تفسير ابن كثير تفسير الصفحة 533 من المصحف



تفسير ابن كثير - صفحة القرآن رقم 533

533 : تفسير الصفحة رقم 533 من القرآن الكريم

** فَإِذَا انشَقّتِ السّمَآءُ فَكَانَتْ وَرْدَةً كَالدّهَانِ * فَبِأَيّ آلآءِ رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ * فَيَوْمَئِذٍ لاّ يُسْأَلُ عَن ذَنبِهِ إِنسٌ وَلاَ جَآنّ * فَبِأَيّ آلآءِ رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ * يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ فَيُؤْخَذُ بِالنّوَاصِي وَالأقْدَامِ * فَبِأَيّ آلآءِ رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ * هَـَذِهِ جَهَنّمُ الّتِي يُكَذّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ * يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ * فَبِأَيّ آلآءِ رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ
يقول تعالى: {فإذا انشقت السماء} يوم القيامة كما دلت عليه هذه الاَيات مع ما شاكلها من الاَيات الواردة في معناها كقوله تعالى: {وانشقت السماء فهي يومئذ واهية} وقوله: {ويوم تشقق السماء بالغمام ونزل الملائكة تنزيل} وقوله: {إذا السماء انشقت وأذنت لربها وحقت} وقوله تعالى: {فكانت وردة كالدهان} أي تذوب كما يذوب الدردي والفضة في السبك, وتتلون كما تتلون الأصباغ التي يدهن بها, فتارة حمراء وصفراء وزرقاء وخضراء, وذلك من شدة الأمر وهول يوم القيامة العظيم. وقد قال الإمام أحمد: حدثنا أحمد بن عبد الملك, حدثنا عبد الرحمن بن أبي الصهباء, حدثنا نافع أبو غالب الباهلي, حدثنا أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يبعث الناس يوم القيامة والسماء تطش عليهم» قال الجوهري: الطش المطر الضعيف, وقال الضحاك عن ابن عباس في قوله تعالى: {وردة كالدهان} قال: هو الأديم الأحمر, وقال أبو كدينة عن قابوس عن أبيه عن ابن عباس {فكانت وردة كالدهان} كالفرس الورد, وقال العوفي عن ابن عباس: تغير لونها, وقال أبو صالح: كالبرذون الورد, ثم كانت بعد كالدهان, وحكى البغوي وغيره أن الفرس الورد تكون في الربيع صفراء, وفي الشتاء حمراء, فإذا اشتد البرد تغير لونها, وقال الحسن البصري: تكون ألواناً. وقال السدي: تكون كلون البغلة الوردة, وتكون كالمهل كدردي الزيت, وقال مجاهد {كالدهان} كألوان الدهان, وقال عطاء الخراساني: كلون دهن الورد في الصفرة, وقال قتادة: هي اليوم خضراء ويومئذ لونها إلى الحمرة يوم ذي ألوان. وقال أبو الجوزاء: في صفاء الدهن. وقال ابن جريج: تصير السماء كالدهن الذائب وذلك حين يصيبها حر جهنم.
وقوله تعالى: {فيومئذ لا يسأل عن ذنبه إنس ولا جان} وهذه كقوله تعالى: {هذا يوم لا ينطقون ولا يؤذن لهم فيعتذرون} فهذا في حال وثم في حال يسأل الخلائق عن جميع أعمالهم, وقال الله تعالى: {فوربك لنسألنهم أجمعين عما كانوا يعملون} ولهذا قال قتادة: {فيومئذ لا يسأل عن ذنبه إنس ولا جان} قال: قد كانت مسألة ثم ختم على أفواه القوم وتكلمت أيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون, قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: لا يسألهم هل عملتم كذا وكذا, لأنه أعلم بذلك منهم, ولكن يقول: لم عملتم كذا وكذا ؟ فهذا قول ثان. وقال مجاهد في هذه الاَية: لا تسأل الملائكة عن المجرمين بل يعرفون بسيماهم, وهذا قول ثالث, وكأن هذا بعدما يؤمر بهم إلى النار فذلك الوقت لا يسألون عن ذنوبهم بل يقادون إليها ويلقون فيها كما قال تعالى: {يعرف المجرمون بسيماهم} أي بعلامات تظهر عليهم. وقال الحسن وقتادة: يعرفونهم باسوداد الوجوه وزرقة العيون. قلت: وهذا كما يعرف المؤمنون بالغرة والتحجيل من آثار الوضوء.
