تفسير الطبري تفسير الصفحة 543 من المصحف

 تفسير الطبري - صفحة القرآن رقم 543
544
542
 الآية : 7
القول فـي تأويـل قوله تعالى:{أَلَمْ تَرَ أَنّ اللّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ مَا يَكُونُ مِن نّجْوَىَ ثَلاَثَةٍ إِلاّ هُوَ رَابِعُهُمْ وَلاَ خَمْسَةٍ إِلاّ هُوَ سَادِسُهُمْ وَلاَ أَدْنَىَ مِن ذَلِكَ وَلاَ أَكْثَرَ إِلاّ هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُواْ ثُمّ يُنَبّئُهُم بِمَا عَمِلُواْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنّ اللّهَ بِكُلّ شَيْءٍ عَلِيمٌ }.
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: ألم تنظر يا محمد بعين قبلك فترى أنّ اللّهَ يَعْلَمُ ما فِي السّمَوَاتِ وَما فِي الأرْضِ من شيء, لا يخفى عليه صغير ذلك وكبيره يقول جلّ ثناؤه: فكيف يخفى على من كانت هذه صفته أعمال هؤلاء الكافرين وعصيانهم ربهم, ثم وصف جلّ ثناؤه قربه من عباده وسماعه نجواهم, وما يكتمونه الناس من أحاديثهم, فيتحدثونه سرّا بينهم, فقال: ما يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ من خلقه إلاّ هُوَ رَابِعُهُمْ يسمع سرّهم ونجواهم, لا يخفى عليه شيء من أسرارهم وَلا خَمْسَةٍ إلاّ هُوَ سادِسُهُمْ يقول: ولا يكون من نجوى خمسة إلا هو سادسهم كذلك وَلا أدْنَى مِنْ ذلكَ يقول: ولا أقلّ من ثلاثة وَلا أكْثَرَ من خمسة إلاّ هُوَ مَعَهُمْ إذا تناجوا أيْنَما كانُوا يقول: في أيّ موضع ومكان كانوا.
وعنى بقوله هُو رَابِعُهُمْ بمعنى أنه مشاهدهم بعلمه, وهو على عرشه, كما:
26121ـ حدثني عبد الله بن أبي زياد, قال: ثني نصر بن ميمون المضروب, قال: حدثنا بكير بن معروف, عن مقاتل بن حيان, عن الضحاك, في قول ما يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ... إلى قوله هُوَ مَعَهُمْ قال: هو فوق العرش وعلمه معهم أيْنَما كانُوا ثُمّ يُنَبّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ القِيامَة إنّ اللّهَ بِكُلّ شَيْءٍ عَلِيمٌ.
وقوله: ثُمّ يُنَبّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ القِيامَةِ يقول تعالى ذكره: ثم يخبر هؤلاء المتناجين وغيرهم بما عملوا من عمل مما يحبه و يسخطه يوم القيامة إنّ اللّهَ بِكُلّ شَيْءٍ عَلِيمٌ يقول: إن الله بنجواهم وأسرارهم, وسرائر أعمالهم, وغير ذلك من أمورهم وأمور عباده عليم.
واختلفت القرّاء في قراءة قوله: ما يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ فقرأت قرّاء الأمصار ذلك ما يَكُونُ مِنْ نَجْوَى بالياء, خلا أبي جعفر القارىء, فإنه قرأه: «ما تَكُونُ» بالتاء. والياء هي الصواب في ذلك, لإجماع الحجة عليها, ولصحتها في العربية.
الآية : 8
القول فـي تأويـل قوله تعالى:{أَلَمْ تَرَ إِلَى الّذِينَ نُهُواْ عَنِ النّجْوَىَ ثُمّ يَعُودُونَ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ وَيَتَنَاجَوْنَ بِالإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَةِ الرّسُولِ وَإِذَا جَآءُوكَ حَيّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيّكَ بِهِ اللّهُ وَيَقُولُونَ فِيَ أَنفُسِهِمْ لَوْلاَ يُعَذّبُنَا اللّهُ بِمَا نَقُولُ حَسْبُهُمْ جَهَنّمُ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمَصِيرُ }.
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: ألَمْ تَرَ إلى الّذِينَ نُهُوا عَنِ النّجْوَى من اليهود ثُمّ يَعودُون فقد نهى الله عزّ وجلّ إياهم عنها, ويتناجون بينهم بالإثم والعدوان ومعصية الرسول. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:
26122ـ حدثني محمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى, وحدثني الحارث, قال: حدثنا الحسن قال: حدثنا ورقاء, جميعا عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, في قوله ألَمْ تَرَ إلى الّذِينَ نُهُوا عَن النّجْوَى قال: اليهود.
