصبهم على الاستثناء لأن الاستثناء لا يكون إلا بعد تمام الكلام. وقال نوف البكالي: قال عزير فيما يناجي ربه عز وجل: إلهي تخلق خلقا فتضل من تشاء وتهدي من تشاء. قال فقيل: يا عزير اعرض عن هذا! لتعرضن عن هذا أو لأمحونك من النبوة، إني لا أسأل عما أفعل وهم يسألون. والضلال أصله الهلاك، يقال منه: ضل الماء في اللبن إذا استهلك، ومنه قوله تعالى: "أإذا ضللنا في الأرض" [السجدة:10] وقد تقدم في الفاتحة. والفسق أصله في كلام العرب الخروج عن الشيء، يقال: فسقت الرطبة إذا خرجت عن قشرها، والفأرة من جحرها. والفويسقة: الفأرة، وفي الحديث: (خمس فواسق يقتلن في الحل والحرم الحية والغراب الأبقع والفأرة والكلب العقور والحديا). روته عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم، أخرجه مسلم. وفي رواية (العقرب) مكان (الحية). فأطلق صلى الله عليه وسلم عليها اسم الفسق لأذيتها، على ما يأتي بيانه في هذا الكتاب إن شاء الله تعالى. وفسق الرجل يفسق ويفسق أيضا - فسقا وفسوقا، أي فجر. فأما قوله تعالى: "ففسق عن أمر ربه" فمعناه خرج. وزعم ابن الأعرابي أنه لم يسمع قط في كلام الجاهلية ولا في شعرهم فاسق. قال: وهذا عجب، وهو كلام عربي حكاه عنه ابن فارس والجوهري.
قلت: قد ذكر أبو بكر الأنباري في كتاب "الزاهر" له لما تكلم على معنى الفسق قول الشاعر:
يذهبن في نجد وغورا غائرا فواسقا عن قصدها جوائرا
والفِسّيق: الدائم الفسق. ويقال في النداء: يا فسق ويا خبث، يريد: يا أيها الفاسق، ويا أيها الخبيث. والفسق في عرف الاستعمال الشرعي: الخروج من طاعة الله عز وجل، فقد يقع على من خرج بكفر وعلى من خرج بعصيان.
الآية: 27 {الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل ويفسدون في الأرض أولئك هم الخاسرون}
قوله تعالى: "الذين" (الذين) في موضع نصب على النعت للفاسقين، وإن شئت جعلته في موضع رفع على أنه خبر ابتداء محذوف، أي هم الذين. وقد تقدم. "ينقضون عهد الله" النقض: إفساد ما أبرمته من بناء أو حبل أو عهد. والنقاضة. ما نقض من حبل الشعر. والمناقضة في القول: أن تتكلم بما تناقض معناه. والنقيضة في الشعر: ما ينقض به. والنقض: المنقوض. واختلف الناس في تعيين هذا العهد، فقيل: هو الذي أخذه الله على بني آدم حين استخرجهم من ظهره. وقيل: هو وصية الله تعالى إلى خلقه، وأمره إياهم بما أمرهم به من طاعته، ونهيه إياهم عما نهاهم عنه من معصيته في كتبه على ألسنة رسله، ونقضهم ذلك ترك العمل به. وقيل: بل نصب الأدلة على وحدانيته بالسماوات والأرض وسائر الصنعة هو بمنزلة العهد، ونقضهم ترك النظر في ذلك. وقيل: هو ما عهده إلى من أوتي الكتاب أن يبينوا نبوة محمد صلى الله عليه وسلم ولا يكتموا أمره. فالآية على هذا في أهل الكتاب. قال أبو إسحاق الزجاج: عهده جل وعز ما أخذه على النبيين ومن اتبعهم ألا يكفروا بالنبي صلى الله عليه وسلم. ودليل ذلك: "وإذ أخذ الله ميثاق النبيين" [آل عمران: 81] إلى قوله تعالى: "وأخذتم على ذلكم إصري" [آل عمران: 81] أي عهدي.
قلت: وظاهر ما قبل وما بعد يدل على أنها في الكفار. فهذه خمسة أقوال، والقول الثاني يجمعها.
قوله تعالى: "من بعد ميثاقه" الميثاق: العهد المؤكد باليمين، مفعال من الوثاقة والمعاهدة، وهي الشدة في العقد والربط ونحوه. والجمع المواثيق على الأصل، لأن أصل ميثاق موثاق، صارت الواو ياء لانكسار ما قبلها - والمياثق والمياثيق أيضا، وأنشد ابن الأعرابي:
حمى لا يحل الدهر إلا بإذننا ولا نسأل الأقوام عهد المياثق
والموثق: الميثاق. والمواثقة: المعاهدة، ومنه قوله تعالى: "وميثاقه الذي واثقكم به".
قوله تعالى: "ويقطعون" القطع معروف، والمصدر - في الرحم - القطيعة، يقال: قطع رحمه قطيعة فهو رجل قطَع وقطعة، مثال همزة. وقطعت الحبل قطعا. وقطعت النهر قطوعا. وقطعت الطير قُطوعا وقُطاعا وقِطاعا إذا خرجت من بلد إلى بلد. وأصاب الناس قطعة: إذا قلت مياههم. ورجل به قطع: أي انبهار.
قوله تعالى: "ما أمر الله به أن يوصل" "ما" في موضع نصب بـ "يقطعون". و"أن" إن شئت كانت بدلا من "ما" وإن شئت من الهاء في "به" وهو أحسن. ويجوز أن يكون لئلا يوصل، أي كراهة أن يوصل. واختلف ما الشيء الذي أمر بوصله؟ فقيل: صلة الأرحام. وقيل: أمر أن يوصل القول بالعمل، فقطعوا بينهما بأن قالوا ولم يعملوا. وقيل: أمر أن يوصل التصديق بجميع أنبيائه، فقطعوه بتصديق بعضهم وتكذيب بعضهم. وقيل: الإشارة إلى دين الله وعبادته في الأرض، وإقامة شرائعه وحفظ حدوده. فهي عامة في كل ما أمر الله تعالى به أن يوصل. هذا قول الجمهور، والرحم جزء من هذا.
قوله تعالى: "ويفسدون في الأرض" أي يعبدون غير الله تعالى ويجورون في الأفعال، إذ هي بحسب شهواتهم، وهذا غاية الفساد.
قوله: "أولئك هم الخاسرون" ابتداء وخبر. و"هم" زائدة، ويجوز أن تكون "هم" ابتداء ثان، "الخاسرون" خبره، والثاني وخبره خبر الأول كما تقدم. والخاسر: الذي نقص نفسه حظها من الفلاح والفوز. والخسران: النقصان، كان في ميزان أو غيره، قال جرير:
إن سليطا في الخسار إنه أولاد قوم خلقوا أقنّه
يعني بالخسار ما ينقص من حظوظهم وشرفهم. قال الجوهري: وخسرت الشيء (بالفتح) وأخسرته نقصته. والخسار والخسارة والخيسرى: الضلال والهلاك. فقيل للهالك: خاسر، لأنه خسر نفسه وأهله يوم القيامة ومنع منزله من الجنة.
في هذه الآية دليل على أن الوفاء بالعهد والتزامه وكل عهد جائز ألزمه المرء نفسه فلا يحل له نقضه سواء أكان بين مسلم أم غيره، لذم الله تعالى من نقض عهده. وقد قال: "أوفوا بالعقود" [المائدة: 1] وقد قال لنبيه عليه السلام: "وإما تخافن من قوم خيانة فانبذ إليهم على سواء" [الأنفال: 58] فنهاه عن الغدر وذلك لا يكون إلا بنقض العهد على ما يأتي بيانه في موضعه إن شاء الله تعالى.
الآية: 28 {كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتا فأحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم ثم إليه ترجعون}
"كيف" سؤال عن الحال، وهي اسم في موضع نصب بـ "تكفرون"، وهي مبنية على الفتح وكان سبيلها أن تكون ساكنة، لأن فيها معنى الاستفهام الذي معناه التعجب فأشبهت الحروف، واختير لها الفتح لخفته، أي هؤلاء ممن يجب أن يتعجب منهم حين كفروا وقد ثبتت عليهم الحجة. فإن قيل: كيف يجوز أن يكون هذا الخطاب لأهل الكتاب وهم لم يكفروا بالله؟ فالجواب ما سبق من أنهم لما لم يثبتوا أم محمد عليه السلام ولم يصدقوه فيما جاء به فقد أشركوا، لأنهم لم يقروا بأن القرآن من عند الله. ومن زعم أن القرآن كلام البشر فقد أشرك بالله وصار ناقضا للعهد. وقيل: "كيف" لفظه لفظ الاستفهام وليس به، بل هو تقرير وتوبيخ، أي كيف تكفرون نعمه عليكم وقدرته هذه قال الواسطي: وبخهم بهذا غاية التوبيخ، لأن الموات والجماد لا ينازع صانعه في شيء، وإنما المنازعة من الهياكل الروحانية.
قوله تعالى: "وكنتم أمواتا" هذه الواو واو الحال، وقد مضمرة. قال الزجاج: التقدير وقد كنتم، ثم حذفت قد. وقال الفراء: "أمواتا" خبر "كنتم". "فأحياكم ثم يميتكم" هذا وقف التمام، كذا قال أبو حاتم. ثم قال: "ثم يحييكم". واختلف أهل التأويل في ترتيب هاتين الموتتين والحياتين، وكم من موتة وحياة للإنسان؟ فقال ابن عباس وابن مسعود: أي كنتم أمواتا معدومين قبل أن تخلقوا فأحياكم - أي خلقكم - ثم يميتكم عند انقضاء آجالكم، ثم يحييكم يوم القيامة. قال ابن عطية: وهذا القول هو المراد بالآية، وهو الذي لا محيد للكفار عنه لإقرارهم بهما، وإذا أذعنت نفوس الكفار لكونهم أمواتا معدومين، ثم للإحياء في الدنيا، ثم للإماتة فيها قوي عليهم لزوم الإحياء الآخر وجاء جحدهم له دعوى لا حجة عليها. قال غيره: والحياة التي تكون في القبر على هذا التأويل في حكم حياة الدنيا. وقيل: لم يعتد بها كما لم يعتد بموت من أماته في الدنيا ثم أحياه في الدنيا. وقيل: كنتم أمواتا - أي نطفا - في ثم أخرجكم من ظهره كالذر، ثم يميتكم موت الدنيا ثم يبعثكم. وقيل: كنتم أمواتا - أي نطفا - في أصلاب الرجال وأرحام النساء، ثم نقلكم من الأرحام فأحياكم، ثم يميتكم بعده هذه الحياة، ثم يحييكم في القبر للمسألة، ثم يميتكم في القبر، ثم يحييكم حياة النشر إلى الحشر، وهي الحياة التي ليس بعدها موت.
قلت: فعلى هذا التأويل هي ثلاث موتات، وثلاث إحياءات. وكونهم موتى في ظهر آدم، وإخراجهم من ظهره والشهادة عليهم غير كونهم نطفا في أصلاب الرجال وأرحام النساء، فعلى هذا تجيء أربع موتات وأربع إحياءات. وقد قيل: إن الله تعالى أوجدهم قبل خلق آدم عليه السلام كالهباء ثم أماتهم، فيكون على هذا خمس موتات، وخمس إحياءات. وموتة سادسة للعصاة من أمة محمد صلى الله عليه وسلم إذا دخلوا النار، لحديث أبي سعيد الخدري قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أما أهل النار الذي هم أهلها فإنهم لا يموتون فيها ولا يحيون ولكن ناس أصابتهم النار بذنوبهم - أو قال بخطاياهم - فأماتهم الله إماتة حتى إذا كانوا فحما أذِن في الشفاعة فجيء بهم ضبائر ضبائر فبثوا على أنهار الجنة ثم قيل يا أهل الجنة أفيضوا عليهم فينبتون نبات الحبة تكون في حميل السيل). فقال رجل من القوم: كأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد كان يرعى بالبادية. أخرجه مسلم.
