تفسير القرطبي الجامع لأحكام القرآن تفسير الصفحة 500 من المصحف



تفسير القرطبي - صفحة القرآن رقم 500

500- تفسير الصفحة رقم500 من المصحف
الآية: 14 {قل للذين آمنوا يغفروا للذين لا يرجون أيام الله ليجزي قوما بما كانوا يكسبون}
قوله تعالى: "قل للذين آمنوا يغفروا" جزم على جواب "قل" تشبيها بالشرط والجزاء كقولك: قم تصب خيرا. وقيل: هو على حذف اللام. وقيل: على معنى قل لهم اغفروا يغفروا؛ فهو جواب أمر محذوف دل الكلام عليه؛ قال علي بن عيسى واختاره ابن العربي. ونزلت الآية بسبب أن رجلا من قريش شتم عمر بن الخطاب فهم أن يبطش به. قال ابن العربي: وهذا لم يصح. وذكر الواحدي والقشيري وغيرهما عن ابن عباس أن الآية نزلت في عمر مع عبدالله بن أبي في غزوة بني المصطلق، فإنهم نزلوا على بئر يقال لها "المريسيع" فأرسل عبدالله غلامه ليستقي، وأبطأ عليه فقال: ما حبسك؟ قال: غلام عمر بن الخطاب قعد على فم البئر، فما ترك أحدا يستقي حتى ملأ قرب النبي صلى الله عليه وسلم وقرب أبي بكر، وملأ لمولاه. فقال عبدالله: ما مثلنا ومثل هؤلاء إلا كما قيل: سمن كلبك يأكلك. فبلغ عمر رضي الله عنه قول، فاشتمل على سيفه يريد التوجه إليه ليقتله؛ فأنزل الله هذه الآية. هذه رواية عطاء عن ابن عباس. وروى عنه ميمون بن مهران قال: لما نزلت "من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا" [البقرة: 245] قال يهودي بالمدينة يقال له فنحاص: احتاج رب محمد! قال: فلما سمع عمر بذلك اشتمل على سيفه وخرج في طلبه؛ فجاء جبريل عليه السلام إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (إن ربك يقول لك قل للذين آمنوا يغفروا للذين لا يرجون أيام الله). وأعلم أن عمر قد أشتمل عل سيفه وخرج في طلب اليهودي، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم في طلبه، فلما جاء قال: (يا عمر، ضع سيفك) قال: يا رسول الله، صدقت. أشهد أنك أرسلت بالحق. قال: (فإن ربك يقول: قل للذين آمنوا يغفروا للذين لا يرجون أيام الله) قال: لا جرم! والذي بعثك بالحق لا ترى الغضب في وجهي.
قلت: وما ذكره المهدوي والنحاس فهو رواية الضحاك عن ابن عباس، وهو قول القرظي والسدي، وعليه يتوجه النسخ في الآية. وعلى أن الآية نزلت بالمدينة أو في غزوة بني المصطلق فليست بمنسوخة. ومعنى "يغفروا" يعفوا ويتجاوزوا. ومعنى: "لا يرجون أيام الله" أي لا يرجون ثوابه. وقيل: أي لا يخافون بأس الله ونقمه. وقيل: الرجاء بمعنى الخوف؛ كقوله: "ما لكم لا ترجون لله وقارا" [نوح: 13] أي لا تخافون له عظمة. والمعنى: لا تخشون مثل عذاب الأمم الخالية. والأيام يعبر بها عن الوقائع. وقيل: لا يأملون نصر الله لأوليائه وإيقاعه بأعدائه. وقيل: المعنى لا يخافون البعث. "ليجزي قوما بما كانوا يكسبون" قراءة العامة "ليجزي" بالياء على معنى ليجزي الله. وقرأ حمزة والكسائي وابن عامر "لنجزي" بالنون على التعظيم. وقرأ أبو جعفر والأعرج وشيبة "ليجزى" بياء مضمومة وفتح الزاي على الفعل المجهول، "قوما" بالنصب. قال أبو عمرو: وهذا لحن ظاهر. وقال الكسائي: معناه ليجزي الجزاء قوما، نظيره: "وكذلك نجي المؤمنين" على قراءة ابن عامر وأبي بكر في سورة "الأنبياء". قال الشاعر:
ولو وَلَدت قُفيرة جرو كلب لَسُبَّ بذلك الجروِ الكلابا
أي لَسُبَّ السب.
الآية: 15 {من عمل صالحا فلنفسه ومن أساء فعليها ثم إلى ربكم ترجعون}
تقدم.