قوله: ثُمّ يَعُودُونَ لِمَا نُهُوا عَنْهُ يقول جلّ ثناؤه: ثم يرجعون إلى ما نهوا عنه من النجوى وَيَتَناجُونَ بالإثْمِ والعُدْوَانِ وَمَعْصِيَةِ الرّسُولِ يقول جلّ ثناؤه: ويتناجون بما حرّم الله عليهم من الفواحش والعدوان, وذلك خلاف أمر الله ومعصية الرسول محمد صلى الله عليه وسلم.
واختلفت القرّاء في قراءة قوله: وَيَتَناجَوْنَ فقرأت ذلك عامة قرّاء المدينة والبصرة وبعض الكوفيين والبصريين وَيَتَناجَوْنَ على مثال يتفاعلون, وكان يحيى وحمزة والأعمش يقرأون «وَيَنْتَجُونَ» على مثال يفتعلون. واعتلّ الذين قرأوه: يَتَنَاجَوْنَ بقوله: إذَا تَنَاجَيْتُمْ ولم يقل: إذا انتجيتم.
وقوله: وَإذا جاءُوكَ حَيّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيّكَ بِهِ اللّهُ يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: وإذا جاءك يا محمد هؤلاء الذين نهوا عن النجوى, الذين وصف الله جلّ ثناؤه صفتهم, حيوك بغير التحية التي جعلها الله لك تحية, وكانت تحيتهم التي كانوا يحيونه بها التي أخبر الله أنه لم يحيه بها فيما جاءت به الأخبار, أنهم كانوا يقولون: السام عليك. ذكر الرواية الواردة بذلك:
26123ـ حدثنا ابن حُمَيد وابن وكيع قالا: حدثنا جرير, عن الأعمش, عن أبي الضحى, عن مسروق, عن عائشة قالت: جاء ناس من اليهود إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم, فقالوا: السام عليك يا أبا القاسم, فقلت: السام عليكم, وفعل الله بكم وفعل, فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: «يا عائِشَةُ إنّ اللّهَ لا يُحِبّ الفُحْشَ», فقلت: يا رسول الله, ألست ترى ما يقولون؟ فقال: «أَلَسْتِ تَرَيْنَنِي أرُدّ عَلَيْهِمْ ما يَقُولُونَ؟ أقُول: عَلَيْكُمْ» وهذه الآية في ذلك نزلت وإذَا جاءوكَ حَيّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيّكَ بِهِ الله وَيَقُولُونَ فِي أنْفُسِهمْ لَوْلا يُعَذّبُنا الله بِمَا نَقُول, حَسْبُهُمْ جَهَنّم يَصْلَوْنَها فَبِئْسَ المَصِيرِ.
حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا مهران, عن سفيان, عن الأعمش, عن أبي الضحى, عن مسروق, عن عائشة قالت: كان اليهود يأتون النبيّ صلى الله عليه وسلم فيقولون: السام عليكم, فيقول: «عَلَيْكمْ» قالت عائشة: السام عليكم وغَضَبُ الله فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: «إنّ اللّهَ لا يحِبّ الفاحِشَ المُتَفَحّشَ», قالت: إنهم يقولون: السام عليكم, قال: «إنّي أقُول: عَلَيْكُمْ», فنزلت: وإذَا جاءوكَ حَيّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيّكَ بِهِ الله قال: فإن اليهود يأتون النبيّ صلى الله عليه وسلم, فيقولون: السام عليكم.
26124ـ حدثنا ابن بشار, قال: حدثنا عبد الرحمن, قال: حدثنا سفيان, عن الأعمش, عن أبي الضحى, عن مسروق وإذَا جاءوكَ حَيّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيّكَ بِهِ اللّهُ قال: كانت اليهود يأتون النبيّ صلى الله عليه وسلم, فيقولون: السام عليكم.
26125ـ حدثني محمد بن سعد, قال: ثني أبي, قال: ثني عمي, قال: ثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس, قوله وإذَا جاءوكَ حَيّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيّكَ بِهِ اللّهُ... إلى فَبِئْسَ المَصِيرُ قال: كان المنافقون يقولون لرسول الله صلى الله عليه وسلم إذا حيوه: سام عليكم, فقال الله حَسْبُهُمْ جَهَنّم يَصْلَوْنَها فَبِئْسَ المَصِير.
