تفسير القرطبي الجامع لأحكام القرآن تفسير الصفحة 543 من المصحف



تفسير القرطبي - صفحة القرآن رقم 543

543- تفسير الصفحة رقم543 من المصحف
الآية: 7 {ألم تر أن الله يعلم ما في السماوات وما في الأرض ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم ولا خمسة إلا هو سادسهم ولا أدنى من ذلك ولا أكثر إلا هو معهم أين ما كانوا ثم ينبئهم بما عملوا يوم القيامة إن الله بكل شيء عليم}
قوله تعالى: "ألم تر أن الله يعلم ما في السماوات وما في الأرض" فلا يخفى عليه سر ولا علانية. "ما يكون من نجوى" قراءه العامة بالياء، لأجل الحائل بينهما. وقرأ أبو جعفر بن القعقاع والأعرج وأبو حيوة وعيسى "ما تكون" بالتاء لتأنيث الفعل. والنجوى: السرار، وهو مصدر والمصدر قد يوصف به، يقال: قوم نجوى أي ذوو نجوى، ونجوى، ومنه قوله تعالى: "وإذ هم نجوى" [الإسراء: 47]. وقوله تعالى: "ثلاثة" خفض بإضافة "نجوى" إليها. قال الفراء: "ثلاثة" نعت للنجوى فانخفضت وإن شئت أضفت "نجوى" إليها. ولو نصب على إضمار فعل جاز، وهي قراءة ابن أبي عبلة "ثلاثة" و"خمسة" بالنصب على الحال بإضمار يتناجون، لأن نجوى يدل عليه، قال الزمخشري. ويجوز رفع "ثلاثة" على البدل من موضع "نجوى". ثم قيل: كل سرار نجوى. وقيل: النجوى ما يكون من خلوة ثلاثة يسرون شيئا ويتناجون به. والسرار ما كان بين اثنين. "إلا هو رابعهم" يعلم ويسمع نجواهم، يدل عليه آفتتاح الآية بالعلم ثم ختمها بالعلم. وقيل: النجوى من النجوة وهي ما ارتفع من الأرض، فالمتناجيان يتناجيان ويخلوان بسرهما كخلو المرتفع من الأرض عما يتصل به، والمعنى: أن سمع الله محيط بكل كلام، وقد سمع الله مجادلة المرأة التي ظاهر منها زوجها. "ولا أدنى من ذلك ولا أكثر" قرأ سلام ويعقوب وأبو العالية ونصر وعيسى بالرفع على موضع "من نجوى" قبل دخول "من" لأن تقديره ما يكون نجوى، و"ثلاثة يجوز أن يكون مرفوعا على محل "لا" مع "أدنى" كقولك: لا حول ولا قوة إلا بالله بفتح الحول ورفع القوة. ويجوز أن يكونا مرفوعين على الابتداء، كقولك لا حول ولا قوة إلا بالله. وقد مضى في "البقرة" بيان هذا مستوفى.
وقرأ الزهري وعكرمة "أكبر" بالباء. والعامة بالثاء وفتح الراء على اللفظ وموضعها جر. وقال الفراء في قوله: "ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم ولا خمسة إلا هو سادسهم" قال: المعنى غير مصمود والعدد غير مقصود لأنه تعالى إنما قصد وهو أعلم أنه مع كل عدد قل أو كثر، يعلم ما يقولون سرا وجهرا ولا تخفى عليه خافية، فمن أجل ذلك آكتفى بذكر بعض العدد دون بعض. وقيل: معنى ذلك أن الله معهم بعلمه حيث كانوا من غير زوال ولا انتقال. ونزل ذلك في قوم من المنافقين كانوا فعلوا شيئا سرا فأعلم الله أنه لا يخفي عليه ذلك، قال ابن عباس. وقال قتادة ومجاهد: نزلت في اليهود. "ثم ينبئهم" يخبرهم "بما عملوا" من حسن وسيء "يوم القيامة إن الله بكل شيء عليم".
