تفسير ابن كثير تفسير الصفحة 543 من المصحف



تفسير ابن كثير - صفحة القرآن رقم 543

543 : تفسير الصفحة رقم 543 من القرآن الكريم

** إِنّ الّذِينَ يُحَآدّونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ كُبِتُواْ كَمَا كُبِتَ الّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَقَدْ أَنزَلْنَآ آيَاتٍ بَيّنَاتٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مّهِينٌ * يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللّهُ جَمِيعاً فَيُنَبّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوَاْ أَحْصَاهُ اللّهُ وَنَسُوهُ وَاللّهُ عَلَىَ كُلّ شَيْءٍ شَهِيدٌ * أَلَمْ تَرَ أَنّ اللّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ مَا يَكُونُ مِن نّجْوَىَ ثَلاَثَةٍ إِلاّ هُوَ رَابِعُهُمْ وَلاَ خَمْسَةٍ إِلاّ هُوَ سَادِسُهُمْ وَلاَ أَدْنَىَ مِن ذَلِكَ وَلاَ أَكْثَرَ إِلاّ هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُواْ ثُمّ يُنَبّئُهُم بِمَا عَمِلُواْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنّ اللّهَ بِكُلّ شَيْءٍ عَلِيمٌ
يخبر تعالى عمن شاقوا الله ورسوله وعاندوا شرعه {كبتوا كما كبت الذين من قبلهم} أي أهينوا ولعنوا وأخزوا كما فعل بمن أشبههم ممن قبلهم {وقد أنزلنا آيات بينات} أي واضحات لا يعاندها ولا يخالفها إلا كافر فاجر مكابر {وللكافرين عذاب مهين} أي في مقابلة ما استكبروا عن اتباع شرع الله والانقياد له والخضوع لديه.
ثم قال تعالى: {يوم يبعثهم الله جميع} وذلك يوم القيامة يجمع الله الأولين والاَخرين في صعيد واحد {فينبئهم بما عملو} أي فيخبرهم بالذي صنعوا من خير وشر {أحصاه الله ونسوه} أي ضبطه الله وحفظه عليهم وهم قد نسوا ما كانوا عملوا {والله على كل شيء شهيد} أي لا يغيب عنه شيء ولا يخفى ولا ينسى شيئاً, ثم قال تعالى مخبراً عن إحاطة علمه بخلقه واطلاعه عليهم وسماعه كلامهم, ورؤيته مكانهم حيث كانوا وأين كانوا فقال تعالى: {ألم تر أن الله يعلم ما في السموات وما في الأرض ما يكون من نجوى ثلاثة} أي من سر ثلاثة {إلا هو رابعهم ولا خمسة إلا هو سادسهم, ولا أدنى من ذلك ولا أكثر إلا هو معهم أينما كانو} أي مطلع عليهم يسمع كلامهم وسرهم ونجواهم ورسله أيضاً مع ذلك تكتب ما يتناجون به مع علم الله به وسمعه له, كما قال تعالى: {ألم يعلموا أن الله يعلم سرهم ونجواهم وأن الله علام الغيوب} وقال تعالى: {أم يحسبون أنا لا نسمع سرهم ونجواهم ؟ بلى ورسلنا لديهم يكتبون} ولهذا حكى غير واحد الإجماع على أن المراد بهذه الاَية معية علمه تعالى ولا شك في إرادة ذلك, ولكن سمعه أيضاً مع علمه بهم محيط بهم وبصره نافذ فيهم فهو سبحانه وتعالى مطلع على خلقه لا يغيب عنه من أمورهم شيء, ثم قال تعالى {ثم ينبئهم بما عملوا يوم القيامة إن الله بكل شيء عليم} وقال الإمام أحمد: افتتح الاَية بالعلم واختتمها بالعلم.

