تفسير الشوكاني تفسير الصفحة 533 من المصحف



فتح القدير - صفحة القرآن رقم 533

532

41- "يعرف المجرمون بسيماهم" هذه الجملة جارية مجرى التعليل لعدم السؤال. السيما: العلامة. قال الحسن: سيماهم سواد الوجوه وزرقة الأعين، كما في قوله: " ونحشر المجرمين يومئذ زرقا " وقال: " يوم تبيض وجوه وتسود وجوه " وقيل سيماهم ما يعلوهم من الحزن والكآبة "فيؤخذ بالنواصي والأقدام" الجار والمجرور في محل رفع على أنه النائب، والنواصي شعور مقدم الرؤوس، والمعنى: أنها تجعل الأقدام مضمونة إلى النواصي، وتلقيهم الملائكة في النار. قال الضحاك: يجمع بين ناصيته وقدمه في سلسلة من وراء ظهره، وقيل تسحبهم الملائكة إلى النار، تارة تأخذ بنواصيهم وتجرهم على وجوههم، وتارة تأخذ بأقدامهم وتجرهم على رؤوسهم.
42- "فبأي آلاء ربكما تكذبان" فإن من جملتها هذا الترهيب الشديد والوعيد البالغ الذي ترجف له القلوب وتضطرب لهوله الأحشاء.
43- "هذه جهنم التي يكذب بها المجرمون" أي يقال لهم عند ذلك هذه جهنم التي تشاهدونها وتنظرون إليها مع أنكم كنتم تكذبون بها وتقولون إنها لا تكون، والجملة مستأنفة جواب سؤال مقدر، كأنه قيل: فماذا يقال لهم عند الأخذ بالنواصي والأقدام. فقيل يقال لهم هذه جهنم تقريعاً لهم وتوبيخاً.
44- "يطوفون بينها" أي بين جهنم فتحرقهم "وبين حميم آن" فتنصب على وجوههم، والحميم: الماء الحار، والآن: الذي قد انتهى حره وبلغ غايته. كذا قال الفراء: قال الزجاج: أنى يأنى أنى فهو آن: إذا انتهى في النضج والحرارة، ومنه قول النابغة الذبياني: وتخضب لحية غدرت وخانت بأحمر من نجيع الجوف آن وقيل هو واد من أودية جهنم فيه صديد أهل النار، فيغمسون فيه. قال قتادة: يطوفون مرة في الحميم ومرة بين الجحيم.
45- "فبأي آلاء ربكما تكذبان" فإن من جلمتها النعمة الحاصلة بهذا التخويف وما يحصل به من الترغيب في الخير والترهيب عن الشر. وقد أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ في العظمة وابن مردويه والبيهقي في الأسماء والصفات عن ابن عباس في قوله: "ذو الجلال والإكرام" قال ذو الكبرياء والعظمة. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عنه "يسأله من في السموات" قال: مسألة عباده إياه الرزق والموت والحياة كل يوم هو في ذلك. وأخرج الحسن بن سفيان في مسنده والبزار وابن جرير والطبراني وأبو الشيخ في العظمة وابن منده وابن مردويه وأبو نعيم وابن عساكر عن عبد الله بن منيب قال: "تلا علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية: " كل يوم هو في شأن " فقلنا: يا رسول الله وما ذلك الشأن؟ قال: أن يغفر ذنباً ويفرج كرباً، ويرفع قوماً ويضع آخرين" وأخرج البخاري في تاريخه وابن ماجه وابن أبي عاصم والبزار وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن حبان والطبراني وأبو الشيخ في العظمة وابن مردويه وابن عساكر والبيهقي في الشعب عن أبي الدرداء عن النبي صلى الله عليه وسلم في الآية قال: "من شأنه أن يغفر ذنباً ويفرج كرباً ويرفع قوماً ويضع آخرين" زاد البزار ويجيب داعياً وقد رواه البخاري تعليقاً، وجعله من كلام أبي الدرداء. وأخرج البزار عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم في الآية قال: يغفر ذنباً ويفرج كرباً. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في الأسماء والصفات عن ابن عباس في قوله: " سنفرغ لكم أيها الثقلان " قال: هذا وعيد من الله لعباده، وليس بالله شغل، وفي قوله: "لا تنفذون إلا بسلطان" يقول: لا تخرجون من سلطاني. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه في قوله: "يرسل عليكما شواظ من نار" قال: لهب النار "ونحاس" قال: دخان النار. وأخرج ابن جرير عنه أيضاً ونحاس: قال الصفر يعذبون به. وأخرج ابن أبي حاتم عنه "فكانت وردة" يقول حمراء "كالدهان" قال: هو الأديم الأحمر. وأخرج الفريابي وسعيد بن منصور وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه أيضاً "فكانت وردة كالدهان" قال: مثل لون الفرس الورد. وأخرج ابن أبي حاتم عنه أيضاً في قوله: "فيومئذ لا يسأل عن ذنبه إنس ولا جان" قال: لا يسألهم هل عملتم كذا وكذا، لأنه أعلم بذلك منهم، ولكن يقول لهم لم عملتم كذا وكذا. وأخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه والبيهقي في البعث والنشور عنه أيضاً في قوله: "فيؤخذ بالنواصي والأقدام" قال: تأخذ الزبانية بناصيته وقدميه ويجمع فيكسر كما يكسر الحطب في التنور. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه أيضاً في قوله: "وبين حميم آن" قال: هو الذي انتهى حره.
