تفسير القرطبي الجامع لأحكام القرآن تفسير الصفحة 548 من المصحف



تفسير القرطبي - صفحة القرآن رقم 548

548- تفسير الصفحة رقم548 من المصحف
"فكان عاقبتهما" أي عاقبة الشيطان وذلك الإنسان "أنهما في النار خالدين فيها" نصب على الحال. والتثنية ظاهرة فيمن جعل الآية مخصوصة في الراهب والشيطان. ومن جعلها في الجنس فالمعنى: وكان عاقبة الفريقين أو الصنفين. ونصب "عاقبتهما" على أنه خبر كان. والاسم "أنهما في النار" وقرأ الحسن "فكان عاقبتهما" بالرفع على الضد من ذلك. وقرأ الأعمش "خالدان فيها" بالرفع وذلك خلاف المرسوم. ورفعه على أنه خبر "أن" والظرف ملغى.
الآية: 18 {يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله ولتنظر نفس ما قدمت لغد واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون}
قوله تعالى: "يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله" في أوامره ونواهيه، وأداء فرائضه واجتناب معاصيه. "ولتنظر نفس ما قدمت لغد" يعني يوم القيامة. والعرب تكني عن المستقبل بالغد. وقيل: ذكر الغد تنبيها على أن الساعة قريبة؛ كما قال الشاعر:
وإن غدا للناظرين قريب
وقال الحسن وقتادة: قرب الساعة حتى جعلها كغد. ولا شك أن كل آت قريب؛ والموت لا محالة آت. ومعنى "ما قدمت" يعني من خير أو شر. "واتقوا الله" أعاد هذا تكريرا، كقولك: اعجل اعجل، ارم ارم. وقيل التقوى الأولى التوبة فيما مضى من الذنوب، والثانية اتقاء المعاصي في المستقبل. "إن الله خبير بما تعملون" قال سعيد بن جبير: أي بما يكون منكم. والله اعلم.
الآية: 19 {ولا تكونوا كالذين نسوا الله فأنساهم أنفسهم أولئك هم الفاسقون}
قوله تعالى: "ولا تكونوا كالذين نسوا الله" أي تركوا أمره "فأنساهم أنفسهم" أن يعلموا لها خيرا؛ قال ابن حبان. وقيل: نسوا حق الله فأنساهم حق أنفسهم؛ قال سفيان. وقيل: "نسوا الله" بترك شكره وتعظيمه. "فأنساهم أنفسهم" بالعذاب أن يذكر بعضهم بعضا؛ حكاه ابن عيسى. وقال سهل بن عبدالله: "نسوا الله" عند الذنوب "فأنساهم انفسهم" عند التوبة. ونسب تعالى الفعل إلى نفسه في "أنساهم" إذ كان ذلك بسبب أمره ونهيه الذي تركوه. وقيل: معناه وجدهم تاركين أمره ونهيه؛ كقولك: أحمدت الرجل إذا وجدته محمودا. وقيل: "نسوا الله" في الرخاء "فأنساهم أنفسهم" في الشدائد. "أولئك هم الفاسقون" قال ابن جبير: العاصون. وقال ابن زيد: الكاذبون. وأصل الفسق الخروج؛ أي الذين خرجوا عن طاعة الله.
الآية: 20 {لا يستوي أصحاب النار وأصحاب الجنة أصحاب الجنة هم الفائزون}
قوله تعالى: "لا يستوي أصحاب النار وأصحاب الجنة" أي في الفضل والرتبة "أصحاب الجنة هم الفائزون" أي المقربون المكرمون. وقيل: الناجون من النار. وقد مضى الكلام في معنى هذه الآية في "المائدة" عند قوله تعالى: "قل لا يستوي الخبيث والطيب" [المائدة: 100] وفي سورة "السجدة" عند قوله تعالى: "أفمن كان مؤمنا كمن كان فاسقا لا يستوون" [السجدة: 18]. وفي سورة "ص" "أم نجعل الذين آمنوا وعملوا الصالحات كالمفسدين في الأرض أم نجعل المتقين كالفجار" [ص: 28] فلا معنى للإعادة، والحمد لله.