** أَلَمْ تَرَ إِلَى الّذِينَ نُهُواْ عَنِ النّجْوَىَ ثُمّ يَعُودُونَ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ وَيَتَنَاجَوْنَ بِالإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَةِ الرّسُولِ وَإِذَا جَآءُوكَ حَيّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيّكَ بِهِ اللّهُ وَيَقُولُونَ فِيَ أَنفُسِهِمْ لَوْلاَ يُعَذّبُنَا اللّهُ بِمَا نَقُولُ حَسْبُهُمْ جَهَنّمُ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمَصِيرُ * يَأَيّهَا الّذِينَ آمَنُوَاْ إِذَا تَنَاجَيْتُمْ فَلاَ تَتَنَاجَوْاْ بِالإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَةِ الرّسُولِ وَتَنَاجَوْاْ بِالْبِرّ وَالتّقْوَىَ وَاتّقُواْ اللّهَ الّذِيَ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ * إِنّمَا النّجْوَىَ مِنَ الشّيْطَانِ لِيَحْزُنَ الّذِينَ آمَنُواْ وَلَيْسَ بِضَآرّهِمْ شَيْئاً إِلاّ بِإِذْنِ اللّهِ وَعَلَى اللّهِ فَلْيَتَوَكّلِ الْمُؤْمِنُونَ
قال ابن أبي نجيح عن مجاهد {ألم تر إلى الذين نهوا عن النجوى ثم يعودون لما نهوا عنه} قال اليهود, وكذا قال مقاتل بن حيان وزاد: كان بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين اليهود موادعة, وكانوا إذا مر بهم الرجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم جلسوا يتناجون بينهم حتى يظن المؤمن أنهم يتناجون بقتله أو بما يكره المؤمن, فإذا رأى المؤمن ذلك خشيهم فترك طريقه عليهم, فنهاهم النبي صلى الله عليه وسلم عن النجوى فلم ينتهوا وعادوا إلى النجوى, فأنزل الله تعالى: {ألم تر إلى الذين نهوا عن النجوى ثم يعودون لما نهوا عنه} وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي, حدثنا إبراهيم بن المنذر الحزامي حدثني سفيان بن حمزة عن كثير بن زيد عن ربيح بن عبد الرحمن بن أبي سعيد الخدري, عن أبيه عن جده قال: كنا نتناوب رسول الله صلى الله عليه وسلم نبيت عنده يطرقه من الليل أمر وتبدو له حاجة فلما كانت ذات ليلة كثر أهل النوب والمحتسبون حتى كنا أندية نتحدث, فخرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «ما هذه النجوى ؟ ألم تنهوا عن النجوى ؟» قلنا: تبنا إلى الله يا رسول الله, إنا كنا في ذكر المسيح فرقاً منه. فقال: «ألا أخبركم بما هو أخوف عليكم عندي منه ؟» قلنا: بلى يا رسول الله! قال: «الشرك الخفي أن يقوم الرجل يعمل لمكان رجل» هذا إسناد غريب وفيه بعض الضعفاء.
وقوله تعالى: {ويتناجون بالإثم والعدوان ومعصية الرسول} أي يتحدثون فيما بينهم {بالإثم} وهو ما يختص بهم {والعدوان} وهو ما يتعلق بغيرهم, ومنه معصية الرسول ومخالفته يصرون عليها ويتواصون بها وقوله تعالى: {وإذا جاءوك حيوك بما لم يحيك به الله} قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو سعيد الأشج, حدثنا ابن نمير عن الأعمش عن مسروق عن عائشة قالت: دخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم يهود فقالوا السام عليك يا أبا القاسم فقالت عائشة: وعليكم السام قالت: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا عائشة إن الله لا يحب الفحش ولا التفحش» قلت: ألا تسمعهم يقولون السام عليك ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «أو ما سمعت أقول وعليكم» فأنزل الله تعالى: {وإذا جاءوك حيوك بما لم يحيك به الله} وفي رواية في الصحيح أنها قالت لهم: عليكم السام والذام واللعنة, وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «إنه يستجاب لنا فيهم ولا يستجاب لهم فينا».