26126ـ حدثني محمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى وحدثني الحارث, قال: حدثنا الحسن, قال: حدثنا ورقاء, جميعا عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, في قوله: وإذَا جاءوكَ حَيّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيّكَ بِهِ اللّهُ قال: يقولون: سام عليكم, قال: هم أيضا يهود.
26127ـ حدثنا ابن عبد الأعلى, قال: حدثنا ابن ثور, عن معمر, عن قتادة, في قوله حَيّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيّكَ بِهِ الله قال: اليهود كانت تقول: سام عليكم.
26128ـ حدثنا ابن عبد الأعلى, قال: حدثنا ابن ثور, عن معمر, عن الزهري أن عائشة فطنت إلى قولهم, فقالت: وعليكم السامة واللعنة, فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: «مَهْلاً يا عائِشَة إنّ اللّهَ يحِبّ الرّفْقَ في الأمْرِ كُلّهِ», فقالت: يا نبيّ الله ألم تسمع ما يقولون؟ قال: «أفَلَمْ تَسْمَعي ما أردّ عَلَيْهِمْ؟ أقُول: عَلَيْكُمْ».
26129ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, عن أنس بن مالك أنّ نبيّ الله صلى الله عليه وسلم بينما هو جالس مع أصحابه, إذ أتى عليهم يهوديّ, فسلم عليهم, فردّوا عليه, فقال نبيّ الله صلى الله عليه وسلم: «هَلْ تَدْرُونَ ما قالَ؟» قالوا: سلّم يا رسول الله, قال: «بَلْ قالَ: سأْمٌ عَلَيْكُمْ, أي تسأمون دينكم», فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: «أقُلْت سأَمٌ عَلَيْكُمْ؟» قال: نعم, فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: «إذَا سَلّمَ عَلَيْكُمْ أحَدٌ مِنْ أهْلِ الكِتابِ فَقُولُوا وَعَلَيْكَ»: أي عليك ما قلت.
26130ـ حدثني يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, في قوله: وإذَا جاءوكَ حَيّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيّكَ بِهِ اللّهُ قال: هؤلاء يهود, جاء ثلاثة نفر منهم إلى باب النبيّ صلى الله عليه وسلم, فتناجوا ساعة, ثم استأذن أحدهم, فأذن له النبيّ صلى الله عليه وسلم, فقال: السام عليكم, فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: «عَلَيْكَ», ثُمّ الثاني, ثُمّ الثّالِثُ قال ابن زيد: السام: الموت.
وقوله جلّ ثناؤه: وَيَقُولُونَ فِي أنْفُسِهِمْ لَوْلا يُعَذّبُنا اللّهُ بِمَا نَقُولُ يقول جل ثناؤه: ويقول محيوك بهذه التحية من اليهود: هلا يعاقبنا الله بما نقول لمحمد صلى الله عليه وسلم, فيعجل عقوبته لنا على ذلك, يقول الله: حسبْ قائلي ذلك يا محمد جهنم, وكفاهم بها يصلونها يوم القيامة, فبئس المصير جهنم.
الآية : 9
القول فـي تأويـل قوله تعالى:{يَأَيّهَا الّذِينَ آمَنُوَاْ إِذَا تَنَاجَيْتُمْ فَلاَ تَتَنَاجَوْاْ بِالإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَةِ الرّسُولِ وَتَنَاجَوْاْ بِالْبِرّ وَالتّقْوَىَ وَاتّقُواْ اللّهَ الّذِيَ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ }.
يقول تعالى ذكره: يا أيها الذين صدّقوا الله ورسوله إذَا تَناجَيْتُمْ بينكم فَلا تَتَناجَوْا بالإثْمِ وَالعُدْوَانِ وَمَعْصِيَةِ الرّسُولِ وَ لكن تَنَاجَوْا بالْبِرّ يعني طاعة الله وما يقرّبكم منه والتّقْوَى يقول: وباتقائه بأداء ما كلّفكم من فرائضه واجتناب معاصيه وَاتّقُوا اللّهَ الّذِي إلَيْهِ تُحْشَرونَ يقول: وخافوا الله الذي إليه مصيركم, وعنده مجتمعكم في تضييع فرائضه, والتقدّم على معاصيه أن يعاقبكم عليه عند مصيركم إليه.