وقوله تعالى: {فيؤخذ بالنواصي والأقدام} أي يجمع الزبانية ناصيته مع قدميه ويلقونه في النار كذلك, وقال الأعمش عن ابن عباس: يؤخذ بناصيته وقدميه فيكسر كما يكسر الحطب في التنور, وقال الضحاك: يجمع بين ناصيته وقدميه في سلسلة من وراء ظهره, وقال السدي: يجمع بين ناصية الكافر وقدميه فتربط ناصيته بقدمه ويفتل ظهره. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي حدثنا أبو توبة الربيع بن نافع, حدثنا معاوية بن سلام عن أخيه زيد بن سلام أنه سمع أبا سلام يعني جده, أخبرني عبد الرحمن, حدثني رجل من كندة قال: أتيت عائشة فدخلت عليها وبيني وبينها حجاب فقلت: حدثك رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه يأتي عليه ساعة لا يملك فيها لأحد شفاعة ؟ قالت: نعم لقد سألته عن هذا وأنا وهو في شعار واحد قال: «نعم حين يوضع الصراط لا أملك لأحد فيها شفاعة حتى أعلم أين يسلك بي, ويوم تبيض وجوه وتسود وجوه حتى أنظر ماذا يفعل بي ـ أو قال يوحى ـ وعند الجسر حين يستحد ويستحر» فقالت: وما يستحد وما يستحر ؟ قال يستحد حتى يكون مثل شفرة السيف, ويستحر حتى يكون مثل الجمرة, فأما المؤمن فيجوزه لا يضره, وأما المنافق فيتعلق حتى إذا بلغ أوسطه خر من قدميه فيهوي بيديه إلى قدميه ـ قالت: فهل رأيت من يسعى حافياً فتأخذه شوكة حتى تكاد تنفذ قدميه, فإنه كذلك يهوي بيده ورأسه إلى قدميه فتضربه الزبانية بخطاف في ناصيته وقدمه, فتقذفه في جهنم فيهوي فيها مقدار خمسين عاماً ـ قلت: ما ثقل الرجل ؟ قالت: ثقل عشر خلقات سمان فيومئذ يعرف المجرمون بسيماهم فيؤخذ بالنواصي والأقدام». هذا حديث غريب جداً, وفيه ألفاظ منكر رفعها, وفي الإسناد من لم يسم ومثله لا يحتج به, والله أعلم.
وقوله تعالى: {هذه جهنم التي يكذب بها المجرمون} أي هذه النار التي كنتم تكذبون بوجودها, هاهي حاضرة تشاهدونها عياناً, يقال لهم ذلك تقريعاً وتوبيخاً وتصغيراً وتحقيراً. وقوله تعالى: {يطوفون بينها وبين حميم آن} أي تارة يعذبون في الجحيم وتارة يسقون من الحميم, وهو الشراب الذي هو كالنحاس المذاب يقطع الأمعاء والأحشاء, وهذه كقوله تعالى: {إذ الأغلال في أعناقهم والسلاسل يسحبون في الحميم ثم في النار يسجرون}.