لما فرغ سبحانه من تعداد النعم الدنيوية على الثقلين ذكر نعمه الأخروية التي أنعم بها عليهم: فقال: 46- "ولمن خاف مقام ربه جنتان" مقامه سبحانه هو الموقف الذي يقف فيه العباد للحساب، كما في قوله: "يوم يقوم الناس لرب العالمين" فالمقام مصدر بمعنى القيام، وقيل المعنى خاف قيام ربه عليه، وهو إشرافه على أحواله واطلاعه على أفعاله وأقواله كما في قوله: "أفمن هو قائم على كل نفس بما كسبت" قال مجاهد والنخعي: هو الرجل يهم بالمعصية فيذكر الله فيدعها من خوفه. واختلف في الجنتين، فقال مقاتل: يعني جنة عدن وجنة النعيم، وقيل إحداهما التي خلقت له والأخرى ورثها. وقيل إحداهما منزله والأخرى منزله أزواجه. وقيل إحداهما أسافل القصور والأخرى أعاليها. وقيل جنة للخائف الإنسي، وجنة للخائف الجني. وقيل جنة لفعل الطاعة وأخرى لترك المعصية، وقيل جنة للعقيدة التي يعتقدها، وأخرى للعمل الذي يعمله، وقيل جنة بالعمل وجنة لتركه شهوته، وقال الفراء: إنما هي جنة واحدة، والتثنية لأجل موافقة رؤوس الآي. قال النحاس: وهذا القول من أعظم الغلظ على كتاب الله، فإن الله يقول: "جنتان" ويصفهما بقوله فيهما الخ.
47- "فبأي آلاء ربكما تكذبان" فإن من جملتها هذه النعمة العظيمة، وهي إعطاء الخائف من مقام ربه جنتين متصفتين بالصفات الجليلة العظيمة.
48- "ذواتا أفنان" هذه صفة للجنتان، وما بينهما اعتراض، والأفنان الأغصان، واحدها فنن وهو الغصن المستقيم طولا، وبهذا قال مجاهد وعكرمة وعطية وغيرهم. وقال الزجاج: الأفنان الألوان واحدها فن، وهو الضرب من كل شيء، وبه قال عطاء وسعيد بن جبير، وجمع عطاء بين القولين، فقال في كل غصن فنون من الفاكهة، ومن إطلاق الفنن على الغصن قول النابغة: دعاء حمامة تدعو هديلا مفجعة على فنن تغني وقول الآخر: ما هاج شوقك من هدير حمامة تدعو على فنن الغصون حماما وقيل معنى "ذواتا أفنان" ذواتا فضل وسعة على ما سواهما، قاله قتادة، وقيل الأفنان: ظل الأغصان على الحيطان، روي هذا عن مجاهد وعكرمة.
49- "فبأي آلاء ربكما تكذبان" فإن كل واحد منها ليس بمحل للتكذيب ولا بموضع للإنكار.
50- "فيهما عينان تجريان" هذا أيضاً صفة أخرى لجنتان: أي في كل واحدة منهما عين جارية. قال الحسن: إحداهما السلسبيل والأخرى التسنيم. وقال عطية: إحداهما من ماء غير آسن، والأخرى من خمر لذة للشاربين، قيل كل واحدة منهما مثل الدنيا أضعافاً مضاعفة.
51- "فبأي آلاء ربكما تكذبان" فإن من جملتها هذه النعمة الكائنة في الجنة لأهل السعادة.
