تفسير الشوكاني تفسير الصفحة 543 من المصحف



فتح القدير - صفحة القرآن رقم 543

542

ثم أكد سبحانه بيان كونه عالماً بكل شيء. فقال: 7- "ألم تر أن الله يعلم ما في السموات وما في الأرض" أي ألم تعلم أن علمه محيط بما فيهما بحيث لا يخفى عليه شيء مما فيهما، وجملة "ما يكون من نجوى ثلاثة" الخ مستأنفة لتقرير شمول علمه وإحاطته بكل المعلومات. قرأ الجمهور "يكون" بالتحتية. وقرأ أبو جعفر بن القعقاع والأعرج وأبو حيوة بالفوقية، وكان على القراءتين تامة، ومن مزيدة للتأكيد، ونجوى فاعل كان، والنجوى السرار، يقال: قوم نجوى: أي ذو نجوى وهي مصدرية. والمعنى: ما يوجد من تناجي ثلاثة أو من ذوي نجوى، ويجوز أن تطلق النجوى على الأشخاص المتناجين، فعلى الوجه الأول انخفاض ثلاثة بإضافة نجوى إليه، وعلى الوجهين الآخرين يكون انخفاضها على البدل من نجوى أو الصفة لها. قال الفراء: ثلاثة نعت للنجوى فانخفضت وإن شئت أضفت نجوى إليها، ولو نصبت على إضمار فعل جاز، وهي قراءة ابن أبي عبلة، ويجوز رفع ثلاثة على البدل من موضع نجوى "إلا هو رابعهم" هذه الجملة في موضع نصب على الحال، وكذا قوله: " إلا هو سادسهم " "إلا هو معهم" أي ما يوجد شيء من هذه الأشياء إلا في حال من هذه الأحوال، فالاستثناء مفرغ من أعم الأحوال، ومعنى رابعهم جاعلهم أربعة، وكذا سادسهم جاعلهم ستة من حيث إنه يشاركهم في الاطلاع على تلك النجوى "ولا خمسة" أي ولا نجوى خمسة، وتخصيص العددين بالذكر، لأن أغلب عادات المتناجين أن يكونوا ثلاثة أو خمسة، أو كانت الواقعة التي هي سبب النزول في متناجين كانوا ثلاثة في موضع وخمسة في موضع. قال الفراء: العدد غير مقصود لأنه سبحانه مع كل عدد قل أو كثر يعلم السر والجهر لا تخفى عليه خافية "ولا أدنى من ذلك ولا أكثر إلا هو معهم" أي ولا أقل من العدد المذكور: كالواحد، والاثنين، ولا أكثر منه: كالستة والسبعة إلا هو معهم يعلم ما يتناجون به لا يخفى عليه منه شيء. قرأ الجمهور "ولا أكثر" بالجر بالفتحة عطفاً على لفظ نجوى. وقرأ الحسن والأعمش وابن أبي إسحاق وأبو حيوة ويعقوب وأبو العالية ونصر وعيسى بن عمر وسلام بالرفع عطفاً على محل نجوى. وقرأ الجمهور "ولا أكثر" بالمثلثة. وقرأ الزهري وعكرمة بالموحدة. قال الواحدي: قال المفسرون: إن المنافقين واليهود كانوا يتناجون فيما بينهم ويوهمون المؤمنين أنهم يتناجون فيما يسوءهم، فيحزنون لذلك، فلما طال ذلك وكثر شكوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمرهم أن لا يتناجوا دون المسلمين، فلم ينتهوا عن ذلك وعادوا إلى مناجاتهم، فأنزل الله هذه الآيات، ومعنى " أين ما كانوا " إحاطة عمله بكل تناج يكون منهم في أي مكان من الأمكنة "ثم ينبئهم" أي يخبرهم "بما عملوا يوم القيامة" توبيخاً لهم وتبكيتاً وإلزاماً للحجة "إن الله بكل شيء عليم" لا يخفى عليه شيء كائناً ما كان.
