تفسير القرطبي الجامع لأحكام القرآن تفسير الصفحة 547 من المصحف



تفسير القرطبي - صفحة القرآن رقم 547

547- تفسير الصفحة رقم547 من المصحف
الآية: 10 {والذين جاؤوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا ربنا إنك رؤوف رحيم}
قوله تعالى: "والذين جاؤوا من بعدهم" يعني التابعين ومن دخل في الإسلام إلى يوم القيامة. قال ابن أبي ليلى: الناس على ثلاثة منازل: المهاجرون، والذين تبوؤوا الدار والإيمان، والذين جاؤوا من بعدهم. فاجهد ألا تخرج من هذه المنازل. وقال بعضهم: كن شمسا، فإن لم تستطع فكن قمرا، فإن لم تستطع فكن كوكبا مضيئا، فإن لم تستطع فكن كوكبا صغيرا، ومن جهة النور لا تنقطع. ومعنى هذا: كن مهاجريا. فإن قلت: لا أجد، فكن أنصاريا. فإن لم تجد فاعمل كأعمالهم، فإن لم تستطع فأحبهم واستغفر لهم كما أمرك الله. وروى مصعب بن سعد قال: الناس على ثلاثة منازل، فمضت منزلتان وبقيت منزلة؛ فأحسن ما أنتم عليه أن تكونوا بهذه المنزلة التي بقيت. وعن جعفر بن محمد بن علي عن أبيه عن جده علي بن الحسين رضي الله عنه، أنه جاءه رجل فقال له: يا ابن بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، ما تقول في عثمان؟ فقال له: يا أخي أنت من قوم قال الله فيهم: "للفقراء المهاجرين" الآية. قال لا قال: فوالله لئن لم تكن من أهل الآية فأنت من قوم قال الله فيهم: "والذين تبوؤوا الدار والإيمان" الآية. قال لا قال: فوالله لئن لم تكن من أهل الآية الثالثة لتخرجن من الإسلام وهي قوله تعالى: "والذين جاؤوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان" الآية. وقد قيل: إن محمد بن علي بن الحسين، رضي الله عنهم، روى عن أبيه: أن نفرا من أهل العراق جاؤوا إليه، فسبوا أبا بكر وعمر - رضي الله عنهما - ثم عثمان - رضي الله عنه - فأكثروا؛ فقال لهم: أمن المهاجرين الأولين أنتم؟ قالوا لا. فقال: أفمن الذين تبوؤوا الدار والإيمان من قبلهم؟ فقالوا لا. فقال: قد تبرأتم من هذين الفريقين! أنا أشهد أنكم لستم من الذين قال الله عز وجل: "والذين جاؤوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا ربنا إنك رؤوف رحيم" قوموا، فعل الله بكم وفعل ذكره النحاس.
هذه الآية دليل على وجوب محبة الصحابة؛ لأنه جعل لمن بعدهم حظا في الفيء ما أقاموا على محبتهم وموالاتهم والاستغفار لهم، وأن من سبهم أو واحدا منهم أو اعتقد فيه شرا إنه لا حق له في ألفيء؛ روي ذلك عن مالك وغيره. قال مالك: من كان يبغض أحدا من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، أو كان في قلبه عليهم غل، فليس له حق في فيء المسلمين؛ ثم قرأ "والذين جاؤوا من بعدهم" الآية.