52- "فيهما من كل فاكهة زوجان" هذا صفة ثالثة لجنتان، والزوجان الصنفان والنوعان، والمعنى: أن في الجنتين من كل نوع يتفكه به ضربين يستلذ بكل نوع من أنواعه، قيل أحد الصنفين رطب والآخر يابس لا يقصر أحدهما عن الآخر في الفضل والطيب.
53- "فبأي آلاء ربكما تكذبان" فإن في مجرد تعداد هذه النعم ووصفها في هذا الكتاب العزيز من الترغيب إلى فعل الخير والترهيب عن فعل الشر ما لا يخفى على من يفهم، وذلك نعمة عظمى ومنة كبرى، فكيف بالتنعم به عند الوصول إليه.
54- "متكئين على فرش بطائنها من إستبرق" انتصاب متكئين على الحال من فاعل قوله: "ولمن خاف" وإنما جمع حملاً على معنى من، وقيل عاملها محذوف، والتقدير: يتنعمون متكئين. وقيل منصوب على المدح، والفرش جمع فرش، والبطائن: هي التي تحت الظهائر، وهي جمع بطانة. قال الزجاج: هي ما يلي الأرض، والإستبرق: ما غلظ من الديباج، وإذا كانت البطائن من إستبرق فكيف تكون الظهائر؟ قيل لسعيد بن جبير: الطائن من إستبرق فما الظواهر؟ قال: هذا بما قال الله فيه: "فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين" قيل إنما اقتصر على ذكر البطائن، لأنه لم يكن أحد في الأرض يعرف ما في الظهائر. وقال الحسن: بطائنها من إستبرق وظهائرها من نور جامد. وقال الحسن: البطائن هي الظهائر، وبه قال الفراء: وقال: قد تكون البطانة الظهارة والظهارة البطانة، لأن كل واحد منهما يكون وجها، والعرب تقول هذا ظهر السماء، وهذا بطن السماء لظاهرها الذي نراه، وأنكر ابن قتيبة هذا، وقال لا يكون هذا إلا في الوجهين المتساويين "وجنى الجنتين دان" مبتدأ وخبره، والجنى: ما يجتنى من الثمار، قيل إن الشجرة تدنو حتى يجنيها من يريد جناها، ومنه قول الشاعر: هذا جناي وخياره فيه إذ كل جان يده إلى فيه قرأ الجمهور "فرش" بضمتين وقرأ أبو حيوة بضمة وسكون، وقرأ الجمهور "جنى" بفتح الجيم، وقرأ عيسى بن عمر بكسرها، وقرأ عيسى أيضاً بكسر النون على الإمالة.
55- "فبأي آلاء ربكما تكذبان" فإنها كلها بموضع لا يتيسر لمكذب أن يكذب بشيء منها لما تشتمل عليه من الفوائد العاجلة والآجلة.
56- "فيهن قاصرات الطرف" أي في الجنتين المذكورتين. قال الزجاج: وإنما قال فيهن، لأنه عنى الجنتين وما أعد لصاحبهما فيهما من النعيم، وقيل فيهن: أي في الفرش التي بطائنها من إستبرق، ومعنى "قاصرات الطرف" أنهن يقصرن أبصارهن على أزواجهن لا ينظرن إلى غيرهم، وقد تقدم تفسير هذا في سورة الصافات "لم يطمثهن إنس قبلهم ولا جان" قال الفراء: الطمث الافتضاض وهو النكاح بالتدمية، يقال طمث الجارية: إذا افترعها. قال الواحدي: قال المفسرون لم يطأهن ولم يغشهم ولم يجامعهم قبلهم أحد. قال مقاتل: لأنهن خلقن في الجنة، والضمير في قبلهم يعود إلى الأزواج المدلول عليه بقاصرات الطرف، وقيل يعود إلى متكئين، والجملة في محل رفع صفة لقاصرات، لأن إضافتها لفظية، وقيل الطمث المس: أي لم يمسهن قاله أبو عمرو. وقال المبرد: أي لم يذللهن، والطمث التذليل، ومن استعمال الطمث فيما ذكره الفراء قول الفرزدق: دفعن إلي لم يطمثن قبلي وهن أصح من بيض النعام قرأ الجمهور "يطمثهن" بكسر الميم، وقرأ الكسائي بضمها، وقرأ الجحدري وطلحة بن مصرف بفتحها، وفي هذه الآية بل في كثير من آيات هذه السورة دليل أن الجن يدخلون الجنة إذا آمنوا بالله سبحانه وعملوا بفرائضه وانتهوا عن مناهيه.
