تفسير الشوكاني تفسير الصفحة 500 من المصحف



فتح القدير - صفحة القرآن رقم 500

499

14- "قل للذين آمنوا يغفروا" أي قل لهم اغفروا يغفروا "للذين لا يرجون أيام الله" وقيل هو على حذف اللام، والتقدير: قل لهم ليغفروا. والمعنى: قل لهم يتجاوزوا عن الذين لا يرجون وقائع الله بأعدائه: أي لا يتوقعونها، ومعنى الرجاء هنا الخوف، وقيل هو على معناه الحقيقي. والمعنى: لا يرجون ثوابه في الأوقات التي وقتها الله لثواب المؤمنين، والأول أولى. والأيام يعبر بها عن الوقائع كما تقدم في تفسير قوله: "وذكرهم بأيام الله" قال مقاتل: لا يخشون مثل عذاب الله للأمم الخالية، وذلك أنهم لا يؤمنون به فلا يخافون عقابه. وقيل المعنى: لا يأملون نصر الله لأوليائه وإيقاعه بأعدائه، وقيل لا يخافون البعث. قيل والآية منسوخة بآية السيف "ليجزي قوماً بما كانوا يكسبون" قرأ ابن عامر وحمزة والكسائي "لنجزي" بالنون: أي لنجزى نحن. وقرأ باقي السبعة بالتحتية مبنياً للفاعل: أي ليجزي الله. وقرأ أبو جعفر وشيبة وعاصم بالتحتية مبنياً للمفعول مع نصب قوماً، فقيل النائب عن الفاعل مصدر الفعل أي ليجزى الجزاء قوماً، وقيل إن النائب الجار والمجرور كما في قوله الشاعر: ولو ولدت فقيرة جـــرو كلب لسب بذلك الجــرو الكلابـــا وقد أجاز ذلك الأخفش والكوفيون، ومنعه البصريون، والجملة لتعليل الأمر بالمغفرة، والمراد بالقوم المؤمنون، أمروا بالمغفرة ليجزيهم الله يوم القيامة بما كسبوا في الدنيا من الأعمال الحسنة التي من جملتها الصبر على أذية الكفار والإغضاء عنهم بكظم الغيظ واحتمال المكروه. وقيل المعنى: ليجزي الكفار بما عملوا من السيئات كأنه قال: لا تكافئوهم أنتم لنكافئهم نحن، والأول أولى.
ثم ذكر المؤمنين وأعمالهم والمشركين وأعمالهم فقال: 15- "من عمل صالحاً فلنفسه ومن أساء فعليها" والمعنى: أن عمل كل طائفة من إحسان أو إساءة لعامله لا يتجاوزه إلى غيره وفيه ترغيب وتهديد "ثم إلى ربكم ترجعون" فيجازي كلاً بعمله إن كان خيراً فخير، وإن كان شراً فشر. وقد أخرج عبد الرزاق والفريابي وعبد بن حميد وابن المنذر وأبو الشيخ في العظمة من طريق عكرمة عن ابن عباس في قوله: "جميعاً منه" قال: منه النور والشمس والقمر. وأخرج ابن جرير عنه في الآية قال: كل شيء هو من الله. وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن المنذر والحاكم وصححه والبيهقي في الأسماء والصفات عن طاوس قال: جاء رجل إلى عبد الله بن عمرو بن العاص فسأله مم خلق الخلق؟ قال: من الماء والنور والظلمة والهواء والتراب، قال: فمم خلق هؤلاء؟ قال: لا أدري. ثم أتى الرجل عبد الله بن الزبير، فسأله فقال مثل قول عبد الله بن عمرو، فأتى ابن عباس فسأله مم خلق الخلق؟ فقال: من الماء والنور والظلمة والريح والتراب، قال فمم خلق هؤلاء؟ فقرأ ابن عباس "وسخر لكم ما في السموات وما في الأرض جميعاً منه" فقال الرجل: ما كان ليأتي بهذا إلا رجل من أهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن مردويه :عن ابن عباس في قوله: "قل للذين آمنوا يغفروا" الآية قال: كان نبي الله صلى الله عليه وسلم يعرض عن المشركين إذا آذوه، وكانوا يستهزئون به ويكذبونه، فأمره الله أن يقاتل المشركين كافة، فكان هذا من المنسوخ.
16- قوله: " ولقد آتينا بني إسرائيل الكتاب والحكم والنبوة " المراد بالكتاب التوراة وبالحكم الفهم والفقه الذي يكون بهما الحكم بين الناس وفصل خصوماتهم، وبالنبوة من بعثه الله من الأنبياء فيهم "ورزقناهم من الطيبات" أي المستلذات التي أحلها الله لهم، ومن ذلك المن والسلوى "وفضلناهم على العالمين" من أهل زمانهم حيث آتيناهم ما لم نؤت من عداهم من فلق البحر ونحوه.