الآية: 8 {ألم تر إلى الذين نهوا عن النجوى ثم يعودون لما نهوا عنه ويتناجون بالإثم والعدوان ومعصية الرسول وإذا جاؤوك حيوك بما لم يحيك به الله ويقولون في أنفسهم لولا يعذبنا الله بما نقول حسبهم جهنم يصلونها فبئس المصير}
قوله تعالى: "ألم تر إلى الذين نهوا عن النجوى" قيل: إن هذا في اليهود والمنافقين حسب ما قدمناه. وقيل: في المسلمين. قال ابن عباس: نزلت في اليهود والمنافقين كانوا يتناجون فيما بينهم، وينظرون للمؤمنين ويتغامزون بأعينهم، فيقول المؤمنون: لعلهم بلغهم عن إخواننا وقرابتنا من المهاجرين والأنصار قتل أو مصيبة أو هزيمة، ويسوءهم ذلك فكثرت شكواهم إلى النبي صلى ا لله عليه وسلم، فنهاهم عن النجوى فلم ينتهوا فنزلت. وقال مقاتل: كان بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين اليهود موادعة، فإذا مر بهم رجل من المؤمنين تناجوا بينهم حتى يظن المؤمن شرا، فيعرج عن طريقه، فنهاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم ينتهوا فنزلت. وقال عبدالرحمن بن زيد بن أسلم: كان الرجل يأتي النبي صلى الله عليه وسلم فيسأل الحاجة ويناجيه والأرض يومئذ حرب، فيتوهمون أنه يناجيه في حرب أو بلية أو أمر مهم فيفزعون لذلك فنزلت.
روى أبو سعيد الخدري قال: كنا ذات ليلة نتحدث إذ خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (ما هذه النجوى ألم تنهوا عن النجوى) فقلنا: تبنا إلى الله يا رسول الله، إنا كنا في ذكر المسيخ - يعني الدجال - فرقا منه. فقال: (ألا أخبركم بما هو أخوف عندي منه) قلنا: بلى يا رسول الله، قال: (الشرك الحفي أن يقوم الرجل يعمل لمكان رجل) ذكره الماوردي. وقرأ حمزة وخلف ورويس عن يعقوب "وينتجون" في وزن يفتعلون وهي قراءة عبدالله وأصحابه. وقرأ الباقون "ومتناجون" في وزن يتفاعلون، واختاره أبو عبيد وأبو حاتم، لقوله تعالى: "إذا تناجيتم" [المجادلة: 9] و"تناجوا". النحاس: وحكى سيبويه أن تفاعلوا وافتعلوا يأتيان بمعنى واحد، نحو تخاصموا واختصموا، وتقاتلوا واقتتلوا فعلى هذا "يتناجون" و"ينتجون" واحد. ومعنى "بالإثم والعدوان" أي الكذب والظلم. "ومعصية الرسول" أي مخالفته. وقرأ الضحاك ومجاهد وحميد "ومعصيات الرسول" بالجمع.
قوله تعالى: "وإذا جاؤوك حيوك بما لم يحيك به الله" لا خلاف بين النقلة أن المراد بها اليهود، كانوا يأتون النبي صلى الله عليه وسلم فيقولون: السلام عليك. يريدون بذلك السلام ظاهرا وهم يعنون الموت باطنا، فيقول النبي صلى الله عليه وسلم: (عليكم) في رواية، وفي رواية أخرى (وعليكم). قال ابن العربي: وهي مشكلة. وكانوا يقولون: لو كان محمد نبيا لما أمهلنا الله بسبه والاستخفاف به، وجهلوا أن الباري تعالى حليم لا يعاجل من سبه، فكيف من سب نبيه. وقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا أحد أصبر على الأذى من الله يدعون له الصاحبة والولد وهو يعافيهم ويرزقهم) فأنزل الله تعالى هذا كشفا لسرائرهم، وفضحا لبواطنهم، معجزة لرسول صلى الله عليه وسلم. وقد ثبت عن قتادة عن أنس أن يهوديا أتى على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى أصحابه فقال: السام عليكم. فرد عليه النبي صلى الله عليه وسلم وقال: (أتدرون ما قال هذا) قالوا: الله ورسول أعلم. قال: (قال كذا ردوه علي) فردوه، قال: (قلت السام عليكم) قال: نعم. فقال النبي صلى الله عليه وسلم عند ذلك: (إذا سلم عليكم أهل الكتاب فقولوا عليك ما قلت) فأنزل الله تعالى: "وإذا جاؤوك حيوك بما لم يحيك به الله".