قلت: فقوله (فأماتهم الله) حقيقة في الموت، لأنه أكده بالمصدر، وذلك تكريما لهم. وقيل: يجوز أن يكون (أماتهم) عبارة عن تغييبهم عن آلامها بالنوم، ولا يكون ذلك موتا على الحقيقة، والأول أصح. وقد أجمع النحويون على أنك إذا أكدت الفعل بالمصدر لم يكن مجازا، وإنما هو على الحقيقة، ومثله: "وكلم الله موسى تكليما" [النساء: 164] على ما يأتي بيانه إن شاء الله تعالى. وقيل: المعنى وكنتم أمواتا بالخمول فأحياكم بأن ذكرتم وشرفتم بهذا الدين والنبي الذي جاءكم، ثم يميتكم فيموت ذكركم، ثم يحييكم للبعث.
قوله تعالى: "ثم إليه ترجعون" أي إلى عذابه مرجعكم لكفركم. وقيل: إلى الحياة وإلى المسألة، كما قال تعالى: "كما بدأنا أول خلق نعيده" [الأنبياء: 104] فإعادتهم كابتدائهم، فهو رجوع. و"تُرجَعون" قراءة الجماعة. ويحيى بن يعمر وابن أبي إسحاق ومجاهد وابن محيصن وسلام بن يعقوب يفتحون حرف المضارعة ويكسرون الجيم حيث وقعت.
الآية: 29 {هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا ثم استوى إلى السماء فسواهن سبع سماوات وهو بكل شيء عليم}
قوله: "خلق" معناه اخترع وأوجد بعد العدَم. وقد يقال في الإنسان: "خلق" عند إنشائه شيئا، ومنه قول الشاعر:
من كان يخلق ما يقو ل فحيلتي فيه قليلة
وقد تقدم هذا المعنى. وقال ابن كيسان: "خلق لكم" أي من أجلكم. وقيل: المعنى أن جميع ما في الأرض منعم به عليكم فهو لكم. وقيل: إنه دليل على التوحيد والاعتبار.
قلت وهذا هو الصحيح على ما نبينه. ويجوز أن يكون عني به ما هم إليه محتاجون من جميع الأشياء.
استدل من قال إن أصل الأشياء التي ينتفع بها الإباحة بهذه الآية وما كان مثلها - كقوله: "وسخر لكم ما في السموات وما في الأرض جميعا منه" [الجاثية: 13] الآية - حتى يقوم الدليل على الحظر. وعضدوا هذا بأن قالوا: إن المآكل الشهية خلقت مع إمكان ألا تخلق فلم تخلق عبثا، فلا بد لها من منفعة. وتلك المنفعة لا يصح رجوعها إلى الله تعالى لاستغنائه بذاته، فهي راجعة إلينا. ومنفعتنا إما في نيل لذتها، أو في اجتنابها لنختبر بذلك، أو في اعتبارنا بها. ولا يحصل شيء من تلك الأمور إلا بذوقها، فلزم أن تكون مباحة. وهذا فاسد، لأنا لا نسلم لزوم العبث من خلقها إلا لمنفعة، بل خلقها كذلك لأنه لا يجب عليه أصل المنفعة، بل هو الموجب. ولا نسلم حصر المنفعة فيما ذكروه، ولا حصول بعض تلك المنافع إلا بالذوق، بل قد استدل على الطعوم بأمور أخر كما هو معروف عند الطبائعيين. ثم هو معارض بما يخاف أن تكون سموما مهلكة، ومعارضون بشبهات أصحاب الحظر. وتوقف آخرون وقالوا: ما من فعل لا ندرك منه حسنا ولا قبحا إلا ويمكن أن يكون حسنا في نفسه، ولا معين قبل ورود الشرع، فتعين الوقف إلى ورود الشرع. وهذه الأقاويل الثلاثة للمعتزلة. وقد أطلق الشيخ أبو الحسن وأصحابه وأكثر المالكية والصيرفي في هذه المسألة القول بالوقف. ومعناه عندهم أن لا حكم فيها في تلك الحال، وأن للشرع إذا جاء أن يحكم بما شاء، وأن العقل لا يحكم بوجوب ولا غيره وإنما حظه تعرف الأمور على ما هي عليه. قال ابن عطية: وحكى ابن فورك عن ابن الصائغ أنه قال: لم يخل العقل قط من السمع، ولا نازلة إلا وفيها سمع، أو لها تعلق به، أو لها حال تستصحب. قال: فينبغي أن يعتمد على هذا، ويغني عن النظر في حظر وإباحة ووقف.
الصحيح في معنى قوله تعالى: "خلق لكم ما في الأرض" الاعتبار. يدل عليه ما قبله وما بعده من نصب العبر: الإحياء والإماتة والخلق والاستواء إلى السماء وتسويتها، أي الذي قدر على إحيائكم وخلقكم وخلق السموات والأرض، لا تبعد منه القدرة على الإعادة. فإن قيل: إن معنى "لكم" الانتفاع، أي لتنفعوا بجميع ذلك، قلنا المراد بالانتفاع الاعتبار لما ذكرنا. فان قيل: وأي اعتبار في العقارب والحيات، قلنا: قد يتذكر الإنسان ببعض ما يرى من المؤذيات ما أعد الله للكفار في النار من العقوبات فيكون سببا للإيمان وترك المعاصي، وذلك أعظم الاعتبار. قال ابن العربي: وليس في الإخبار بهذه القدرة عن هذه الجملة ما يقتضي حظرا ولا إباحة ولا وقفا، وإنما جاء ذكر هذه الآية في معرض الدلالة والتنبيه ليستدل بها على وحدانيته. وقال أرباب المعاني في قوله: "خلق لكم ما في الأرض جميعا" لتتقووا به على طاعته، لا لتصرفوه في وجوه معصيته. وقال أبو عثمان: وهب لك الكل وسخره لك لتستدل به على سعة جوده، وتسكن إلى ما ضمن لك من جزيل عطائه في المعاد، ولا تستكثر كثير بره على قليل عملك، فقد ابتدأك بعظيم النعم قبل العمل وهو التوحيد.
روى زيد بن أسلم عن أبيه عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، أن رجلا أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فسأله أن يعطيه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (ما عندي شيء ولكن ابتع علي فإذا جاء شيء قضينا) فقال له عمر: هذا أعطيت إذا كان عندك فما كلفك الله ما لا تقدر. فكره رسول الله صلى الله عليه وسلم قول عمر، فقال رجل من الأنصار: يا رسول الله:
أنفق ولا تخش من ذي العرش إقلالا
فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعرف السرور في وجهه لقول الأنصاري. ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (بذلك أمرت). قال علماؤنا رحمة الله عليهم: فخوف الإقلال من سوء الظن بالله، لأن الله تعالى خلق الأرض بما فيها لولد آدم، وقال في تنزيله: "خلق لكم ما في الأرض جميعا" "وسخر لكم ما في السموات وما في الأرض جميعا منه" [الجاثية: 13]. فهذه الأشياء كلها مسخرة للآدمي قطعا لعذره وحجة عليه، ليكون له عبدا كما خلقه عبدا، فإذا كان العبد حسن الظن بالله لم يخف الإقلال لأنه يخلف عليه، كما قال تعالى: "وما أنفقتم من شيء فهو يخلفه وهو خير الرازقين" [سبأ: 39] وقال: "فإن ربي غني كريم" [النمل: 40]، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (قال الله تعالى: سبقت رحمتي غضبي يا ابن آدم أنْفِق أنفق عليك يمين الله ملأى سحّا لا يغيضها شيء الليل والنهار). وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما من يوم يصبح العباد فيه إلا وملكان ينزلان فيقول أحدهما اللهم أعط منفقا خلفا ويقول الآخر اللهم أعط ممسكا تلفا). وكذا في المساء عند الغروب يناديان أيضا، وهذا كله صحيح رواه الأئمة والحمد لله. فمن استنار صدره، وعلم غنى ربه وكرمه أنفق ولم يخف الإقلال، وكذلك من ماتت شهواته عن الدنيا واجتزأ باليسير من القوت المقيم لمهجته، وانقطعت مشيئته لنفسه، فهذا يعطي من يسره وعسره ولا يخاف إقلالا. وإنما يخاف الإقلال من له مشيئة في الأشياء، فإذا أعطي اليوم وله غدا مشيئه في شيء خاف ألا يصيب غدا، فيضيق عليه الأمر في نفقة اليوم لمخافة إقلاله. روى مسلم عن أسماء بنت أبي بكر قالت قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم (انفحي أو انضحي أو أنفقي ولا تحصي فيحصي الله عليك ولا توعي فيوعي عليك). وروى النسائي عن عائشة قالت: دخل علي سائل مرة وعندي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأمرت له بشيء ثم دعوت به فنظرت إليه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أما تريدين ألا يدخل بيتك شيء ولا يخرج إلا بعلمك) قلت: نعم، قال: (مهلا يا عائشة لا تحصي فيحصي الله عز وجل عليك).
قوله تعالى: "ثم استوى" "ثم" لترتيب الإخبار لا لترتيب الأمر في نفسه. والاستواء في اللغة: الارتفاع والعلو على الشيء، قال الله تعالى: "فإذا استويت أنت ومن معك على الفلك" [المؤمنون: 28]، وقال "لتستووا على ظهوره" [الزخرف: 13]، وقال الشاعر:
فأوردتهم ماء بفيفاء قفرة وقد حلق النجم اليماني فاستوى
أي ارتفع وعلا، واستوت الشمس على رأسي واستوت الطير على قمة رأسي، بمعنى علا. وهذه الآية من المشكلات، والناس فيها وفيما شاكلها على ثلاثة أوجه، قال بعضهم: نقرؤها ونؤمن بها ولا نفسرها، وذهب إليه كثير من الأئمة، وهذا كما روى عن مالك رحمه الله أن رجلا سأله عن قوله تعالى: "الرحمن على العرش استوى" [طه: 5] قال مالك: الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة، وأراك رجل سوء أخرجوه. وقال بعضهم: نقرؤها ونفسرها على ما يحتمله ظاهر اللغة. وهذا قول المشبهة. وقال بعضهم: نقرؤها ونتأولها ونحيل حملها على ظاهرها. وقال الفراء في قوله عز وجل: "ثم استوى إلى السماء فسواهن" قال: الاستواء في كلام العرب على وجهين، أحدهما: أن يستوي الرجل وينتهي شبابه وقوته، أو يستوي عن اعوجاج. فهذان وجهان. ووجه ثالث أن تقول: كان فلان مقبلا على فلان ثم استوى علي وإلي يشاتمني. على معنى أقبل إلي وعلي. فهذا معنى قوله: "ثم استوى إلى السماء" والله أعلم. قال وقد قال ابن عباس: ثم استوى إلى السماء صعد. وهذا كقولك: كان قاعدا فاستوى قائما، وكان قائما فاستوى قاعدا، وكل ذلك في كلام العرب جائز. وقال البيهقي أبو بكر أحمد بن علي بن الحسين: قوله: "استوى" بمعنى أقبل صحيح، لأن الإقبال هو القصد إلى خلق السماء، والقصد هو الإرادة، وذلك جائز في صفات الله تعالى. ولفظة "ثم" تتعلق بالخلق لا بالإرادة. وأما ما حكي عن ابن عباس فإنما أخذه عن تفسير الكلبي، والكلبي ضعيف. وقال سفيان بن عيينة وابن كيسان في قوله "ثم استوى إلى السماء": قصد إليها، أي بخلقه واختراعه، فهذا قول. وقيل: على دون تكييف ولا تحديد، واختاره الطبري. ويذكر عن أبي العالية الرياحي في هذه الآية أنه يقال: استوى بمعنى أنه ارتفع. قال البيهقي: ومراده من ذلك - والله أعلم - ارتفاع أمره، وهو بخار الماء الذي وقع منه خلق السماء. وقيل: إن المستوى الدخان. وقال ابن عطية: وهذا يأباه وصف الكلام. وقيل: المعنى استولى، كما قال الشاعر:
قد استوى بشر على العراق من غير سيف ودم مهراق
قال ابن عطية: وهذا إنما يجيء في قوله تعالى: "الرحمن على العرش استوى" [طه: 5].