8- " ألم تر إلى الذين نهوا عن النجوى ثم يعودون لما نهوا عنه " هؤلاء الذين نهوا، ثم عادوا لما نهوا عنه هم من تقدم ذكره من المنافقين واليهود. قال مقاتل: كان بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين اليهود مواعدة، فإذا مر بهم الرجل من المؤمنين تناجوا بينهم حتى يظن المؤمن شراً، فنهاهم الله فلم ينتهوا، فنزلت. وقال ابن زيد: كان الرجل يأتي النبي صلى الله عليه وسلم فيسأله الحاجة ويناجيه والأرض يومئذ حرب فيتوهمون أنه يناجيه في حرب أو بلية أو أمر مهم فيفزعون لذلك "ويتناجون بالإثم والعدوان ومعصية الرسول" قرأ الجمهور "يتناجون" بوزن يتفاعلون.
واختار هذه القراءة أبو عبيد وأبو حاتم لقوله فيما بعد: 9- "إذا تناجيتم فلا تتناجوا". وقرأ حمزة وخلف وورش عن يعقوب " ويتناجون " بوزن يفتعلون، وهي قراءة ابن مسعود وأصحابه، وحكى سيبويه أن تفاعلوا وافتعلوا يأتيان بمعنى واحد نحو تخاصموا واختصموا وتقاتلوا واقتتلوا، ومعنى الإثم ما هو إثم في نفسه كالكذب والظلم، والعدوان ما فيه عدوان على المؤمنين ومعصية الرسول مخالفته. قرأ الجمهور "ومعصية" بالإفراد. وقرأ الضحاك وحميد ومجاهد ومعصيات بالجمع " وإذا جاؤوك حيوك بما لم يحيك به الله " قال القرطبي: إن المراد بها اليهود كانوا يأتون النبي صلى الله عليه وسلم فيقولون السام عليك يريدون بذلك السلام ظاهراً وهم يعنون الموت باطناً، فيقول النبي صلى الله عليه وسلم: عليكم. وفي رواية أخرى وعليكم "ويقولون في أنفسهم" أي فيما بينهم "لولا يعذبنا الله بما نقول" أي هلا يعذبنا بذلك، ولو كان محمد نبياً لعذبنا بما يتضمنه قولنا من الاستخفاف به، وقيل المعنى: لو كان نبياً لاستجيب له فينا حيث يقول وعليكم ووقع علينا الموت عند ذلك "حسبهم جهنم" عذاباً "يصلونها" يدخلونها "فبئس المصير" أي المرجع، وهو جهنم "يا أيها الذين آمنوا إذا تناجيتم فلا تتناجوا بالإثم والعدوان ومعصية الرسول" لما فرغ سبحانه عن نهي اليهود والمنافقين عن النجوى أرشد المؤمنين إذا تناجوا فيما بينهم أن لا يتناجوا بما فيه إثم وعدوان ومعصية لرسول الله كما يفعله اليهود والمنافقون. ثم بين لهم ما يتناجون به في أنديتهم وخلواتهم فقال: "وتناجوا بالبر والتقوى" أي بالطاعة وترك المعصية، وقيل الخطاب للمنافقين، والمعنى: يا أيها الذين آمنوا ظاهراً أو بزعمهم، واختار هذا الزجاج، وقيل الخطاب لليهود، والمعنى: يا أيها الذين آمنوا بموسى، والأول أولى، ثم خوفهم سبحانه فقال: "واتقوا الله الذي إليه تحشرون" فيزيكم بأعمالكم.