هذه الآية تدل على أن الصحيح من أقوال العلماء قسمة المنقول، وإبقاء العقار والأرض شملا بين المسلمين أجمعين؛ كما فعل عمر رضي الله عنه؛ إلا أن يجتهد الوالي فينفذ أمرا فيمضى عمله فيه لاختلاف الناس عليه وأن هذه الآية قاضية بذلك؛ لأن الله تعالى أخبر عن الفيء وجعله لثلاث طوائف: المهاجرين والأنصار - وهم معلمون - "والذين جاؤوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان". فهي عامة في جميع التابعين والآتين بعدهم إلى يوم الدين. وفي الحديث الصحيح: أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج إلى المقبرة فقال: (السلام عليكم دار قوم مؤمنين وإنا إن شاء الله بكم لاحقون وددت أن رأيت إخواننا) قالوا: يا رسول الله، ألسنا بإخوانك؟ فقال: (بل أنتم أصحابي وإخواننا الذين لم يأتوا بعد وأنا فرطهم على الحوض). فبين صلى الله عليه وسلم أن إخوانهم كل من يأتي بعدهم؛ لا كما قال السدي والكلبي: إنهم الذين هاجروا بعد ذلك. وعن الحسن أيضا "والذين جاؤوا من بعدهم" من قصد إلى النبي إلى المدينة بعد انقطاع الهجرة.
قوله تعالى: "يقولون" نصب في موضع الحال؛ أي قائلين. "ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان" فيه وجهان: أحدهما: أمروا أن يستغفروا لمن سبق هذه الأمة من مؤمني أهل الكتاب. قالت عائشة رضي الله عنها: فأمروا أن يستغفروا لهم فسبوهم. الثاني: أمروا أن يستغفروا للسابقين الأولين من المهاجرين والأنصار. قال ابن عباس: أمر الله تعالى بالاستغفار لأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، وهو يعلم أنهم سيفتنون. وقالت عائشة: أمرتم بالاستغفار لأصحاب محمد فسببتموهم، سمعت نبيكم صلى الله عليه وسلم يقول: (لا تذهب هذه الأمة حتى يلعن آخرها أولها) وقال ابن عمر: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إذا رأيتم الذين يسبون أصحابي فقولوا لعن الله أشركم). وقال العوام بن حوشب: أدركت صدر هذه الأمة يقولون: اذكروا محاسن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى تألف عليهم القلوب، ولا تذكروا ما شجر بينهم فتجسروا الناس عليهم. وقال الشعبي: تفاضلت اليهود والنصارى على الرافضة بخصلة، سئلت اليهود: من خير أهل ملتكم؟ فقالوا: أصحاب موسى. وسئلت النصارى: من خير أهل ملتكم؟ فقالوا: أصحاب عيسى. وسئلت الرافضة من شر أهل ملتكم؟ فقالوا: أصحاب محمد، أمروا بالاستغفار لهم فسبوهم، فالسيف عليهم مسلول إلى يوم القيامة، لا تقوم لهم راية، ولا تثبت لهم قدم، ولا تجتمع لهم كلمة كلما أوقدوا نارا للحرب أطفأها الله بسفك دمائهم وإدحاض حجتهم. أعاذنا الله وإياكم من الأهواء المضلة. "ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا ربنا إنك رؤوف رحيم" أي حقدا وحسدا" ربنا إنك رؤوف رحيم".
الآية: 11 {ألم تر إلى الذين نافقوا يقولون لإخوانهم الذين كفروا من أهل الكتاب لئن أخرجتم لنخرجن معكم ولا نطيع فيكم أحدا أبدا وإن قوتلتم لننصرنكم والله يشهد إنهم لكاذبون}
قوله تعالى: "ألم تر إلى الذين نافقوا" تعجب من اغترار اليهود بما وعدهم المنافقون من النصر مع علمهم بأنهم لا يعتقدون دينا ولا كتابا. ومن جملة المنافقين عبدالله بن أبي بن سلول، وعبدالله بن نبتل، ورفاعة بن زيد. وقيل: رافعة بن تابوت، وأوس بن قيظي، كانوا من الأنصار ولكنهم نافقوا، وقالوا ليهود قريظة والنضير. "لئن أخرجتم لنخرجن معكم" وقيل: هو من قول بني النضير لقريظة. "ولا نطيع فيكم أحدا أبدا" يعنون محمدا صلى الله عليه وسلم؛ لا نطيعه في قتالكم. وفي هذا دليل على صحة نبوة محمد صلى الله عليه وسلم من جهة علم الغيب؛ لأنهم أخرجوا فلم يخرجوا، وقوتلوا فلم ينصروهم؛ كما قال الله تعالى: "والله يشهد إنهم لكاذبون" أي في قولهم وفعلهم.