قلت: قد تقدم في قول الفراء علي وإلي بمعنى. وسيأتي لهذا الباب مزيد بيان في سورة "الأعراف" إن شاء الله تعالى. والقاعدة في هذه الآية ونحوها منع الحركة والنقلة.
يظهر من هذه الآية أنه سبحانه خلق الأرض قبل السماء، وكذلك في "حم السجدة". وقال في النازعات: "أأنتم أشد خلقا أم السماء بناها" [النازعات: 27] فوصف خلقها، ثم قال: "والأرض بعد ذلك دحاها" [النازعات: 30]. فكأن السماء على هذا خلقت قبل الأرض، وقال تعالى "الحمد لله الذي خلق السموات والأرض" [الأنعام: 1] وهذا قول قتادة: إن السماء خلقت أولا، حكاه عنه الطبري. وقال مجاهد وغيره من المفسرين: إنه تعالى أيبس الماء الذي كان عرشه عليه فجعله أرضا وثار منه دخان فارتفع، فجعله سماء فصار خلق الأرض قبل خلق السماء، ثم قصد أمره إلى السماء فسواهن سبع سماوات، ثم دحا الأرض بعد ذلك، وكانت إذ خلقها غير مدحوة.
قلت: وقول قتادة يخرج على وجه صحيح إن شاء الله تعالى، وهو أن الله تعالى خلق أولا دخان السماء ثم خلق الأرض، ثم استوى إلى السماء وهي دخان فسواها، ثم دحا الأرض بعد ذلك.
ومما يدل على أن الدخان خلق أولا قبل الأرض ما رواه السدي عن أبي مالك، وعن أبي صالح عن ابن عباس، وعن مرة الهمداني عن ابن مسعود وعن ناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله عز وجل: "هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا ثم استوى إلى السماء فسواهن سبع سماوات" [البقرة: 29] قال: إن الله تبارك وتعالى كان عرشه على الماء ولم يخلق شيئا قبل الماء، فلما أراد أن يخلق الخلق أخرج من الماء دخانا فارتفع فوق الماء، فسما عليه، فسماه سماء، ثم أيبس الماء فجعله أرضا واحدة، ثم فتقها فجعلها سبع أرضين في يومين، في الأحد والاثنين. فجعل الأرض على حوت - والحوت هو النون الذي ذكر الله تبارك وتعالى في القرآن بقوله: "ن والقلم" [القلم: 1] والحوت في الماء و[الماء] على صفاة، والصفاة على ظهر ملك، والملك على الصخرة، والصخرة في الريح - وهي الصخرة التي ذكر لقمان: ليست في السماء ولا في الأرض - فتحرك الحوت فاضطرب، فتزلزلت الأرض، فأرسل عليها الجبال فقرت، فالجبال تفخر على الأرض، وذلك قوله تعالى: "وألقى في الأرض رواسي أن تميد بكم" [النحل: 15] وخلق الجبال فيها، وأقوات أهلها وشجرها، وما ينبغي لها في يومين، في الثلاثاء والأربعاء، وذلك حين يقول: "قل أإنكم لتكفرون بالذي خلق الأرض في يومين وتجعلون له أندادا ذلك رب العالمين. وجعل فيها رواسي من فوقها وبارك فيها وقدر فيها أقواتها في أربعة أيام سواء للسائلين" [فصلت: 9، 10] يقول: من سأل فهكذا الأمر، "ثم استوى إلى السماء وهي دخان" وكان ذلك الدخان من تنفس الماء حين تنفس، فجعلها سماء واحدة، ثم فتقها فجعلها سبع سماوات في يومين، في الخميس والجمعة وإنما سمي يوم الجمعة لأنه جمع فيه خلق السموات والأرض، "وأوحى في كل سماء أمرها" [فصلت: 12] قال: خلق في كل سماء خلقها من الملائكة والخلق الذي فيها من البحار وجبال البرد وما لا يعلم، ثم زين السماء الدنيا بالكواكب، فجعلها زينة وحفظا تحفظ من الشياطين. فلما فرغ من خلق ما أحب استوى على العرش، قال فذلك حين يقول: "خلق السموات والأرض في ستة أيام" [الحديد: 4] ويقول: "كانتا رتقا ففتقناهما" [الأنبياء: 30] وذكر القصة في خلق آدم عليه السلام، على ما يأتي بيانه في هذه السورة إن شاء الله تعالى. وروى وكيع عن الأعمش عن أبي ظبيان عن ابن عباس قال: (إن أول ما خلق الله عز وجل من شيء "القلم" فقال له اكتب. فقال: يا رب وما اكتب؟ قال: اكتب القدر. فجرى بما هو كائن من ذلك اليوم إلى قيام الساعة. قال: ثم خلق النون فدحا الأرض عليها، فارتفع بخار الماء ففتق منه السموات، واضطرب النون فمادت الأرض فأثبتت بالجبال، فإن الجبال تفخر على الأرض إلى يوم القيامة.) ففي هذه الرواية خلق الأرض قبل ارتفاع بخار الماء الذي هو الدخان، خلاف الرواية الأولى. والرواية الأولى عنه وعن غيره أولى، لقوله تعالى: "والأرض بعد ذلك دحاها" [النازعات: 30] والله أعلم بما فعل، فقد اختلفت فيه الأقاويل، وليس للاجتهاد فيه مدخل.
وذكر أبو نعيم عن كعب الأحبار أن إبليس تغلغل إلى الحوت الذي على ظهره الأرض كلها، فألقى في قلبه، فقال: هل تدري ما على ظهرك يا لوثيا من الأمم والشجر والدواب والناس والجبال لو نفضتهم ألقيتهم عن ظهرك أجمع. قال: فهم لوثيا بفعل ذلك، فبعث الله دابة فدخلت في منخره، فعج إلى الله فخرجت. قال كعب: والذي نفسي بيده، إنه لينظر إليها بين يديه وتنظر إليه إن هم بشيء من ذلك عادت حيث كانت.
أصل خلق الأشياء كلها من الماء لما رواه ابن ماجة في سننه، وأبو حاتم البستي في صحيح مسنده عن أبى هريرة قال قلت: يا رسول الله، إذا رأيتك طابت نفسي وقرت عيني، أنبئني عن كل شيء. قال: (كل شيء خلق من الماء) فقلت: أخبرني عن شيء إذا علمت به دخلت الجنة. قال: (أطعم الطعام وأفش السلام وصل الأرحام وقم الليل والناس نيام تدخل الجنة بسلام). قال أبو حاتم قول أبي هريرة: "أنبئني عن كل شيء" أراد به عن كل شيء خلق من الماء. والدليل على صحة هذا جواب المصطفى عليه السلام إياه حيث قال: (كل شيء خلق من الماء) وإن لم يكن مخلوقا. وروى سعيد بن جبير عن ابن عباس أنه كان يحدث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن أول شيء خلقه الله القلم وأمره فكتب كل شيء يكون) ويروى ذلك أيضا عن عبادة بن الصامت مرفوعا. قال البيهقي: وإنما أراد - والله أعلم - أول شيء خلقه بعد خلق الماء والريح والعرش "القلم". وذلك بين في حديث عمران بن حصين، ثم خلق السموات والأرض. وذكر عبدالرزاق بن عمر بن حبيب المكي عن حميد بن قيس الأعرج عن طاووس قال: جاء رجل إلى عبدالله بن عمرو بن العاص فسأله: مم خلق الخلق؟ قال: من الماء والنور والظلمة والريح والتراب. قال الرجل: فمم خلق هؤلاء؟ قال: لا أدري. قال: ثم أتى الرجل عبدالله بن الزبير فسأله، فقال مثل قول عبدالله بن عمرو. قال: فأتى الرجل عبدالله بن عباس فسأله، فقال: مم خلق الخلق؟ قال: من الماء والنور والظلمة والريح والتراب. قال الرجل: فمم خلق هؤلاء؟ فتلا عبدالله بن عباس: "وسخر لكم ما في السموات وما في الأرض جميعا منه" [الجاثية: 13] فقال الرجل: ما كان ليأتي بهذا إلا رجل من أهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم. قال البيهقي: أراد أن مصدر الجميع منه، أي من خلقه وإبداعه واختراعه. خلق الماء أولا، أو الماء وما شاء من خلقه لا عن أصل ولا على مثال سبق، ثم جعله أصلا لما خلق بعد، فهو المبدع وهو البارئ لا إله غيره ولا خالق سواه، سبحانه جل وعز.
قوله تعالى: "فسواهن سبع سماوات" ذكر تعالى أن السموات سبع. ولم يأت للأرض في التنزيل عدد صريح لا يحتمل التأويل إلا قوله تعالى: "ومن الأرض مثلهن" [الطلاق: 12] وقد اختلف فيه، فقيل: ومن الأرض مثلهن أي في العدد، لأن الكيفية والصفة مختلفة بالمشاهدة والأخبار، فتعين العدد. وقيل: "ومن الأرض مثلهن" أي في غلظهن وما بينهن. وقيل: هي سبع إلا أنه لم يفتق بعضها من بعض، قال الداودي. والصحيح الأول، وأنها سبع كالسماوات سبع. روى مسلم عن سعيد بن زيد قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (من أخذ شبرا من الأرض ظلما طوقه إلى سبع أرضين). وعن عائشة رضي الله عنها مثله، إلا أن فيه "من" بدل "إلى". ومن حديث أبي هريرة: (لا يأخذ أحد شبرا من الأرض بغير حقه إلا طوقه الله إلى سبع أرضين) وروى النسائي عن أبي سعيد الخدري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (قال موسى عليه السلام يا رب علمني شيئا أذكرك به وأدعوك به قال يا موسى قل لا إله إلا الله قال موسى يا رب كل عبادك يقول هذا قال قل لا إله إلا الله قال لا إله إلا أنت إنما أريد شيئا تخصني به قال يا موسى لو أن السموات السبع وعامرهن غيري والأرضين السبع في كفة ولا إله إلا الله في كفة مالت بهن لا إله إلا الله). وروى الترمذي عن أبي هريرة قال: بينما نبي الله صلى الله عليه وسلم جالس وأصحابه إذ أتى عليهم سحاب، فقال نبي الله صلى الله عليه وسلم: (هل تدرون ما هذا) فقالوا: الله ورسوله أعلم، قال: (هذا العنان هذه روايا الأرض يسوقه الله إلى قوم لا يشكرونه ولا يدعونه - قال - هل تدرون ما فوقكم) قالوا: الله ورسول أعلم، قال: (فإنها الرقيع سقف محفوظ وموج مكفوف - ثم قال - هل تدرون كم بينكم وبينها) قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: (بينكم وبينها مسيرة خمسمائة عام - ثم قال: - هل تدرون ما فوق ذلك) قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: (فإن فوق ذلك سماءين بعد ما بينهما مسيرة خمسمائة سنة) ثم قال كذلك حتى عد سبع سماوات ما بين كل سماءين ما بين السماء والأرض. ثم قال: (هل تدرون ما فوق ذلك) قالوا: الله ورسوله أعلم، قال (فإن فوق ذلك العرش وبينه وبين السماء بعد ما بين السماءين - ثم قال: - هل تدرون ما الذي تحتكم) قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: (فإنها الأرض - ثم قال: - هل تدرون ما تحت ذلك) قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: (فإن تحتها الأرض الأخرى بينهما مسيرة خمسمائة سنة) حتى عد سبع أرضين، بين كل أرضين مسيرة خمسمائة سنة، ثم قال: (والذي نفس محمد بيده لو أنكم دليتم بحبل إلى الأرض السفلى لهبط على الله - ثم قرأ - هو الأول والآخر والظاهر والباطن وهو بكل شيء عليم). قال أبو عيسى: قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم الآية تدل على أنه أراد: لهبط على علم الله وقدرته وسلطانه، [علم الله وقدرته وسلطانه] في كل مكان وهو على عرشه كما وصف نفسه في كتابه. قال: هذا حديث غريب، والحسن لم يسمع من أبي هريرة. والآثار بأن الأرضين سبع كثيرة، وفيما ذكرنا كفاية. وقد روى أبو الضحى - واسمه مسلم - عن ابن عباس أنه قال: "الله الذي خلق سبع سماوات ومن الأرض مثلهن" [الطلاق: 12] قال: سبع أرضين في كل أرض نبي كنبيكم، وآدم كآدم، ونوح كنوح، وإبراهيم كإبراهيم، وعيسى كعيسى. قال البيهقي: إسناد هذا عن ابن عباس صحيح، وهو شاذ بمرة لا أعلم لأبي الضحى عليه دليلا، والله أعلم.