قلت: خرجه الترمذي وقال هذا حديث حسن صحيح. وثبت عن عائشة أنها قالت: جاء أناس من اليهود إلى النبي صلى ا لله عليه وسلم فقالوا: السام عليك يا أبا القاسم. فقلت: السام عليكم وفعل الله بكم وفعل. فقال عليه السلام: (مه يا عائشة فإن الله لا يحب الفحش ولا التفحش) فقلت: يا رسول الله ألست ترى ما يقولون؟ فقال: (ألست ترين أرد عليهم ما يقولون أقول وعليكم) فنزلت هذه الآية "بما لم يحيك به الله" أي إن الله سلم عليك وهم يقولون السام عليك، والسام الموت. خرجه البخاري ومسلم بمعناه. وفي الصحيحين من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا سلم عليكم أهل الكتاب فقولوا وعليكم) كذا الرواية (وعليكم) بالواو تكلم عليها العلماء، لأن الواو العاطفة يقتضي التشريك فيلزم منه أن يدخل معهم فيما دعوا به علينا من الموت، أو من سأمه ديننا وهو الملال. يقال: سئم يسأم سأمه وسأما. فقال بعضهم: الواو زائدة كما زيدت في قول الشاعر:
فلما أجزنا ساحة الحي وانتحى
أي لما أجزنا أنتحى فزاد الواو. وقال بعضهم: هي للاستئناف، كأنه قال: والسام عليكم. وقال بعضهم: هي على بابها من العطف ولا يضرنا ذلك، لأنا نجاب عليهم ولا يجابون علينا، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم. روى الزبير أنه سمع جابر بن عبدالله يقول: سلم ناس من يهود على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا: السام عليك يا أبا القاسم، فقال: (وعليكم) فقالت عائشة وغضبت: ألم تسمع ما قالوا؟ قال: (بلى قد سمعت فرددت عليهم وإنا نجاب عليهم ولا يجابون علينا) خرجه مسلم. ورواية الواو أحسن معنى، وإثباتها أصح رواية وأشهر.
وقد اختلف في رد السلام على أهل الذمة هل هو واجب كالرد على المسلمين، وإليه ذهب ابن عباس والشعبي وقتادة، للأمر بذلك. وذهب مالك فيما روى عنه أشهب وابن وهب إلى أن ذلك ليس بواجب فإن رددت فقل عليك. وقد اختار ابن طاوس أن يقول في الرد عليهم: علاك السلام أي ارتفع عنك. واختار بعض أصحابنا: السِّلام بكسر السين يعني الحجارة. وما قال مالك أولى اتباعا للسنة، والله أعلم. وروى مسروق عن عائشة قالت: أتى النبي صلى ا لله عليه وسلم ناس من اليهود، فقالوا: السام عليك يا أبا القاسم، قال: (وعليكم) قالت عائشة: قلت بل عليكم السام والذام. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يا عائشة لا تكوني فاحشة) فقالت: ما سمعت ما قالوا! فقال: (أو ليس قد رددت عليهم الذي قالوا قلت وعليكم). وفي رواية قال: ففطنت بهم عائشة فسبتهم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (مه يا عائشة فإن الله لا يحب الفحش والتفحش) وزاد فأنزل الله تبارك وتعالى: "وإذا جاؤوك حيوك بما لم يحيك به الله" إلى آخر الآية. الذام بتخفيف الميم هو العيب، وفي المثل (لا تعدم الحسنات ذاما) أي عيبا، ويهمز ولا يهمز، يقال: ذأمه يذأمه، مثل ذأب يذأب، والمفعول مذؤوم مهموزا، ومنه "مذؤوما مدحورا" [الأعراف: 18] ويقال: ذامه يذومه مخففا كرامه يرومه.
