تفسير الطبري تفسير الصفحة 500 من المصحف

 تفسير الطبري - صفحة القرآن رقم 500
501
499
 الآية : 14
القول في تأويل قوله تعالى: {قُل لّلّذِينَ آمَنُواْ يَغْفِرُواْ لِلّذِينَ لاَ يَرْجُونَ أَيّامَ اللّهِ لِيَجْزِيَ قَوْماً بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ }.
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: قل يا محمد للذين صدّقوا الله واتبعوك, يغفروا للذين لا يخافون بأس الله ووقائعه ونقمه إذا هم نالوهم بالأذى والمكروه لِيَجْزِيَ قَوْما بِمَا كانُوا يَكْسِبُونَ يقول: ليجزي الله هؤلاء الذين يؤذونهم من المشركين في الاَخرة, فيصيبهم عذابه بما كانوا في الدنيا يكسبون من الإثم, ثم بأذاهم أهل الإيمان بالله. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:
24111ـ حدثني محمد بن سعد, قال: ثني أبي, قال: ثني عمي, قال: ثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس, قوله: قُلْ لِلّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلّذِينَ لا يَرْجُونَ أيّامَ اللّهِ لِيَجْزِيَ قَوْما بِمَا كانُوا يَكْسِبونَ قال: كان نبيّ الله صلى الله عليه وسلم يعرض عن المشركين إذا آذوه, وكانوا يستهزئون به, ويكذّبونه, فأمره الله عزّ وجلّ أن يقاتل المشركين كافّة, فكان هذا من المنسوخ.
24112ـ حدثني محمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, في قول الله: لِلّذِينَ لا يَرْجُونَ أيّامَ اللّهِ قال: لا يُبالون نِعم الله, أو نِقم الله.
حدثني الحارث, قال: حدثنا الحسن, قال: حدثنا ورقاء جميعا, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد لا يَرْجونَ أيّامَ اللّهِ قال: لا يُبالون نِعم الله, وهذه الاَية منسوخة بأمر الله بقتال المشركين. وإنما قُلنا: هي منسوخة لإجماع أهل التأويل على أن ذلك كذلك. ذكر من قال ذلك: وقد ذكرنا الرواية في ذلك عن ابن عباس.
24113ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة في قوله: قُلْ لِلّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلّذِينَ لا يَرْجُونَ أيّامَ اللّهِ قال: نسختها ما في الأنفال فإمّا تَثْقَفَنّهُمْ فِي الحَرْبِ, فَشَرّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ لَعَلّهُمْ يَذّكّرُونَ وفي براءة قاتِلُوا المُشْركِينَ كافّةً كمَا يُقاتِلُونَكُمْ كافّةً أمر بقتالهم حتى يشهدوا أن لا إله إلاّ الله وأن محمدا رسول الله.
24114ـ حدثنا ابن عبد الأعلى, قال: حدثنا ابن ثور, عن معمر, عن قَتادة, في قوله: قُلْ لِلّذِينَ آمَنُوا يَغْفرُوا لِلّذِينَ لا يَرْجُونَ أيّامَ اللّهِ قال: نسختها فاقْتُلُوا المُشْركِينَ.
24115ـ حُدثت عن الحسين, قال: سمعت أبا معاذ يقول: أخبرنا عبيد, قال: سمعت الضحاك يقول في قوله: قُلْ لِلّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلّذِينَ لا يَرْجُونَ أيّامَ اللّهِ قال: هذا منسوخ, أمر الله بقتالهم في سورة براءة.
24116ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا حكام, قال: حدثنا عنبسة عمن ذكره عن أبي صالح قُلْ لِلّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا للّذِينَ لا يَرْجُونَ أيّامَ اللّهِ قال: نسختها التي في الحجّ أُذِنَ لِلّذِينَ يُقاتَلُونَ بأنّهُمْ ظُلِمُوا.
24117ـ حدثني يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, في قوله: قُلْ لِلّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلّذِينَ لا يَرْجُونَ أيّامَ اللّهِ قال: هؤلاء المشركون, قال: وقد نسخ هذا وفرض جهادهم والغلظة عليهم.
وجزم قوله: يَغْفِرُوا تشبيها له بالجزاء والشرط وليس به, ولكن لظهوره في الكلام على مثاله, فعرّب تعريبه, وقد مضى البيان عنه قبل.
