تفسير القرطبي الجامع لأحكام القرآن تفسير الصفحة 578 من المصحف



تفسير القرطبي - صفحة القرآن رقم 578

578- تفسير الصفحة رقم578 من المصحف
"كلا" قال ابن عباس: أي إن أبا جهل لا يؤمن بتفسير القرآن وبيانه. وقيل: أي (كلا) لا يصلون ولا يذكون يريد كفار مكة. "بل تحبون" أي بل تحبون يا كفار أهل مكة "العاجلة" أي الدار الدنيا والحياة فيها "وتذرون" أي تدعون "الآخرة" والعمل لها. وفي بعض التفسير قال: الآخرة الجنة. وقرأ أهل المدينة والكوفيون "بل تحبون" "وتذرون" بالتاء فيهما على الخطاب واختاره أبو عبيد؛ قال: ولولا الكراهة لخلاف هؤلاء القراء لقرأتها بالياء؛ لذكر الإنسان قبل ذلك. الباقون بالياء على الخبر، وهو اختيار أبي حاتم، فمن قرأ بالياء فردا على قوله تعالى: "ينبأ الإنسان" [القيامة: 13] وهو بمعنى الناس. ومن قرأ بالتاء فعلى أنه واجههم بالتقريع؛ لأن ذلك أبلغ في المقصود؛ نظيره: "إن هؤلاء يحبون العاجلة ويذرون وراءهم يوما ثقيلا" [الإنسان: 27].
الآية: 22 - 25 {وجوه يومئذ ناضرة، إلى ربها ناظرة، ووجوه يومئذ باسرة، تظن أن يفعل بها فاقرة}
قوله تعالى: "وجوه يومئذ ناضرة، إلى ربها ناظرة" الأول من النضرة التي هي الحسن والنعمة. والثاني من النظر أي وجوه المؤمنين مشرقة حسنة ناعمة؛ يقال: نضرهم الله ينضرهم نضرة ونضارة وهو الإشراق والعيش والغنى؛ ومنه الحديث (نضر الله امرأ سمع مقالتي فوعاها). "إلى ربها" إلى خالقها ومالكها "ناظرة" من النظر أي تنظر إلى ربها؛ على هذا جمهور العلماء. وفي الباب حديث صهيب خرجه مسلم وقد مضى في "يونس" عند قوله تعالى: "للذين أحسنوا الحسنى وزيادة" [يونس: 26]. وكان ابن عمر يقول: أكرم أهل الجنة على الله من ينظر إلى وجهه غدوة وعشية؛ ثم تلا هذه الآية: "وجوه يومئذ ناضرة. إلى ربها ناظرة" وروى يزيد النحوي عن عكرمة قال: تنظر إلى ربها نظرا. وكان الحسن يقول: نضرت وجوههم ونظروا إلى ربهم.
وقيل: إن النظر هنا انتظار ما لهم عند الله من الثواب. وروي عن ابن عمر ومجاهد. وقال عكرمة: تنتظر أمر ربها. حكاه الماوردي عن ابن عمر وعكرمة أيضا. وليس معروفا إلا عن مجاهد وحده. واحتجوا بقوله تعالى: "لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار" [الأنعام: 103] وهذا القول ضعيف جدا، خارج عن مقتضى ظاهر الآية والأخبار. وفي الترمذي عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن أدنى أهل الجنة منزلة لمن ينظر إلى جنانه وأزواجه وخدمه وسرره مسيرة ألف سنة وأكرمهم على الله من ينظر إلى وجهه غدوة وعشية) ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم: "وجوه يومئذ ناضرة. إلى ربها ناظرة" قال هذا حديث غريب. وقد روى عن ابن عمرو ولم يرفعه. وفي صحيح مسلم عن أبي بكر بن عبدالله بن قيس عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (جنتان من فضة آنيتهما وما فيهما، وجنتان من ذهب آنيتهما وما فيهما، وما بين القوم وبين أن ينظروا إلى ربهم جل وعز إلا رداء الكبرياء على