الآية: 12 {لئن أخرجوا لا يخرجون معهم ولئن قوتلوا لا ينصرونهم ولئن نصروهم ليولن الأدبار ثم لا ينصرون}
قوله تعالى: "لئن أخرجوا لا يخرجون معهم ولئن قوتلوا لا ينصرونهم ولئن نصروهم ليولن الأدبار" أي منهزمين. "ثم لا ينصرون" قيل: معنى "لا ينصرونهم" طائعين. "ولئن نصروهم" مكرهين "ليولن الأدبار". وقيل: معنى "لا ينصرونهم" لا يدومون عل نصرهم. هذا على أن الضميرين متفقان. وقيل: إنهما مختلفان؛ والمعنى لئن أخرج اليهود لا يخرج معهم المنافقون، ولئن قوتلوا لا ينصرونهم. "ولئن نصروهم" أي ولئن نصر اليهود المنافقين "ليولن الأدبار". وقيل: "لئن أخرجوا لا يخرجون معهم" أي علم الله منهم أنهم لا يخرجون إن أخرجوا. "ولئن قوتلوا لا ينصرونهم" أي علم الله منهم ذلك. ثم قال: "ليولن الأدبار" فأخبر عما قد أخبر أنه لا يكون كيف كان يكون لو كان؟ وهو كقوله تعالى: "ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه" [الأنعام: 28]. وقيل: معنى "ولئن نصروهم" أي ولئن شئنا أن ينصروهم زينا ذلك لهم. "ليولن الأدبار".
الآية: 13 {لأنتم أشد رهبة في صدورهم من الله ذلك بأنهم قوم لا يفقهون}
قوله تعالى: "لأنتم" يا معشر المسلمين "أشد رهبة" أي خوفا وخشية "في صدورهم من الله" يعني صدور بني النضير. وقيل: في صدور المنافقين. ويحتمل أن يرجع إلى الفريقين؛ أي يخافون منكم أكثر مما يخافون من ربهم ذلك الخوف. "ذلك بأنهم قوم لا يفقهون" أي لا يفقهون قدر عظمة الله وقدرته.
الآية: 14 {لا يقاتلونكم جميعا إلا في قرى محصنة أو من وراء جدر بأسهم بينهم شديد تحسبهم جميعا وقلوبهم شتى ذلك بأنهم قوم لا يعقلون}
قوله تعالى: "لا يقاتلونكم جميعا" يعني اليهود "إلا في قرى محصنة" أي بالحيطان والدور؛ يظنون أنها تمنعهم منكم. "أو من وراء جدر" أي من خلف حيطان يستترون بها لجبنهم ورهبتهم. وقراءة العامة "جدر" على الجمع، وهو اختيار أبي عبيدة وأبي حاتم؛ لأنها نظير قوله تعالى: "في قرى محصنة" وذلك جمع. وقرأ ابن عباس ومجاهد وابن كثير وابن محيصن وأبو عمرو "جدار" على التوحيد؛ لأن التوحيد يؤدي عن الجمع. وروي عن بعض المكيين "جدر" (بفتح الجيم وإسكان الدال)؛ وهي لغة في الجدار. ويجوز أن يكون معناه من وراء نخيلهم وشجرهم؛ يقال: أجدر النخل إذا طلعت رؤوسه في أول الربيع. والجدر: نبت واحدته جدرة. وقرئ "جدر" (بضم الجيم وإسكان الدال) جمع الجدار. ويجوز أن تكون الألف في الواحد كألف كتاب، وفي الجمع كألف ظراف. ومثله ناقة هجان ونوق هجان؛ لأنك تقول في التثنية: هجانان؛ فصار لفظ الواحد والجمع مشتبهين في اللفظ مختلفين في المعنى؛ قاله ابن جني.