الآية : 10
القول فـي تأويـل قوله تعالى:{إِنّمَا النّجْوَىَ مِنَ الشّيْطَانِ لِيَحْزُنَ الّذِينَ آمَنُواْ وَلَيْسَ بِضَآرّهِمْ شَيْئاً إِلاّ بِإِذْنِ اللّهِ وَعَلَى اللّهِ فَلْيَتَوَكّلِ الْمُؤْمِنُونَ }.
يقول تعالى ذكره: إنما المناجاة من الشيطان, ثم اختلف أهل العلم في النجوى التي أخبر الله أنها من الشيطان, أيّ ذلك هو, فقال بعضهم: عُنِي بذلك مناجاة المنافقين بعضهم بعضا. ذكر من قال ذلك:
26131ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد,, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, قوله: إنّمَا النّجْوَى مِن الشّيْطان لِيَحْزُنَ الّذِينَ آمَنُوا كان المنافقون يتناجون بينهم, وكان ذلك يغيظ المؤمنين, ويكبر عليهم, فأنزل الله في ذلك القرآن إنّمَا النّجْوَى مِن الشّيْطان لِيَحْزُنَ الّذِينَ آمَنُوا وَلَيْسَ بِضَارّهِمْ شَيْئا... الآية.
وقال آخرون بما:
26132ـ حدثني يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, في قول الله عزّ وجلّ إنّمَا النّجْوَى مِنَ الشّيْطانِ لِيَحْزُنَ الّذِينَ آمَنُوا وَلَيْسَ بِضَارّهِمْ شَيْئا إلاّ بإذْنِ اللّهِ قال: كان الرجل يأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم يسأله الحاجة ليرى الناس أنه قد ناجى رسول الله صلى الله عليه وسلم, قال: وكان النبيّ صلى الله عليه وسلم لا يمنع ذلك من أحد. قال: والأرض يومئذ حرب على أهل هذا البلد, وكان إبليس يأتي القوم فيقول لهم: إنما يتناجون في أمور قد حضرت, وجموع قد جمعت لكم وأشياء, فقال الله: إنّمَا النّجْوَى مِنَ الشّيْطانِ لِيَحْزُنَ الّذِينَ آمَنُوا... إلى آخر الآية.
26133ـ حدثنا ابن عبد الأعلى, قال: حدثنا ابن ثور, عن معمر, قال: كان المسلمون إذا رأوا المنافقين خلوا يتناجون, يشقّ عليهم, فنزلت إنّمَا النّجْوَى مِنَ الشّيْطانِ لِيَحْزُنَ الّذِينَ آمَنُوا.
وقال آخرون: عُنِي بذلك أحلام النوم التي يراها الإنسان في نومه فتحزنه. ذكر من قال ذلك:
26134ـ حدثنا ابن حُمَيد, قال: حدثنا يحيى بن داود البلخي, قال: سئل عطية, وأنا أسمع الرؤيا, فقال: الرؤيا على ثلاث منازل, فمنها وسوسة الشيطان, فذلك قوله إنّمَا النّجْوَى مِنَ الشّيْطَانِ ومنها ما يحدّث نفسه بالنهار فيراه بالليل ومنها كالأخذ باليد.
وأولى الأقوال في ذلك بالصواب قول من قال: عُنِي به مناجاة المنافقين بعضهم بعضا بالإثم والعدوان, وذلك أن الله جلّ ثناؤه تقدم بالنهي عنها بقوله إذَا تَناجَيْتُمْ فَلا تَتَناجَوْا بالإثْم والعُدْوَانِ وَمَعْصِيَةِ الرّسُولِ ثم عما في ذلك من المكروه على أهل الإيمان, وعن سبب نهيه إياهم عنه, فقال: إنّمَا النّجْوَى مِنَ الشّيْطانِ لِيَحْزُنَ الّذِينَ آمَنُوا فبين بذلك إذ كان النهي عن رؤية المرء في منامه كان كذلك, وكان عقيب نهيه عن النجوى بصفة أنه من صفة ما نهى عنه.
وقوله: وَلَيْسَ بِضَارّهِمْ شَيْئا إلاّ بإذْنِ اللّهِ يقول تعالى ذكره: وليس التناجي بضارّ المؤمنين شيئا إلا بإذن الله, يعني بقضاء الله وقَدَره.
وقوله وَعَلى اللّهِ فَلْيَتَوَكّلِ المُوءْمِنُونَ يقول تعالى ذكره: وعلى الله فليتوكل في أمورهم أهل الإيمان به, ولا يحزنوا من تناجي المنافقين ومن يكيدهم بذلك, وأن تناجيهم غير ضارّهم إذا حفظهم ربهم.