وقال ابن جرير: حدثنا بشر, حدثنا يزيد, حدثنا سعيد عن قتادة عن أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بينما هو جالس مع أصحابه إذ أتى عليهم يهودي, فسلم عليهم فردوا عليه فقال نبي الله صلى الله عليه وسلم «هل تدرون ما قال ؟» قالوا سلم يا رسول الله قال «بل قال سام عليكم» أي تسامون دينكم. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «ردوه» فردوه عليه فقال نبي الله «أقلت سام عليكم ؟» قال: نعم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إذا سلم عليكم أحد من أهل الكتاب فقولوا عليك» أي عليك ما قلت, وأصل حديث أنس مخرج في الصحيح وهذا الحديث في الصحيح عن عائشة بنحوه.
وقوله تعالى: {ويقولون في أنفسهم لولا يعذبنا الله بما نقول} أي يفعلون هذا ويقولون ما يحرفون من الكلام وإيهام السلام وإنما هو شتم في الباطن, ومع هذا يقولون في أنفسهم لو كان هذا نبياً لعذبنا الله بما نقول له في الباطن لأن الله يعلم ما نسره, فلو كان هذا نبياً حقاً لأوشك أن يعاجلنا الله بالعقوبة في الدنيا فقال الله تعالى: {حسبهم جهنم} أي جهنم كفايتهم في الدار الاَخرة {يصلونها فبئس المصير}, وقال الإمام أحمد: حدثنا عبد الصمد, حدثنا حماد عن عطاء بن السائب عن أبيه عن عبد الله بن عمر, أن اليهود كانوا يقولون لرسول الله صلى الله عليه وسلم سام عليكم, ثم يقولون في أنفسهم لولا يعذبنا الله بما نقول ؟ فنزلت هذه الاَية {وإذا جاءوك حيوك بما لم يحيك به الله ويقولون في أنفسهم لولا يعذبنا الله بما نقول حسبهم جهنم يصلونها فبئس المصير} إسناد حسن ولم يخرجوه.
وقال العوفي عن ابن عباس {وإذا جاءوك حيوك بما لم يحيك به الله} قال: كان المنافقون يقولون لرسول الله صلى الله عليه وسلم إذا حيوه سام عليك, قال الله تعالى: {حسبهم جهنم يصلونها فبئس المصير} ثم قال الله تعالى مؤدباً عباده المؤمنين أن لا يكونوا مثل الكفرة والمنافقين {يا أيها الذين آمنوا إذا تناجيتم فلا تتناجوا بالإثم والعدوان ومعصية الرسول} أي كما يتناجى به الجهلة من كفرة أهل الكتاب ومن مالأهم على ضلالهم من المنافقين {وتناجوا بالبر والتقوى واتقوا الله الذي إليه تحشرون} أي فيخبركم بجميع أعمالكم وأقوالكم التي قد أحصاها عليكم وسيجزيكم بها, قال الإمام أحمد: حدثنا بهز وعفان قالا: أخبرنا همام عن قتادة عن صفوان بن محرز قال: كنت آخذاً بيد ابن عمر إذ عرض له رجل فقال كيف سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في النجوى يوم القيامة ؟ قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن الله يدني المؤمن فيضع عليه كنفه ويستره من الناس ويقرره بذنوبه ويقول له أتعرف ذنب كذا ؟ أتعرف ذنب كذا ؟ أتعرف ذنب كذا ؟ حتى إذا قرره بذنوبه ورأى في نفسه أنه قد هلك قال فإني قد سترتها عليك في الدنيا, وأنا أغفرها لك اليوم ثم يعطى كتاب حسناته, وأما الكفار والمنافقون فيقول الأشهاد هؤلاء الذين كذبوا على ربهم ألا لعنة الله على الظالمين» أخرجاه في الصحيحين من حديث قتادة.
ثم قال تعالى: {إنما النجوى من الشيطان ليحزن الذين آمنوا وليس بضارهم شيئاً إلا بإذن الله وعلى الله فليتوكل المؤمنون} أي إنما النجوى وهي المسارة حيث يتوهم مؤمن بها سوءاً {من الشيطان ليحزن الذين آمنو} يعني إنما يصدر هذا من المتناجين عن تسويل الشيطان وتزيينه {ليحزن الذين آمنو} أي ليسوءهم وليس ذلك بضارهم شيئاً إلا بإذن الله ومن أحسّ من ذلك شيئاً فليستعذ بالله وليتوكل على الله فإنه لا يضره شيء بإذن الله.