واختلف القرّاء في قراءة قوله: لِيَجْزِيَ قَوْما فقرأه بعض قرّاء المدينة والبصرة والكوفة: لِيَجْزِيَ بالياء على وجه الخبر عن الله أنه يجزيهم ويثيبهم وقرأ ذلك بعض عامة قرّاء الكوفيين «لِنَجْزِيَ» بالنون على وجه الخبر من الله عن نفسه. وذُكر عن أبي جعفر القارىء أنه كان يقرأه «لِيُجْزَى قَوْما» على مذهب ما لم يسمّ فاعله, وهو على مذهب كلام العرب لحن, إلاّ أن يكون أراد: ليجزى الجزاء قوما, بإضمار الجزاء, وجعله مرفوعا «لِيُجْزَى» فيكون وجها من القراءة, وإن كان بعيدا.
والصواب من القول في ذلك عندنا أن قراءته بالياء والنون على ما ذكرت من قراءة الأمصار جائزة بأيّ تينك القراءتين قرأ القارىء. فأما قراءته على ما ذكرت عن أبي جعفر, فغير جائزة عندي لمعنيين: أحدهما: أنه خلاف لما عليه الحجة من القرّاء, وغير جائز عندي خلاف ما جاءت به مستفيضا فيهم. والثاني بعدها من الصحة في العربية إلاّ على استكراه الكلام على غير المعروف من وجهه.
الآية : 15
القول في تأويل قوله تعالى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَآءَ فَعَلَيْهَا ثُمّ إِلَىَ رَبّكُمْ تُرْجَعُونَ }.
يقول تعالى ذكره: من عمل من عباد الله بطاعته فانتهى إلى أمره, وانزجر لنهيه, فلنفسه عمل ذلك الصالح من العمل, وطلب خلاصها من عذاب الله, أطاع ربه لا لغير ذلك, لأنه لا ينفع ذلك غيره, والله عن عمل كل عامل غنيّ وَمَنْ أساءَ فَعَلَيْها يقول: ومن أساء عمله في الدنيا بمعصيته فيها ربه, وخلافه فيها أمره ونهيه, فعلى نفسه جنى, لأنه أوبقها بذلك, وأكسبها به سخطه, ولم يضرّ أحدا سوى نفسه ثُمّ إلى رَبّكُمْ تُرْجَعُونَ يقول: ثم أنتم أيها الناس أجمعون إلى ربكم تصيرون من بعد مماتكم, فيجازى المحسن بإحسانه, والمسيء بإساءته, فمن ورد عليه منكم بعمل صالح, جوزي من الثواب صالحا, ومن ورد عليه منكم بعمل سيىء جوزي من الثواب سيئا.
الآية : 16
القول في تأويل قوله تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا بَنِيَ إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنّبُوّةَ وَرَزَقْنَاهُمْ مّنَ الطّيّبَاتِ وَفَضّلْنَاهُمْ عَلَى الْعَالَمينَ }.
يقول تعالى ذكره: وَلَقَدْ آتَيْنا يا محمد بَنِي إسْرائِيلَ الكِتابَ يعني التوراة والإنجيل, والحُكْمَ يعني الفهم بالكتاب, والعلم بالسنن التي لم تنزل في الكتاب, وَالنّبُوّةَ يقول: وجعلنا منهم أنبياء ورسُلاً إلى الخلق, وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطّيّباتِ يقول: وأطعمناهم من طيبات أرزاقنا, وذلك ما أطعمهم من المنّ والسلوى وَفَضّلْناهُمْ على العالَمِينَ يقول: وفضلناهم على عالمي أهل زمانهم في أيام فرعون وعهده في ناحيتهم بمصر والشأم.
الآية : 17
القول في تأويل قوله تعالى: {وَآتَيْنَاهُم بَيّنَاتٍ مّنَ الأمْرِ فَمَا اخْتَلَفُوَاْ إِلاّ مِن بَعْدِ مَا جَآءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ إِنّ رَبّكَ يَقْضِي بِيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُواْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ }.
يقول تعالى ذكره: وأعطينا بني إسرائيل واضحات من أمرنا بتنزيلنا إليهم التوراة فيها تفصيل كل شيء فَمَا اخْتَلَفُوا إلاّ مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ العِلْمُ بَغْيا بَيْنَهُمْ طلبا للرياسات, وتركا منهم لبيان الله تبارك وتعالى في تنزيله.
وقوله: إنّ رَبّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ القِيامَةِ فِيما كانُوا فيهِ يَخْتَلِفُونَ يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: إن ربك يا محمد يقضي بين المختلفين من بني إسرائيل بغيا بينهم يوم القيامة, فيما كانوا فيه في الدنيا يختلفون بعد العلم الذي آتاهم, والبيان الذي جاءهم منه, فيفلج المحقّ حينئذٍ على المبطل بفصل الحكم بينهم.