الآية : 11
القول فـي تأويـل قوله تعالى:{يَأَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسّحُواْ فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُواْ يَفْسَحِ اللّهُ لَكُمْ وَإِذَا قِيلَ انشُزُواْ فَانشُزُواْ يَرْفَعِ اللّهُ الّذِينَ آمَنُواْ مِنكُمْ وَالّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ }.
يقول تعالى ذكره: يا أيها الذين صدّقوا الله ورسوله إذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسّحُوا فِي المَجالِسِ يعني بقوله تفسّحُوا توسعوا من قولهم مكان فسيح إذا كان واسعا.
واختلف أهل التأويل في المجلس الذي أمر الله المؤمنين بالتفسح فيه, فقال بعضهم: ذلك كان مجلس النبيّ صلى الله عليه وسلم خاصة. ذكر من قال ذلك:
26135ـ حدثني محمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, قوله: تَفَسّحُوا فِي المجالس قال: مجلس النبيّ صلى الله عليه وسلم كان يقال ذاك خاصة.
حدثنا الحارث, قال: حدثنا الحسن, قال: حدثنا ورقاء, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, مثله.
26136ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, قوله: يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا إذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسّحُوا فِي المجالس... الآية, كانوا إذا رأوا من جاءهم مقبلاً ضنّوا بمجلسهم عند رسول الله صلى الله عليه وسلم, فأمرهم أن يفسح بعضهم لبعض.
26137ـ حُدثت عن الحسين, قال: سمعت أبا معاذ يقول: أخبرنا عبيد, قال: سمعت الضحاك يقول, في قوله: إذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسّحُوا فِي المجالس قال: كان هذا للنبيّ صلى الله عليه وسلم ومن حوله خاصة يقول: استوسعوا حتى يصيب كلّ رجل منكم مجلسا من النبيّ صلى الله عليه وسلم, وهي أيضا مقاعد للقتال.
حدثنا ابن عبد الأعلى, قال: حدثنا ابن ثور, عن معمر, عن قتادة, في قوله تَفَسّحُوا فِي المَجْلِسِ قال: كان الناس يتنافسون في مجلس النبيّ صلى الله عليه وسلم فقيل لهم: إذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسّحُوا فِي المَجْلِس فافْسَحُوا.
26138ـ حدثني يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, في قول الله: إذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسّحُوا فِي المَجالِس فافْسَحُوا يَفْسَحِ اللّهُ لَكُمْ قال: هذا مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم, كان الرجل يأتي فيقول: افسحوا لي رحمكم الله, فيضنّ كلّ أحد منهم بقربه من رسول الله صلى الله عليه وسلم, فأمرهم الله بذلك, ورأى أنه خير لهم.
وقال آخرون: بل عُنِي بذلك في مجالس القتال إذا اصطفوا للحرب. ذكر من قال ذلك:
26139ـ حدثني محمد بن سعد, قال: ثني أبي, قال: ثني عمي, قال: ثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس, قوله: يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا إذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسّحُوا فِي المجالس يَفْسَحِ اللّهُ لَكُمْ قال: ذلك في مجلس القتال.
والصواب من القول في ذلك أن يقال: إن الله تعالى ذكره أمر المؤمنين أن يتفسحوا في المجلس, ولم يخصص بذلك مجلس النبيّ صلى الله عليه وسلم دون مجلس القتال, وكلا الموضعين يقال له مجلس, فذلك على جميع المجالس من مجالس رسول الله صلى الله عليه وسلم ومجالس القتال.
واختلفت القرّاء في قراءة ذلك, فقرأته عامة قرّاء الأمصار: «تَفَسّحُوا فِي المجْلِسِ» على التوحيد غير الحسن البصري وعاصم, فإنهما قرآ ذلك فِي المَجالِسِ على الجماع. وبالتوحيد قراءة ذلك عندنا لإجماع الحجة من القرّاء عليه.