وقوله تعالى: {آن} أي حار قد بلغ الغاية في الحرارة لا يستطاع من شدة ذلك, قال ابن عباس في قوله: {يطوفون بينها وبين حميم آن} أي قد انتهى غليه واشتد حره, وكذا قال مجاهد وسعيد بن جبير والضحاك والحسن والثوري والسدي وقال قتادة: قد آن طبخه منذ خلق الله السموات والأرض, وقال محمد بن كعب القرظي: يؤخذ العبد فيحرك بناصيته في ذلك الحميم حتى يذوب اللحم ويبقى العظم والعينان في الرأس وهي كالتي يقول الله تعالى: {في الحميم ثم في النار يسجرون} والحميم الاَن يعني الحار, وعن القرظي رواية أخرى {حميم آن} أي حاضر وهو قول ابن زيد أيضاً, والحاضر لا ينافي ماروي عن القرظي أولاً أنه الحار كقوله تعالى: {تسقى من عين آنية} أي حارة شديدة الحر لا تستطاع, وكقوله: {غير ناظرين إناه} يعني استواءه ونضجه فقوله: {حميم آن} أي حميم حار جداً. ولما كان معاقبة العصاة المجرمين وتنعيم المتقين من فضله ورحمته وعدله ولطفه بخلقه, وكان إنذاره لهم عن عذابه وبأسه مما يزجرهم عما هم فيه من الشرك والمعاصي وغير ذلك قال ممتناً بذلك على بريته {فبأي آلاء ربكما تكذبان ؟}.

** وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبّهِ جَنّتَانِ * فَبِأَيّ آلآءِ رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ * ذَوَاتَآ أَفْنَانٍ * فَبِأَيّ آلآءِ رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ * فِيهِمَا عَيْنَانِ تَجْرِيَانِ * فَبِأَيّ آلآءِ رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ * فِيهِمَا مِن كُلّ فَاكِهَةٍ زَوْجَانِ * فَبِأَيّ آلآءِ رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ
قال ابن شوذب وعطاء الخراساني: نزلت هذه الاَية {ولمن خاف مقام ربه جنتان} في أبي بكر الصديق, وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي حدثنا محمد بن مصفي, حدثنا بقية عن أبي بكر بن أبي مريم عن عطية بن قيس في قوله تعالى: {ولمن خاف مقام ربه جنتان} نزلت في الذي قال: أحرقوني بالنار لعلّي أضل الله قال تاب يوماً وليلة, بعد أن تكلم بهذا فقبل الله منه وأدخله الجنة, والصحيح أن هذه الاَية عامة كما قاله ابن عباس وغيره يقول الله تعالى: {ولمن خاف مقام ربه} بين يدي الله عز وجل يوم القيامة {ونهى النفس عن الهوى} ولم يطغ ولا آثر الحياة الدنيا, وعلم أن الاَخرة خير وأبقى فأدى فرائض الله واجتنب محارمه, فله يوم القيامة عند ربه جنتان, كما قال البخاري رحمه الله: حدثنا عبد الله بن أبي الأسود, حدثنا عبد العزيز بن عبد الصمد العمي, حدثنا أبو عمران الجوني عن أبي بكر بن عبد الله بن قيس, عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «جنتان من فضة آنيتهما وما فيهما, وجنتان من ذهب آنيتهما وما فيهما, وما بين القوم وبين أن ينظروا إلى ربهم عز وجل إلا رداء الكبرياء على وجهه في جنة عدن» وأخرجه بقية الجماعة إلا أبا داود من حديث عبد العزيز به, وقال حماد بن سلمة عن ثابت عن أبي بكر بن أبي موسى عن أبيه قال حماد: لا أعلمه إلا قد رفعه في قوله تعالى: {ولمن خاف مقام ربه جنتان} وفي قوله: {ومن دونهما جنتان} جنتان من ذهب للمقربين وجنتان من ورق لأصحاب اليمين.