الآية : 18-19
القول في تأويل قوله تعالى: {ثُمّ جَعَلْنَاكَ عَلَىَ شَرِيعَةٍ مّنَ الأمْرِ فَاتّبِعْهَا وَلاَ تَتّبِعْ أَهْوَآءَ الّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ * إِنّهُمْ لَن يُغْنُواْ عَنكَ مِنَ اللّهِ شَيْئاً وَإِنّ الظّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَآءُ بَعْضٍ وَاللّهُ وَلِيّ الْمُتّقِينَ }.
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: ثم جعلناك يا محمد من بعد الذي آتينا بني إسرائيل, الذين وصفت لك صفتهم عَلى شَرِيعَةٍ مِنَ الأمْرِ يقول: على طريقة وسنة ومنهاج من أمرنا الذي أمرنا به من قبلك من رسلنا فاتّبِعْها يقول: فاتبع تلك الشريعة التي جعلناها لك وَلا تَتّبِعْ أهْوَاءَ الذِينَ لا يَعْلَمُونَ يقول: ولا تتبع ما دعاك إليه الجاهلون بالله, الذين لا يعرفون الحقّ من الباطل, فتعمل به, فتهلك إن عملت به. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:
24118ـ حدثني محمد بن سعد, قال: ثني أبي, قال: ثني عمي, قال: ثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس ثُمّ جَعَلْناكَ على شَرِيعَةٍ مِنَ الأمْرِ فاتّبِعْها قال: يقول على هدىً من الأمر وبيّنة.
24119ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, قوله: ثُمّ جَعَلْناكَ على شَرِيعَةٍ مِنَ الأمْرِ فاتّبِعْها والشريعة: الفرائض والحدود والأمر والنهي فاتبعها وَلا تَتّبِعْ أهْوَاءَ الّذِينَ لا يَعْلَمُونَ.
24120ـ حدثني يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد في قوله: ثُمّ جَعَلْناكَ على شَرِيعَةٍ مِنَ الأمْرِ قال: الشريعة: الدين. وقرأ شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدّينِ ما وَصّى بِهِ نُوحا وَالّذِين أوْحَيْنا إلَيْكَ قال: فنوح أوّلهم وأنت آخرهم.
وقوله: إنّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللّهِ شَيْئا يقول تعالى ذكره: إن هؤلاء الجاهلين بربهم, الذين يدعونك يا محمد إلى اتباع أهوائهم, لن يغنوا عنك إن أنت اتبعت أهواءهم, وخالفت شريعة ربك التي شرعها لك من عقاب الله شيئا, فيدفعوه عنك إن هو عاقبك, وينقذوك منه.
وقوله: وَإنّ الظّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أوْلِياءُ بَعْضٍ يقول: وإن الظالمين بعضهم أنصار بعض, وأعوانهم على الإيمان بالله وأهل طاعته وَاللّهُ وَلِيّ المُتّقِينَ يقول تعالى ذكره: والله يَلِي من اتقاه بأداء فرائضه, واجتناب معاصيه بكفايته, ودفاع من أراده بسوء, يقول جلّ ثناؤه لنبيه عليه الصلاة والسلام فكن من المتقين, يكفك الله ما بغاك وكادك به هؤلاء المشركون, فإنه وليّ من اتقاه, ولا يعظم عليك خلاف من خالف أمره وإن كثر عددهم, لأنهم لن يضرّوك ما كان الله وليك وناصرك.
الآية : 20-21
القول في تأويل قوله تعالى: {هَـَذَا بَصَائِرُ لِلنّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لّقَوْمٍ يُوقِنُونَ * أَمْ حَسِبَ الّذِينَ اجْتَرَحُواْ السّيّئَاتِ أَن نّجْعَلَهُمْ كَالّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصّالِحَاتِ سَوَآءً مّحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَآءَ مَا يَحْكُمُونَ }.
يقول تعالى ذكره هَذَا الكتاب الذي أنزلناه إليك يا محمد بَصَائِرُ لِلنّاسِ يُبْصِرون به الحقّ من الباطل, ويعرفون به سبيل الرشاد, والبصائر: جمع بصيرة. وبنحو الذي قلنا في ذلك كان ابن زيد يقول. ذكر من قال ذلك:
24121ـ حدثني يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, في قوله: هَذَا بَصَائِرُ للنّاس وَهُدًى وَرَحْمَةٌ قال: القرآن. قال: هذا كله إنما هو في القلب. قال: والسمع والبصر في القلب. وقرأ فإنّها لا تَعْمَى الأبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى القُلُوبُ الّتِي فِي الصّدُورِ وليس ببصر الدنيا ولا بسمعها.
