تفسير القرطبي الجامع لأحكام القرآن تفسير الصفحة 533 من المصحف



تفسير القرطبي - صفحة القرآن رقم 533

533- تفسير الصفحة رقم533 من المصحف
الآية: 41 - 45 {يعرف المجرمون بسيماهم فيؤخذ بالنواصي والأقدام، فبأي آلاء ربكما تكذبان، هذه جهنم التي يكذب بها المجرمون، يطوفون بينها وبين حميم آن، فبأي آلاء ربكما تكذبان}
قوله تعالى: "يعرف المجرمون بسيماهم" قال الحسن: سواد الوجه وزرقة الأعين، قال الله تعالى: "ونحشر المجرمين يومئذ زرقا" [طه:102] وقال تعالى: "يوم تبيض وجوه وتسود وجوه" [آل عمران:106]. "فيؤخذ بالنواصي والأقدام" أي تأخذ الملائكة بنواصيهم، أي بشعور مقدم رؤوسهم وأقدامهم فيقذفونهم في النار. والنواصي جمع ناصية. وقال الضحاك: يجمع بين ناصيته وقدميه في سلسلة من وراء ظهره. وعنه: يؤخذ برجلي الرجل فيجمع بينهما وبين ناصية حتى يندق ظهره ثم يلقى في النار. وقيل: يفعل ذلك به ليكون أشد لعذابه وأكثر لتشويهه. وقيل: تسحبهم الملائكة إلى النار، تارة تأخذ بناصيته وتجره على وجهه، وتارة تأخذ بقدميه وتسحبه على رأسه.
قوله تعالى: "هذه جهنم التي يكذب بها المجرمون" أي يقال لهم هذه النار التي أخبرتم بها فكذبتم. "يطوفون بينها وبين حميم آن" قال قتادة: يطوفون مرة بين الحميم ومرة بين الجحيم، والجحيم النار، والحميم الشراب. وفي قوله تعالى: "آن" ثلاثة أوجه، أحدها أنه الذي انتهى حره وحميمه. قال ابن عباس وسعيد بن جبير والسدي، ومنه قول النابغة الذبياني:
وتخضب لحية غدرت وخانت بأحمر من نجيع الجوف آن
قال قتادة: "آن" طبخ منذ خلق الله السماوات والأرض، يقول: إذا استغاثوا من النار جعل غياثهم ذلك. وقال كعب: "آن" واد من أودية جهنم يجتمع فيه صديد أهل النار فيغمسون بأغلالهم فيه حتى تنخلع أوصالهم، ثم يخرجون منها وقد أحدث الله لهم خلقا جديدا فيلقون في النار، فذلك قوله تعالى: "يطوفون بينها وبين حميم آن". وعن كعب أيضا: أنه الحاضر. وقال مجاهد: إنه الذي قد آن شربه وبلغ غايته. والنعمة فيما وصف من هول القيامة وعقاب المجرمين ما في ذلك من الزجر عن المعاصي والترغيب في الطاعات. وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أتى على شاب في الليل يقرأ "فإذا انشقت السماء فكانت وردة كالدهان" [الرحمن: 37] فوقف الشاب وخنقته العبرة وجعل يقول: ويحي من يوم تنشق فيه السماء ويحي! فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "ويحك يا فتى مثلها فو الذي نفسي بيده لقد بكت ملائكة السماء لبكائك".
الآية: 46 - 47 {ولمن خاف مقام ربه جنتان، فبأي آلاء ربكما تكذبان}
قوله تعالى: "ولمن خاف مقام ربه" لما ذكر أحوال أهل النار ذكر ما أعد للأبرار. والمعنى خاف مقامه بين يدي ربه للحساب فترك المعصية. فـ "مقام" مصدر بمعنى القيام. وقيل: خاف قيام ربه عليه أي إشرافه واطلاعه عليه، بيانه قوله تعالى: "أفمن هو قائم على كل نفس بما كسبت" [الرعد: 33]. وقال مجاهد وإبراهيم النخعي: هو الرجل يهم بالمعصية فيذكر الله فيدعها من خوفه.