ثم بين سبحانه أن ما يفعله اليهود والمنافقون من التناجي هو من جهة الشيطان، فقال: 10- "إنما النجوى" يعني بالإثم والعدوان ومعصية الرسول "من الشيطان" لا من غيره: أي من تزيينه وتسويله "ليحزن الذين آمنوا" أي لأجل أن يوقعهم في الحزن بما يحصل لهم من التوهم أنها في مكيدة يكادون بها "وليس بضارهم شيئاً" أو وليس الشيطان أو التناجي الذي يزينه الشيطان بضار المؤمنين شيئاً من الضرر "إلا بإذن الله" أي بمشيئته، وقيل بعلمه "وعلى الله فليتوكل المؤمنون" أي يكلون أمرهم إليه ويفوضونه في جميع شؤونهم ويستعيذون بالله من الشيطان ولا يبالون بما يزينه من النجوى. وقد أخرج أحمد وعبد بن حميد والبزار وابن المنذر والطبراني وابن مردويه والبيهقي في الشعب. قال السيوطي بسند جيد عن ابن عمر: إن اليهود كانوا يقولون لرسول الله صلى الله عليه وسلم: السام عليك، يريدون بذلك شتمه، ثم يقولون في أنفسهم: لولا يعذبنا الله بما نقول، فنزلت هذه الآية " وإذا جاؤوك حيوك بما لم يحيك به الله " وأخرج أحمد وعبد بن حميد والبخاري والترمذي وصححه عن أنس "أن يهودياً أتى النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه فقال: السام عليكم، فرد عليه القوم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: هل تدرون ما قال هذا؟ قالوا: الله أعلم، سلم يا نبي الله، قال: لا، ولكنه قال كذا وكذا ردوه علي فردوه، قال: قلت السام عليكم؟ قال: نعم، قال النبي صلى الله عليه وسلم عند ذلك: إذا سلم عليكم أحد من أهل الكتاب، فقولوا عليك، قال: عليك ما قلت. قال: " وإذا جاؤوك حيوك بما لم يحيك به الله "" وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن عائشة قالت: "دخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم يهود، فقالوا: السام عليك يا أبا القاسم، فقالت عائشة: عليكم السام واللعنة، فقال: يا عائشة إن الله يحب الفحش ولا المتفحش، قلت: ألا تسمعهم يقولون السام؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أو ما سمعتني أقول وعليكم، فأنزل الله " وإذا جاؤوك حيوك بما لم يحيك به الله "" وأخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس في هذه الآية قال: كان المنافقون يقولون لرسول الله صلى الله عليه وسلم إذا حيوه: سام عليك فنزلت. وأخرج ابن مردويه عنه قال: "كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا بعث سرية وأغزاها التقى المنافقون فأنغضوا رؤوسهم إلى المسلمين ويقولون قتل القوم، وإذا رأوا رسول الله صلى الله عليه وسلم تناجوا وأظهروا الحزن، فبلغ ذلك من النبي صلى الله عليه وسلم ومن المسلمين، فأنزل الله: "يا أيها الذين آمنوا إذا تناجيتم فلا تتناجوا بالإثم والعدوان ومعصية الرسول" الآية ". وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن ابن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا كنتم ثلاثة فلا يتناجى اثنان دوب الثالث، فإن ذلك يحزنه". وأخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه عن أبي سعيد قال: كنا نتناوب رسول الله صلى الله عليه وسلم بطرقه أمر أو يأمر بشيء فكثر أهل النوب والمحتسبون ليلة حتى إذا كنا أنداء نتحدث، فخرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم من الليل فقال: ما هذه النجوى؟ ألم تنهوا عن النجوى؟ قلنا: يا رسول الله إنا كنا في ذكر المسيح فرقاً منه، فقال: ألا أخبركم مما هو أخوف عليكم عندي منه؟ قلنا: بلى يا رسول الله. قال: "الشرك الخفي أن يقوم الرجل يعمل لمكان رجل". قال ابن كثير: هذا إسناد غريب، وفيه بعض الضعفاء.