وقوله: فافْسَحُوا يقول: فوسعوا يَفْسَحِ اللّهُ لَكُمْ يقول: يوسع الله منازلكم في الجنة وإذَا قِيلَ انْشُزُوا فانْشُزُوا يقول تعالى ذكره: وإذا قيل ارتفعوا, وإنما يُراد بذلك: وإذا قيل لكم قوموا إلى قتال عدوّ, أو صلاة, أو عمل خير, أو تفرّقوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم, فقوموا. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:
26140ـ حدثني محمد بن سعد, قال: ثني أبي, قال: ثني عمي, قال: ثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس وَإذَا قِيلَ انْشُزُوا فانْشُزُوا إلى وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلونَ خَبِيرٌ قال: إذا قيل: انشزوا فانشزوا إلى الخير والصلاة.
26141ـ حدثني محمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى وحدثني الحارث, قال: حدثنا الحسن, قال: حدثنا ورقاء, جميعا عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, في قوله: فانْشُزُوا قال: إلى كلّ خير, قتال عدّو, أو أمر بالمعروف, أو حقّ ما كان.
26142ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, قوله: وَإذَا قِيلَ انْشُزُوا فانْشُزُوا يقول: إذا دعيتم إلى خير فأجيبوا. وقال الحسن: هذا كله في الغزو.
26143ـ حُدثت عن الحسين, قال: سمعت أبا معاذ يقول: حدثنا عبيد, قال: سمعت الضحاك يقول في قوله: وَإذَا قِيلَ انْشُزُوا فانْشُزُوا كان إذا نودي للصلاة تثاقل رجال, فأمرهم الله إذا نودي للصلاة أن يرتفعوا إليها, يقوموا إليها.
26144ـ وحدثني يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, في قوله وَإذَا قِيلَ انْشُزُوا فانْشُزُوا قال: انشزوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم, قال: هذا في بيته إذا قيل انشزوا, فارتفعوا عن النبيّ صلى الله عليه وسلم, فإن له حوائج, فأحبّ كلّ رجل منهم أن يكون آخر عهده برسول الله صلى الله عليه وسلم, فقال: وَإذَا قِيلَ انْشُزُوا فانْشُزُوا.
وإنما اخترت التأويل الذي قلت في ذلك, لأن الله عزّ وجلّ أمر المؤمنين إذا قيل لهم انشزوا, أن ينشزوا, فعمّ بذلك الأمر جميع معاني النشوز من الخيرات, فذلك على عمومه حتى يخصه ما يجب التسليم له.
واختلفت القرّاء في قراة ذلك, فقرأته عامة قرّاء المدينة فانْشُزُوا بضم الشين, وقرأ ذلك عامة قرّاء الكوفة والبصرة بكسرها.
والصواب من القول في ذلك أنهما قراءتان معروفتان, ولغتان مشهورتان بمنزلة يعكُفون ويعكِفون, ويعرُشون ويعرشون, فبأيّ القراءتين قرأ القارىء فمصيب.
وقوله: يَرْفَعِ اللّهُ الّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالّذِينَ أُوتُوا العِلْم دَرَجاتٍ يقول تعالى ذكره: يرفع الله المؤمنين منكم أيها القوم بطاعتهم ربهم فما أمرهم به من التفسح في المجلس إذا قيل لهم تفسحوا, أو بنشوزهم إلى الخيرات إذا قيل لهم انشزوا إليها, ويرفع الله الذين أوتوا العلم من أهل الإيمان على المؤمنين الذين يؤتوا العلم بفضل علمهم درجات, إذا عملوا بما أمروا به, كما:
26145ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, قوله: يَرْفَعِ اللّهُ الّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالّذِينَ أُوتُوا العِلْم دَرَجاتٍ إن بالعلم لأهله فضلاً, وإن له على أهله حقا, ولعمري للحقّ عليك أيها العالم فضل, والله معطى كل ذي فضل فضله.
وكان مطرف بن عبد الله بن الشّخّير يقول: فضل العلم أحبّ إليّ من فضل العبادة, وخير دينكم الورع.
وكان عبد الله بن مطرف يقول: إنك لتلقى الرجلين أحدهما أكثر صوما وصلاة وصدقة, والاَخر أفضل منه بونا بعيدا, قيل له: وكيف ذاك؟ فقال: هو أشدّهما ورعا لله عن محارمه.
26146ـ حدثني يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, في قوله يَرْفَعِ اللّهُ الّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالّذِينَ أُوتُوا العِلْم دَرَجاتٍ في دينهم إذا فعلوا ما أمروا به.
وقوله: واللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ يقول تعالى ذكره: والله بأعمالكم أيها الناس ذو خبرة, لا يخفى عليه المطيع منكم ربه من العاصي, وهو مجاز جميعكم بعمله المحسن بإحسانه, والمسيىء بالذي هو أهله, أو يعفو