هذه الآية دليل على أن من قال لزوجه: إن لم أكن من أهل الجنة فأنت طالق أنه لا يحنث إن كان هم بالمعصية وتركها خوفا من الله وحياء منه. وقال به سفيان الثوري وأفتى به. وقال محمد بن علي الترمذي: جنة لخوفه من ربه، وجنة لتركه شهوته. وقال ابن عباس: من خاف مقام ربه بعد أداء الفرائض. وقيل: المقام الموضع، أي خاف مقامه بين يدي ربه للحساب كما تقدم ويجوز أن يكون المقام للعبد ثم يضاف إلى الله، وهو كالأجل في قوله: "فإذا جاء أجلهم" [الأعراف: 34] وقوله في موضع آخر: "إن أجل الله إذا جاء لا يؤخر" [نوح: 4].
قوله تعالى: "جنتان" أي لمن خاف جنتان على حدة، فلكل خائف جنتان. وقيل: جنتان لجميع الخائفين، والأول أظهر. وروي عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "الجنتان بستانان في عرض الجنة كل بستان مسيرة مائة عام في وسط كل بستان دار من نور وليس منها شيء إلا يهتز نغمة وخضرة، قرارها ثابت وشجرها ثابت" ذكره المهدوي والثعلبي أيضا من حديث أبي هريرة. وقيل: إن الجنتين جنته التي خلقت له وجنة ورثها. وقيل: إحدى الجنتين منزل والأخرى منزل أزواجه كما يفعله رؤساء الدنيا. وقيل: إن إحدى الجنتين مسكنه والأخرى بستانه. وقيل: إن إحدى الجنتين أسافل القصور والأخرى أعاليها. وقال مقاتل: هما جنة عدن وجنة النعيم. وقال الفراء: إنما هي جنة واحدة، فثنى لرؤوس الآي. وأنكر القتبي هذا وقال: لا يجوز أن يقال خزنة النار عشرون إنما قال تسعة عشر لمراعاة رؤوس الآي. وأيضا قال: "ذواتا أفنان". وقال أبو جعفر النحاس: قال الفراء قد تكون جنة فتثنى في الشعر، وهذا القول من أعظم الغلط على كتاب الله عز وجل، يقول الله عز وجل: "جنتان" ويصفهما بقوله: "فيهما" فيدع الظاهر ويقول: يجوز أن تكون جنة ويحتج بالشعر! وقيل: إنما كانتا اثنتين ليضاعف له السرور بالتنقل من جهة إلى جهة. وقيل: نزلت في أبي بكر الصديق رضي الله عنه خاصة حين ذكر ذات يوم الجنة حين أزلفت والنار حين برزت، قاله عطاء وابن شوذب. وقال الضحاك: بل شرب ذات يوم لبنا على ظمأ فأعجبه، فسأله عنه فأخبر أنه من غير حل فاستقاءه ورسول الله صلى الله عليه وسلم ينظر إليه، فقال: "رحمك الله لقد أنزلت فيك آية" وتلا عليه هذه الآية
الآية: 48 - 51 {ذواتا أفنان، فبأي آلاء ربكما تكذبان، فيهما عينان تجريان، فبأي آلاء ربكما تكذبان}
قوله تعالى: "ذواتا أفنان" قال ابن عباس وغيره: أي ذواتا ألوان من الفاكهة الواحد فن. وقال مجاهد: الأفنان الأغصان واحدها فنن، قال النابغة:
بكاء حمامة تدعو هديلا مفجعه على فنن تغني
وقال آخر يصف طائرين:
باتا على غصن بان في ذرى فنن يرددان لحونا ذات ألوان
أراد باللحون الغات. وقال آخر:
ما هاج شوقك من هديل حمامة تدعو على فنن الغصون حماما
تدعو أب فرخين صادف ضاريا ذا مخلبين من الصقور قطاما
والفنن جمعه أفنان ثم الأفانين، وقال يصف رحى:
لها زمام من أفانين الشجر
وشجرة فناء أي ذات أفنان وفنواء أيضا على غير قياس. وفي الحديث: "أن أهل الجنة مرد مكحلون أولو أفانين" يريد أولو فنن وهو جمع أفنان، وأفنان جمع فنن وهو الخصلة من الشعر شبه بالغصن. ذكره الهروي. وقل: "ذواتا أفنان" أي ذواتا سعة وفضل على ما سواهما، قاله قتاده. وعن مجاهد أيضا وعكرمة: إن الأفنان ظل الأغصان على الحيطان.