وجهه في جنة عدن). وروى جرير بن عبدالله قال: كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم جلوسا، فنظر إلى القمر ليلة البدر فقال: (إنكم سترون ربكم عيانا كما ترون هذا القمر، لا تضامون في رؤيته، فإن استطعتم ألا تغلبوا على صلاة قبل طلوع الشمس وقبل غروبها فافعلوا). ثم قرأ "وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل الغروب" متفق عليه. وخرجه أيضا أبو داود والترمذي وقال حديث حسن صحيح. وخرج أبو داود عن أبي رزين العقيلي قال: قلت يا رسول الله أكلنا يرى ربه؟ قال ابن معاذ: مخليا به يوم القيامة؟ قال: (نعم يا أبا رزين) قال: وما آية ذلك في خلقه؟ قال: (يا أبا رزين أليس كلكم يرى القمر) قال ابن معاذ: ليلة البدر مخليا به. قلنا: بلى. قال: (فالله أعظم) (قال ابن معاذ قال): (فإنما هو خلق من خلق الله - يعني القمر - فالله أجل وأعظم). وفي كتاب النسائي عن صهيب قال: (فيكشف الحجاب فينظرون إليه، فوالله ما أعطاهم الله شيئا أحب إليهم من النظر، ولا أقر لأعينهم) وفي التفسير لأبي إسحاق الثعلبي عن الزبير عن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [يتجلى ربنا عز وجل حتى ينظروا إلى وجهه، فيخرون له سجدا، فيقول ارفعوا رؤوسكم فليس هذا بيوم عبادة]
قال الثعلبي: وقول مجاهد إنها بمعنى تنتظر الثواب من ربها ولا يراه شيء من خلقه، فتأويل مدخول، لأن العرب إذا أرادت بالنظر الانتظار قالوا نظرته؛ كما قال تعالى: "هل ينظرون إلا الساعة" [الزخرف: 66]، "هل ينظرون إلا تأويله" [الأعراف: 53]، و"ما ينظرون إلا صيحة واحدة" [يس: 49] وإذا أرادت به التفكر والتدبر قالوا: نظرت فيه، فأما إذا كان النظر مقرونا بذكر إلى، وذكر الوجه فلا يكون إلا بمعنى الرؤية والعيان. وقال الأزهري: إن قول مجاهد تنتظر ثواب ربها خطأ؛ لأنه لا يقال نظر إلى كذا بمعنى الانتظار، وإن قول القائل: نظرت إلى فلان ليس إلا رؤية عين، كذلك تقوله العرب؛ لأنهم يقولون نظرت إليه: إذا أرادوا نظر العين، فإذا أرادوا الانتظار قالوا نظرته؛ قال:
فإنكما إن تنظراني ساعة من الدهر تنفعني لدى أم جندب
لما أراد الانتظار قال تنظراني، ولم يقل تنظران إلي؛ وإذا أرادوا نظر العين قالوا: نظرت إليه؛ قال:
نظرت إليها والنجوم كأنها مصابيح رهبان تشب لقفال
وقال آخر:
نظرت إليها بالمحصب من منى ولي نظر لولا التحرج عارم
وقال آخر:
إني إليك لما وعدت لناظر نظر الفقير إلى الغني الموسر
أي إني أنظر إليك بذل؛ لأن نظر الذل والخضوع أرق لقلب المسؤول؛ فأما ما استدلوا به من قوله تعالى: "لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار" [الأنعام: 103] فإنما ذلك في الدنيا. وقد مضى القول فيه في موضعه مستوفى. وقال عطية العوفي: ينظرون إلى الله لا تحيط أبصارهم به من عظمته، ونظره يحيط بها؛ يدل عليه: "لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار" [الأنعام: 103] قال القشيري أبو نصر: وقيل: "إلى" واحد الآلاء: أي نعمه منتظرة وهذا أيضا باطل؛ لأن واحد الآلاء يكتب بالألف لا بالياء، ثم الآلاء: نعمه الدفع، وهم في الجنة لا ينتظرون دفع نقمه عنهم، والمنتظر للشيء متنغص العيش، فلا يوصف أهل الجنة بذلك. وقيل: أضاف النظر إلى الوجه؛ وهو كقوله تعالى: "تجري من تحتها الأنهار" [المائدة: 119] والماء يجري في النهر لا النهر. ثم قد يذكر الوجه بمعنى العين؛ قال الله تعالى: "فألقوه على وجه أبي يأت بصيرا" [يوسف: 93] أي على عينيه. ثم لا يبعد قلب العادة غدا، حتى يخلق الرؤية والنظر في الوجه؛ وهو كقوله تعالى: "أفمن يمشي مكبا على وجهه" [الملك: 22]، فقيل: يا رسول الله! كيف يمشون في النار على وجوههم؟ قال: (الذي أمشاهم على أقدامهم قادر أن يمشيهم على وجوههم). "ووجوه يومئذ باسرة" أي وجوه الكفار يوم القيامة كالحة كاسفة عابسة. وفي الصحاح: وبسر الفحل الناقة وابتسرها: إذا ضربها من غير ضبعة. وبسر الرجل وجهه بسورا أي كلح؛ يقال: عبس وبسر. وقال السدي: "باسرة" أي متغيرة والمعنى واحد. "تظن أن يفعل بها فاقرة" أي توقن وتعلم، والفاقرة: الداهية والأمر العظيم؛ يقال: فقرته الفاقرة: أي كسرت فقار ظهره. قال معناه مجاهد وغيره. وقال قتادة: الفاقرة الشر. السدي: الهلاك. ابن عباس وابن زيد: دخول النار. والمعنى متقارب وأصلها الوسم على أنف البعير بحديدة أو نار حتى يخلص إلى العظم؛ قاله الأصمعي. يقال: فقرت أنف البعير: إذا حززته بحديدة ثم جعلت على موضع الحز الجرير وعليه وتر ملوي، لتذلله بذلك وتروضه؛ ومنه قولهم: قد عمل به الفاقرة. وقال النابغة:
أبى لي قبر لا يزال مقابلي وضربة فأس فوق رأسي فاقره
الآية: 26 - 30 {كلا إذا بلغت التراقي، وقيل من راق، وظن أنه الفراق، والتفت الساق بالساق، إلى ربك يومئذ المساق}
قوله تعالى: "كلا إذا بلغت التراقي" "كلا" ردع وزجر؛ أي بعيد أن يؤمن الكافر بيوم القيامة؛ ثم استأنف فقال: "إذا بلغت التراقي" أي بلغت النفس أو الروح التراقي؛ فأخبر عما لم يجر له ذكر، لعلم المخاطب به؛ كقوله تعالى: "حتى توارت بالحجاب" [ص: 32] وقوله تعالى: "فلولا إذا بلغت الحلقوم" [الواقعة: 83] وقد تقدم. وقيل: "كلا" معناه حقا؛ أي حقا أن المساق إلى الله "إذا بلغت التراقي" أي إذا ارتقت النفس إلى التراقي. وكان ابن عباس يقول: إذا بلغت نفس الكافر التراقي. والتراقي جمع ترقوة وهي العظام المكتنفة لنقرة النحر، وهو مقدم الحلق من أعلى الصدر، موضع الحشرجة؛ قال دريد بن الصمة.
ورب عظيمة دافعت عنهم وقد بلغت نفوسهم التراقي
وقد يكنى عن الإشفاء على الموت ببلوغ النفس التراقي، والمقصود تذكيرهم شدة الحال عند نزول الموت.
قوله تعالى: "وقيل من راق" اختلف فيه؛ فقيل: هو من الرقية؛ عن ابن عباس وعكرمة وغيرهما. روي سماك عن عكرمة قال: من راق يرقي: أي يشفي. وروى ميمون بن مهران عن ابن عباس: أي هل من طبيب يشفيه؛ وقال أبو قلابة وقتادة؛ وقال الشاعر:
هل للفتى من بنات الدهر من واق أم هل له من حمام الموت من راق
وكان هذا على وجه الاستبعاد واليأس؛ أي من يقدر أن يرقي من الموت.