وقال ابن جرير: حدثنا زكريا بن يحيى بن أبان المقري, حدثنا ابن أبي مريم, أخبرنا محمد بن جعفر عن محمد بن أبي حرملة عن عطاء بن يسار أخبرني أبو الدرداء أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ يوماً هذه الاَية {ولمن خاف مقام ربه جنتان} فقلت: وإن زنى وإن سرق ؟ فقال: {ولمن خاف مقام ربه جنتان} فقلت: وإن زنى وإن سرق فقال: {ولمن خاف مقام ربه جنتان} فقلت: وإن زنى وإن سرق يا رسول الله ؟ فقال: «وإن رغم أنف أبي الدرداء» ورواه النسائي من حديث محمد بن أبي حرملة به, ورواه النسائي أيضاً عن مؤمل بن هشام عن إسماعيل عن الجريري, عن موسى عن محمد بن سعد بن أبي وقاص عن أبي الدرداء به, وقد روي موقوفاًعلى أبي الدرداء, وروي عنه أنه قال: إن من خاف مقام ربه لم يزن ولم يسرق. وهذه الاَية عامة في الإنس والجن, فهي من أدل دليل على أن الجن يدخلون الجنة إذا آمنوا واتقوا, ولهذا امتن الله تعالى على الثقلين بهذا الجزاء فقال: {ولمن خاف مقام ربه جنتان * فبأي آلاء ربكما تكذبان} ثم نعت هاتين الجنتين فقال: {ذواتا أفنان} أي أغصان نضرة حسنة تحمل من كل ثمرة نضيجة فائقة {فبأي آلاء ربكما تكذبان ؟} هكذا قال عطاء الخراساني وجماعة أن الأفنان أغصان الشجر يمس بعضها بعضاً, وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي, حدثنا عمرو بن علي, حدثنا مسلم بن قتيبة, حدثنا عبد الله بن النعمان, سمعت عكرمة يقول: {ذواتا أفنان} يقول: ظل الأغصان على الحيطان, ألم تسمع قول الشاعر:
ما هاج شوقك من هديل حمامةتدعو على فنن الغصون حماماتدعو أبا فرخين صادف طاوياًذا مخلبين من الصقور قطاما
وحكى البغوي عن مجاهد وعكرمة والضحاك والكلبي, أنه الغصن المستقيم, قال: وحدثنا أبو سعيد الأشج, حدثنا عبد السلام بن حرب, حدثنا عطاء بن السائب, عن سعيد بن جبير عن ابن عباس: ذواتا أفنان ذواتا ألوان, قال: وروي عن سعيد بن جبير والحسن والسدي وخصيف والنضر بن عربي وابن سنان مثل ذلك, ومعنى هذا القول أن فيهما فنوناً من الملاذ, واختاره ابن جرير, وقال عطاء: كل غصن يجمع فنوناً من الفاكهة, وقال الربيع بن أنس {ذواتا أفنان} واسعتا الفنان وكل هذه الأقوال صحيحة ولا منافاة بينها, والله أعلم, وقال قتادة: ذواتا أفنان يعني بسعتها وفضلها ومزيتها على ما سواها, وقال محمد بن إسحاق عن يحيى بن عباد بن عبد الله بن الزبير عن أبيه عن أسماء بنت أبي بكر قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم وذكر سدرة المنتهى, فقال: «يسير في ظل الفنن منها الراكب مائة سنة ـ أو قال يستظل في ظل الفنن منها مائة راكب ـ فيها فراش الذهب كأن ثمرها القلال». ورواه الترمذي من حديث يونس بن بكير به.
وقال حماد بن سلمة عن ثابت عن أبي بكر بن أبي موسى عن أبيه, قال حماد: ولا أعلمه إلا قد رفعه في قوله: {ولمن خاف مقام ربه جنتان} وفي قوله: {ومن دونهما جنتان} قال: جنتان من ذهب للمقربين, وجنتان من ورق لأصحاب اليمين. {فيهما عينان تجريان} أي تسرحان لسقي تلك الأشجار والأغصان فتثمر من جميع الألوان {فبأيء آلاء ربكما تكذبان} قال الحسن البصري: إحداهمايقال لها تسنيم, والأخرى السلسبيل. وقال عطية: إحداهما من ماء غير آسن, والأخرى من خمر لذة للشاربين, ولهذا قال بعد هذا: {فيهما من كل فاكهة زوجان} أي من جميع أنواع الثمار مما يعلمون وخير مما يعلمون, ومما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر {فبأي آلاء ربكما تكذبان}. قال إبراهيم بن الحكم بن أبان عن أبيه عن عكرمة عن ابن عباس, ما في الدنيا ثمرة حلوة ولا مرة إلا وهي في الجنة حتى الحنظل, وقال ابن عباس: ليس في الدنيا مما في الاَخرة إلا الأسماء يعني أن بين ذلك بوناً عظيماً وفرقاً بيناً في التفاضل.