قوله تعالى: "ويقولون في أنفسهم لولا يعذبنا الله بما نقول" قالوا: لو كان محمد نبيا لعذبنا الله بما نقول فهلا يعذبنا الله. وقيل: قالوا إنه يرد علينا ويقول وعليكم السام والسام الموت، فلو كان نبيا لاستجيب له فينا ومتنا. وهذا موضع تعجب منهم، فإنهم كانوا أهل كتاب، وكانوا يعلمون أن الأنبياء قد يغضبون فلا يعاجل من يغضبهم بالعذاب. "حسبهم جهنم" أي كافيهم جهنم عقابا غدا "فبئس المصير" أي المرجع.
الآية: 9 {يا أيها الذين آمنوا إذا تناجيتم فلا تتناجوا بالإثم والعدوان ومعصية الرسول وتناجوا بالبر والتقوى واتقوا الله الذي إليه تحشرون}
قوله تعالى: "يا أيها الذين آمنوا إذا تناجيتم" نهى المؤمنين أن يتناجوا فيما بينهم كفعل المنافقين واليهود فقال: "يا أيها الذين آمنوا إذا تناجيتم" أي تساررتم. "فلا تتناجوا" هذه قراءة العامة. وقرأ يحيى بن وثاب وعاصم ورويس عن يعقوب "فلا تنتجوا" من الانتجاء "وتناجوا بالبر" أي بالطاعة "والتقوى" بالعفاف عما نهى الله عنه. وقيل: الخطاب للمنافقين، أي يا أيها الذين آمنوا بزعمهم. وقيل: أي يا أيها الذين آمنوا بموسى. "الذي إليه تحشرون" أي تجمعون في الآخرة.
الآية: 10 {إنما النجوى من الشيطان ليحزن الذين آمنوا وليس بضارهم شيئا إلا بإذن الله وعلى الله فليتوكل المؤمنون}
قوله تعالى: "إنما النجوى من الشيطان" أي من تزيين الشياطين "ليحزن الذين آمنوا" إذ توهموا أن المسلمين أصيبوا في السرايا، أو إذا أجروا اجتماعهم على مكايدة المسلمين، وربما كانوا يناجون النبي صلى الله عليه وسلم فيظن المسلمون أنهم ينتقصونهم عند النبي صلى الله عليه وسلم "وليس بضارهم شيئا" أي التناجي "إلا بإذن الله" أي بمشيئته وقيل: بعلمه. وعن ابن عباس: بأمره. "وعلى الله فليتوكل المؤمنون" أي يكلون أمرهم إليه، ويفوضون جميع شؤونهم إلى عونه، ويستعيذون به من الشيطان ومن كل شر، فهو الذي سلط الشيطان بالوساوس ابتلاء للعبد وامتحانا ولو شاء لصرفه عنه.
في الصحيحين عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إذا كان ثلاثة فلا يتناجى اثنان دون الواحد). وعن عبدالله بن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا كنتم ثلاثة فلا يتناجى اثنان دون الآخر حتى تختلطوا بالناس من أجل أن يحزنه) فبين في هذا الحديث غاية المنع وهي أن يجد الثالث من يتحدث معه كما فعل ابن عمر، ذلك أنه كان يتحدث مع رجل فجاء آخر يريد أن يناجيه فلم يناجه حتى دعا رابعا، فقال له وللأول: تأخرا وناجى الرجل الطالب للمناجاة. خرجه الموطأ. وفيه أيضا التنبيه على التعليل بقوله: (من أجل أن يحزنه) أي يقع في نفسه ما يحزن لأجله. وذلك بأن يقدر في نفسه أن الحديث عنه بما يكره، أو أنه لم يروه أهلا ليشركوه في حديثهم، إلى غير ذلك من ألقيات الشيطان وأحاديث النفس. وحصل ذلك كله من بقائه وحده، فإذا كان معه غيره أمن ذلك، وعلى هذا يستوي في ذلك كل الأعداد، فلا يتناجى أربعة دون واحد ولا عشرة ولا ألف مثلا، لوجود ذلك المعنى في حقه، بل وجوده في العدد الكثير أمكن وأوقع، فيكون بالمنع أولى. وإنما خص الثلاثة بالذكر، لأنه أول عدد يتأتى ذلك المعنى فيه. وظاهر الحديث يعم جميع الأزمان والأحوال، وإليه ذهب ابن عمر ومالك والجمهور. وسواء أكان التناجي في مندوب أو مباح أو واجب فإن الحزن يقع به. وقد ذهب بعض الناس إلى أن ذلك كان في أول الإسلام، لأن ذلك كان في حال المنافقين فيتناجى المنافقون دون المؤمنين، فلما فشا الإسلام سقط ذلك. وقال بعضهم: ذلك خاص بالسفر في المواضع التي لا يأمن الرجل فيها صاحبه، فأما في الحضر وبين العمارة فلا، فإنه يجد من يعينه، بخلاف السفر فإنه مظنة الاغتيال وعدم المغيث. والله أعلم.