قوله: 11- " يا أيها الذين آمنوا إذا قيل لكم تفسحوا في المجالس " يقال فسح له يفسح فسحاً: أي وسع له، ومنه قولهم بلد فسيح. أمر الله سبحانه بحسن الأدب مع بعضهم بعضاً بالتوسعة في المجلس وعدم التضايق فيه. قال قتادة ومجاهد والضحاك: كانوا يتنافسون في مجلس النبي صلى الله عليه وسلم فأمروا أن يفسح بعضهم لبعض، وقال الحسن ويزيد بن أبي حبيب: هو مجلس القتال إذا اصطفوا للحرب كانوا يتشاحون على الصف الأول، فلا يوسع بعضهم لبعض رغبة في القتال لتحصيل الشهادة "فافسحوا يفسح الله لكم" أي فوسعوا يوسع الله لكم في الجنة، أو في كل ما تريدون التفسح فيه من المكان والرزق وغيرهما. قرأ الجمهور " تفسحوا في المجالس " وقرأ السلمي وزر بن حبيش وعاصم "في المجالس" على الجمع، لأن لكل واحد منهم مجلساً، وقرأ قتادة والحسن وداود بن أبي هند وعيسى بن عمر تفاسحوا قال الواحدي: والوجه التوحيد في المجلس، لأنه يعني به مجلس النبي صلى الله عليه وسلم. وقال القرطبي: الصحيح في الآية أنها عامة في كل مجلس اجتمع فيه المسلمون للخير والأجر، سواء كان مجلس حرب، أو ذكر، أو يوم الجمعة، وأن كل واحد أحق بمكانه الذي سبق إليه، ولكن يوسع لأخيه ما لم يتأذ بذلك فيخرجه الضيق عن موضعه، ويؤيد هذا حديث ابن عمر عند البخاري ومسلم وغيرهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لا يقم الرجل الرجل من مجلسه ثم يجلس فيه، ولكن تفسحوا وتوسعوا" "وإذا قيل انشزوا فانشزوا" قرأ الجمهو بكسر الشين فيها، وقرأ نافع وابن عامر وعاصم بضمها فيهما، وهما لغتان بمعنى واحد، يقال نشز: أي ارتفع ينشز وينشز كعكف يعكف ويعكف، والمعنى: إذا قيل لكم انهضوا فانهضوا. قال جمهور المفسرين: أي انهضوا إلى الصلاة والجهاد وعمل الخير. وقال مجاهد والضحاك وعكرمة: كان رجال يتثاقلون عن الصلاة، فقيل لهم إذا نودي للصلاة فانهضوا. وقال الحسن: انهضوا إلى الحرب. وقال ابن زيد: هذا في بيت النبي صلى الله عليه وسلم، كان رجل منهم يحب أن يكون آخر عهده بالنبي صلى الله عليه وسلم، فقال الله تعالى: "وإذا قيل انشزوا" عن النبي صلى الله عليه وسلم "فانشزوا" فإن له حوائج فلا تمكثوا. وقال قتادة: المعنى أجيبوا إذا دعيتم إلى أمر بمعروف، والظاهر حمل الآية على العموم، والمعنى: إذا قيل لكم انهضوا إلى أمر من الأمور الدينية فانهضوا ولا تتثاقلوا ولا يمنع من حملها على العموم كون السبب خاصاً، فإن الاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب كما هو الحق، ويندرج ما هو سبب النزول فيها اندراجاً أولياً، وهكذا يندرج ما فيه السياق وهو التفسيح في المجلس اندراجاً أولياً، وقد قدمنا أن معنى نشز ارتفع، وهكذا يقال نشز ينشز: إذا تنحى عن موضعه، ومنه امرأة ناشز: أي متنحية عن زوجها، وأصله مأخوذ من النشز، وهو ما ارتفع من الأرض وتنحى، ذكر معناه النحاس "يرفع الله الذين آمنوا منكم" في الدنيا والآخرة بتوفير نصيبهم فيهما "والذين أوتوا العلم درجات" أي ويرفع الذين أوتوا العلم منكم درجات عالية في الكرامة في الدنيا والثواب في الآخرة، ومعنى الآية أنه يرفع الذين آمنوا على من لم يؤمن درجات ويرفع الذين أوتوا العلم على الذين آمنوا درجات، فمن جمع بين الإيمان والعلم رفعه الله بإيمانه درجات ثم رفعه بعلمه درجات، وقيل المراد بالذين آمنوا من الصحابة وكذلك الذين أوتوا العلم، وقيل المراد بالذين أوتوا العلم الذين قرأوا القرآن، والأولى حمل الآية على العموم في كل مؤمن وكل صاحب علم من علوم الدين من جميع أهل هذه الملة، ولا دليل يدل على تخصيص الآية بالبعض دون البعض، وفي هذه الآية فضيلة عظيمة للعلم وأهله، وقد دل على فضله وفضلهم آيات قرآنية وأحاديث نبوية "والله بما تعملون خبير" لا يخفى عليه شيء من أعمالكم من خير وشر، فهو مجازيكم بالخير خيراً وبالشر شراً.