الآية: 21 {لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعا متصدعا من خشية الله وتلك الأمثال نضربها للناس لعلهم يتفكرون}
قوله تعالى: "لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعا" حث على تأمل مواعظ القرآن وبين أنه لا عذر في ترك التدبر؛ فإنه لو خوطب بهذا القرآن الجبال مع تركيب العقل فيها لانقادت لمواعظه، ولرأيتها على صلابتها ورزانتها خاشعة متصدعة؛ أي متشققة من خشية الله. والخاشع: الذليل. والمتصدع: المتشقق. وقيل: "خاشعا" لله بما كلفه من طاعته. "من خشية الله" أن يعصيه فيعاقبه. وقيل: هو على وجه المثل للكفار. "وتلك الأمثال نضربها للناس لعلهم يتفكرون" أي أنه لو أنزل هذا القرآن على جبل لخشع لوعده وتصدع لوعيده وأنتم أيها المقهورون بإعجازه لا ترغبون في وعده، ولا ترهبون من وعيده وقيل: الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم؛ أي لو أنزلنا هذا القرآن يا محمد على جبل لما ثبت، وتصدع من نزوله عليه؛ وقد أنزلناه عليك وثبتناك له؛ فيكون ذلك امتنانا عليه أن ثبته لما لا تثبت له الجبال. وقيل: إنه خطاب للأمة، وأن الله تعالى لو أنذر بهذا القرآن الجبال لتصدعت من خشية الله. والإنسان أقل قوة وأكثر ثباتا؛ فهو يقوم بحقه إن أطاع، ويقدر على رده إن عصى؛ لأنه موعود بالثواب، ومزجور بالعقاب.
الآية: 22 {هو الله الذي لا إله إلا هو عالم الغيب والشهادة هو الرحمن الرحيم}
قوله تعالى: "هو الله الذي لا إله إلا هو عالم الغيب والشهادة" قال ابن عباس: عالم السر والعلانية. وقيل: ما كان وما يكون. وقال سهل. عالم بالآخرة والدنيا. وقيل: "الغيب" ما لم يعلم العباد ولا عاينوه. "والشهادة" ما علموا وشاهدوا. "هو الرحمن الرحيم".
الآية: 23 {هو الله الذي لا إله إلا هو الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن العزيز الجبار المتكبر سبحان الله عما يشركون}
قوله تعالى: "هو الله الذي لا إله إلا هو الملك القدوس" أي المنزه عن كل نقص، والطاهر عن كل عيب. والقدس (بالتحريك): السطل بلغة أهل الحجاز؛ لأنه يتطهر به. ومنه القادوس لواحد الأواني التي يستخرج بها الماء من البئر بالسانية. وكان سيبويه يقول: قدوس وسبوح؛ بفتح أولهما. وحكى أبو حاتم عن يعقوب أنه سمع عند الكسائي أعرابيا فصيحا يكني أبا الدينار يقرأ "القدوس" بفتح القاف. قال ثعلب: كل اسم على فعول فهو مفتوح الأول؛ مثل سفود وكلوب وتنور وسمور وشبوط، إلا السبوح والقدوس فان الضم فيهما أكثر؛ وقد يفتحان. وكذلك الذروج (بالضم) وقد يفتح. "السلام" أي ذو السلامة من النقائص. وقال ابن العربي: اتفق العلماء رحمة الله عليهم على أن معنى قولنا في الله "السلام" : النسبة، تقديره ذو السلامة. ثم اختلفوا في ترجمة النسبة على ثلاثة أقوال: الأول: معناه الذي سلم من كل عيب وبريء من كل نقصى. الثاني: معناه ذو السلام؛ أي المسلم على عباده في الجنة؛ كما قال: "سلام قولا من رب رحيم" [يس: 58]. الثالث: أن معناه الذي سلم الخلق من ظلمه.
قلت: وهذا قول الخطابي؛ وعليه والذي قبله يكون صفة فعل. وعلى أنه البريء من العيوب والنقائص يكون صفة ذات. وقيل: السلام معناه المسلم لعباده.