الآية: 11 {يا أيها الذين آمنوا إذا قيل لكم تفسحوا في المجالس فافسحوا يفسح الله لكم وإذا قيل انشزوا فانشزوا يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات والله بما تعملون خبير}
قوله تعالى: "يا أيها الذين آمنوا إذا قيل لكم تفسحوا في المجالس" لما بين أن اليهود يحيونه بما لم يحيه به الله وذمهم على ذلك وصل به الأمر بتحسين الأدب في مجالسة رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى لا يضيقوا عليه المجلس، وأمر المسلمين بالتعاطف والتآلف حتى يفسح بعضهم لبعض، حتى يتمكنوا من الاستماع من رسول الله صلى الله عليه وسلم والنظر إليه. قال قتادة ومجاهد: كانوا يتنافسون في مجلس النبي صلى الله عليه وسلم، فأمروا أن يفسح بعضهم لبعض. وقال الضحاك. وقال ابن عباس: المراد بذلك مجالس القتال إذا اصطفوا للحرب. قال الحسن ويزيد بن أبي حبيب: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا قاتل المشركين تشاح أصحابه على الصف الأول فلا يوسع بعضهم لبعض، رغبة في القتال والشهادة فنزلت. فيكون كقوله: "مقاعد للقتال" [آل عمران: 121]. وقال مقاتل: كان النبي صلى الله عليه وسلم في الصفة، وكان في المكان ضيق يوم الجمعة، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يكرم أهل بدر من المهاجرين والأنصار، فجاء أناس من أهل بدر فيهم ثابت بن قيس بن شماس وقد سبقوا في المجلس، فقاموا حيال النبي صلى الله عليه وسلم على أرجلهم ينتظرون أن يوسع لهم فلم يفسحوا لهم، فشق ذلك على النبي صلى الله عليه وسلم، فقال لمن حول من غير أهل بدر: (قم يا فلان وأنت يا فلان) بعدد القائمين من أهل بدر، فشق ذلك على من أقيم، وعرف النبي صلى الله عليه وسلم الكراهية في وجوههم، فغمز المنافقون وتكلموا بأن قالوا: ما أنصف هؤلاء وقد أحبوا القرب من نبيهم فسبقوا إلى المكان، فأنزل الله عز وجل هذه الآية. "تفسحوا"أي توسعوا. وفسح فلان لأخيه في مجلسه يفسح فسحا أي وسع له، ومنه قولهم: بلد فسيح ولك في كذا فسحة، وفسح يفسح مثل منع يمنع، أي وسع في المجلس، وفسح يفسح فساحة مثل كرم يكرم كرامة أي صار واسعا، ومنه مكان فسيح.
قرأ السلمي وزر بن حبيش وعاصم "في المجالس". وقرأ قتادة وداود بن أبي هند والحسن باختلاف عنه "إذا قيل لكم تفاسحوا" الباقون "تفسحوا في المجلس" فمن جمع فلأن قوله: "تفسحوا في المجالس" ينبئ أن لكل واحد مجلسا. وكذلك إن أريد به الحرب. وكذلك يجوز أن يراد مسجد النبي صلى الله عليه وسلم وجمع لأن لكل جالس مجلسا. وكذلك يجوز إن أريد بالمجلس المفرد مجلس النبي صلى الله عليه وسلم، ويجوز أن يراد به الجمع على مذهب الجنس، كقولهم: كثر الدينار والدرهم.