قوله تعالى: "بأسهم بينهم شديد" يعني عداوة بعضهم لبعض. وقال مجاهد: "بأسهم بينهم شديد" أي بالكلام والوعيد لنفعلن كذا. وقال السدي: المراد اختلاف قلوبهم حتى لا يتفقوا على أمر واحد. وقيل: "بأسهم بينهم شديد" أي إذا لم يلقوا عدوا نسبوا أنفسهم إلى الشدة والبأس، ولكن إذا لقوا العدو انهزموا. "تحسبهم جميعا وقلوبهم شتى" يعني اليهود والمنافقين؛ قال مجاهد. وعنه أيضا يعني المنافقين. الثوري: هم المشركون وأهل الكتاب. وقال قتادة: "تحسبهم جميعا" أي مجتمعين على أمر ورأي. "وقلوبهم شتى" متفرقة. فأهل الباطل مختلفة آراؤهم، مختلفة شهادتهم، مختلفة أهواؤهم وهم مجتمعون في عداوة أهل الحق. وعن مجاهد أيضا: أراد أن دين المنافقين مخالف لدين اليهود؛ وهذا ليقوي أنفس المؤمنين عليهم. وقال الشاعر :
إلى الله أشكو نية شقت العصا هي اليوم شتى وهي أمس جمع
وفي قراءة ابن مسعود "وقلوبهم أشت" يعني أشد تشتيتا؛ أي أشد اختلافا. "ذلك بأنهم قوم لا يعقلون" أي ذلك التشتيت والكفر بأنهم لا عقل لهم يعقلون به أمر الله.
الآية: 15 {كمثل الذين من قبلهم قريبا ذاقوا وبال أمرهم ولهم عذاب أليم}
قال ابن عباس: يعني به قينقاع؛ أمكن الله منهم قبل بني النضير. وقال قتادة: يعني بني النضير؛ أمكن الله منهم قبل قريظة. مجاهد: يعني كفار قريش يوم بدر. وقيل: هو عام في كل من انتقم منه على كفره قبل بني الضير من نوح إلى محمد صلى الله عليه وسلم. ومعنى "وبال" جزاء كفرهم. ومن قال: هم بنو قريظة، جعل "وبال أمرهم" نزولهم على حكم سعد بن معاذ؛ فحكم فيهم بقتل المقاتل وسبي الذرية. وهو قول الضحاك. ومن قال المراد بنو النضير قال: "وبال أمرهم" الجلاء والنفي. وكان بين النضير وقريظة سنتان. وكانت وقعة بدر قبل غزوة بني النضير بستة أشهر، فلذلك قال: "قريبا" وقد قال قوم: غزوة بني النضير بعد وقعة أحد. "ولهم عذاب أليم" في الآخرة.
الآية: 16 - 17 {كمثل الشيطان إذ قال للإنسان اكفر فلما كفر قال إني بريء منك إني أخاف الله رب العالمين، فكان عاقبتهما أنهما في النار خالدين فيها وذلك جزاء الظالمين}
قوله تعالى: "كمثل الشيطان إذ قال للإنسان اكفر" هذا ضرب مثل للمنافقين واليهود في تخاذلهم وعدم الوفاء في نصرتهم. وحذف حرف العطف، ولم يقل: وكمثل الشيطان؛ لأن حذف حرف العطف كثير كما تقول: أنت عاقل أنت كريم أنت عالم. وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم: أن الإنسان الذي قال له الشيطان اكفر، راهب تركت عنده امرأة أصابها لمم ليدعو لها، فزين له الشيطان فوطئها فحملت، ثم قتلها خوفا أن يفتضح، فدل الشيطان قومها على موضعها، فجاؤوا فاستنزلوا الراهب ليقتلوه، فجاء الشيطان فوعده أنه إن سجد له أنجاه منهم، فسجد له فتبرأ منه فأسلمه. ذكره القاضي إسماعيل وعلي بن المديني عن سفيان بن عيينة عن عمرو بن دينار عن عروة بن عامر عن عبيد بن رفاعة الزرقي عن النبي صلى الله عليه وسلم. وذكر خبره مطولا ابن عباس ووهب بن منبه. ولفظهما مختلف.