قوله تعالى: "فيهما عينان تجريان" أي في كل واحدة منهما عين جارية. قال ابن عباس: تجريان ماء بالزيادة والكرامة من الله تعالى على أهل الجنة. وعن ابن عباس أيضا والحسن: تجريان بالماء الزلال إحدى العينين التسنيم والأخرى السلسبيل. وعنه أيضا: عينان مثل الدنيا أضعافا مضاعفة، حصباؤهما الياقوت الأحمر والزبرجد الأخضر، وترابهما الكافور، وحمأتهما المسك الأذفر، وحافتاهما الزعفران. وقال عطية: إحداهما من ماء غير آسن، والأخرى من خمر لذة للشاربين. وقيل: تجريان من جبل من مسك. وقال أبو بكر الوراق: فيهما عنيان تجريان لمن كانت عيناه في الدنيا تجريان من مخافة الله عز وجل.
الآية: 52 - 55 {فيهما من كل فاكهة زوجان، فبأي آلاء ربكما تكذبان، متكئين على فرش بطائنها من إستبرق وجنى الجنتين دان، فبأي آلاء ربكما تكذبان}
قوله تعالى: "فيهما من كل فاكهة زوجان" أي صنفان وكلاهما حلو يستلذ به. قال ابن عباس: ما في الدنيا شجرة حلوة ولا مرة إلا وهي في الجنة حتى الحنظل إلا أنه حلو. وقيل: ضربان رطب ويابس لا يقصر هذا عن ذلك في الفضل والطيب. وقيل: أراد تفضيل هاتين الجنتين على الجنتين اللتين دونهما، فإنه ذكرها هنا عينين جاريتين، وذكر ثم عينين تنضحان بالماء والنضح دون الجري، فكأنه قال: في تينك الجنتين من كل فاكهة نوع، وفي هذه الجنة من كل فاكهة نوعان. "متكئين على فرش" هو نصب على الحال. والفرش جمع فراش. وقرأ أبو حيوة "فرش" بإسكان الراء "بطائنها من إستبرق" جمع بطانة وهي التي تحت الظهارة والإستبرق ما غلظ من الديباج وخشن، أي إذا كانت البطانة التي تلي الأرض هكذا فما ظنك بالظهارة، قاله ابن مسعود وأبو هريرة. وقيل لسعيد بن جبير: البطائن من إستبرق فما الظواهر؟ قال: هذا مما قال الله: "فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين" [السجدة: 17]. وقال ابن عباس: إنما وصف لكم بطائنها لتهتدي إليه قلوبكم، فأما الظواهر فلا يعلمها إلا الله. وفي الخبر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "ظواهرها نور يتلألأ". وعن الحسن: بطائنها من إستبرق، وظواهرها من نور جامد. وعن الحسن أيضا: البطائن هي الظواهر، وهو قول الفراء، وروي عن قتادة. والعرب تقول للظهر بطنا، فيقولون: هذا ظهر السماء، وهذا بطن السماء، لظاهرها الذي نراه. وأنكر ابن قتيبة وغيره هذا، وقالوا: لا يكون هذا إلا في الوجهين المتساويين إذا ولي كل واحد منهما قوما، كالحائط بينك وبين قوم، وعلى ذلك أمر السماء. "وجنى الجنتين دان" الجنى ما يجتنى من الشجر، يقال: أتانا بجناة طيبة لكل ما يجتنى. وثمر جني على فعيل حين جني، وقال:
هذا جناي وخياره فيه إذ كل جان يده إلى فيه
وقرئ "جنى" بكسر الجيم. "دان" قريب. قال ابن عباس: تدنو الشجرة حتى يجتنيها ولي الله إن شاء قائما وإن شاء قاعدا وإن شاء مضطجعا، لا يرد يده بعد ولا شوك.