وعن ابن عباس أيضا وأبي الجوزاء أنه من رقي يرقى: إذا صعد، والمعنى: من يرقى بروحه إلى السماء؟ أملائكة الرحمة أم ملائكة العذاب؟ وقيل: إن ملك الموت يقول من راق؟ أي من يرقى بهذه النفس؛ وذلك أن نفس الكافر تكره الملائكة قربها، فيقول ملك الموت: يا فلان اصعد بها. وأظهر عاصم وقوم النون في قوله تعالى: "من راق" واللام في قوله: "بل ران" لئلا يشبه مراق وهو بائع المرقة، وبران في تثنية البر. والصحيح ترك الإظهار، وكسرة القاف في "من راق"، وفتحة النون في "بل ران" تكفي في زوال اللبس. وأمثل مما ذكر: قصد الوقف على "من" و"بل"، فأظهرهما؛ قاله القشيري.
قوله تعالى: "وظن" أي أيقن الإنسان "أنه الفراق" أي فراق الدنيا والأهل والمال والولد، وذلك حين عاين الملائكة. قال الشاعر:
فراق ليس يشبهه فراق قد انقطع الرجاء عن التلاق
"والتفت الساق بالساق" أي فاتصلت الشدة بالشدة؛ شدة آخر الدنيا بشدة أول الآخرة؛ قاله ابن عباس والحسن وغيرهما. وقال الشعبي وغيره: المعنى التفت ساقا الإنسان عند الموت من شدة الكرب. وقال قتادة: أما رأيته إذا أشرف على الموت يضرب إحدى رجليه على الأخرى. وقال سعيد بن المسيب والحسن أيضا: هما ساقا الإنسان إذا التفتا في الكفن. وقال زيد بن أسلم: التفت ساق الكفن بساق الميت. وقال الحسن أيضا: ماتت رجلاه ويبست ساقاه فلم تحملاه، ولقد كان عليهما جوالا. قال النحاس: القول الأول أحسنها. وروى علي ابن أبي طلحة عن ابن عباس: "والتفت الساق بالساق" قال: آخر يوم من الدنيا وأول يوم من الآخرة، فتلتقي الشدة بالشدة إلا من رحمه الله؛ أي شدة كرب الموت بشدة هول المطلع؛ والدليل على هذا قوله تعالى: "إلى ربك يومئذ المساق" وقال مجاهد: بلاء ببلاء. يقول: تتابعت عليه الشدائد. وقال الضحاك وابن زيد: اجتمع عليه أمران شديدان: الناس يجهزون جسده، والملائكة يجهزون روحه، والعرب لا تذكر الساق إلا في المحن والشدائد العظام؛ ومنه قولهم: قامت الدنيا على ساق، وقامت الحرب على ساق. قال الشاعر:
وقامت الحرب بنا على ساق
وقد مضى هذا المعنى في آخر سورة "ن والقلم". وقال قوم: الكافر تعذب روحه عند خروج نفسه، فهذه الساق الأولى، ثم يكون بعدهما ساق البعث وشدائده: "إلى ربك" أي إلى خالقك "يومئذ" أي يوم القيامة "المساق" أي المرجع. وفي بعض التفاسير قال: يسوقه ملكه الذي كان يحفظ عليه السيئات. والمساق: المصدر من ساق يسوق، كالمقال من قال يقول.