الآية: 16 - 17 {ولقد آتينا بني إسرائيل الكتاب والحكم والنبوة ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على العالمين، وآتيناهم بينات من الأمر فما اختلفوا إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم إن ربك يقضي بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون}
قوله تعالى: "ولقد آتينا بني إسرائيل الكتاب" يعني التوراة. "والحكم والنبوة" الحكم: الفهم في الكتاب. وقيل: الحكم على الناس والقضاء. و"النبوة" يعني الأنبياء من وقت يوسف عليه السلام إلى زمن عيسى عليه السلام. "ورزقناهم من الطيبات" أي الحلال من الأقوات والثمار والأطعمة التي كانت بالشام. وقيل: يعني المن والسلوى في التيه. "وفضلناهم على العالمين" أي على عالمي زمانهم. "وآتيناهم بينات من الأمر" قال ابن عباس: يعني أمر النبي صلى الله عليه وسلم، وشواهد نبوته بأنه يهاجر من تهامة إلى يثرب، وينصره أهل يثرب. وقيل: بينات الأم شرائع واضحات في الحلال والحرام ومعجزات. "فما اختلفوا إلا من بعد ما جاءهم العلم" يريد يوشع بن نون؛ فآمن بعضهم وكفر بعضهم؛ حكاه النقاش. وقيل: "إلا من بعد ما جاءهم العلم" نبوة النبي صلى الله عليه وسلم فاختلفوا فيها. "بغيا بينهم" أي حسدا على النبي صلى الله عليه وسلم؛ قال معناه الضحاك. قيل: معنى "بغيا" أي بغى بعضهم على بعض يطلب الفضل والرياسة، وقتلوا الأنبياء؛ فكذا مشركو عصرك يا محمد، قد جاءتهم البينات ولكن أعرضوا عنها للمنافسة في الرياسة. "إن ربك يقضي بينهم" أي يحكم ويفصل. "يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون" في الدنيا.
الآية: 18 {ثم جعلناك على شريعة من الأمر فاتبعها ولا تتبع أهواء الذين لا يعلمون}
قوله تعالى: "ثم جعلناك على شريعة من الأمر" الشريعة في اللغة: المذهب والملة. ويقال لمشرعة الماء - وهي مورد الشاربة - : شريعة. ومنه الشارع لأنه طريق إلى المقصد. فالشريعة: ما شرع الله لعباده من الدين؛ والجمع الشرائع. والشرائع في الدين: المذاهب التي شرعها الله لخلقه. فمعنى: "جعلناك على شريعة من الأمر" أي على منهاج واضح من أمر الدين يشرع بك إلى الحق. وقال ابن عباس: "على شريعة" أي على هدى من الأمر. قتادة: الشريعة الأم والنهي والحدود والفرائض. مقاتل: البينة؛ لأنها طريق إلى الحق. الكلبي: السنة؛ لأنه يستن بطريقة من قبله من الأنبياء. ابن زيد: الدين؛ لأنه طريق النجاة. قال ابن العربي: والأمر يرد في اللغة بمعنيين: أحدهما: بمعنى الشأن كقوله: "فاتبعوا أمر فرعون وما أمر فرعون برشيد" [هود: 97]. والثاني: أحد أقسام الكلام الذي يقابله الذي يقابله النهي. وكلاهما يصح أن يكون مرادا هاهنا؛ وتقديره: ثم جعلناك على طريقة من الدين وهي ملة الإسلام؛ كما قال تعالى: "ثم أوحينا إليك أن أتبع ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين" [النحل: 123].
ولا خلاف أن الله تعالى لم يغاير بين الشرائع في التوحيد والمكارم والمصالح، وإنما خالف بينهما في الفروع حسبما علمه سبحانه.
قال ابن العربي: ظن بعض من يتكلم في العلم أن هذه الآية دليل على أن شرع من قبلنا ليس بشرع لنا؛ لأن الله تعالى أفرد النبي صلى الله عليه وسلم وأمته في هذه الآية بشريعة، ولا ننكر أن النبي صلى الله عليه وسلم وأمته منفردان بشريعة، وإنما الخلاف فيما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم عنه من شرع من قبلنا في معرض المدح والثناء هل يلزم اتباعه أم لا. "ولا تتبع أهواء الذين لا يعلمون" يعني المشركين. وقال ابن عباس: قريظة والنضير. وعنه: نزلت لما دعته قريش إلى دين آبائه.