وقوله: وَهُدًى يقول: ورشاد وَرَحْمَة لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ بحقيقة صحة هذا القرآن, وأنه تنزيل من الله العزيز الحكيم. وخصّ جلّ ثناؤه الموقنين بأنه لهم بصائر وهدى ورحمة, لأنهم الذين انتفعوا به دون من كذب به من أهل الكفر, فكان عليه عمىً وله حزنا.
وقوله: أمْ حَسِبَ الّذِينَ اجْتَرَحُوا السّيّئاتِ يقول تعالى ذكره: أم ظنّ الذين اجترحوا السيئات من الأعمال في الدنيا, وكذّبوا رسل الله, وخالفوا أمر ربهم, وعبدوا غيره, أن نجعلهم في الاَخرة, كالذين آمنوا بالله وصدّقوا رسله وعملوا الصالحات, فأطاعوا الله, وأخلصوا له العبادة دون ما سواه من الأنداد والاَلهة, كلا ما كان الله ليفعل ذلك, لقد ميز بين الفريقين, فجعل حزب الإيمان في الجنة, وحزب الكفر في السعير. كما:
24122ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة أمْ حَسِبَ الّذِينَ اجْتَرَحُوا السّيّئاتِ... الاَية, لعمري لقد تفرّق القوم في الدنيا, وتفرّقوا عند الموت, فتباينوا في المصير.
وقوله: سَوَاءً مَحْياهُم وَمَماتُهُمْ اختلفت القرّاء في قراءة قوله: سَوَاءً, فقرأت ذلك عامة قرّاء المدينة والبصرة وبعض قرّاء الكوفة «سَوَاءٌ» بالرفع, على أن الخبر متناهٍ عندهم عند قوله: كالّذِينَ آمَنُوا وجعلوا خبر قوله: أنْ نَجْعَلَهُمْ قوله: كالّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصّالِحاتِ, ثم ابتدأوا الخبر عن استواء حال محيا المؤمن ومماته, ومحيا الكافر ومماته, فرفعوا قوله: «سَوَاءٌ» على وجه الابتداء بهذا المعنى, وإلى هذا المعنى وجه تأويل ذلك جماعة من أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:
24123ـ حدثني محمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى وحدثني الحارث, قال: حدثنا الحسن, قال: حدثنا ورقاء جميعا, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, قوله: «سَوَاءٌ مَحْياهُمْ وَمَماتُهُمْ» قال: المؤمن في الدنيا والاَخرة مؤمن, والكافر في الدنيا والاَخرة كافر.
24124ـ حدثنا أبو كُرَيب, قال: حدثنا حسين, عن شيبان, عن ليث, في قوله: «سَوَاءٌ مَحْياهُمْ وَمماتُهُمْ» قال: بعث المؤمن مؤمنا حيا وميتا, والكافر كافرا حيا وميتا.
وقد يحتمل الكلام إذا قُرىء سواء رفعا وجها آخر غير هذا المعنى الذي ذكرناه عن مجاهد وليث, وهو أن يوجه إلى: أم حسب الذين اجترحوا السيئات أن نجعلهم والمؤمنين سواء في الحياة والموت, بمعنى: أنهم لا يستوون, ثم يرفع سواء على هذا المعنى, إذ كان لا ينصرف, كما يقال: مررت برجل خير منك أبوه, وحسبك أخوه, فرفع حسبك, وخير إذ كانا في مذهب الأسماء, ولو وقع موقعهما فعل في لفظ اسم لم يكن إلا نصبا, فكذلك قوله: «سواءٌ». وقرأ ذلك عامة قرّاء الكوفة سَوَاءً نصبا, بمعنى: أحسبوا أن نجعلهم والذين آمنوا وعملوا الصالحات سواء.
والصواب من القول في ذلك عندي أنهما قراءتان معروفتان في قرأة الأمصار قد قرأ بكلّ واحدة منهما أهل العلم بالقرآن صحيحتا المعنى, فبأيتهما قرأ القارىء فمصيب.