الآية: 31 - 35 {فلا صدق ولا صلى، ولكن كذب وتولى، ثم ذهب إلى أهله يتمطى، أولى لك فأولى، ثم أولى لك فأولى}
قوله تعالى: "فلا صدق ولا صلى" أي لم يصدق أبو جهل ولم يصل. وقيل: يرجع هذا إلى الإنسان في أول السورة، وهو اسم جنس. والأول قول ابن عباس. أي لم يصدق بالرسالة "ولا صلى" ودعا لربه، وصلى على رسوله. وقال قتادة: فلا صدق بكتاب الله، ولا صلى لله. وقيل: ولا صدق بمال له، ذخرا له عند الله، ولا صلى الصلوات التي أمره الله بها. وقيل: فلا آمن بقلبه ولا عمل ببدنه. قال الكسائي: "لا" بمعنى لم ولكنه يقرن بغيره؛ تقول العرب: لا عبدالله خارج ولا فلان، ولا تقول: مررت برجل لا محسن حتى يقال ولا مجمل، وقوله تعالى: "فلا اقتحم العقبة" [البلد: 11] ليس من هذا القبيل؛ لأن معناه أفلا أقتحم؛ أي فهلا اقتحم، فحذف ألف الاستفهام. وقال الأخفش: "فلا صدق" أي لم يصدق؛ كقوله: "فلا اقتحم" أي لم يقتحم، ولم يشترط أن يعقبه بشيء آخر، والعرب تقول: لا ذهب، أي لم يذهب، فحرف النفي ينفي الماضي كما ينفي المستقبل؛ ومنه قول زهير:
فلا هو أبداها ولم يتقدم
قوله تعالى: "ولكن كذب وتولى" أي كذب بالقرآن وتولى عن الإيمان "ثم ذهب إلى أهله يتمطى" أي يتبختر، افتخارا بذلك؛ قال مجاهد وغيره. مجاهد: المراد به أبو جهل. وقيل: "يتمطى" من المطا وهو الظهر، والمعنى يلوي مطاه. وقيل: أصله يتمطط، وهو التمدد من التكسل والتثاقل، فهو يتثاقل عن الداعي إلى الحق؛ فأبدل من الطاء ياء كراهة التضعيف، والتمطي يدل على قلة الاكتراث، وهو التمدد، كأنه يمد ظهره ويلويه من التبختر. والمطيطة الماء الخاثر في أسفل الحوض؛ لأنه يتمطى أي يتمدد؛ وفي الخبر: (إذا مشت أمتي المطيطاء وخدمتهم فارس والروم كان بأسهم بينهم". والمطيطاء: التبختر ومد اليدين في المشي.
قوله تعالى: "أولى لك فأولى، ثم أولى لك فأولى" تهديد بعد تهديد، ووعيد بعد وعيد، أي فهو وعيد أربعة لأربعة؛ كما روي أنها نزلت في أبي جهل الجاهل بربه فقال: "فلا صدق ولا صلى. ولكن كذب وتولى" أي لا صدق رسول الله، ولا وقف بين يدي فصلى، ولكن، كذب رسولي، وتولى عن التصلية بين يدي. فترك التصديق خصلة، والتكذيب خصلة، وترك الصلاة خصلة، والتولي عن الله تعالى خصلة؛ فجاء الوعيد أربعة مقابلة لترك الخصال الأربعة. والله أعلم. لا يقال: فإن قوله: "ثم ذهب إلى أهله يتمطى" خصلة خامسة؛ فإنا نقول: تلك كانت عادته قبل التكذيب والتولي، فأخبر عنها. وذلك بين في قول قتادة على ما نذكره. وقيل: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج من المسجد ذات يوم، فاستقبله أبو جهل على باب المسجد، مما يلي باب بني مخزوم، فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده، فهزه أو مرتين ثم قال: (أولى لك فأولى) فقال له أبو جهل: أتهددني؟ فوالله إني لأعز أهل الوادي وأكرمه. ونزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم كما قال لأبي جهل. وهي كلمة وعيد. قال الشاعر:
فأولى ثم أولى ثم أولى وهل للدر يحلب من مرد
قال قتادة: أقبل أبو جهل بن هشام يتبختر، فأخذ النبي صلى الله عليه وسلم بيده فقال: [أولى لك فأولى، ثم أولى لك فأولى]. فقال: ما تستطيع أنت ولا ربك لي شيئا، إني لأعز من بين جبليها. فلما كان يوم بدر أشرف على المسلمين فقال: لا يعبد الله بعد هذا اليوم أبدا. فضرب الله عنقه، وقتله شر قتلة.