قال ابن عباس في قوله تعالى: "كمثل الشيطان" : كان راهب في الفترة يقال له: برصيصا؛ قد تعبد في صومعته سبعين سنة، لم يعص الله فيها طرفة عين، حتى أعيا إبليس، فجمع إبليس مردة الشياطين فقال: ألا أجد منكم من يكفيني أمر برصيصا؟ فقال الأبيض، وهو صاحب الأنبياء، وهو الذي قصد النبي صلى الله عليه وسلم في صورة جبريل ليوسوس إليه على وجه الوحي، فجاء جبريل فدخل بينهما، ثم دفعه بيده حتى وقع بأقصى الهند فذلك قوله تعالى: "ذي قوة عند ذي العرش مكين" [التكوير: 20] فقال: أنا أكفيكه؛ فانطلق فتزيا بزي الرهبان، وحلق وسط رأسه حتى أتى صومعة برصيصا فناداه فلم يجبه؛ وكان لا ينفتل من صلاته إلا في كل عشرة أيام يوما، ولا يفطر إلا في كل عشره أيام؛ وكان يواصل العشرة الأيام والعشرين والأكثر؛ فلما رأى الأبيض أنه لا يجيبه أقبل على العبادة في أصل صومعته؛ فلما انفتل برصيصا من صلاته، رأى الأبيض قائما يصلي في هيئة حسنة من هيئة الرهبان؛ فندم حين لم يجبه، فقال: ما حاجتك؟ فقال: أن أكون معك، فأتأدب بأدبك، وأقتبس من عملك، ونجتمع على العبادة؛ فقال: إني في شغل عنك؛ ثم أقبل على صلاته؛ وأقبل الأبيض أيضا على الصلاة؛ فلما رأى برصيصا شدة اجتهاده وعبادته قال له: ما حاجتك؟ فقال: أن تأذن لي فارتفع إليك. فأذن له فأقام الأبيض معه حولا لا يفطر إلا في كل أربعن يوما يوما واحدا، ولا ينفتل من صلاته إلا في كل أربعين يوما، وربما مد إلى الثمانين؛ فلما رأى برصيصا اجتهاده تقاصرت إليه نفسه. ثم قال الأبيض: عندي دعوات يشفي الله بها السقيم والمبتلي والمجنون؛ فعلمه إياها. ثم جاء إلى إبليس فقال: قد والله أهلكت الرجل. ثم تعرض لرجل فخنقه، ثم قال لأهله - وقد تصور في صورة الآدميين - : إن بصاحبكم جنونا أفأطبه؟ قالوا نعم. فقال: لا أقوى على جنيته، ولكن اذهبوا به إلى برصيصا، فإن عنده اسم الله الأعظم الذي إذا سئل به أعطى،واذا دعي به أجاب؛ فجاؤوه فدعا بتلك الدعوات، فذهب عنه الشيطان.