الآية: 56 - 57 {فيهن قاصرات الطرف لم يطمثهن إنس قبلهم ولا جان، فبأي آلاء ربكما تكذبان}
قوله تعالى: "فيهن قاصرات الطرف" قيل: في الجنتين المذكورتين. قال الزجاج: وإنما قال: "فيهن" ولم يقل فيهما، لأنه عنى الجنتين وما أعد لصاحبهما من النعيم. وقيل: "فيهن" يعود على الفرش التي بطائنها من إستبرق، أي في هذه الفرش "قاصرات الطرف" أي نساء قاصرات الطرف، قصرن أعينهن على أزواجهن فلا يرين غيرهم. وقد مضى في "والصافات" ووحد الطرف مع الإضافة إلى الجمع لأنه في معنى المصدر، من طرفت عينه تطرف طرفا، ثم سميت العين بذلك فأدى عن الواحد والجمع، كقولهم: قوم عدل وصوم.
قوله تعالى: "لم يطمثهن إنس قبلهم ولا جان" أي لم يصبهن بالجماع قبل أزواجهن هؤلاء أحد الفراء: والطمث الافتضاض وهو النكاح بالتدمية، طمثها يطمثها ويطمثها طمثا إذا افتضها. ومنه قيل: امرأة طامث أي حائض. وغير الفراء يخالفه في هذا ويقول: طمثها بمعنى وطئها على أي الوجوه كان. إلا أن قول الفراء أعرف وأشهر. وقرأ الكسائي "لم يطمثهن" بضم الميم، يقال: طمثت المرأة تطمث بالضم حاضت. وطمثت بالكسر لغة فهي طامث، وقال الفرزدق:
وقعن إلي لم يطمثن قبلي وهن اصح من بيض النعام
وقيل: "لم يطمثن" لم يمسهن، قال أبو عمرو: والطمث المس وذلك في كل شيء يمس ويقال للمرتع: ما طمث ذلك المرتع قبلنا أحد، وما طمث هذه الناقة حبل، أي ما مسها عقال. وقال المبرد: أي لم يذللهن إنس قبلهم ولا جان، والطمث التذليل. وقرأ الحسن "جأن" بالهمزة.
في هذه الآية دليل على أن الجن تغشى كالإنس، وتدخل الجنة ويكون لهم فيها جنيات. قال ضمرة: للمؤمنين منهم أزواج من الحور العين، فالإنسيات للإنس، والجنيات للجن. وقيل: أي لم يطمث ما وهب الله للمؤمنين من الجن في الجنة من الحور العين من الجنايات جن، ولم يطمث ما وهب الله للمؤمنين من الإنس في الجنة من الإنس في الجنة من الحور العين من الإنسيات إنس، وذلك لأن الجن لا تطأ بنات آدم في الدنيا. ذكره القشيري.
قلت: قد مضى في "النمل" القول في هذا وفي "الإسراء" أيضا، وأنه جائز أن تطأ بنات آدم. وقد قال مجاهد: إذا جامع الرجل ولم يسم انطوى الجان على إحليله فجامع معه فذلك قوله تعالى: "لم يطمثهن إنس قبلهم ولا جان" وذلك بأن الله تبارك وتعالى وصف الحور العين بأنه لم يطمثهن إنس قبلهم ولا جان. يعلمك أن نساء الآدميات قد يطمثهن الجان، وأن الحور العين قد برئن من هذا العيب ونزهن، والطمث الجماع. ذكره بكماله الترمذي الحكيم، وذكره المهدوي أيضا والثعلبي وغيرهما والله أعلم.