وقيل: معناه: الويل لك؛ ومنه قول الخنساء:
هممت بنفسي كل الهموم فأولى لنفسي أولى لها
سأحمل نفسي على آلة فإما عليها وإما لها
الآلة: الحالة، والآلة: السرير أيضا الذي يحمل عليه الميت؛ وعلى هذا التأويل قيل: هو من المقلوب؛ كأنه قيل: أويل، ثم أخر الحرف المعتل، والمعنى: الويل لك حيا، والويل لك ميتا، والويل لك يوم البعث، والويل لك يوم تدخل النار؛ وهذا التكرير كما قال: لك الويلات إنك مرجلي أي لك الويل، ثم الويل، ثم الويل، وضعف هذا القول. وقيل: معناه الذم لك، أولى، من تركه، إلا أنه كثير في الكلام فحذف. وقيل: المعنى أنت أولى وأجدر بهذا العذاب. وقال أبو العباس أحمد بن يحيى: قال الأصمعي "أولى" في كلام العرب معناه مقاربة الهلاك، كأنه يقول: قد وليت الهلاك، قد دانيت الهلاك؛ وأصله من الولي، وهو القرب؛ قال الله تعالى: "يا أيها الذين آمنوا قاتلوا الذين يلونكم من الكفار" [التوبة: 123] أي يقربون منكم؛ وأنشد الأصمعي:
وأولى أن يكون له الولاء
أي قارب أن يكون له؛ وأنشد أيضا:
أولى لمن هاجت له أن يكمدا
أي قد دنا صاحبها [من] الكمد. وكان أبو العباس ثعلب يستحسن قول الأصمعي ويقول: ليس أحد يفسر كتفسير الأصمعي. النحاس: العرب تقول أولى لك: كدت تهلك ثم أفلت، وكأن تقديره: أولى لك وأولى بك الهلكة. المهدوي قال: ولا تكون أولى (أفعل منك)، وتكون خبر مبتدأ محذوف، كأنه قال: الوعيد أولى له من غيره؛ لأن أبا زيد قد حكى: أولاة الآن: إذا أوعدوا. فدخول علامة التأنيث دليل على أنه ليس كذلك. و"لك" خبر عن "أولى". ولم ينصرف "أولى" لأنه صار علما للوعيد، فصار كرجل اسمه أحمد. وقيل: التكرير فيه على معنى ألزم لك على عملك السيء الأول، ثم على الثاني، والثالث، والرابع، كما تقدم.
الآية: 36 - 40 {أيحسب الإنسان أن يترك سدى، ألم يك نطفة من مني يمنى، ثم كان علقة فخلق فسوى، فجعل منه الزوجين الذكر والأنثى، أليس ذلك بقادر على أن يحيي الموتى}
قوله تعالى: "أيحسب الإنسان" أي يظن ابن آدم "أن يترك سدى" أي أن يخلى مهملا، فلا يؤمر ولا ينهى؛ قال ابن زيد ومجاهد، ومنه إبل سدى: ترعى بلا راع.
وقيل: أيحسب أن يترك في قبره كذلك أبدا لا يبعث. وقال الشاعر:
فأقسم بالله جهد اليميــ ــن ما ترك الله شيئا سدى
قوله تعالى: "ألم يك نطفة من مني يمنى" أي من قطرة ماء تمنى في الرحم، أي تراق فيه؛ ولذلك سميت (مني) لإراقة الدماء. وقد تقدم. والنطفة: الماء القليل؛ يقال: نطف الماء: إذا قطر. أي ألم يك ماء قليلا في صلب الرجل وترائب المرأة.
وقرأ حفص "من مني يمنى" بالياء، وهي قراءة ابن محيصن ومجاهد ويعقوب وعياش عن أبي عمرو، واختاره أبو عبيد لأجل المني. الباقون بالتاء لأجل النطفة، واختاره أبو حاتم. "ثم كان علقة" أي دما بعد النطفة، أي قد رتبه تعالى بهذا كله على خسة قدره. ثم قال: "فخلق" أي فقدر "فسوى" أي فسواه تسوية، وعدله تعديلا، بجعل الروح فيه "فجعل منه" أي من الإنسان. وقيل: من المني. "الزوجين الذكر والأنثى" أي الرجل والمرأة. وقد احتج بهذا من رأى إسقاط الخنثى. وقد مضى في سورة "الشورى" أن هذه الآية وقرينتها إنما خرجتا مخرج الغالب. وقد مضى في أول سورة "النساء" أيضا القول فيه، وذكرنا في آية المواريث حكمه، فلا معنى لإعادته. "أليس ذلك بقادر" أي أليس الذي قدر على خلق هذه النسمة من قطرة من ماء "بقادر على أن يحيي الموتى" أي على أن يعيد هذه الأجسام كهيئتها للبعث بعد البلى.
وروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان إذا قرأها قال: [سبحانك اللهم، بلى] وقال ابن عباس. من قرأ "سبح اسم ربك الأعلى" [الأعلى: 1] إماما كان أوغيره فليقل: "سبحان ربي الأعلى" ومن قرأ "لا أقسم بيوم القيامة" [القيامة: 1] إلى آخرها إماما كان أو غيره فليقل: "سبحانك اللهم بلى" ذكره الثعلبي من حديث أبي إسحاق السبيعي عن سعيد بن جبير عن ابن عباس. ختمت السورة والحمد لله.
سورة الإنسان
مقدمة السورة
مكية في قول ابن عباس ومقاتل والكلبي. وقال الجمهور: مدنية. وقيل: فيها مكي، من قوله تعالى: "إنا نحن نزلنا عليك القرآن تنزيلا" [الإنسان: 23] إلى آخر السورة، وما تقدمه مدني.
وذكر ابن وهب قال: وحدثنا ابن زيد قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم ليقرأ: "هل أتى على الإنسان حين من الدهر" وقد أنزلت عليه وعنده رجل أسود كان يسأل النبي صلى الله عليه وسلم، فقال له عمر بن الخطاب: لا تثقل على النبي صلى الله عليه وسلم، قال: (دعه يا ابن الخطاب) قال: فنزلت عليه هذه السورة وهو عنده، فلما قرأها عليه وبلغ صفة الجنان زفر زفرة فخرجت نفسه. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أخرج نفس صاحبكم - أو أخيكم - الشوق إلى الجنة) وروي عن ابن عمر بخلاف هذا اللفظ، وسيأتي. وقال القشيري: إن هذه السورة نزلت في علي بن أبي طالب رضي الله عنه. والمقصود من السورة عام. وهكذا القول في كل ما يقال إنه نزل بسبب كذا وكذا.
الآية: 1 - 3 {هل أتى على الإنسان حين من الدهر لم يكن شيئا مذكورا، إنا خلقنا الإنسان من نطفة أمشاج نبتليه فجعلناه سميعا بصيرا، إنا هديناه السبيل إما شاكرا وإما كفور}
قوله تعالى: "هل أتى على الإنسان حين من الدهر لم يكن شيئا مذكورا" "هل": بمعنى قد؛ قال الكسائي والفراء وأبو عبيدة. وقد حكي عن سيبويه "هل" بمعنى قد. قال الفراء: هل تكون جحدا، وتكون خبرا، فهذا من الخبر؛ لأنك تقول: هل أعطيتك؟ تقرره بأنك أعطيته. والجحد أن تقول: هل يقدر أحد على مثل هذا؟ وقيل: هي بمنزلة الاستفهام، والمعنى: أتى. والإنسان هنا آدم عليه السلام؛ قاله قتادة والثوري وعكرمة والسدي. وروي عن ابن عباس. "حين من الدهر" قال ابن عباس في رواية أبي صالح: أربعون سنة مرت به، قبل أن ينفخ فيه الروح، وهو ملقى بين مكة والطائف وعين ابن عباس أيضا في رواية الضحاك أنه خلق من طين، فأقام أربعين سنة، ثم من حمأ مسنون أربعين سنة، ثم من صلصال أربعين سنة، فتم خلقه بعد مائة وعشرين سنة. وزاد ابن مسعود فقال: أقام وهو من تراب أربعين سنة، فتم خلقه بعد مائة وستين سنة، ثم نفخ فيه الروح. وقيل: الحين المذكور ها هنا: لا يعرف مقداره؛ عن ابن عباس أيضا، حكاه الماوردي. "لم يكن شيئا مذكورا" قال الضحاك عن ابن عباس: لا في السماء ولا في الأرض. وقيل: أي كان جسدا مصورا ترابا وطينا، لا يذكر ولا يعرف، ولا يدرى ما اسمه ولا ما يراد به، ثم نفخ فيه الروح، فصار مذكورا؛ قال الفراء وقطرب وثعلب. وقال يحيى بن سلام: لم يكن شيئا مذكورا في الخلق وإن كان عند الله شيئا مذكورا.