ثم جعل الأبيض يفعل بالناس ذلك ويرشدهم إلى برصيصا فيعافون. فانطلق إلى جارية من بنات الملوك بين ثلاثة إخوة، وكان أبوهم ملكا فمات واستخلف أخاه، وكان عمها ملكا في بني إسرائيل فعذبها وخنقها. ثم جاء إليهم في صورة رجل متطبب ليعالجها فقال: إن شيطانها مارد لا يطاق، ولكن اذهبوا بها إلى برصيصا فدعوها عنده، فإذا جاء شيطانها دعا لها فبرئت؛ فقالوا: لا يجيبنا إلى هذا؛ قال: فابنوا صومعة في جانب صومعته ثم ضعوها فيها، وقولوا: هي أمانة عندك فاحتسب فيها. فسألوه ذلك فأبى فبنوا صومعة ووضعوا فيها الجارية؛ فلما انفتل من صلاته عاين الجارية وما بها من الجمال فأسقط في يده، فجاءها الشيطان فخنقها فانفتل من صلاته ودعا لها فذهب عنها الشيطان، ثم أقبل على صلاته فجاءها الشيطان فخنقها. وكان يكشف عنها ويتعرض بها لبرصيصا، ثم جاءه الشيطان فقال: ويحك! واقعها، فما تجد مثلها ثم تتوب بعد ذلك. فلم يزل به حتى واقعها فحملت وظهر حملها. فقال له الشيطان: ويحك! قد افتضحت. فهل لك أن تقتلها ثم تتوب فلا تفتضح، فإن جاؤوك وسألوك فقل جاءها شيطانها فذهب بها. فقتلها برصيصا ودفنها ليلا؛ فأخذ الشيطان طرف ثوبها حتى بقي خارجا من التراب؛ ورجع برصيصا إلى صلاته. ثم جاء الشيطان إلى إخوتها في المنام فقال: إن برصيصا فعل بأختكم كذا وكذا، وقتلها ودفنها في جبل كذا وكذا؛ فاستعظموا ذلك وقالوا لبرصيصا: ما فعلت أختنا؟ فقال: ذهب بها شيطانها؛ فصدقوه وانصرفوا.
ثم جاءهم الشيطان في المنام وقال: إنها مدفونة في موضع كذا وكذا، وإن طرف ردائها خارج من التراب؛ فانطلقوا فوجدوها، فهدموا صومعته وأنزلوه وخنقوه، وحملوه إلى الملك فأقر على نفسه فأمر بقتله. فلما صلب قال الشيطان: أتعرفني؟ قال لا والله قال: أنا صاحبك الذي علمتك الدعوات، أما اتقيت الله أما استحيت وأنت أعبد بني إسرائيل ثم لم يكفك صنيعك حتى فضحت نفسك، وأقررت عليها وفضحت أشباهك من الناس فان مت على هذه الحالة لم يفلح أحد من نظرائك بعدك. فقال: كيف أصنع؟ قال: تطيعني في خصلة واحدة وأنجيك منهم وآخذ بأعينهم. قال: وما ذاك؟ قال تسجد لي سجدة واحدة؛ فقال: أنا أفعل؛ فسجد له من دون الله. فقال: يا برصيصا، هذا أردت منك؛ كان عاقبة أمرك أن كفرت بربك، إني بريء منك، إني أخاف الله رب العالمين.
وقال وهب بن منبه: إن عابدا كان في بني إسرائيل، وكان من أعبد أهل زمانه، وكان في زمانه ثلاثة إخوة لهم أخت، وكانت بكرا، ليست لهم أخت غيرها، فخرج البعث على ثلاثتهم، فلم يدروا عند من يخلفون أختهم، ولا عند من يأمنون عليها، ولا عند من يضعونها. قال فاجتمع رأيهم على أن يخلفوها عند عابد بني إسرائيل، وكان ثقة في أنفسهم، فأتوه فسألوه أن يخلفوها عنده، فتكون في كنفه وجواره إلى أن يقفلوا من