قلت: الصحيح في الآية أنها عامة في كل مجلس اجتمع المسلمون فيه للخير والأجر، سواء كان مجلس حرب أو ذكر أو مجلس يوم الجمعة، فإن كل واحد أحق بمكانه الذي سبق إليه قال صلى الله عليه وسلم: (من سبق إلى ما لم يسبق إليه فهو أحق به) ولكن يوسع لأخيه ما لم يتأذ فيخرجه الضيق عن موضعه. روى البخاري ومسلم عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يقيم الرجل الرجل من مجلسه ثم يجلس فيه). وعنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى أن يقام الرجل من مجلسه ويجلس فيه آخر، ولكن تفسحوا وتوسعوا. وكان ابن عمر يكره أن يقوم الرجل من مجلسه ثم يجلس مكانه. لفظ البخاري.
إذا قعد واحد من الناس في موضع من المسجد لا يجوز لغيره أن يقيمه حتى يقعد مكانه، لما روى مسلم عن أبي الزبير عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يقيمن أحدكم أخاه يوم الجمعة ثم يخالف إلى مقعده فيقعد فيه ولكن يقول افسحوا). فرع: القاعد في المكان إذا قام حتى يقعد غيره موضعه نظر، فإن كان الموضع الذي قام إليه مثل الأول في سماع كلام الإمام لم يكره له ذلك، وإن كان أبعد من الإمام كره له ذلك، لأن فيه تفويت حظه.
إذا أمر إنسان إنسانا أن يبكر إلى الجامع فيأخذ له مكانا يقعد فيه لا يكره، فإذا جاء الآمر يقوم من الموضع، لما روي: أن ابن سيرين كان يرسل غلامه إلى مجلس له في يوم الجمعة فيجلس له فيه، فإذا جاء قام له منه.
فرع: وعلى هذا من أرسل بساطا أو سجادة فتبسط له في موضع من المسجد.
روى مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا قام أحدكم - وفي حديث أبي عوانة من قام من مجلسه - ثم رجع إليه فهو أحق به) قال علماؤنا: هذا يدل على صحة القول بوجوب اختصاص الجالس بموضعه إلى أن يقوم منه، لأنه إذا كان أولى به بعد قيامه فقبله أولى به وأحرى. وقد قيل: إن ذلك على الندب، لأنه موضع غير متملك لأحد لا قبل الجلوس ولا بعد. وهذا فيه نظر، وهو أن يقال: سلمنا أنه غير متملك لكنه يختص به إلى أن يفرغ غرضه منه، فصار كأنه يملك منفعته، إذ قد منع غيره من يزاحمه عليه. والله أعلم.
قوله تعالى: "يفسح الله لكم " أي في قبوركم. وقيل: في قلوبكم. وقيل: يوسع عليكم في الدنيا والآخرة. "وإذا قيل انشزوا فانشزوا" قرأ نافع وابن عامر وعاصم بضم الشين فيهما. وكسر الباقون، وهما لغتان مثل "يعكفون" [الأعراف: 138] و"يعرشون" [الأعراف: 137] والمعنى انهضوا إلى الصلاة والجهاد وعمل الخير، قال أكثر المفسرين. وقال مجاهد والضحاك: إذا نودي للصلاة فقوموا إليها. وذلك أن رجالا تثاقلوا عن الصلاة فنزلت. وقال الحسن ومجاهد أيضا: أي انهضوا إلى الحرب. وقال ابن زيد: هذا في بيت النبي صلى الله عليه وسلم، كان كل رجل منهم يحب أن يكون آخر عهده بالنبي صلى الله عليه وسلم فقال الله تعالى: "وإذا قيل أنشزوا" عن النبي صلى الله عليه وسلم "فانشزوا" فإن له حوائج فلا تمكثوا. وقال قتادة: المعنى أجيبوا إذا دعيتم إلى أمر بمعروف. وهذا هو الصحيح، لأنه يعم. والنشز الارتفاع، مأخوذ من نشز الأرض وهو ارتفاعها، يقال نشز ينشز وينشز إذا انتحى من موضعه، أي ارتفع منه. وامرأة ناشز منتحية عن زوجها. وأصل هذا من النشز، والنشز هو ما ارتفع من الأرض وتنحى، ذكره النحاس.