الآية: 58 - 61 {كأنهن الياقوت والمرجان، فبأي آلاء ربكما تكذبان، هل جزاء الإحسان إلا الإحسان، فبأي آلاء ربكما تكذبان}
قوله تعالى: "كأنهن الياقوت والمرجان" روى الترمذي عن عبدالله بن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن المرأة من نساء أهل الجنة ليرى بياض ساقيها من وراء سبعين حلة حتى يرى مخها" وذلك بأن الله تعالى يقول: "كأنهن الياقوت والمرجان" فأما الياقوت فإنه حجر لو أدخلت فيه سلكا ثم استصفيته لأريته من ورائه ويروى موقوفا. وقال عمرو بن ميمون: إن المرأة من الحور العين لتلبس سبعين حلة فيرى مخ ساقها من وراء ذلك، كما يرى الشراب الأحمر في الزجاجة البيضاء. وقال الحسن: هن في صفاء الياقوت، وبياض المرجان.
قوله تعالى: "هل جزاء الإحسان إلا الإحسان" "هل" في الكلام على أربعة أوجه: تكون بمعنى قد كقوله تعالى: "هل أتى على الإحسان حين من الدهر" [الإنسان: 1]، وبمعنى الاستفهام كقوله تعالى: "فهل وجدتم ما وعد ربكم حقا" [الأعراف: 44]، وبمعنى الأمر كقوله تعالى: "فهل أنتم منتهون" [المائدة: 91]، وبمعنى ما في الجحد كقوله تعالى: "فهل على الرسل إلا البلاغ" [النحل: 35]، و"هل جزاء الإحسان إلا الإحسان". قال عكرمة: أي هل جزاء من قال لا إله إلا الله إلا الجنة. ابن عباس: ما جزاء من قال لا إله إلا اله وعمل بما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم إلا الجنة. وقيل: هل جزاء من أحسن في الدنيا إلا أن يحسن إليه في الآخرة، قال ابن زيد. وروى أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ "هل جزاء الإحسان إلا الإحسان" ثم قال: "هل تدرون ماذا قال ربكم" قالوا الله ورسول أعلم، قال: "يقول ما جزاء من أنعمت عليه بالتوحيد إلا الجنة". وروى ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ هذه الآية فقال: "يقول الله هل جزاء من أنعمت عليه بمعرفتي وتوحيدي إلا أن أسكنه جنتي وحظيرة قدسي برحمتي" وقال الصادق: هل جزاء من أحسنت عليه في الأزل إلا حفظ الإحسان عليه في الأبد. وقال محمد ابن الحنيفة والحسن: هي مسجلة للبر والفاجر، أي مرسلة على الفاجر في الدنيا والبر في الآخرة.
الآية: 62 - 65 {ومن دونهما جنتان، فبأي آلاء ربكما تكذبان، مدهامتان، فبأي آلاء ربكما تكذبان}
قوله تعالى: "ومن دونهما جنتان" أي وله من دون الجنتين الأوليين جنتان أخريان. قال ابن عباس: ومن دونهما في الدرج. ابن زيد: ومن دونهما في الفضل. ابن عباس: والجنات لمن خاف مقام ربه، فيكون في الأوليين النخل والشجر، وفي الأخريين الزرع والنبات وما انبسط. الماوردي: ويحتمل أن يكون "ومن دونهما جنتان" لأتباعه لقصور منزلتهم عن منزلته، إحداهما للحور العين، والأخرى للولدان المخلدين، ليتميز بهما الذكور عن الإناث. وقال ابن جريج: هي أربع: جنتان منها للسابقين المقربين "فيهما من كل فاكهة زوجان" [الرحمن: 52] و"عينان تجريان" [الرحمن: 50]، وجنتان لأصحاب اليمين "فيهما فاكهة ونخل ورمان" [الرحمن: 68] و"فيهما عينان نضاختان" [الرحمن: 66]. وقال ابن زيد: إن الأولين من ذهب للمقربين، والأخريين من ورق لأصحاب اليمين.