قوله تعالى: "هو الذي خلق لكم ما في الأرض" ابتداء وخبر. "ما" في موضع نصب "جميعا" عند سيبويه نصب على الحال "ثم استوى" أهل نجد يميلون ليدلوا على أنه من ذوات الياء، وأهل الحجاز يفخمون. "سبع" منصوب على البدل من الهاء والنون، أي فسوى سبع سماوات. ويجوز أن يكون مفعولا على تقدير يسوي بينهن سبع سماوات، كما قال الله جل عز: "واختار موسى قومه سبعين رجلا" [الأعراف: 155] أي من قومه، قال النحاس. وقال الأخفش: انتصب على الحال. "وهو بكل شيء عليم" ابتداء وخبر والأصل في "هو" تحريك الهاء، والإسكان استخفاف.
والسماء تكون واحدة مؤنثة، مثل عنان، وتذكيرها شاذ، وتكون جمعا لسماوة في قول الأخفش، وسماءة في قول الزجاج، وجمع الجمع سماوات وسماءات. فجاء "سواهن" إما على أن السماء جمع وإما على أنها مفرد اسم جنس. ومعنى سواهن سوى سطوحهن بالإملاس. وقيل: جعلهن سواء.
قوله تعالى: "وهو بكل شيء عليم" أي بما خلق وهو خالق كل شيء، فوجب أن يكون عالما بكل شيء، وقد قال: "ألا يعلم من خلق" [الملك: 14] فهو العالم والعليم بجميع المعلومات بعلم قديم أزلي واحد قائم بذاته، ووافقنا المعتزلة على العالمية دون العلمية. وقالت الجهمية: عالم بعلم قائم لا في محل، تعالى الله عن قول أهل الزيغ والضلالات، والرد على هؤلاء في كتب الديانات. وقد وصف نفسه سبحانه بالعلم فقال: "أنزله بعلمه والملائكة يشهدون" [النساء: 166]، وقال: "فاعلموا أنما أنزل بعلم الله" [هود: 14]، وقال: "فلنقصن عليهم بعلم" [الأعراف: 7]، وقال: "وما تحمل من أنثى ولا تضع إلا بعلمه" [فاطر: 11]، وقال: "وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو" [الأنعام: 59] الآية. وسندل على ثبوت علمه وسائر صفاته في هذه السورة عند قوله: "يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر" [البقرة: 185] إن شاء الله تعالى. وقرأ الكسائي وقالون عن نافع بإسكان الهاء من: هو وهي، إذا كان قبلها فاء أو واو أو لام أو ثم، وكذلك فعل أبو عمرو إلا مع ثم. وزاد أبو عون عن الحلواني عن قالون إسكان الهاء من "أن يمل هو" والباقون بالتحريك.
تفسير القرطبي - صفحة القرآن رقم 5
5- تفسير الصفحة رقم5 من المصحفالآية: 25 {وبشر الذين آمنوا وعملوا الصالحات أن لهم جنات تجري من تحتها الأنهار كلما رزقوا منها من ثمرة رزقا قالوا هذا الذي رزقنا من قبل وأتوا به متشابها ولهم فيها أزواج مطهرة وهم فيها خالدون}
لما ذكر الله عز وجل جزاء الكافرين ذكر جزاء المؤمنين أيضا. والتبشير الإخبار بما يظهر أثره على البشرة - وهي ظاهر الجلد لتغيرها بأول خبر يرد عليك، ثم الغالب أن يستعمل في السرور مقيدا بالخير المبشر به، وغير مقيد أيضا. ولا يستعمل في الغم والشر إلا مقيدا منصوصا على الشر المبشر به، قال الله تعالى "فبشرهم بعذاب أليم" [الانشقاق: 24] ويقال: بشرته وبشرته - مخفف ومشدد - بشارة (بكسر الباء) فأبشر واستبشر. وبشر يبشر إذا فرح. ووجه بشير إذا كان حسنا بين البشارة (بفتح الباء). والبشرى: ما يعطاه المبشر. وتباشير الشيء: أوله.
أجمع العلماء على أن المكلف إذا قال: من بشرني من عبيدي بكذا فهو حر، فبشره واحد من عبيده فأكثر فإن أولهم يكون حرا دون الثاني. واختلفوا إذا قال: من أخبرني من عبيدي بكذا فهو حر فهل يكون الثاني مثل الأول، فقال أصحاب الشافعي: نعم، لأن كل واحد منهم مخبر. وقال علماؤنا: لا، لأن المكلف إنما قصد خبرا يكون بشارة، وذلك يختص بالأول، وهذا معلوم عرفا فوجب صرف القول إليه. وفرق محمد بن الحسن بين قوله: أخبرني، أو حدثني، فقال: إذا قال الرجل أي غلام لي أخبرني بكذا، أو أعلمني بكذا وكذا فهو حر - ولا نية له - فأخبره غلام له بذلك بكتاب أو كلام أو رسول فإن الغلام يعتق، لأن هذا خبر. وإن أخبره بعد ذلك غلام له عتق، لأنه قال: أي غلام أخبرني فهو حر. ولو أخبروه كلهم عتقوا، وإن كان عنى - حين حلف - بالخبر كلام مشافهة لم يعتق واحد منهم إلا أن يخبره بكلام مشافهة بذلك الخبر. قال: وإذا قال أي غلام لي حدثني، فهذا على المشافهة، لا يعتق واحد منهم.
قوله تعالى: "وعملوا الصالحات" رد على من يقول: إن الإيمان بمجرده يقتضي الطاعات، لأنه لو كان ذلك ما أعادها فالجنة تنال بالإيمان والعمل الصالح. وقيل: الجنة تنال بالإيمان، والدرجات تستحق بالأعمال الصالحات. والله أعلم.
"أن لهم" في موضع نصب بـ "بشر" والمعنى وبشر الذين آمنوا بأن لهم، أو لأن لهم، فلما سقط الخافض عمل الفعل. وقال الكسائي وجماعة من البصريين: "أن" في موضع خفض بإضمار الباء. "جنات" في موضع نصب اسم "أن"، "وأن وما عملت فيه في موضع المفعول الثاني. والجنات: البساتين، وإنما سميت جنات لأنها تجن من فيها أي تستره بشجرها، ومنه: المجن والجنين والجنة. "تجري" في موضع النعت لجنات وهو مرفوع، لأنه فعل مستقبل فحذفت الضمة من الياء لثقلها معها. "من تحتها" أي من تحت أشجارها، ولم يجر لها ذكر، لأن الجنات دالة عليها.
"الأنهار" أي ماء الأنهار، فنسب الجري إلى الأنهار توسعا، وإنما يجري الماء وحده فحذف اختصارا، كما قال تعالى: "واسأل القرية" [يوسف: 82] أي أهلها. وقال الشاعر:
نبئت أن النار بعدك أوقدت واستب بعدك يا كليب المجلس
أراد: أهل المجلس، فحذف. والنهر: مأخوذ من أنهرت، أي وسعت، ومنه قول قيس بن الخطيم:
ملكت بها كفي فأنهرت فتقها يرى قائم من دونها ما وراءها
أي وسعتها، يصف طعنة. ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم: (ما أنهر الدم وذكر اسم الله عليه فكلوه). معناه: ما وسع الذبح حتى يجري الدم كالنهر. وجمع النهر: نهر وأنهار. ونهر نهر: كثير الماء، قال أبو ذؤيب:
أقامت به فابتنت خيمة على قصب وفرات نهر
وروي: أن أنهار الجنة ليست في أخاديد، إنما تجري على سطح الجنة منضبطة بالقدرة حيث شاء أهلها. والوقف على "الأنهار" حسن وليس بتام، لأن قوله: "كلما رزقوا منها من ثمرة" من وصف الجنات. "رزقاً" مصدره، وقد تقدم القول في الرزق. ومعنى "من قبل" يعني في الدنيا، وفيه وجهان: أحدهما: أنهم قالوا هذا الذي وعدنا به في الدنيا. والثاني: هذا الذي رزقنا في الدنيا، لأن لونها يشبه لون ثمار الدنيا، فإذا أكلوا وجدوا طعمه غير ذلك وقيل: "من قبل" يعني في الجنة لأنهم يرزقون ثم يرزقون، فإذا أتوا بطعام وثمار في أول النهار فأكلوا منها، ثم أتوا منها في آخر النهار قالوا: هذا الذي رزقنا من قبل، يعني أطعمنا في أول النهار، لأن لونه يشبه ذلك، فإذا أكلوا منها وجدوا لها طعما غير طعم الأول.
قوله: "وأتوا" فعلوا من أتيت. وقرأه الجماعة بضم الهمزة والتاء. وقرأ هارون الأعور "وأتوا" بفتح الهمزة والتاء. فالضمير في القراءة الأولى لأهل الجنة، وفي الثانية للخدام. "به متشابهاً" حال من الضمير في "به"، أي يشبه بعضه بعضا في المنظر ويختلف في الطعم. قاله ابن عباس ومجاهد والحسن وغيرهم. وقال عكرمة: يشبه ثمر الدنيا ويباينه في جل الصفات. ابن عباس: هذا على وجه التعجب، وليس في الدنيا شيء مما في الجنة سوى الأسماء، فكأنهم تعجبوا لما رأوه من حسن الثمرة وعظم خلقها. وقال قتادة: خيارا لا رذل فيه، كقوله تعالى: "كتابا متشابها" [الزمر: 23] وليس كثمار الدنيا التي لا تتشابه، لأن فيها خيارا وغير خيار.
قوله: "ولهم فيها أزواج" ابتداء وخبر. وأزواج: جمع زوج. والمرأة: زوج الرجل. والرجل زوج المرأة. قال الأصمعي: ولا تكاد العرب تقول زوجة. وحكى الفراء أنه يقال: زوجة، وأنشد الفرزدق:
وإن الذي يسعى ليفسد زوجتي كساع إلى أسد الشرى يستبيلها
وقال عمار بن ياسر في شأن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها: والله إني لأعلم أنها زوجته في الدنيا والآخرة، ولكن الله ابتلاكم. ذكره البخاري، واختاره الكسائي.
"مطهرة" نعت للأزواج ومطهرة في اللغة أجمع من طاهرة وأبلغ، ومعنى هذه الطهارة من الحيض والبصاق وسائر أقذار الآدميات. ذكر عبدالرزاق قال أخبرني الثوري عن ابن أبي نجيح عن مجاهد: "مطهرة" قال: لا يبلن ولا يتغوطن ولا يلدن ولا يحضن ولا يمنين ولا يبصقن. وقد أتينا على هذا كله في وصف أهل الجنة وصفة الجنة ونعيمها من كتاب التذكرة. والحمد لله.
"وهم فيها خالدون" "هم" مبتدأ. "خالدون" خبره، والظرف ملغى. ويجوز في غير القرآن نصب خالدين على الحال. والخلود: البقاء ومنه جنة الخلد. وقد تستعمل مجازا فيما يطول، ومنه قولهم في الدعاء: خلد الله ملكه أي طوله. قال زهير:
ألا لا أرى على الحوادث باقيا ولا خالدا إلا الجبال الرواسيا
وأما الذي في الآية فهو أبدي حقيقة.