وقد تقدم بيان هذا في سورة الدخان 17- "وآتيناهم بينات من الأمر" أي شرائع واضحات في الحلال والحرام، أو معجزات ظاهرات، وقيل العلم بمبعث النبي صلى الله عليه وسلم وشواهد نبوته، وتعيين مهاجره "فما اختلفوا إلا من بعد ما جاءهم العلم" أي فما وقع الاختلاف بينهم في ذلك الأمر إلا بعد مجيء العلم إليهم بينانه وإيضاح معناه، فجعلوا ما يوجب زوال الخلاف موجباً لثبوته، وقيل المراد بالعلم يوشع بن نون، فإنه آمن به بعضهم وكفر بعضهم، وقيل نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، فاختلفوا فيها حسداً وبغياً، وقيل "بغياً" من بعضهم على بعض بطلب الرئاسة "إن ربك يقضي بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون" من أمر الدين، فيجازي المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته.
18- "ثم جعلناك على شريعة من الأمر" الشريعة في اللغة المذهب. والملة والمنهاج ويقال: لمشرعة الماء وهي مورد شاربيه شريعة، ومنه الشارع لأنه طريق إلى المقصد، فالمراد بالشريعة هنا ما شرعه الله لعباده من الدين، والجمع شرائع: أي جعلناك يا محمد على منهاج واضع من أمر الدين يوصلك إلى الحق "فاتبعها" فاعمل بأحكامها في أمتك "ولا تتبع أهواء الذين لا يعلمون" توحيد الله وشرائعه لعباده، وهم كفار قريش ومن وافقهم.
19- "إنهم لن يغنوا عنك من الله شيئاً" أي لا يدفعون عنك شيئاً مما أراده الله بك إن اتبعت أهواءهم "وإن الظالمين بعضهم أولياء بعض" أي أنصار ينصر بعضهم بعضاً قال ابن زيد: إن المنافقين أولياء اليهود "والله ولي المتقين" أي ناصرهم، والمراد بالمتقين الذين اتقوا الشرك والمعاصي.
والإشارة بقوله: 20- "هذا" إلى القرآن أو إلى اتباع الشريعة، وهو مبتدأ وخبره "بصائر للناس" أي براهين ودلائل لهم فيما يحتاجون إليه من أحكام الدين، جعل ذلك بمنزلة البصائر في القلوب وقرئ " هذا بصائر ": أي هذه الآيات، لأن القرآن بمعناها كما قال الشاعر: سائل بني أسد ما هذه الصوت لأن الصوت بمعنى الصيحة "وهدى" أي رشد وطريق يؤدي إلى الجنة لمن عمل به "ورحمة" من الله في الآخرة "لقوم يوقنون" أي من شأنهم الإيقان وعدم الشك والتزلزل بالشبه.
21- "أم حسب الذين اجترحوا السيئات" أم هي المنقطعة المقدرة ببل والهمزة وما فيها من معنى بل للانتقال من البيان الأول إلى الثاني، والهمزة لإنكار الحسبان، والاجتراح الاكتساب ومنه الجوارح، وقد تقدم في المائدة، والجملة مستأنفة لبيان تباين حالي المسيئين والمحسنين، وهو معنى قوله: "أن نجعلهم كالذين آمنوا وعملوا الصالحات" أي نسوي بينهم مع اجترامهم السيئات، وبين أهل الحسنات "سواء محياهم ومماتهم" في دار الدنيا وفي الآخرة، كلا لا يستوون، فإن حال أهل السعادة فيهما غير حال أهل الشقاوة. وقيل المراد إنكار أن يستووا في الممات كما استووا في الحياة. قرأ الجمهور "سواء" بالرفع على أنه خبر مقدم، والمبتدأ محياهم ومماتهم والمعنى: إنكار حسبانهم أن محياهم ومماتهم سواء. وقرأ حمزة والكسائي وحفص "سواء" بالنصب على أنه حال من الضمير المستتر في الجار والمجرور في قوله "كالذين آمنوا" أو على أنه مفعول ثان لحسب، واختار قراءة النصب أبو عبيد، وقال معناه: نجعلهم سواء، وقرأ الأعمش وعيسى بن عمر مماتهم بالنصب على معنى سواء في محياهم ومماتهم، فلما سقط الخافض انتصب، أو على البدل من مفعول نجعلهم بدل اشتمال "ساء ما يحكمون" أي ساء حكمهم هذا الذي حكموا به.
22- "وخلق الله السموات والأرض بالحق" أي بالحق المقتضي للعدل بين العباد، ومحل بالحق النصب على الحال من الفاعل، أو من المفعول، أو الباء للسببية، وقوله: "ولتجزى كل نفس بما كسبت" يجوز أن يكون على الحق، لأن كلاً منهما سبب، فعطف السبب على السبب، ويجوز أن يكون معطوفاً على محذوف، والتقدير: خلق الله السموات والأرض ليدل بهما على قدرته ولتجزى، ويجوز أن تكون اللام للصيرورة "وهم لا يظلمون" أي النفوس المدلول عليها بكل نفس لا يظلمون بنقص ثواب أو زيادة عقاب. ثم عجب سبحانه من حال الكفار.