غزاتهم، فأبى ذلك عليهم وتعوذ بالله منهم ومن أختهم. قال فلم يزالوا به حتى أطمعهم فقال: أنزلوها في بيت حذاء صومعتي، فأنزلوها في ذلك البيت ثم انطلقوا وتركوها، فمكثت في جوار ذلك العابد زمانا، ينزل إليها الطعام من صومعته، فيضعه عند باب الصومعة، ثم يغلق بابه ويصعد في صومعته، ثم يأمرها فتخرج من بيتها فتأخذ ما وضع لها من الطعام. قال: فتلطف له الشيطان فلم يزل يرغبه في الخير، ويعظم عليه خروج الجارية من بيتها نهارا، ويخوفه أن يراها أحد فيعلقها. قال: فلبث بذلك زمانا، ثم جاءه إبليس فرغبه في الخير والأجر، وقال له: لو كنت تمشي إليها بطعامها حتى تضعه في بيتها كان أعظم لأجرك؛ قال: فلم يزل به حتى مشى إليها بطعامها فوضعه في بيتها، قال: فلبثت بذلك زمانا ثم جاءه إبليس فرغبه في الخير وحضه عليه، وقال: لو كنت تكلمها وتحدثها فتأنس بحديثك، فإنها قد استوحشت وحشة شديدة. قال: فلم يزل به حتى حدثها زمانا يطلع عليها من فوق صومعته. قال: ثم أتاه إبليس بعد ذلك فقال: لوكنت تنزل إليها فتقعد على باب صومعتك وتحدثها وتقعد على باب بيتها فتحدثك كان أنس لها. فلم يزل به حتى أنزله وأجلسه على باب صومعته يحدثها، وتخرج الجارية من بيتها، فلبثا زمانا يتحدثان، ثم جاءه إبليس فرغبه في الخير والثواب فيما يصنع بها، وقال: لو خرجت من باب صومعتك فجلست قريبا من باب بيتها كان آنس لها. فلم يزل به حتى فعل. قال: فلبثا زمانا، ثم جاءه إبليس فرغبه في الخير وفيما له من حسن الثواب فيما يصنع بها، وقال له: لو دنوت من باب بيتها فحدثتها ولم تخرج من بيتها، ففعل. فكان ينزل من صومعته فيقعد على باب بيتها فيحدثها. فلبثا بذلك حينا ثم جاءه إبليس فقال: لو دخلت البيت معها تحدثها ولم تتركها تبرز وجهها لأحد كان أحسن بك. فلم يزل به حتى دخل البيت، فجعل يحدثها نهاره كله، فإذا أمسى صعد في صومعته. قال: ثم أتاه إبليس بعد ذلك، فلم يزل يزينها له حتى ضرب العابد على فخذها وقبلها. فلم يزل به إبليس يحسنها في عينه ويسول له حتى وقع عليها فأحبلها، فولدت له غلاما، فجاءه إبليس فقال له: أرأيت أن جاء إخوة هذه الجارية وقد ولدت منك! كيف تصنع! لا آمن عليك أن تفتضح أو يفضحوك! فاعمد إلى ابنها فاذبحه وادفنه، فإنها ستكتم عليك مخافة إخوتها أن يطلعوا على ما صنعت بها، ففعل. فقال له: أتراها تكتم إخوتها ما صنعت بها وقتلت ابنها! خذها فاذبحها وادفنها مع ابنها. فلم يزل به حتى ذبحها وألقاها في الحفيرة مع ابنها، وأطبق عليها صخرة عظيمة، وسوى عليها التراب، وصعد في صومعته يتعبد فيها؛ فمكث بذلك ما شاء الله أن يمكث؛ حتى قفل إخوتها من الغزو، فجاؤوه فسألوه عنها فنعاها لهم وترحم عليها، وبكى لهم وقال: كانت خير أمة، وهذا قبرها فانظروا إليه.