وقد وردت السنة بالنهي عن التناجي حيث يكون في ذلك تأذ على مؤمن, كما قال الإمام أحمد: حدثنا وكيع وأبو معاوية قالا: حدثنا الأعمش عن أبي وائل عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إذا كنتم ثلاثة فلا يتناجى اثنان دون الثالث إلا بإذنه فإن ذلك يحزنه» انفرد بإخراجه مسلم عن أبي الربيع وأبي كامل, كلاهما عن حماد بن زيد عن أيوب به.

** يَأَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسّحُواْ فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُواْ يَفْسَحِ اللّهُ لَكُمْ وَإِذَا قِيلَ انشُزُواْ فَانشُزُواْ يَرْفَعِ اللّهُ الّذِينَ آمَنُواْ مِنكُمْ وَالّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ
يقول تعالى مؤدباً عباده المؤمنين وآمراً لهم أن يحسن بعضهم إلى بعض في المجالس {يا أيها الذين آمنوا إذا قيل لكم تفسحوا في المجالس} وقرىء {في المجلس} {فافسحوا يفسح الله لكم} وذلك أن الجزاء من جنس العمل كما جاء في الحديث الصحيح: «من بنى لله مسجداً بنى الله له بيتاً في الجنة» وفي الحديث الاَخر: «ومن يسر على معسر يسر الله عليه في الدنيا والاَخرة والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه» ولهذا أشباه كثيرة, ولهذا قال تعالى: {فافسحوا يفسح الله لكم} قال قتادة: نزلت هذه الاَية في مجالس الذكر, وذلك أنهم كانوا إذا رأوا أحدهم مقبلاً ضنوا بمجالسهم عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمرهم الله تعالى أن يفسح بعضهم لبعض.
وقال مقاتل بن حيان: أنزلت هذه الاَية يوم الجمعة, وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ في الصفة وفي المكان ضيق, وكان يكرم أهل بدر من المهاجرين والأنصار فجاء ناس من أهل بدر وقد سبقوه إلى المجالس, فقاموا حيال رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته, فرد النبي صلى الله عليه وسلم عليهم, ثم سلموا على القوم بعد ذلك فردوا عليهم, فقاموا على أرجلهم ينتظرون أن يوسع لهم, فعرف النبي صلى الله عليه وسلم ما يحملهم على القيام فلم يفسح لهم, فشق ذلك على النبي صلى الله عليه وسلم فقال لمن حوله من المهاجرين والأنصار من غير أهل بدر: «قم يا فلان وأنت يا فلان» فلم يزل يقيمهم بعدة النفر الذين هم قيام بين يديه من المهاجرين والأنصار أهل بدر, فشق ذلك على من أقيم من مجلسه وعرف النبي صلى الله عليه وسلم الكراهة في وجوههم, فقال المنافقون ألستم تزعمون أن صاحبكم هذا يعدل بين الناس ؟ والله ما رأيناه قد عدل على هؤلاء إن قوماً أخذوا مجالسهم وأحبوا القرب من نبيهم فأقامهم وأجلس من أبطأ عنه, فبلغنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «رحم الله رجلاً يفسح لأخيه» فجعلوا يقومون بعد ذلك سراعاً فيفسح القوم لإخوانهم ونزلت هذه الاَية يوم الجمعة. رواه ابن أبي حاتم.