قوله تعالى: "يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات" أي في الثواب في الآخرة وفي الكرامة في الدنيا، فيرفع المؤمن على من ليس بمؤمن والعالم على من ليس بعالم. وقال ابن مسعود: مدح الله العلماء في هذه الآية. والمعنى أنه يرفع الله الذين أوتوا العلم على الذين آمنوا ولم يؤتوا العلم "درجات" أي درجات في دينهم إذا فعلوا ما أمروا به. وقيل: كان أهل الغنى يكرهون أن يزاحمهم من يلبس الصوف فيستبقون إلى مجلس النبي صلى الله عليه وسلم فالخطاب لهم. ورأى عليه الصلاة والسلام رجلا من الأغنياء يقبض ثوبه نفورا من بعض الفقراء أراد أن يجلس إليه فقال: (يا فلان خشيت أن يتعدى غناك إليه أو فقره إليك) وبين في هذه الآية أن الرفعة عند الله تعالى بالعلم والإيمان لا بالسبق إلى صدور المجالس. وقيل: أراد بالذين أوتوا العلم الذين قرؤوا القرآن. وقال يحيى بن يحيى عن مالك: "يرفع الله الذين آمنوا منكم" الصحابة "والذين أوتوا العلم درجات" يرفع الله بها العالم والطالب للحق.
قلت: والعموم أوقع في المسألة وأولى بمعنى الآية، فيرفع المؤمن بإيمانه أولا ثم بعلمه ثانيا. وفي الصحيح أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان يقدم عبدالله بن عباس على الصحابة، فكلموا في ذلك فدعاهم ودعاه، وسألهم عن تفسير "إذا جاء نصر الله والفتح" [النصر: 1] فسكتوا، فقال ابن عباس: هو أجل رسول الله صلى الله عليه وسلم أعلمه الله إياه. فقال عمر: ما أعلم منها إلا ما تعلم. وفي البخاري عن عبدالله بن عباس قال: قدم عيينة بن حصن بن حذيفة بن بدر فنزل على ابن أخيه الحر بن قيس بن حصن، وكان من النفر الذين يدنيهم عمر، وكان القراء أصحاب مجالس عمر ومشاورته كهولا كانوا أو شبانا. الحديث وقد مضى في آخر "الأعراف". وفي صحيح مسلم أن نافع بن الحرث لقي عمر بعسفان وكان عمر يستعمله على مكة فقال: من استعملته على أهل الوتادي؟ فقال: ابن أبزى. فقال: ومن ابن أبزى؟ قال: مولى من موالينا. قال: فاستخلفت عليهم مولى! قال: إنه قارئ لكتاب الله وإنه عالم بالفرائض. قال عمر: أما إن نبيكم صلى الله عليه وسلم قد قال: (إن الله يرفع بهذا الكتاب أقواما ويضع به آخرين) وقد مضى أول الكتاب. ومضى القول في فضل العلم والعلماء في غير موضع من هذا الكتاب والحمد لله. وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (بين العالم والعابد مائة درجة بين كل درجتين حضر الجواد المضمر سبعين سنة). وعنه صلى الله عليه وسلم: (فضل العالم على العابد كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب). وعنه عليه الصلاة والسلام: (يشفع يوم القيامة ثلاثة الأنبياء ثم العلماء ثم الشهداء) فأعظم بمنزلة هي واسطة بين النبوة والشهادة بشهادة رسول الله صلى الله عليه وسلم. وعن ابن عباس: خير سليمان عليه السلام بين العلم والمال والملك فاختار العلم فأعطي المال والملك معه.