** مُتّكِئِينَ عَلَى فُرُشٍ بَطَآئِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ وَجَنَى الْجَنّتَيْنِ دَانٍ * فَبِأَيّ آلآءِ رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ * فِيهِنّ قَاصِرَاتُ الطّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنّ إِنسٌ قَبْلَهُمْ وَلاَ جَآنّ * فَبِأَيّ آلآءِ رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ * كَأَنّهُنّ الْيَاقُوتُ وَالْمَرْجَانُ * فَبِأَيّ آلآءِ رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ * هَلْ جَزَآءُ الإِحْسَانِ إِلاّ الإِحْسَانُ * فَبِأَيّ آلآءِ رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ
يقول تعالى: {متكئين} يعني أهل الجنة, والمراد بالاتكاء ههنا الاضطجاع ويقال: الجلوس على صفة التربيع {على فرش بطائنها من إستبرق} وهو ما غلظ من الديباج, قاله عكرمة والضحاك وقتادة وقال أبو عمران الجوني, هو الديباج المزين بالذهب, فنبه على شرف الظهارة بشرف البطانة, فهذا من التنبيه بالأدنى على الأعلى. قال أبو إسحاق عن هبيرة بن مريم عن عبد الله بن مسعود قال: هذه البطائن, فكيف لو رأيتم الظواهر. وقال مالك بن دينار: بطائنها من إستبرق وظواهرها من نور, وقال سفيان الثوري أو شريك: بطائنها من إستبرق وظواهرها من نور جامد, وقال القاسم بن محمد: بطائنها من إستبرق وظواهرها من الرحمة, وقال ابن شوذب عن أبي عبد الله الشامي: ذكر الله البطائن ولم يذكر الظواهر, وعلى الظواهر المحابس ولا يعلم ما تحت المحابس إلا الله تعالى, ذكر ذلك كله الإمام ابن أبي حاتم رحمه الله, {وجنى الجنتين دان} أي ثمرهما قريب إليهم متى شاءوا تناولوه على أي صفة كانوا, كما قال تعالى: {قطوفها دانية} وقال {ودانية عليهم ظلالها وذللت قطوفها تذليل} أي لا تمتنع ممن تناولها بل تنحط إليه من أغصانها {فبأي آلاء ربكما تكذبان ؟} ولما ذكر الفرش وعظمتها قال بعد ذلك {فيهن} أي في الفرش {قاصرات الطرف} أي غضيضات عن غير أزواجهن فلا يرين شيئاً في الجنة أحسن من أزواجهن, قاله ابن عباس وقتادة وعطاء الخراساني وابن زيد, وقد ورد أن الواحدة منهن تقول لبعلها: والله ما أرى في الجنة شيئاً أحسن منك. ولا في الجنة شيئاً أحب إلي منك فالحمد لله الذي جعلك لي وجعلني لك.
{لم يطمثهن إنس قبلهم ولا جان} أي بل هن أبكار عرب أتراب لم يطأهن أحد قبل أزواجهن من الإنس والجن, وهذه أيضاً من الأدلة على دخول مؤمني الجن الجنة, وقال أرطاة بن المنذر: سئل ضمرة بن حبيب هل يدخل الجن الجنة ؟ قال: نعم وينكحون, للجن جنيات وللإنس إنسيات, وذلك قوله: {لم يطمثهن إنس قبلهم ولا جان * فبأي آلاء ربكما تكذبان}. ثم قال ينعتهن للخطاب {كأنهن الياقوت والمرجان} قال مجاهد والحسن وابن زيد وغيرهم: في صفاء الياقوت وبياض المرجان, فجعلوا المرجان ههنا اللؤلؤ. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي حدثنا محمد بن حاتم, حدثنا عبيدة بن حميد عن عطاء بن السائب عن عمرو بن ميمون الأودي, عن عبد الله بن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن المرأة من نساء أهل الجنة ليرى بياض ساقيها من وراء سبعين حلة من حرير حتى يرى مخها» وذلك قول الله تعالى: {كأنهن الياقوت والمرجان} فأما الياقوت فإنه حجر لو أدخلت فيه سلكا ثم استصفيته لرأيته من ورائه, وهكذا رواه الترمذي من حديث عبيدة بن حميد وأبي الأحوص عن عطاء بن السائب به, ورواه موقوفاً ثم قال: وهو أصح.