وقد قال الإمام أحمد والشافعي حدثنا سفيان عن أيوب عن نافع عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا يقيم الرجل الرجل من مجلسه فيجلس فيه ولكن تفسحوا وتوسعوا» وأخرجاه في الصحيحين من حديث نافع به. وقال الشافعي: أخبرنا عبد المجيد عن ابن جريج قال: قال سليمان بن موسى عن جابر بن عبد الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا يقيمن أحدكم أخاه يوم الجمعة ولكن ليقل افسحوا» على شرط السنن ولم يخرجوه وقال الإمام أحمد: حدثنا عبد الملك بن عمرو, حدثنا فليح عن أيوب عن عبد الرحمن بن أبي صعصعة عن يعقوب بن أبي يعقوب عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا يقيم الرجل الرجل من مجلسه ثم يجلس فيه ولكن افسحوا يفسح الله لكم» ورواه أيضاً عن سريج بن يونس ويونس بن محمد المؤدب عن فليح به ولفظه: «لا يقوم الرجل للرجل من مجلسه ولكن افسحوا يفسح الله لكم» تفرد به أحمد.
وقد اختلف الفقهاء في جواز القيام للوارد إذا جاء على أقوال: فمنهم من رخص في ذلك محتجاً بحديث «قوموا إلى سيدكم» ومنهم من منع من ذلك محتجاً بحديث «من أحب أن يتمثل له الرجال قياماً فليتبوأ مقعده من النار» ومنهم من فصل فقال يجوز عند القدوم من سفر وللحاكم في محل ولايته, كما دل عليه قصة سعد بن معاذ, فإنه لما استقدمه النبي حاكماً في بني قريظة فرآه مقبلاً قال للمسلمين «قوموا إلى سيدكم» وما ذاك إلا ليكون أنفذ لحكمه والله أعلم. فأما اتخاذه ديدناً فإنه من شعار العجم, وقد جاء في السنن أنه لم يكن شخص أحب إليهم من رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان إذا جاء لا يقومون له لما يعلمون من كراهته لذلك.
وفي الحديث المروي في السنن أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يجلس حيث انتهى به المجلس, ولكن حيث يجلس يكون صدر ذلك المجلس فكان الصحابة رضي الله عنهم يجلسون منه على مراتبهم, فالصديق رضي الله عنه يجلسه عن يمينه وعمر عن يساره, وبين يديه غالباً عثمان وعلي لأنهما كانا ممن يكتب الوحي, وكان يأمرهما بذلك كما رواه مسلم من حديث الأعمش عن عمارة بن عمير عن أبي معمر عن أبي مسعود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: «ليليني منكم أولو الأحلام والنهى ثم الذين يلونهم, ثم الذي يلونهم» وما ذاك إلا ليعقلوا عنه ما يقوله صلوات الله وسلامه عليه, ولهذا أمر أولئك النفر بالقيام ليجلس الذين وردوا من أهل بدر, إما لتقصير أولئك في حق البدريين أو ليأخذ البدريون من العلم نصيبهم, كما أخذ أولئك قبلهم أو تعليماً بتقديم الأفاضل إلى الأمام. وقال الإمام أحمد: حدثنا وكيع عن الأعمش عن عمارة بن عمير التيمي عن أبي معمر عن أبي مسعود قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يمسح مناكبنا في الصلاة ويقول: «استووا ولا تختلفوا فتختلف قلوبكم, ليليني منكم أولو الأحلام والنهى ثم الذين يلونهم, ثم الذين يلونهم» قال أبو مسعود: فأنتم اليوم أشد اختلافاً, وكذا رواه مسلم وأهل السنن إلا الترمذي من طرق عن الأعمش به, وإذا كان هذا أمره لهم في الصلاة أن يليه العقلاء منهم والعلماء فبطريق الأولى أن يكون ذلك في غير الصلاة.