قوله تعالى: "المؤمن" أي المصدق لرسله بإظهار معجزاته عليهم ومصدق المؤمنين ما وعدهم به من الثواب ومصدق الكافرين ما أوعدهم من العقاب. وقيل: المؤمن الذي يؤمن أولياءه من عذابه ويؤمن عباده من ظلمه؛ يقال: آمنه من الأمان الذي هو ضد الخوف؛ كما قال تعالى: "وآمنهم من خوف" [قريش: 4] فهو مؤمن؛ قال النابغة:
والمؤمن العائذات الطير يمسحها ركبان مكة بين الغيل والسند
وقال مجاهد: المؤمن الذي وحد نفسه بقول: "شهد الله أنه لا إله إلا هو" [آل عمران: 18]. وقال ابن عباس: إذا كان يوم القيامة أخرج أهل التوحيد من النار. وأول من يخرج من وافق اسمه اسم نبي، حتى إذا لم يبق فيها من يوافق اسمه اسم نبي قال الله تعالى لباقيهم: أنتم المسلمون وأنا السلام، وأنتم المؤمنون وأنا المؤمن، فيخرجهم من النار ببركة هذين الاسمين. "المهيمن العزيز" وقال قتادة: المهيمن معناه المشاهد. وقيل: الحافظ. وقال الحسن: المصدق؛ "الجبار" قال ابن عباس: هو العظيم. وجبروت الله عظمته. وهو على هذا القول صفة ذات، من قولهم: نخلة جبارة. قال امرؤ القيس:
سوامق جبار أثيث فروعه وعالين قنوانا من البسر أحمرا
يعني النخلة التي فاتت اليد. فكان هذا الاسم يدل على عظمة الله وتقديسه عن أن تناله النقائص وصفات الحدث. وقيل: هو من الجبر وهو الإصلاح، يقال: جبرت العظم فجبر، إذا أصلحته بعد الكسر، فهو فعال من جبر إذا أصلح الكسير وأغنى الفقير. وقال الفراء: هو من أجبره على الأمر أي قهره. قال: ولم أسمع فعالا من أفعل إلا في جبار ودراك من أدرك. وقيل : الجبار الذي لا تطاق سطوته. "المتكبر" الذي تكبر بربوبيته فلا شيء مثله. وقيل: المتكبر عن كل سوء المتعظم عما لا يليق به من صفات الحدث والذم. وأصل الكبر والكبرياء الامتناع وقلة الانقياد. وقال حميد بن ثور:
عفت مئل ما يعفو الفصيل فأصبحت بها كبرياء الصعب وهي ذلول
والكبرياء في صفات الله مدح، وفي صفات المخلوقين ذم. وفي الصحيح عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال فيما يرويه عن ربه تبارك وتعالى أنه قال: (الكبرياء ردائي والعظمة إزاري فمن نازعني في واحد منهما قصمته ثم قذفته في النار). وقيل: المتكبر معناه العالي. وقيل: معناه الكبير لأنه أجل من أن يتكلف كبرا. وقد يقال: تظلم بمعنى ظلم، وتشتم بمعنى شتم، واستقر بمعنى قر. كذلك المتكبر بمعنى الكبير. وليس كما يوصف به المخلوق إذا وصف بتفعل إذا نسب إلى ما لم يكن منه. ثم نزه نفسه فقال: "سبحان الله" أي تنزيها لجلالته وعظمته "عما يشركون".
الآية: 24 {هو الله الخالق البارئ المصور له الأسماء الحسنى يسبح له ما في السماوات والأرض وهو العزيز الحكيم}
قوله تعالى: "هو الله الخالق البارئ المصور" "الخالق" هنا المقدر. و"البارئ" المنشئ المخترع. و"المصور" مصور الصور ومركبها على هيئات مختلفه. فالتصوير مرتب على الخلق والبراية وتابع لهما. ومعنى التصوير التخطيط والتشكيل. وخلق الله الإنسان في أرحام الأمهات ثلاث خلق: جحله علقة، ثم مضغة، ثم جعله صورة وهو التشكيل الذي يكون به صورة وهيئة يعرف بها ويتميز عن غيره بسمتها. فتبارك الله أحسن الخالقين. وقال النابغة:
الخالق البارئ المصور في الـ ـأرحام ماء حتى يصير دما
وقد جعل بعض الناس الخلق بمعنى التصوير، وليس كذلك، وإنما التصوير آخرا والتقدير أولا والبراية بينهما. ومنه قول الحق: "وإذ تخلق من الطين كهيئة الطير" [المائدة: 110]. وقال زهير:
ولأنت تفري ما خلقت وبعـ ـض القوم يخلق ثم لا يفري
يقول: تقدم ما تقدر ثم تفريه، أي تمضيه على وفق تقديرك، وغيرك يقدر ما لا يتم له ولا يقع فيه مراده، إما لقصوره في تصور تقديره أو لعجزه عن تمام مراده. وقد أتينا على هذا كله في "الكتاب الأسنى في شرح أسماء الله الحسنى" والحمد لله. وعن حاطب بن أبي بلتعة أنه قرأ "البارئ المصور" بفتح الواو ونصب الراء، أي الذي يبرأ المصور، أي يميز ما يصوره بتفاوت الهيئات. ذكره الزمخشري. "له الأسماء الحسنى يسبح له ما في السماوات والأرض وهو العزيز الحكيم" تقدم الكلام فيه. وعن أبي هريرة قال: سألت خليلي أبا القاسم رسول الله صلى الله عليه وسلم عن اسم الله الأعظم فقال: (يا أبا هريرة، عليك بآخر سورة الحشر فأكثر قراءتها) فأعدت عليه فأعاد علي، فأعدت عليه فأعاد علي. وقال جابر بن زيد: إن اسم الله الأعظم هو الله لمكان هذه الآية. وعن أنس بن مالك: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من قرأ سورة الحشر غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر). وعن أبي أمامة قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من قرأ خواتيم سورة الحشر في ليل أو نهار فقبضه الله في تلك الليلة أو ذلك اليوم فقد أوجب الله له الجنة).