واختلف أهل العربية في وجه نصب قوله: سَوَاء ورفعه, فقال بعض نحويّي البصرة «سَوَاءٌ مَحْياهُمْ وَمَماتُهُمْ» رفع. وقال بعضهم: إن المحيا والممات للكفار كله, قال: أمْ حَسِبَ الّذِينَ اجْتَرحُوا السّيّئاتِ أنْ نَجْعَلَهُمْ كالّذِينَ آمَنُوا وَعمِلُوا الصّالِحاتِ ثم قال: سواء محيا الكفار ومماتهم: أي محياهم محيا سَوَاء, ومماتهم ممات سَوَاء, فرفع السواء على الابتداء. قال: ومن فسّر المحيا والممات للكفار والمؤمنين, فقد يجوز في هذا المعنى نصب السواء ورفعه, لأن من جعل السواء مستويا, فينبغي له في القياس أن يُجريه على ما قبله, لأنه صفة, ومن جعله الاستواء, فينبغي له أن يرفعه لأنه اسم, إلا أن ينصب المحيا والممات على البدل, وينصب السواء على الاستواء, وإن شاء رفع السواء إذا كان في معنى مستوٍ, كما تقول: مررت برجل خير منك أبوه, لأنه صفة لا يصرف والرفع أجود. وقال بعض نحويّي الكوفة قوله: سَوَاءً مَحْياهُمْ بنصب سواء وبرفعه, والمحيا والممات في موضع رفع بمنزلة, قوله: رأيت القوم سواءً صغارهم وكبارهم بنصب سواء لأنه يجعله فعلاً لما عاد على الناس من ذكرهم, قال: وربما جعلت العرب سواء في مذهب اسم بمنزلة حسبك, فيقولون: رأيت قومك سواء صغارهم وكبارهم. فيكون كقولك: مررت برجل حسبك أبوه, قال: ولو جعلت مكان سواء مستوٍ لم يرفع, ولكن نجعله متبعا لما قبله, مخالفا لسواء, لأن مستوٍ من صفة القوم, ولأن سواء كالمصدر, والمصدر اسم. قال: ولو نصبت المحيا والممات كان وجها, يريد أن نجعلهم سواء في محياهم ومماتهم.
وقال آخرون منهم: المعنى: أنه لا يساوي من اجترح السيئات المؤمن في الحياة, ولا الممات, على أنه وقع موقع الخبر, فكان خبرا لجعلنا, قال: والنصب للأخبار كما تقول: جعلت إخوتك سواءً, صغيرهم وكبيرهم, ويجوز أن يرفع, لأن سواء لا ينصرف. وقال: من قال: أمْ حَسِبَ الّذِينَ اجْتَرحُوا السّيّئات أنْ نَجْعَلهُمْ كالّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصّالِحاتِ فجعل كالذين الخبر استأنف بسواء ورفع ما بعدها, وإن نصب المحيا والممات نصب سواء لا غير, وقد تقدّم بياننا الصواب من القول في ذلك.
وقوله: ساءَ ما يَحْكُمُونَ يقول تعالى ذكره: بئس الحكم الذي حسبوا أنا نجعل الذين اجترحوا السيئات والذين آمنوا وعملوا الصالحات, سواء محياهم ومماتهم.
الآية : 22
القول في تأويل قوله تعالى: {وَخَلَقَ اللّهُ السّمَاوَاتِ وَالأرْضَ بِالْحَقّ وَلِتُجْزَىَ كُلّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ }.
يقول تعالى ذكره: وَخَلَق اللّهُ السّمَوَاتِ والأرْضَ بالحَقّ للعدل والحقّ, لا لما حَسِب هؤلاء الجاهلون بالله, من أنه يجعل من اجترح السيئات, فعصاه وخالف أمره, كالذين آمنوا وعملوا الصالحات, في المحيا والممات, إذ كان ذلك من فعل غير أهل العدل والإنصاف, يقول جلّ ثناؤه: فلم يخلق الله السموات والأرض للظلم والجور, ولكنا خلقناهما للحقّ والعدل. ومن الحقّ أن نخالف بين حكم المسيء والمحسن, في العاجل والاَجل.
وقوله: وَلِتُجْزَى كُلّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ يقول تعالى ذكره: وليثيب الله كلّ عامل بما عمل من عمل خلق السموات والأرض, المحسن بالإحسان, والمسيء بما هو أهله, لا لنبخس المحسن ثواب إحسانه, ونحمل عليه جرم غيره, فنعاقبه, أو نجعل للمسيء ثواب إحسان غيره فنكرمه, ولكن لنجزي كلاً بما كسبت يداه, وهم لا يُظلمون جزاء أعمالهم