الآية: 26 {إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلا ما بعوضة فما فوقها فأما الذين آمنوا فيعلمون أنه الحق من ربهم وأما الذين كفروا فيقولون ماذا أراد الله بهذا مثلا يضل به كثيرا ويهدي به كثيرا وما يضل به إلا الفاسقين}
قوله تعالى: "إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلا ما بعوضة" قال ابن عباس في رواية أبي صالح: لما ضرب الله سبحانه هذين المثلين للمنافقين: يعني "مثلهم كمثل الذي استوقد نارا" [البقرة: 17] وقوله: "أو كصيب من السماء" [البقرة: 19] قالوا: الله أجل وأعلى من أن يضرب الأمثال، فأنزل الله هذه الآية. وفي رواية عطاء عن ابن عباس قال: لما ذكر الله آلهة المشركين فقال: "وإن يسلبهم الذباب شيئا لا يستنقذوه منه" [الحج: 73] وذكر كيد الآلهة فجعله كبيت العنكبوت، قالوا: أرأيت حيث ذكر الله الذباب والعنكبوت فيما أنزل من القرآن على محمد، أي شيء يصنع؟ فأنزل الله الآية. وقال الحسن وقتادة: لما ذكر الله الذباب والعنكبوت في كتابه وضرب للمشركين به المثل، ضحكت اليهود وقالوا: ما يشبه هذا كلام الله، فأنزل الله الآية.
و"يستحيي" أصله يستحيِيُ، عينه ولامه حرفا علة، أعلت اللام منه بأن استثقلت الضمة على الياء فسكنت. واسم الفاعل في هذا: مستحيٍ، والجمع مستحيون ومستحيين. وقرأ ابن محيصن "يستحي" بكسر الحاء وياء واحدة ساكنة، وروى عن ابن كثير، وهي لغة تميم وبكر ابن وائل، نقلت فيها حركة الياء الأولى إلى الحاء فسكنت، ثم استثقلت الضمة على الثانية فسكنت، فحذفت إحداهما للالتقاء، واسم الفاعل مستح، والجمع مستحون ومستحين. قاله الجوهري. واختلف المتأولون في معنى "يستحيي" في هذه الآية فقيل: لا يخشى، ورجحه الطبري، وفي التنزيل: "وتخشى الناس والله أحق أن تخشاه" [الأحزاب: 37] بمعنى تستحي. وقال غيره: لا يترك. وقيل: لا يمتنع. وأصل الاستحياء الانقباض عن الشيء والامتناع منه خوفا من مواقعة القبيح، وهذا محال على الله تعالى. وفي صحيح مسلم عن أم سلمة رضي الله عنها قالت: جاءت أم سليم إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله، إن الله لا يستحيي من الحق. المعنى لا يأمر بالحياء فيه، ولا يمتنع من ذكره.
قوله تعالى: "أن يضرب مثلا ما" "يضرب" معناه يبين، و"أن" مع الفعل في موضع نصب بتقدير حذف من. "مثلا" منصوب بيضرب "بعوضة" في نصبها أربعة أوجه:
الأول: تكون "ما" زائدة، و"بعوضة" بدلا من "مثلا".
الثاني: تكون "ما" نكرة في موضع نصب على البدل من قوله: "مثلا". و"بعوضة" نعت لما، فوصفت "ما" بالجنس المنكر لإبهامها لأنها بمعنى قليل، قاله الفراء والزجاج وثعلب.
الثالث: نصبت على تقدير إسقاط الجار، المعنى أن يضرب مثلا ما بين بعوضة، فحذفت "بين" وأعربت بعوضة بإعرابها، والفاء بمعنى إلى، أي إلى ما فوقها. وهذا قول الكسائي والفراء أيضا، وأنشد أبو العباس:
يا أحسن الناس ما قرنا إلى قدم ولا حبال محب واصل تصل
أراد ما بين قرن، فلما أسقط "بين" نصب.
الرابع: أن يكون "يضرب" بمعنى يجعل، فتكون "بعوضة" المفعول الثاني. وقرأ الضحاك وإبراهيم بن أبي عبلة ورؤبة بن العجاج "بعوضة" بالرفع، وهي لغة تميم. قال أبو الفتح: ووجه ذلك أن "ما" اسم بمنزلة الذي، و"بعوضة" رفع على إضمار المبتدأ، التقدير: لا يستحيي أن يضرب الذي هو بعوضة مثلا، فحذف العائد على الموصول وهو مبتدأ. ومثله قراءة بعضهم: "تماما على الذي أحسن" أي على الذي هو أحسن. وحكى سيبويه: ما أنا بالذي قائل لك شيئا، أي هو قائل. قال النحاس: والحذف في "ما" أقبح منه في "الذي"، لأن "الذي" إنما له وجه واحد والاسم معه أطول. ويقال: إن معنى ضربت له مثلا، مثلت له مثلا. وهذه الأبنية على ضرب واحد، وعلى مثال واحد ونوع واحد والضرب النوع. والبعوضة: فعولة من بَعَض إذا قطع اللحم، يقال: بضع وبعض بمعنى، وقد بعضته تبعيضا، أي جزأته فتبعض. والبعوض: البق، الواحدة بعوضة، سميت بذلك لصغرها. قال الجوهري وغيره.
قوله تعالى: "فما فوقها" قد تقدم أن الفاء بمعنى إلى، ومن جعل "ما" الأولى صلة زائدة فـ "ما" الثانية عطف عليها. وقال الكسائي وأبو عبيدة وغيرهما: معنى "فما فوقها" - والله أعلم - ما دونها، أي إنها فوقها في الصغر. قال الكسائي: وهذا كقولك في الكلام: أتراه قصيرا؟ فيقول القائل: أو فوق ذلك، أي هو أقصر مما ترى. وقال قتادة وابن جريج: المعنى في الكبر.
قوله تعالى: "فأما الذين آمنوا فيعلمون أنه الحق من ربهم" الضمير في "أنه" عائد على المثل أي أن المثل حق. والحق خلاف الباطل. والحق: واحد الحقوق. والحقة (بفتح الحاء) أخص منه، يقال: هذه حقتي، أي حقي. "وأما الذين كفروا" لغة بني تميم وبني عامر في "أما" أيما، يبدلون من إحدى الميمين ياء كراهية التضعيف، وعلى هذا ينشد بيت عمر بن أبي ربيعة:
رأت رجلا أيما إذا الشمس عارضت فيضحى وأيما بالعشي فيخصر
قوله تعالى: "فيقولون ماذا أراد الله بهذا مثلا" اختلف النحويون في "ماذا"، فقيل: هي بمنزلة اسم واحد بمعنى أي شيء أراد الله، فيكون في موضع نصب بـ "أراد". قال ابن كيسان: وهو الجيد. وقيل: "ما" اسم تام في موضع رفع بالابتداء، و"ذا" بمعنى الذي وهو خبر الابتداء، ويكون التقدير: ما الذي أراده الله بهذا مثلا، ومعنى كلامهم هذا: الإنكار بلفظ الاستفهام. و"مثلا" منصوب على القطع، التقدير: أراد مثلا، قاله ثعلب. وقال ابن كيسان: هو منصوب على التمييز الذي وقع موقع الحال.
قوله تعالى: "يضل به كثيرا ويهدي به كثيرا" قيل: هو من قول الكافرين، أي ما مراد الله بهذا المثل الذي يفرق به الناس إلى ضلالة وإلى هدى. وقيل: بل هو خبر من الله عز وجل، وهو أشبه، لأنهم يقرون بالهدى أنه من عنده، فالمعنى: قل يضل الله به كثيرا ويهدي به كثيرا، أي يوفق ويحذل، وعليه فيكون فيه رد على من تقدم ذكرهم من المعتزلة وغيرهم في قولهم: إن الله لا يخلق الضلال ولا الهدى. قالوا: ومعنى "يضل به كثيرا" التسمية هنا، أي يسميه ضالا، كما يقال: فسقت فلانا، يعني سميته فاسقا، لأن الله تعالى لا يضل أحدا. هذا طريقهم في الإضلال، وهو خلاف أقاويل المفسرين، وهو غير محتمل في اللغة، لأنه يقال: ضلله إذا سماه ضالا، ولا يقال: أضله إذا سماه ضالا، ولكن معناه ما ذكره المفسرون أهل التأويل من الحق أنه يخذل به كثيرا من الناس مجازاة لكفرهم.
"وما يضل به إلا الفاسقين" ولا خلاف أن قوله: "وما يضل به إلا الفاسقين" أنه من قول الله تعالى. و"الفاسقين" نصب بوقوع الفعل عليهم، والتقدير: وما يضل به أحدا إلا الفاسقين الذين سبق في علمه أنه لا يهديهم. ولا يجوز أن تنصبهم على الاستثناء لأن الاستثناء لا يكون إلا بعد تمام الكلام. وقال نوف البكالي: قال عزير فيما يناجي ربه عز وجل: إلهي تخلق خلقا فتضل من تشاء وتهدي من تشاء. قال فقيل: يا عزير اعرض عن هذا! لتعرضن عن هذا أو لأمحونك من النبوة، إني لا أسأل عما أفعل وهم يسألون. والضلال أصله الهلاك، يقال منه: ضل الماء في اللبن إذا استهلك، ومنه قوله تعالى: "أإذا ضللنا في الأرض" [السجدة:10] وقد تقدم في الفاتحة. والفسق أصله في كلام العرب الخروج عن الشيء، يقال: فسقت الرطبة إذا خرجت عن قشرها، والفأرة من جحرها. والفويسقة: الفأرة، وفي الحديث: (خمس فواسق يقتلن في الحل والحرم الحية والغراب الأبقع والفأرة والكلب العقور والحديا). روته عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم، أخرجه مسلم. وفي رواية (العقرب) مكان (الحية). فأطلق صلى الله عليه وسلم عليها اسم الفسق لأذيتها، على ما يأتي بيانه في هذا الكتاب إن شاء الله تعالى. وفسق الرجل يفسق ويفسق أيضا - فسقا وفسوقا، أي فجر. فأما قوله تعالى: "ففسق عن أمر ربه" فمعناه خرج. وزعم ابن الأعرابي أنه لم يسمع قط في كلام الجاهلية ولا في شعرهم فاسق. قال: وهذا عجب، وهو كلام عربي حكاه عنه ابن فارس والجوهري.
قلت: قد ذكر أبو بكر الأنباري في كتاب "الزاهر" له لما تكلم على معنى الفسق قول الشاعر:
يذهبن في نجد وغورا غائرا فواسقا عن قصدها جوائرا
والفِسّيق: الدائم الفسق. ويقال في النداء: يا فسق ويا خبث، يريد: يا أيها الفاسق، ويا أيها الخبيث. والفسق في عرف الاستعمال الشرعي: الخروج من طاعة الله عز وجل، فقد يقع على من خرج بكفر وعلى من خرج بعصيان.
الآية: 27 {الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل ويفسدون في الأرض أولئك هم الخاسرون}
قوله تعالى: "الذين" (الذين) في موضع نصب على النعت للفاسقين، وإن شئت جعلته في موضع رفع على أنه خبر ابتداء محذوف، أي هم الذين. وقد تقدم. "ينقضون عهد الله" النقض: إفساد ما أبرمته من بناء أو حبل أو عهد. والنقاضة. ما نقض من حبل الشعر. والمناقضة في القول: أن تتكلم بما تناقض معناه. والنقيضة في الشعر: ما ينقض به. والنقض: المنقوض. واختلف الناس في تعيين هذا العهد، فقيل: هو الذي أخذه الله على بني آدم حين استخرجهم من ظهره. وقيل: هو وصية الله تعالى إلى خلقه، وأمره إياهم بما أمرهم به من طاعته، ونهيه إياهم عما نهاهم عنه من معصيته في كتبه على ألسنة رسله، ونقضهم ذلك ترك العمل به. وقيل: بل نصب الأدلة على وحدانيته بالسماوات والأرض وسائر الصنعة هو بمنزلة العهد، ونقضهم ترك النظر في ذلك. وقيل: هو ما عهده إلى من أوتي الكتاب أن يبينوا نبوة محمد صلى الله عليه وسلم ولا يكتموا أمره. فالآية على هذا في أهل الكتاب. قال أبو إسحاق الزجاج: عهده جل وعز ما أخذه على النبيين ومن اتبعهم ألا يكفروا بالنبي صلى الله عليه وسلم. ودليل ذلك: "وإذ أخذ الله ميثاق النبيين" [آل عمران: 81] إلى قوله تعالى: "وأخذتم على ذلكم إصري" [آل عمران: 81] أي عهدي.