57- "فبأي آلاء ربكما تكذبان" فإن في مجرد هذا الترغيب في هذه النعم نعمة جليلة ومنة عظيمة، لأن به يحصل الحرص على الأعمال الصالحة والفرار من الأعمال الطالحة فكيف بالوصول إلى هذه النعم والتنعم بها في جنات النعيم بلا انقطاع ولا زوال.
58- "كأنهن الياقوت والمرجان" هذا صفة لقاصرات، أو حال منهن، شبههن سبحانه في صفاء اللون من حمرته بالياقوت والمرجان، والياقوت هو الحجر المعروف، والمرجان قد قدمنا الكلام فيه في هذه السورة على الخلاف في كونه صغار الدر، أو الأحمر المعروف. قال الحسن: هن في صفاء الياقوت وبياض المرجان، وإنما خص المرجان على القول بأنه صغار الدر، لأن صفاءها أشد من صفاء كبار الدر.
59- "فبأي آلاء ربكما تكذبان" فإن نعمه كلها لا يتيسر تكذيب شيء منها كائنة ما كانت، فكيف بهذه النعم الجليلة والمنن الجزيلة.
60- "هل جزاء الإحسان إلا الإحسان" هذه الجملة مقررة لمضمون ما قبلها، والمعنى ما جزاء من أحسن العمل في الدنيا إلا الإحسان إليه في الآخرة، كذا قال ابن زيد وغيره. قال عكرمة: هل جزاء من قال: لا إله إلا الله إلا الجنة، وقال الصادق: هل جزاء من أحسنت إليه في الأزل إلا حفظ الإحسان عليه في الأبد. قال الرازي: في هذه الآية وجوه كثيرة حتى قيل: إن في القرآن ثلاث آيات في كل واحدة منها مائة قوله: إحداها قوله تعالى: "فاذكروني أذكركم" وثانيها "وإن عدتم عدنا" وثالثها "هل جزاء الإحسان إلا الإحسان". قال محمد بن الحنفية: هي للبر والفاجر: البر في الآخرة، والفاجر في الدنيا.
61- "فبأي آلاء ربكما تكذبان" فإن من جملتهم الإحسان إليكم في الدنيا والآخرة بالخلق والرزق والإرشاد إلى العمل الصالح والزجر عن العمل الذي لا يرضاه.
62- "ومن دونهما جنتان" أي ومن دون تينك الجنتين الموصوفتين بالصفات المتقدمة جنتان أخريان لمن دون أصحاب الجنتين السابقتين من أهل الجنة، ومعنى من دونهما: أي من أمامهما ومن قبلهما: أي هما أقرب منهما وأدنى إلى العرش، وقيل الجنتان الأوليان جنة عدن وجنة النعيم، والأخريان جنة الفردوس وجنة المأوى. قال ابن جريح: هي أربع جنات: جنتان منهما للسابقين المقربين "فيهما من كل فاكهة زوجان" وعينان تجريان، وجنتان لأصحاب اليمين "فيهما فاكهة ونخل ورمان" و"فيهما عينان نضاختان" قال ابن زيد: إن الأوليين من ذهب للمقربين، والأخريين من ورق لأصحاب اليمين.
63- "فبأي آلاء ربكما تكذبان" فإنها كلها حق ونعم لا يمكن جحدها.
64- "مدهامتان" وما بينهما اعتراض. قال أبو عبيدة والزجاج: من خضرتهما قد اسودتا من الري، وكل ما علاه السواد ريا فهو مدهم. قال مجاهد: مسودتان، والدهمة في اللغة: السواد، يقال فرس أدهم وبعير أدهم: إذا اشتدت ورقته حتى ذهب البياض الذي فيه.
65- "فبأي آلاء ربكما تكذبان" فإن جميعها نعم ظاهرة واضحة لا تجحد ولا تنكر.
66- "فيهما عينان نضاختان" النضخ فوران الماء من العين، والمعنى: أن في الجنتين المذكورتين عيني فوارتين. قال أهل اللغة: والنضخ بالخاء المعجمة أكثر من النضح بالحاء المهملة. قال الحسن ومجاهد: تنضخ على أولياء الله بالمسك والعنبر والكافور في دور أهل الجنة كما ينضخ رش المطر. وقال سعيد بن جبير: إنها تنضخ بأنواع الفواكه والماء.
67- "فبأي آلاء ربكما تكذبان" فإنها ليس بموضع للتكذيب ولا بمكان للجحد.