الآية: 19 {إنهم لن يغنوا عنك من الله شيئا وإن الظالمين بعضهم أولياء بعض والله ولي المتقين}
قوله تعالى: "إنهم لن يغنوا عنك من الله شيئا" أي إن اتبعت أهواءهم لا يدفعون عنك من عذاب الله شيئا. "وإن الظالمين بعضهم أولياء بعض" أي أصدقاء وأنصار وأحباب. قال ابن عباس: يريد أن المنافقين أولياء اليهود. "والله ولي المتقين" أي ناصرهم ومعينهم. والمتقون هنا: الذين أتقوا الشرك والمعاصي.
الآية: 20 {هذا بصائر للناس وهدى ورحمة لقوم يوقنون}
قوله تعالى: "هذا بصائر للناس" ابتداء وخبر؛ أي هذا الذي أنزلت عليك براهين ودلائل ومعالم للناس في الحدود والأحكام. وقرئ "هذه بصائر" أي هذه الآيات. "وهدى" أي رشد وطريق يؤدي إلى الجنة لمن أخذ به. "ورحمة" في الآخرة "لقوم يوقنون".
الآية: 21 {أم حسب الذين اجترحوا السيئات أن نجعلهم كالذين آمنوا وعملوا الصالحات سواء محياهم ومماتهم ساء ما يحكمون}
قوله تعالى: "أم حسب الذين اجترحوا السيئات" أن اكتسبوها. والاجتراح: الاكتساب؛ ومنه الجوارح، وقد تقدم. "أن نجعلهم كالذين آمنوا وعملوا الصالحات" قال الكلبي: "الذين اجترحوا" عتبة وشيبة ابنا ربيعة والوليد بن عتبة. و"الذين آمنوا" علي وحمزة وعبيدة بن الحارث - رضي الله عنهم - حين برزوا إليهم يوم بدر فقتلوهم. وقيل: نزلت في قوم من المشركين قالوا: إنهم يعطون في الآخرة خيرا مما يعطاه المؤمن؛ كما أخبر الرب عنهم في قوله: "ولئن رجعت إلى ربي إن لي عنده للحسنى" [فصلت: 50]. وقوله: "أم حسب" استفهام معطوف معناه الإنكار. وأهل العربية يجوزون ذلك من غير عطف إذا كان متوسطا للخطاب. وقوم يقولون: فيه إضمار؛ أي والله ولي المتقين أفيعلم المشركون ذلك أم حسبوا أنا نسوي بينهم. وقيل: هي أم المنقطعة، ومعنى الهمزة فيها إنكار الحسبان. وقراءة العامة "سواء" بالرفع على أنه خبر ابتداء مقدم، أي محياهم ومماتهم سواء. والضمير في "محياهم ومماتهم" يعود على الكفار، أي محياهم محيا سوء ومماتهم كذلك. وقرأ حمزة والكسائي والأعمش بالنصب، واختاره أبو عبيد قال: معناه نجعلهم سواء. وقرأ الأعمش أيضا وعيسى بن عمر "ومماتهم" بالنصب؛ على معنى سواء في محياهم ومماتهم؛ فلما أسقط الخافض انتصب. ويجوز أن يكون بد لا من الهاء والميم في نجعلهم؛ المعنى: أن نجعل محياهم ومماتهم سواء كمحيا الذين آمنوا ومماتهم. ويجوز أن يكون الضمير في "محياهم ومماتهم" للكفار والمؤمنين جميعا. قال مجاهد: المؤمن يموت مؤمنا ويبعث مؤمنا، والكافر يموت كافرا ويبعث كافرا. وذكر ابن المبارك أخبرنا شعبة عن عمرو بن مرة عن أبي الضحا عن مسروق قال: قال رجل من أهل مكة: هذا مقام تميم الداري، لقد رأيته ذات ليلة حتى أصبح أو قرب أن يصبح يقرأ آية من كتاب الله ويركع ويسجد ويبكي "أم حسب الذين اجترحوا السيئات أن نجعلهم كالذين آمنوا وعملوا الصالحات" الآية كلها. وقال بشير: بت عند الربيع بن خيثم ذات ليلة فقام يصلي فمر بهذه الآية فمكث ليله حتى أصبح لم يعدها ببكاء شديد. وقال إبراهيم بن الأشعث: كثيرا ما رأيت الفضيل بن عياض يردد من أول الليل إلى آخره هذه الآية ونظيرها، ثم يقول: ليت، شعري! من أي الفريقين أنت؟ وكانت هذه الآية تسمى مبكاة العابدين لأنها محكمة.
الآية: 22 {وخلق الله السماوات والأرض بالحق ولتجزى كل نفس بما كسبت وهم لا يظلمون}
قوله تعالى: "وخلق الله السماوات والأرض بالحق" أي بالأمر الحق. "ولتجزى" أي ولكي تجزى. "كل نفس بما كسبت" أي في الآخرة. "وهم لا يظلمون".