قلت: وظاهر ما قبل وما بعد يدل على أنها في الكفار. فهذه خمسة أقوال، والقول الثاني يجمعها.
قوله تعالى: "من بعد ميثاقه" الميثاق: العهد المؤكد باليمين، مفعال من الوثاقة والمعاهدة، وهي الشدة في العقد والربط ونحوه. والجمع المواثيق على الأصل، لأن أصل ميثاق موثاق، صارت الواو ياء لانكسار ما قبلها - والمياثق والمياثيق أيضا، وأنشد ابن الأعرابي:
حمى لا يحل الدهر إلا بإذننا ولا نسأل الأقوام عهد المياثق
والموثق: الميثاق. والمواثقة: المعاهدة، ومنه قوله تعالى: "وميثاقه الذي واثقكم به".
قوله تعالى: "ويقطعون" القطع معروف، والمصدر - في الرحم - القطيعة، يقال: قطع رحمه قطيعة فهو رجل قطَع وقطعة، مثال همزة. وقطعت الحبل قطعا. وقطعت النهر قطوعا. وقطعت الطير قُطوعا وقُطاعا وقِطاعا إذا خرجت من بلد إلى بلد. وأصاب الناس قطعة: إذا قلت مياههم. ورجل به قطع: أي انبهار.
قوله تعالى: "ما أمر الله به أن يوصل" "ما" في موضع نصب بـ "يقطعون". و"أن" إن شئت كانت بدلا من "ما" وإن شئت من الهاء في "به" وهو أحسن. ويجوز أن يكون لئلا يوصل، أي كراهة أن يوصل. واختلف ما الشيء الذي أمر بوصله؟ فقيل: صلة الأرحام. وقيل: أمر أن يوصل القول بالعمل، فقطعوا بينهما بأن قالوا ولم يعملوا. وقيل: أمر أن يوصل التصديق بجميع أنبيائه، فقطعوه بتصديق بعضهم وتكذيب بعضهم. وقيل: الإشارة إلى دين الله وعبادته في الأرض، وإقامة شرائعه وحفظ حدوده. فهي عامة في كل ما أمر الله تعالى به أن يوصل. هذا قول الجمهور، والرحم جزء من هذا.
قوله تعالى: "ويفسدون في الأرض" أي يعبدون غير الله تعالى ويجورون في الأفعال، إذ هي بحسب شهواتهم، وهذا غاية الفساد.
قوله: "أولئك هم الخاسرون" ابتداء وخبر. و"هم" زائدة، ويجوز أن تكون "هم" ابتداء ثان، "الخاسرون" خبره، والثاني وخبره خبر الأول كما تقدم. والخاسر: الذي نقص نفسه حظها من الفلاح والفوز. والخسران: النقصان، كان في ميزان أو غيره، قال جرير:
إن سليطا في الخسار إنه أولاد قوم خلقوا أقنّه
يعني بالخسار ما ينقص من حظوظهم وشرفهم. قال الجوهري: وخسرت الشيء (بالفتح) وأخسرته نقصته. والخسار والخسارة والخيسرى: الضلال والهلاك. فقيل للهالك: خاسر، لأنه خسر نفسه وأهله يوم القيامة ومنع منزله من الجنة.
في هذه الآية دليل على أن الوفاء بالعهد والتزامه وكل عهد جائز ألزمه المرء نفسه فلا يحل له نقضه سواء أكان بين مسلم أم غيره، لذم الله تعالى من نقض عهده. وقد قال: "أوفوا بالعقود" [المائدة: 1] وقد قال لنبيه عليه السلام: "وإما تخافن من قوم خيانة فانبذ إليهم على سواء" [الأنفال: 58] فنهاه عن الغدر وذلك لا يكون إلا بنقض العهد على ما يأتي بيانه في موضعه إن شاء الله تعالى.
الآية: 28 {كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتا فأحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم ثم إليه ترجعون}
"كيف" سؤال عن الحال، وهي اسم في موضع نصب بـ "تكفرون"، وهي مبنية على الفتح وكان سبيلها أن تكون ساكنة، لأن فيها معنى الاستفهام الذي معناه التعجب فأشبهت الحروف، واختير لها الفتح لخفته، أي هؤلاء ممن يجب أن يتعجب منهم حين كفروا وقد ثبتت عليهم الحجة. فإن قيل: كيف يجوز أن يكون هذا الخطاب لأهل الكتاب وهم لم يكفروا بالله؟ فالجواب ما سبق من أنهم لما لم يثبتوا أم محمد عليه السلام ولم يصدقوه فيما جاء به فقد أشركوا، لأنهم لم يقروا بأن القرآن من عند الله. ومن زعم أن القرآن كلام البشر فقد أشرك بالله وصار ناقضا للعهد. وقيل: "كيف" لفظه لفظ الاستفهام وليس به، بل هو تقرير وتوبيخ، أي كيف تكفرون نعمه عليكم وقدرته هذه قال الواسطي: وبخهم بهذا غاية التوبيخ، لأن الموات والجماد لا ينازع صانعه في شيء، وإنما المنازعة من الهياكل الروحانية.
قوله تعالى: "وكنتم أمواتا" هذه الواو واو الحال، وقد مضمرة. قال الزجاج: التقدير وقد كنتم، ثم حذفت قد. وقال الفراء: "أمواتا" خبر "كنتم". "فأحياكم ثم يميتكم" هذا وقف التمام، كذا قال أبو حاتم. ثم قال: "ثم يحييكم". واختلف أهل التأويل في ترتيب هاتين الموتتين والحياتين، وكم من موتة وحياة للإنسان؟ فقال ابن عباس وابن مسعود: أي كنتم أمواتا معدومين قبل أن تخلقوا فأحياكم - أي خلقكم - ثم يميتكم عند انقضاء آجالكم، ثم يحييكم يوم القيامة. قال ابن عطية: وهذا القول هو المراد بالآية، وهو الذي لا محيد للكفار عنه لإقرارهم بهما، وإذا أذعنت نفوس الكفار لكونهم أمواتا معدومين، ثم للإحياء في الدنيا، ثم للإماتة فيها قوي عليهم لزوم الإحياء الآخر وجاء جحدهم له دعوى لا حجة عليها. قال غيره: والحياة التي تكون في القبر على هذا التأويل في حكم حياة الدنيا. وقيل: لم يعتد بها كما لم يعتد بموت من أماته في الدنيا ثم أحياه في الدنيا. وقيل: كنتم أمواتا - أي نطفا - في ثم أخرجكم من ظهره كالذر، ثم يميتكم موت الدنيا ثم يبعثكم. وقيل: كنتم أمواتا - أي نطفا - في أصلاب الرجال وأرحام النساء، ثم نقلكم من الأرحام فأحياكم، ثم يميتكم بعده هذه الحياة، ثم يحييكم في القبر للمسألة، ثم يميتكم في القبر، ثم يحييكم حياة النشر إلى الحشر، وهي الحياة التي ليس بعدها موت.
قلت: فعلى هذا التأويل هي ثلاث موتات، وثلاث إحياءات. وكونهم موتى في ظهر آدم، وإخراجهم من ظهره والشهادة عليهم غير كونهم نطفا في أصلاب الرجال وأرحام النساء، فعلى هذا تجيء أربع موتات وأربع إحياءات. وقد قيل: إن الله تعالى أوجدهم قبل خلق آدم عليه السلام كالهباء ثم أماتهم، فيكون على هذا خمس موتات، وخمس إحياءات. وموتة سادسة للعصاة من أمة محمد صلى الله عليه وسلم إذا دخلوا النار، لحديث أبي سعيد الخدري قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أما أهل النار الذي هم أهلها فإنهم لا يموتون فيها ولا يحيون ولكن ناس أصابتهم النار بذنوبهم - أو قال بخطاياهم - فأماتهم الله إماتة حتى إذا كانوا فحما أذِن في الشفاعة فجيء بهم ضبائر ضبائر فبثوا على أنهار الجنة ثم قيل يا أهل الجنة أفيضوا عليهم فينبتون نبات الحبة تكون في حميل السيل). فقال رجل من القوم: كأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد كان يرعى بالبادية. أخرجه مسلم.
قلت: فقوله (فأماتهم الله) حقيقة في الموت، لأنه أكده بالمصدر، وذلك تكريما لهم. وقيل: يجوز أن يكون (أماتهم) عبارة عن تغييبهم عن آلامها بالنوم، ولا يكون ذلك موتا على الحقيقة، والأول أصح. وقد أجمع النحويون على أنك إذا أكدت الفعل بالمصدر لم يكن مجازا، وإنما هو على الحقيقة، ومثله: "وكلم الله موسى تكليما" [النساء: 164] على ما يأتي بيانه إن شاء الله تعالى. وقيل: المعنى وكنتم أمواتا بالخمول فأحياكم بأن ذكرتم وشرفتم بهذا الدين والنبي الذي جاءكم، ثم يميتكم فيموت ذكركم، ثم يحييكم للبعث.
قوله تعالى: "ثم إليه ترجعون" أي إلى عذابه مرجعكم لكفركم. وقيل: إلى الحياة وإلى المسألة، كما قال تعالى: "كما بدأنا أول خلق نعيده" [الأنبياء: 104] فإعادتهم كابتدائهم، فهو رجوع. و"تُرجَعون" قراءة الجماعة. ويحيى بن يعمر وابن أبي إسحاق ومجاهد وابن محيصن وسلام بن يعقوب يفتحون حرف المضارعة ويكسرون الجيم حيث وقعت.
الآية: 29 {هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا ثم استوى إلى السماء فسواهن سبع سماوات وهو بكل شيء عليم}
قوله: "خلق" معناه اخترع وأوجد بعد العدَم. وقد يقال في الإنسان: "خلق" عند إنشائه شيئا، ومنه قول الشاعر:
من كان يخلق ما يقو ل فحيلتي فيه قليلة
وقد تقدم هذا المعنى. وقال ابن كيسان: "خلق لكم" أي من أجلكم. وقيل: المعنى أن جميع ما في الأرض منعم به عليكم فهو لكم. وقيل: إنه دليل على التوحيد والاعتبار.
قلت وهذا هو الصحيح على ما نبينه. ويجوز أن يكون عني به ما هم إليه محتاجون من جميع الأشياء.
استدل من قال إن أصل الأشياء التي ينتفع بها الإباحة بهذه الآية وما كان مثلها - كقوله: "وسخر لكم ما في السموات وما في الأرض جميعا منه" [الجاثية: 13] الآية - حتى يقوم الدليل على الحظر. وعضدوا هذا بأن قالوا: إن المآكل الشهية خلقت مع إمكان ألا تخلق فلم تخلق عبثا، فلا بد لها من منفعة. وتلك المنفعة لا يصح رجوعها إلى الله تعالى لاستغنائه بذاته، فهي راجعة إلينا. ومنفعتنا إما في نيل لذتها، أو في اجتنابها لنختبر بذلك، أو في اعتبارنا بها. ولا يحصل شيء من تلك الأمور إلا بذوقها، فلزم أن تكون مباحة. وهذا فاسد، لأنا لا نسلم لزوم العبث من خلقها إلا لمنفعة، بل خلقها كذلك لأنه لا يجب عليه أصل المنفعة، بل هو الموجب. ولا نسلم حصر المنفعة فيما ذكروه، ولا حصول بعض تلك المنافع إلا بالذوق، بل قد استدل على الطعوم بأمور أخر كما هو معروف عند الطبائعيين. ثم هو معارض بما يخاف أن تكون سموما مهلكة، ومعارضون بشبهات أصحاب الحظر. وتوقف آخرون وقالوا: ما من فعل لا ندرك منه حسنا ولا قبحا إلا ويمكن أن يكون حسنا في نفسه، ولا معين قبل ورود الشرع، فتعين الوقف إلى ورود الشرع. وهذه الأقاويل الثلاثة للمعتزلة. وقد أطلق الشيخ أبو الحسن وأصحابه وأكثر المالكية والصيرفي في هذه المسألة القول بالوقف. ومعناه عندهم أن لا حكم فيها في تلك الحال، وأن للشرع إذا جاء أن يحكم بما شاء، وأن العقل لا يحكم بوجوب ولا غيره وإنما حظه تعرف الأمور على ما هي عليه. قال ابن عطية: وحكى ابن فورك عن ابن الصائغ أنه قال: لم يخل العقل قط من السمع، ولا نازلة إلا وفيها سمع، أو لها تعلق به، أو لها حال تستصحب. قال: فينبغي أن يعتمد على هذا، ويغني عن النظر في حظر وإباحة ووقف.