فأتى إخوتها القبر فبكوا على قبرها وترحموا عليها، وأقاموا على قبرها أياما ثم انصرفوا إلى أهاليهم. فلما جن عليهم الليل وأخذوا مضاجعهم، أتاهم الشيطان في صورة رجل مسافر، فبدأ بأكبرهم فسأله عن أختهم؛ فأخبره بقول العابد وموتها وترحمه عليها، وكيف أراهم موضع قبرها؛ فكذبه الشيطان وقال: لم يصدقكم أمر أختكم، إنه قد أحبل أختكم وولدت منه غلاما فذبحه وذبحها معه فزعا منكم، وألقاها في حفيرة احتفرها خلف الباب الذي كانت فيه عن يمين من دخله. فانطلقوا فادخلوا البيت الذي كانت فيه عن يمين من دخله فإنكم ستجدونهما هنالك جميعا كما أخبرتكم. قال: وأتى الأوسط في منامه وقال له مثل ذلك. ثم أتى أصغرهم فقال له مثل ذلك. فلما استيقظ القوم استيقظوا متعجبين لما رأى كل واحد منهم. فأقبل بعضهم على بعض، يقول كل واحد منهم: لقد رأيت عجبا، فأخبر بعضهم بعضا بما رأى. قال أكبرهم: هذا حلم ليس بشيء، فامضوا بنا ودعوا هذا. قال أصغرهم: لا أمضى حتى أتي ذلك المكان فأنظر فيه. قال: فانطلقوا جميعا حتى دخلوا البيت الذي كانت فيه أختهم، ففتحوا الباب وبحثوا الموضع الذي وصف لهم في منامهم، فوجدوا أختهم وابنها مذبوحين في الحفيرة كما قيل لهم، فسألوا العابد فصدق قول إبليس فيما صنع بهما. فاستعدوا عليه ملكهم، فأنزل من صومعته فقدموه ليصلب، فلما أوقفوه على الخشبة أتاه الشيطان فقال له: قد علمت أني صاحبك الذي فتنتك في المرأة حتى أحبلتها وذبحتها وذبحت ابنها، فإن أنت أطعتني اليوم وكفرت بالله الذي خلقك خلصتك مما أنت فيه. قال: فكفر العابد بالله؛ فلما كفر خلى الشيطان بينه وبين أصحابه فصلبوه.
قال: ففيه نزلت هذه الآية: "كمثل الشيطان إذ قال للإنسان اكفر فلما كفر قال إني بريء منك إني أخاف الله رب العالمين - إلى قوله - جزاء الظالمين. قال ابن عباس: فضرب الله هذا مثلا للمنافقين مع اليهود. وذلك أن الله تعالى أمر نبيه عليه السلام أن يجلي بني النضير من المدينة، فدس إليهم المنافقون ألا تخرجوا من دياركم، فإن قاتلوكم كنا معكم، وإن أخرجوكم كنا معكم، فحاربوا النبي صلى الله عليه وسلم فخذلهم المنافقون، وتبرؤوا منهم كما تبرأ الشيطان من برصيصا العابد. فكان الرهبان بعد ذلك لا يمشون إلا بالتقية والكتمان. وطمع أهل الفسوق والفجور في الأحبار فرموهم بالبهتان والقبيح، حتى كان أم جريج الراهب، وبرأه الله فانبسطت بعده الرهبان وظهروا للناس. وقيل: المعنى مثل المنافقين في غدرهم لبني النضير كمثل إبليس إذ قال لكفار قريش: "لا غالب لكم اليوم من الناس وإني جار لكم" [الأنفال: 48] الآية. وقال مجاهد المراد بالإنسان ها هنا جميع الناس في غرور الشيطان إياهم. ومعنى قوله تعالى: "إذ قال للإنسان اكفر" أي أغواه حتى قال: إني كافر. وليس قول الشيطان: "إني أخاف الله رب العالمين" حقيقة، إنما هو على وجه التبرؤ من الإنسان، فهو تأكيد لقوله تعالى: "إني بريء منك" وفتح الياء من "إني" نافع وابن كثير وأبو عمرو. وأسكن الباقون. "فكان عاقبتهما" أي عاقبة الشيطان وذلك الإنسان "أنهما في النار خالدين فيها" نصب على الحال. والتثنية ظاهرة فيمن جعل الآية مخصوصة في الراهب والشيطان. ومن جعلها في الجنس فالمعنى: وكان عاقبة الفريقين أو الصنفين. ونصب "عاقبتهما" على أنه خبر كان. والاسم "أنهما في النار" وقرأ الحسن "فكان عاقبتهما" بالرفع على الضد من ذلك. وقرأ الأعمش "خالدان فيها" بالرفع وذلك خلاف المرسوم. ورفعه على أنه خبر "أن" والظرف ملغى.