قلت: إلى هذا ذهب الحليمي أبو عبدالله الحسن بن الحسين في كتاب "منهاج الدين له"، واحتج بما رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس "ولمن خاف مقام ربه جنتان" [الرحمن: 46] إلى قوله: "مدهامتان" قال: تلك للمقربين، وهاتان لأصحاب اليمين. وعن أبي موسى الأشعري نحوه. ولما وصف الله الجنتين أشار إلى الفرق بينهما فقال في الأوليين: "فيهما عينان تجريان" [الرحمن: 50] وفي الأخريين: "فيهما عينان نضاختان" [الرحمن: 66] أي فوارتان ولكنهما ليستا كالجاريين لأن النضخ دون الجري. وقال في الأوليين: "فيهما من كل فاكهة زوجان" [الرحمن: 52] فعم ولم يخص. وفي الأخريين: "فيهما فاكهة ونخل ورمان" [الرحمن: 68] ولم يقل كل فاكهة، وقال في الأوليين: "متكئين على فرش بطائنها من إستبرق" [الرحمن: 54] وهو الديباج، وفي الأخريين "متكئين على رفرف خضر وعبقري حسان" [الرحمن: 76] والعبقري الوشي، ولا شك أن الديباج أعلى من الوشي، والرفرف كسر الخباء، ولا شك أن الفرش المعدة للاتكاء عليها أفضل من فضل الخباء. وقال في الأوليين في صفة الحور: "كأنهن الياقوت والمرجان" [الرحمن: 58]، وفي الأخريين "فيهن خيرات حسان" [الرحمن: 70] وليس كل حسن كحسن الياقوت والمرجان. وقال في الأوليين: "ذواتا أفنان" [الرحمن: 48] وفي الأخريين "مدهامتان" أي خضراوان كأنهما من شدة خضرتهما سوداوان، ووصف الأوليين بكثرة الأغصان، والأخريين بالخضرة وحدها، وفي هذا كله تحقيق للمعنى الذي قصدنا بقوله "ومن دونهما جنتان" ولعل ما لم يذكر من تفاوت ما بينهما أكثر مما ذكر. فإن قيل: كيف لم يذكر أهل هاتين الجنتين كما ذكر أهل الجنتين الأوليين؟ قل: الجنان الأربع لمن خاف مقام ربه إلا أن الخائفين لهم مراتب، فالجنتان الأوليان لأعلى العباد رتبة في الخوف من الله تعالى، والجنتان الأخريان لمن قصرت حال في الخوف من الله تعالى. ومذهب الضحاك أن الجنتين الأوليين من ذهب وفضة، والأخريين من ياقوت وزمرد وهما أفضل من الأوليين، وقوله: "ومن دونهما جنتان"أي من أمامهما ومن قبلهما. وإلى هذا القول ذهب أبو عبدالله الترمذي الحكيم في "نوادر الأصول" فقال: ومعنى "ومن دونهما جنتان" أي دون هذا إلى العرش، أي أقرب وأدنى إلى العرش، وأخذ يفضلهما على الأوليين بما سنذكره عنه. وقال مقاتل: الجنتان الأوليان جنة عدن وجنة النعيم، والأخريان جنة الفردوس وجنة المأوى.