الصحيح في معنى قوله تعالى: "خلق لكم ما في الأرض" الاعتبار. يدل عليه ما قبله وما بعده من نصب العبر: الإحياء والإماتة والخلق والاستواء إلى السماء وتسويتها، أي الذي قدر على إحيائكم وخلقكم وخلق السموات والأرض، لا تبعد منه القدرة على الإعادة. فإن قيل: إن معنى "لكم" الانتفاع، أي لتنفعوا بجميع ذلك، قلنا المراد بالانتفاع الاعتبار لما ذكرنا. فان قيل: وأي اعتبار في العقارب والحيات، قلنا: قد يتذكر الإنسان ببعض ما يرى من المؤذيات ما أعد الله للكفار في النار من العقوبات فيكون سببا للإيمان وترك المعاصي، وذلك أعظم الاعتبار. قال ابن العربي: وليس في الإخبار بهذه القدرة عن هذه الجملة ما يقتضي حظرا ولا إباحة ولا وقفا، وإنما جاء ذكر هذه الآية في معرض الدلالة والتنبيه ليستدل بها على وحدانيته. وقال أرباب المعاني في قوله: "خلق لكم ما في الأرض جميعا" لتتقووا به على طاعته، لا لتصرفوه في وجوه معصيته. وقال أبو عثمان: وهب لك الكل وسخره لك لتستدل به على سعة جوده، وتسكن إلى ما ضمن لك من جزيل عطائه في المعاد، ولا تستكثر كثير بره على قليل عملك، فقد ابتدأك بعظيم النعم قبل العمل وهو التوحيد.
روى زيد بن أسلم عن أبيه عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، أن رجلا أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فسأله أن يعطيه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (ما عندي شيء ولكن ابتع علي فإذا جاء شيء قضينا) فقال له عمر: هذا أعطيت إذا كان عندك فما كلفك الله ما لا تقدر. فكره رسول الله صلى الله عليه وسلم قول عمر، فقال رجل من الأنصار: يا رسول الله:
أنفق ولا تخش من ذي العرش إقلالا
فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعرف السرور في وجهه لقول الأنصاري. ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (بذلك أمرت). قال علماؤنا رحمة الله عليهم: فخوف الإقلال من سوء الظن بالله، لأن الله تعالى خلق الأرض بما فيها لولد آدم، وقال في تنزيله: "خلق لكم ما في الأرض جميعا" "وسخر لكم ما في السموات وما في الأرض جميعا منه" [الجاثية: 13]. فهذه الأشياء كلها مسخرة للآدمي قطعا لعذره وحجة عليه، ليكون له عبدا كما خلقه عبدا، فإذا كان العبد حسن الظن بالله لم يخف الإقلال لأنه يخلف عليه، كما قال تعالى: "وما أنفقتم من شيء فهو يخلفه وهو خير الرازقين" [سبأ: 39] وقال: "فإن ربي غني كريم" [النمل: 40]، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (قال الله تعالى: سبقت رحمتي غضبي يا ابن آدم أنْفِق أنفق عليك يمين الله ملأى سحّا لا يغيضها شيء الليل والنهار). وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما من يوم يصبح العباد فيه إلا وملكان ينزلان فيقول أحدهما اللهم أعط منفقا خلفا ويقول الآخر اللهم أعط ممسكا تلفا). وكذا في المساء عند الغروب يناديان أيضا، وهذا كله صحيح رواه الأئمة والحمد لله. فمن استنار صدره، وعلم غنى ربه وكرمه أنفق ولم يخف الإقلال، وكذلك من ماتت شهواته عن الدنيا واجتزأ باليسير من القوت المقيم لمهجته، وانقطعت مشيئته لنفسه، فهذا يعطي من يسره وعسره ولا يخاف إقلالا. وإنما يخاف الإقلال من له مشيئة في الأشياء، فإذا أعطي اليوم وله غدا مشيئه في شيء خاف ألا يصيب غدا، فيضيق عليه الأمر في نفقة اليوم لمخافة إقلاله. روى مسلم عن أسماء بنت أبي بكر قالت قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم (انفحي أو انضحي أو أنفقي ولا تحصي فيحصي الله عليك ولا توعي فيوعي عليك). وروى النسائي عن عائشة قالت: دخل علي سائل مرة وعندي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأمرت له بشيء ثم دعوت به فنظرت إليه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أما تريدين ألا يدخل بيتك شيء ولا يخرج إلا بعلمك) قلت: نعم، قال: (مهلا يا عائشة لا تحصي فيحصي الله عز وجل عليك).
قوله تعالى: "ثم استوى" "ثم" لترتيب الإخبار لا لترتيب الأمر في نفسه. والاستواء في اللغة: الارتفاع والعلو على الشيء، قال الله تعالى: "فإذا استويت أنت ومن معك على الفلك" [المؤمنون: 28]، وقال "لتستووا على ظهوره" [الزخرف: 13]، وقال الشاعر:
فأوردتهم ماء بفيفاء قفرة وقد حلق النجم اليماني فاستوى
أي ارتفع وعلا، واستوت الشمس على رأسي واستوت الطير على قمة رأسي، بمعنى علا. وهذه الآية من المشكلات، والناس فيها وفيما شاكلها على ثلاثة أوجه، قال بعضهم: نقرؤها ونؤمن بها ولا نفسرها، وذهب إليه كثير من الأئمة، وهذا كما روى عن مالك رحمه الله أن رجلا سأله عن قوله تعالى: "الرحمن على العرش استوى" [طه: 5] قال مالك: الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة، وأراك رجل سوء أخرجوه. وقال بعضهم: نقرؤها ونفسرها على ما يحتمله ظاهر اللغة. وهذا قول المشبهة. وقال بعضهم: نقرؤها ونتأولها ونحيل حملها على ظاهرها. وقال الفراء في قوله عز وجل: "ثم استوى إلى السماء فسواهن" قال: الاستواء في كلام العرب على وجهين، أحدهما: أن يستوي الرجل وينتهي شبابه وقوته، أو يستوي عن اعوجاج. فهذان وجهان. ووجه ثالث أن تقول: كان فلان مقبلا على فلان ثم استوى علي وإلي يشاتمني. على معنى أقبل إلي وعلي. فهذا معنى قوله: "ثم استوى إلى السماء" والله أعلم. قال وقد قال ابن عباس: ثم استوى إلى السماء صعد. وهذا كقولك: كان قاعدا فاستوى قائما، وكان قائما فاستوى قاعدا، وكل ذلك في كلام العرب جائز. وقال البيهقي أبو بكر أحمد بن علي بن الحسين: قوله: "استوى" بمعنى أقبل صحيح، لأن الإقبال هو القصد إلى خلق السماء، والقصد هو الإرادة، وذلك جائز في صفات الله تعالى. ولفظة "ثم" تتعلق بالخلق لا بالإرادة. وأما ما حكي عن ابن عباس فإنما أخذه عن تفسير الكلبي، والكلبي ضعيف. وقال سفيان بن عيينة وابن كيسان في قوله "ثم استوى إلى السماء": قصد إليها، أي بخلقه واختراعه، فهذا قول. وقيل: على دون تكييف ولا تحديد، واختاره الطبري. ويذكر عن أبي العالية الرياحي في هذه الآية أنه يقال: استوى بمعنى أنه ارتفع. قال البيهقي: ومراده من ذلك - والله أعلم - ارتفاع أمره، وهو بخار الماء الذي وقع منه خلق السماء. وقيل: إن المستوى الدخان. وقال ابن عطية: وهذا يأباه وصف الكلام. وقيل: المعنى استولى، كما قال الشاعر:
قد استوى بشر على العراق من غير سيف ودم مهراق
قال ابن عطية: وهذا إنما يجيء في قوله تعالى: "الرحمن على العرش استوى" [طه: 5].
قلت: قد تقدم في قول الفراء علي وإلي بمعنى. وسيأتي لهذا الباب مزيد بيان في سورة "الأعراف" إن شاء الله تعالى. والقاعدة في هذه الآية ونحوها منع الحركة والنقلة.
يظهر من هذه الآية أنه سبحانه خلق الأرض قبل السماء، وكذلك في "حم السجدة". وقال في النازعات: "أأنتم أشد خلقا أم السماء بناها" [النازعات: 27] فوصف خلقها، ثم قال: "والأرض بعد ذلك دحاها" [النازعات: 30]. فكأن السماء على هذا خلقت قبل الأرض، وقال تعالى "الحمد لله الذي خلق السموات والأرض" [الأنعام: 1] وهذا قول قتادة: إن السماء خلقت أولا، حكاه عنه الطبري. وقال مجاهد وغيره من المفسرين: إنه تعالى أيبس الماء الذي كان عرشه عليه فجعله أرضا وثار منه دخان فارتفع، فجعله سماء فصار خلق الأرض قبل خلق السماء، ثم قصد أمره إلى السماء فسواهن سبع سماوات، ثم دحا الأرض بعد ذلك، وكانت إذ خلقها غير مدحوة.
قلت: وقول قتادة يخرج على وجه صحيح إن شاء الله تعالى، وهو أن الله تعالى خلق أولا دخان السماء ثم خلق الأرض، ثم استوى إلى السماء وهي دخان فسواها، ثم دحا الأرض بعد ذلك.