وروى أبو داود من حديث معاوية بن صالح عن أبي الزاهرية عن كثير بن مرة عن عبد الله بن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «أقيموا الصفوف وحاذوا بين المناكب وسدوا الخلل ولينوا بأيدي إخوانكم ولا تذروا فرجات للشياطين ومن وصل صفاً وصله الله, ومن قطع صفاً قطعه الله» ولهذا كان أبي بن كعب سيد القراء إذا انتهى إلى الصف الأول انتزع منه رجلاً يكون من أفناد الناس, ويدخل هو في الصف المتقدم ويحتج بهذا الحديث: «ليليني منكم أولو الأحلام والنهى» وأما عبد الله بن عمر فكان لا يجلس في المكان الذي يقوم له صاحبه عنه عملاً بمقتضى ما تقدم من روايته الحديث الذي أوردناه, ولنقتصر على هذا المقدار من الأنموذج المتعلق بهذه الاَية, وإلا فبسطه يحتاج إلى غير هذا الموضع. وفي الحديث الصحيح: بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم جالس إذ أقبل ثلاثة نفر, فأما أحدهم فوجد فرجة في الحلقة فدخل فيها, وأما الاَخر فجلس وراء الناس, وأدبر الثالث ذاهباً فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ألا أنبئكم بخبر الثلاثة, أما الأول فآوى إلى الله فآواه الله, وأما الثاني فاستحيا فاستحيا الله منه, وأما الثالث فأعرض فأعرض الله عنه».
وقال الإمام أحمد: حدثنا عتاب بن زياد أخبرنا عبد الله, أخبرنا أسامة بن زيد عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن عبد الله بن عمرو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا يحل لرجل أن يفرق بين اثنين إلا بإذنهما» ورواه أبو داود والترمذي من حديث أسامة بن زيد الليثي به وحسنه الترمذي وقد روي عن ابن عباس والحسن البصري وغيرهما أنهم قالوا في قوله تعالى: {إذا قيل لكم تفسحوا في المجالس فافسحوا يفسح الله لكم} يعني في مجالس الحرب قالوا: ومعنى قوله: {وإذا قيل انشزوا فانشزو} أي انهضوا للقتال. وقال قتادة {وإذا قيل انشزوا فانشزو}أي إذا دعيتم إلى خير فأجيبوا وقال مقاتل إذا دعيتم إلى الصلاة فارتفعوا إليها. وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم كانوا إذا كانوا عند النبي صلى الله عليه وسلم في بيته فأرادوا الانصراف, أحب كل منهم أن يكون هو آخرهم خروجاً من عنده, فربما يشق ذلك عليه, عليه السلام وقد تكون له الحاجة فأمروا أنهم إذا أمروا بالانصراف أن ينصرفوا كقوله تعالى: {وإن قيل لكم ارجعوا فارجعو}.
وقوله تعالى: {يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات والله بما تعملون خبير} أي لا تعتقدوا أنه إذا أفسح أحد منكم لأخيه إذا أقبل أو إذا أمر بالخروج فخرج, أن يكون ذلك نقصاً في حقه بل هو رفعة ورتبة عند الله, والله تعالى لا يضيع ذلك له, بل يجزيه بها في الدنيا والاَخرة فإن من تواضع لأمر الله رفع الله قدره ونشر ذكره, ولهذا قال تعالى: {يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات والله بما تعملون خبير} أي خبير بمن يستحق ذلك وبمن لا يستحقه.
وقال الإمام أحمد: حدثنا أبو كامل حدثنا إبراهيم حدثنا ابن شهاب عن أبي الطفيل عامر بن واثلة أن نافع بن عبد الحارث لقي عمر بن الخطاب بعسفان, وكان عمر استعمله على مكة, فقال له عمر: من استخلفت على أهل الوادي ؟ قال: استخلفت عليهم ابن أبزى رجل من موالينا, فقال عمر: استخلفت عليهم مولى ؟ فقال: يا أمير المؤمنين إنه قارىء لكتاب الله عالم بالفرائض قاضٍ, فقال عمر رضي الله عنه: أما إن نبيكم صلى الله عليه وسلم قد قال: «إن الله يرفع بهذا الكتاب قوماً ويضع به آخرين» وهكذا رواه مسلم من غير وجه عن الزهري به, وروي من غير وجه عن عمر بنحوه, وقد ذكرت فضل العلم وأهله وما ورد في ذلك من الأحاديث مستقصاة في شرح كتاب العلم من صحيح البخاري, ولله الحمد والمنة.