وقال الإمام أحمد: حدثنا عفان, حدثنا حماد بن سلمة, أخبرنا يونس عن محمد بن سيرين عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «للرجل من أهل الجنة زوجتان من الحور العين على كل واحدة سبعون حلة, يرى مخ ساقها من وراء الثياب» تفرد به الإمام أحمد من هذا الوجه. وقد روى مسلم حديث إسماعيل بن علية عن أيوب عن محمد بن سيرين قال: إما تفاخروا وإما تذاكروا, الرجال أكثر في الجنة أم النساء ؟ فقال أبو هريرة: أولم يقل أبو القاسم صلى الله عليه وسلم: «إن أول زمرة تدخل الجنة على صورة القمر ليلة البدر والتي تليها على ضوء كوكب دري في السماء, لكل امرىء منهم زوجتان اثنتان يرى مخ سوقهما من وراء اللحم وما في الجنة أعزب» وهذا الحديث مخرج في الصحيحين من حديث همام بن منبه وأبي زرعة عن أبي هريرة رضي الله عنه وقال الإمام أحمد: حدثنا أبو النضر, حدثنا محمد بن طلحة عن حميد عن أنس, أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لغدوة في سبيل الله أو روحة خير من الدنيا وما فيها, ولقاب قوس أحدكم أو موضع قيده ـ يعني سوطه ـ من الجنة خير من الدنيا وما فيها, ولو اطلعت امرأة من نساء أهل الجنة إلى الأرض لملأت ما بينهما ريحاً ولطاب ما بينهما, ولنصيفها على رأسها خير من الدنيا وما فيها» ورواه البخاري من حديث أبي إسحاق عن حميد عن أنس بنحوه.
وقوله تعالى: {هل جزاء الإحسان إلا الإحسان} أي لا لمن أحسن العمل في الدنيا إلا الإحسان إليه في الاَخرة, كما قال تعالى: {للذين أحسنوا الحسنى وزيادة} وقال البغوي, حدثنا أبو سعيد الشريحي, حدثنا أبو إسحاق الثعلبي, أخبرني ابن فنجويه, حدثنا ابن شيبة, حدثنا إسحاق بن إبراهيم بن بهرام, حدثنا الحجاج بن يوسف المكتب, حدثنا بشر بن الحسين عن الزبير بن عدي عن أنس بن مالك قال: قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم {هل جزاء الإحسان إلا الإحسان} وقال «هل تدرون ما قال ربكم ؟» قالوا: الله ورسوله أعلم. قال «يقول هل جزاء من أنعمت عليه بالتوحيد إلا الجنة» ولما كان في الذي ذكر نعم عظيمة لا يقاومها عمل بل مجرد تفضل وامتنان قال بعد ذلك كله {فبأي آلاء ربكما تكذبان ؟} ومما يتعلق بقوله تعالى: {ولمن خاف مقام ربه جنتان} ما رواه الترمذي والبغوي من حديث أبي النضر هاشم بن القاسم عن أبي عقيل الثقفي, عن أبي فروة يزيد بن سنان الرهاوي عن بكير بن فيروز عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من خاف أدلج, ومن أدلج بلغ المنزل ألا إن سلعة الله غالية, ألا إن سلعة الله الجنة» ثم قال الترمذي: غريب لا نعرفه إلا من حديث أبي النضر وروى البغوي من حديث علي بن حجر عن إسماعيل بن جعفر عن محمد بن أبي حرملة مولى حويطب بن عبد العزى, عن عطاء بن يسار, عن أبي الدرداء أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقص على المنبر وهو يقول: {ولمن خاف مقام ربه جنتان} فقلت: وإن زنى وإن سرق يا رسول الله ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم {ولمن خاف مقام ربه جنتان} فقلت الثانية: وإن زنى وإن سرق يا رسول الله فقال {ولمن خاف مقام ربه جنتان} فقلت الثالثة: وإن زنى وإن سرق يارسول الله ؟ فقال «وإن رغم أنف أبي الدرداء».