قوله تعالى: "مدهامتان" أي خضراوان من الري، قال ابن عباس وغيره. وقال مجاهد: مسودتان. والدهمة في اللغة السواد، يقال: فرس أدهم وبعير أدهم وناقة دهماء أي أشتدت زرقته حتى البياض الذي فيه، فإن زاد على ذلك حتى اشتد السواد فهو جون. وادهم الفرس ادهماما أي صار أدهم. وادهام الشيء ادهيماما أي اسواد، قال الله تعالى: "مدهامتان" أي سوداوان من شدة الخضرة من الري، والعرب تقول لكل أخضر أسود. وقال لبيد يرثي قتلى هوازن:
وجاؤوا به في هودج ووراءه كتائب خضر في نسيج السنور
السنور لبوس من قد كالدرع. وسميت قرى العراق سوادا لكثرة خضرتها. ويقال لليل المظلم: أخضر ويقال: أباد الله خضراءهم أي سوادهم.
الآية: 66 - 69 {فيهما عينان نضاختان، فبأي آلاء ربكما تكذبان، فيهما فاكهة ونخل ورمان، فبأي آلاء ربكما تكذبان}
قوله تعالى: "فيهما عينان نضاختان" أي فوارتان بالماء، عن ابن عباس. والنضخ بالخاء أكثر من النضح بالحاء. وعنه أن المعنى نضاختان بالخير والبركة، وقاله الحسن ومجاهد. ابن مسعود وابن عباس أيضا وأنس: تنضخ على أولياء الله بالمسك والعنبر والكافور في دور أهل الجنة كما ينضخ رش المطر. وقال سعيد بن جبير: بأنواع الفواكه والماء. الترمذي: قالوا بأنواع الفواكه والنعم والجواري المزينات والدواب المسرجات والثياب الملونات. قال الترمذي: وهذا يدل على أن النضخ أكثر من الجري. وقيل: تنبعان ثم تجريان.
قال بعض العلماء: ليس الرمان والنخل من الفاكهة، لأن الشيء لا يعطف على نفسه إنما يعطف على غيره وهذا ظاهر الكلام. وقال الجمهور: هما من الفاكهة وإنما أعاد ذكر النخل والرمان لفضلهما وحسن موقعهما على الفاكهة، كقوله تعالى: "حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى" [البقرة: 238] وقول: "من كان عدوا لله وملائكته ورسله وجبريل وميكال" [البقرة: 98] وقد تقدم. وقيل: إنما كررها لأن النخل والرمان كانا عندهم في ذلك الوقت بمنزلة البر عندنا، لأن النخل عامة قوتهم، والرمان كالثمرات، فكان يكثر غرسهما عندهم لحاجتهم إليهما، وكانت الفواكه عندهم من ألوان الثمار التي يعجبون بها، فإنما ذكر الفاكهة ثم ذكر النخل والرمان لعمومهما وكثرتهما عندهم من المدينة إلى مكة إلى ما والاها من أرض اليمن، فأخرجهما في الذكر من الفواكه وأفرد الفواكه على حدتها. وقيل: أفردا بالذكر لأن النخل ثمره فاكهة وطعام، والرمان فاكهة ودواء، فلم يخلصا للتفكه، ومنه قال أبو حنيفة رحمه الله: إذا حلف أن لا يأكل فاكهة فأكل رمانا أو رطبا لم يحنث. وخالفه صاحباه والناس. قال ابن عباس: الرمانة في الجنة مثل البعير المقتب. وذكر ابن المبارك قال: أخبرنا سفيان عن حماد عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: نخل الجنة جذوعها زمرد أخضر، وكرانيفها ذهب أحمر، وسعفها كسوة لأهل الجنة، منها مقطعاتهم وحللهم، وثمرها أمثال القلال والدلاء، أشد بياضا من اللبن، وأحلى من العسل، وألين من الزبد، ليس فيه عجم. قال: وحدثنا المسعودي عن عمرو بن مرة عن أبي عبيدة، قال: نخل الجنة نضيد من أصلها إلى فرعها، وثمرها أمثال القلال كلما نزعت ثمرة عادت مكانها أخرى، وإن ماءها ليجري في غير أخدود، والعنقود اثنا عشر ذراعا.