ومما يدل على أن الدخان خلق أولا قبل الأرض ما رواه السدي عن أبي مالك، وعن أبي صالح عن ابن عباس، وعن مرة الهمداني عن ابن مسعود وعن ناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله عز وجل: "هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا ثم استوى إلى السماء فسواهن سبع سماوات" [البقرة: 29] قال: إن الله تبارك وتعالى كان عرشه على الماء ولم يخلق شيئا قبل الماء، فلما أراد أن يخلق الخلق أخرج من الماء دخانا فارتفع فوق الماء، فسما عليه، فسماه سماء، ثم أيبس الماء فجعله أرضا واحدة، ثم فتقها فجعلها سبع أرضين في يومين، في الأحد والاثنين. فجعل الأرض على حوت - والحوت هو النون الذي ذكر الله تبارك وتعالى في القرآن بقوله: "ن والقلم" [القلم: 1] والحوت في الماء و[الماء] على صفاة، والصفاة على ظهر ملك، والملك على الصخرة، والصخرة في الريح - وهي الصخرة التي ذكر لقمان: ليست في السماء ولا في الأرض - فتحرك الحوت فاضطرب، فتزلزلت الأرض، فأرسل عليها الجبال فقرت، فالجبال تفخر على الأرض، وذلك قوله تعالى: "وألقى في الأرض رواسي أن تميد بكم" [النحل: 15] وخلق الجبال فيها، وأقوات أهلها وشجرها، وما ينبغي لها في يومين، في الثلاثاء والأربعاء، وذلك حين يقول: "قل أإنكم لتكفرون بالذي خلق الأرض في يومين وتجعلون له أندادا ذلك رب العالمين. وجعل فيها رواسي من فوقها وبارك فيها وقدر فيها أقواتها في أربعة أيام سواء للسائلين" [فصلت: 9، 10] يقول: من سأل فهكذا الأمر، "ثم استوى إلى السماء وهي دخان" وكان ذلك الدخان من تنفس الماء حين تنفس، فجعلها سماء واحدة، ثم فتقها فجعلها سبع سماوات في يومين، في الخميس والجمعة وإنما سمي يوم الجمعة لأنه جمع فيه خلق السموات والأرض، "وأوحى في كل سماء أمرها" [فصلت: 12] قال: خلق في كل سماء خلقها من الملائكة والخلق الذي فيها من البحار وجبال البرد وما لا يعلم، ثم زين السماء الدنيا بالكواكب، فجعلها زينة وحفظا تحفظ من الشياطين. فلما فرغ من خلق ما أحب استوى على العرش، قال فذلك حين يقول: "خلق السموات والأرض في ستة أيام" [الحديد: 4] ويقول: "كانتا رتقا ففتقناهما" [الأنبياء: 30] وذكر القصة في خلق آدم عليه السلام، على ما يأتي بيانه في هذه السورة إن شاء الله تعالى. وروى وكيع عن الأعمش عن أبي ظبيان عن ابن عباس قال: (إن أول ما خلق الله عز وجل من شيء "القلم" فقال له اكتب. فقال: يا رب وما اكتب؟ قال: اكتب القدر. فجرى بما هو كائن من ذلك اليوم إلى قيام الساعة. قال: ثم خلق النون فدحا الأرض عليها، فارتفع بخار الماء ففتق منه السموات، واضطرب النون فمادت الأرض فأثبتت بالجبال، فإن الجبال تفخر على الأرض إلى يوم القيامة.) ففي هذه الرواية خلق الأرض قبل ارتفاع بخار الماء الذي هو الدخان، خلاف الرواية الأولى. والرواية الأولى عنه وعن غيره أولى، لقوله تعالى: "والأرض بعد ذلك دحاها" [النازعات: 30] والله أعلم بما فعل، فقد اختلفت فيه الأقاويل، وليس للاجتهاد فيه مدخل.
وذكر أبو نعيم عن كعب الأحبار أن إبليس تغلغل إلى الحوت الذي على ظهره الأرض كلها، فألقى في قلبه، فقال: هل تدري ما على ظهرك يا لوثيا من الأمم والشجر والدواب والناس والجبال لو نفضتهم ألقيتهم عن ظهرك أجمع. قال: فهم لوثيا بفعل ذلك، فبعث الله دابة فدخلت في منخره، فعج إلى الله فخرجت. قال كعب: والذي نفسي بيده، إنه لينظر إليها بين يديه وتنظر إليه إن هم بشيء من ذلك عادت حيث كانت.
أصل خلق الأشياء كلها من الماء لما رواه ابن ماجة في سننه، وأبو حاتم البستي في صحيح مسنده عن أبى هريرة قال قلت: يا رسول الله، إذا رأيتك طابت نفسي وقرت عيني، أنبئني عن كل شيء. قال: (كل شيء خلق من الماء) فقلت: أخبرني عن شيء إذا علمت به دخلت الجنة. قال: (أطعم الطعام وأفش السلام وصل الأرحام وقم الليل والناس نيام تدخل الجنة بسلام). قال أبو حاتم قول أبي هريرة: "أنبئني عن كل شيء" أراد به عن كل شيء خلق من الماء. والدليل على صحة هذا جواب المصطفى عليه السلام إياه حيث قال: (كل شيء خلق من الماء) وإن لم يكن مخلوقا. وروى سعيد بن جبير عن ابن عباس أنه كان يحدث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن أول شيء خلقه الله القلم وأمره فكتب كل شيء يكون) ويروى ذلك أيضا عن عبادة بن الصامت مرفوعا. قال البيهقي: وإنما أراد - والله أعلم - أول شيء خلقه بعد خلق الماء والريح والعرش "القلم". وذلك بين في حديث عمران بن حصين، ثم خلق السموات والأرض. وذكر عبدالرزاق بن عمر بن حبيب المكي عن حميد بن قيس الأعرج عن طاووس قال: جاء رجل إلى عبدالله بن عمرو بن العاص فسأله: مم خلق الخلق؟ قال: من الماء والنور والظلمة والريح والتراب. قال الرجل: فمم خلق هؤلاء؟ قال: لا أدري. قال: ثم أتى الرجل عبدالله بن الزبير فسأله، فقال مثل قول عبدالله بن عمرو. قال: فأتى الرجل عبدالله بن عباس فسأله، فقال: مم خلق الخلق؟ قال: من الماء والنور والظلمة والريح والتراب. قال الرجل: فمم خلق هؤلاء؟ فتلا عبدالله بن عباس: "وسخر لكم ما في السموات وما في الأرض جميعا منه" [الجاثية: 13] فقال الرجل: ما كان ليأتي بهذا إلا رجل من أهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم. قال البيهقي: أراد أن مصدر الجميع منه، أي من خلقه وإبداعه واختراعه. خلق الماء أولا، أو الماء وما شاء من خلقه لا عن أصل ولا على مثال سبق، ثم جعله أصلا لما خلق بعد، فهو المبدع وهو البارئ لا إله غيره ولا خالق سواه، سبحانه جل وعز.
قوله تعالى: "فسواهن سبع سماوات" ذكر تعالى أن السموات سبع. ولم يأت للأرض في التنزيل عدد صريح لا يحتمل التأويل إلا قوله تعالى: "ومن الأرض مثلهن" [الطلاق: 12] وقد اختلف فيه، فقيل: ومن الأرض مثلهن أي في العدد، لأن الكيفية والصفة مختلفة بالمشاهدة والأخبار، فتعين العدد. وقيل: "ومن الأرض مثلهن" أي في غلظهن وما بينهن. وقيل: هي سبع إلا أنه لم يفتق بعضها من بعض، قال الداودي. والصحيح الأول، وأنها سبع كالسماوات سبع. روى مسلم عن سعيد بن زيد قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (من أخذ شبرا من الأرض ظلما طوقه إلى سبع أرضين). وعن عائشة رضي الله عنها مثله، إلا أن فيه "من" بدل "إلى". ومن حديث أبي هريرة: (لا يأخذ أحد شبرا من الأرض بغير حقه إلا طوقه الله إلى سبع أرضين) وروى النسائي عن أبي سعيد الخدري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (قال موسى عليه السلام يا رب علمني شيئا أذكرك به وأدعوك به قال يا موسى قل لا إله إلا الله قال موسى يا رب كل عبادك يقول هذا قال قل لا إله إلا الله قال لا إله إلا أنت إنما أريد شيئا تخصني به قال يا موسى لو أن السموات السبع وعامرهن غيري والأرضين السبع في كفة ولا إله إلا الله في كفة مالت بهن لا إله إلا الله). وروى الترمذي عن أبي هريرة قال: بينما نبي الله صلى الله عليه وسلم جالس وأصحابه إذ أتى عليهم سحاب، فقال نبي الله صلى الله عليه وسلم: (هل تدرون ما هذا) فقالوا: الله ورسوله أعلم، قال: (هذا العنان هذه روايا الأرض يسوقه الله إلى قوم لا يشكرونه ولا يدعونه - قال - هل تدرون ما فوقكم) قالوا: الله ورسول أعلم، قال: (فإنها الرقيع سقف محفوظ وموج مكفوف - ثم قال - هل تدرون كم بينكم وبينها) قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: (بينكم وبينها مسيرة خمسمائة عام - ثم قال: - هل تدرون ما فوق ذلك) قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: (فإن فوق ذلك سماءين بعد ما بينهما مسيرة خمسمائة سنة) ثم قال كذلك حتى عد سبع سماوات ما بين كل سماءين ما بين السماء والأرض. ثم قال: (هل تدرون ما فوق ذلك) قالوا: الله ورسوله أعلم، قال (فإن فوق ذلك العرش وبينه وبين السماء بعد ما بين السماءين - ثم قال: - هل تدرون ما الذي تحتكم) قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: (فإنها الأرض - ثم قال: - هل تدرون ما تحت ذلك) قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: (فإن تحتها الأرض الأخرى بينهما مسيرة خمسمائة سنة) حتى عد سبع أرضين، بين كل أرضين مسيرة خمسمائة سنة، ثم قال: (والذي نفس محمد بيده لو أنكم دليتم بحبل إلى الأرض السفلى لهبط على الله - ثم قرأ - هو الأول والآخر والظاهر والباطن وهو بكل شيء عليم). قال أبو عيسى: قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم الآية تدل على أنه أراد: لهبط على علم الله وقدرته وسلطانه، [علم الله وقدرته وسلطانه] في كل مكان وهو على عرشه كما وصف نفسه في كتابه. قال: هذا حديث غريب، والحسن لم يسمع من أبي هريرة. والآثار بأن الأرضين سبع كثيرة، وفيما ذكرنا كفاية. وقد روى أبو الضحى - واسمه مسلم - عن ابن عباس أنه قال: "الله الذي خلق سبع سماوات ومن الأرض مثلهن" [الطلاق: 12] قال: سبع أرضين في كل أرض نبي كنبيكم، وآدم كآدم، ونوح كنوح، وإبراهيم كإبراهيم، وعيسى كعيسى. قال البيهقي: إسناد هذا عن ابن عباس صحيح، وهو شاذ بمرة لا أعلم لأبي الضحى عليه دليلا، والله أعلم.
قوله تعالى: "هو الذي خلق لكم ما في الأرض" ابتداء وخبر. "ما" في موضع نصب "جميعا" عند سيبويه نصب على الحال "ثم استوى" أهل نجد يميلون ليدلوا على أنه من ذوات الياء، وأهل الحجاز يفخمون. "سبع" منصوب على البدل من الهاء والنون، أي فسوى سبع سماوات. ويجوز أن يكون مفعولا على تقدير يسوي بينهن سبع سماوات، كما قال الله جل عز: "واختار موسى قومه سبعين رجلا" [الأعراف: 155] أي من قومه، قال النحاس. وقال الأخفش: انتصب على الحال. "وهو بكل شيء عليم" ابتداء وخبر والأصل في "هو" تحريك الهاء، والإسكان استخفاف.
والسماء تكون واحدة مؤنثة، مثل عنان، وتذكيرها شاذ، وتكون جمعا لسماوة في قول الأخفش، وسماءة في قول الزجاج، وجمع الجمع سماوات وسماءات. فجاء "سواهن" إما على أن السماء جمع وإما على أنها مفرد اسم جنس. ومعنى سواهن سوى سطوحهن بالإملاس. وقيل: جعلهن سواء.
قوله تعالى: "وهو بكل شيء عليم" أي بما خلق وهو خالق كل شيء، فوجب أن يكون عالما بكل شيء، وقد قال: "ألا يعلم من خلق" [الملك: 14] فهو العالم والعليم بجميع المعلومات بعلم قديم أزلي واحد قائم بذاته، ووافقنا المعتزلة على العالمية دون العلمية. وقالت الجهمية: عالم بعلم قائم لا في محل، تعالى الله عن قول أهل الزيغ والضلالات، والرد على هؤلاء في كتب الديانات. وقد وصف نفسه سبحانه بالعلم فقال: "أنزله بعلمه والملائكة يشهدون" [النساء: 166]، وقال: "فاعلموا أنما أنزل بعلم الله" [هود: 14]، وقال: "فلنقصن عليهم بعلم" [الأعراف: 7]، وقال: "وما تحمل من أنثى ولا تضع إلا بعلمه" [فاطر: 11]، وقال: "وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو" [الأنعام: 59] الآية. وسندل على ثبوت علمه وسائر صفاته في هذه السورة عند قوله: "يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر" [البقرة: 185] إن شاء الله تعالى. وقرأ الكسائي وقالون عن نافع بإسكان الهاء من: هو وهي، إذا كان قبلها فاء أو واو أو لام أو ثم، وكذلك فعل أبو عمرو إلا مع ثم. وزاد أبو عون عن الحلواني عن قالون إسكان الهاء من "أن يمل هو" والباقون بالتحريك.
الصفحة رقم 5 من المصحف تحميل و استماع mp3