وقيل: ليس هذا الذكر بمعنى الإخبار، فإن إخبار الرب عن الكائنات قديم، بل هذا الذكر بمعنى الخطر والشرف والقدر؛ تقول: فلان مذكور أي له شرف وقدر. وقد قال تعالى: "وإنه لذكر لك ولقومك" [الزخرف: 44]. أي قد أتى على الإنسان حين لم يكن له قدر عند الخليقة. ثم لما عرف الله الملائكة أنه جعل آدم خليفة، وحمله الأمانة التي عجز عنها السموات والأرض والجبال، ظهر فضله على الكل، فصار مذكورا. قال القشيري: وعلى الجملة ما كان مذكورا للخلق، وإن كان مذكورا لله. وحكى محمد بن الجهم عن الفراء: "لم يكن شيئا" قال: كان شيئا ولم يكن مذكورا. وقال قوم: النفي يرجع إلى الشيء؛ أي قد مضى مدد من الدهر وآدم لم يكن شيئا يذكر في الخليقة؛ لأنه آخر ما خلقه من أصناف الخليقة، والمعدوم ليس بشيء حتى يأتي عليه حين. والمعنى: قد مضت عليه أزمنة وما كان آدم شيئا ولا مخلوقا ولا مذكورا لأحد من الخليقة. وهذا معنى قول قتادة ومقاتل: قال قتادة: إنما خلق الإنسان حديثا ما نعلم من خليقة الله جل ثناؤه خليقة كانت بعد الإنسان.
وقال مقاتل: في الكلام تقديم وتأخير، وتقديره: هل أتى حين من الدهر لم يكن الإنسان شيئا مذكورا؛ لأنه خلقه بعد خلق الحيوان كله، ولم يخلق بعده حيوانا.
وقد قيل: "الإنسان" في قوله تعالى "هل أتى على الإنسان حين" عني به الجنس من ذرية آدم، وأن الحين تسعة أشهر، مدة حمل الإنسان في بطن أمه "لم يكن شيئا مذكورا": إذ كان علقة ومضغة؛ لأنه في هذه الحالة جماد لا خطر له. وقال أبو بكر رضي الله عنه لما قرأ هذه الآية: ليتها تمت فلا نبتلى. أي ليت المدة التي أتت على آدم لم تكن شيئا مذكورا تمت على ذلك، فلا يلد ولا يبتلى أولاده. وسمع عمر بن الخطاب رضي الله عنه رجلا يقرأ "هل أتى على الإنسان حين من الدهر لم يكن شيئا مذكورا" فقال ليتها تمت.
قوله تعالى: "إنا خلقنا الإنسان" أي ابن آدم من غير خلاف "من نطفة" أي من ماء يقطر وهو المني، وكل ماء قليل في وعاء فهو نطفة؛ كقول عبدالله بن رواحة يعاتب نفسه:
مالي أراك تكرهين الجنة هل أنت إلا نطفة في شنه
وجمعها: نطف ونطاف. "أمشاج" أخلاط. واحدها: مشج ومشيج، مثل خدن وخدين؛ قال: رؤبة:
يطرحن كل معجل نشاج لم يُكس جلدا في دم أمشاج
ويقال: مشجت هذا بهذا أي خلطته، فهو ممشوج ومشيج؛ مثل مخلوط وخليط. وقال المبرد: واحد الأمشاج: مشيج؛ يقال: مشج يمشج: إذا خلط، وهو هنا اختلاط النطفة بالدم؛ قال الشماخ:
طوت أحشاء مرتجة لوقت على مشج سلالته مهين
وقال الفراء: أمشاج: أخلاط ماء الرجل وماء المرأة، والدم والعلقة. ويقال للشيء من هذا إذا خلط: مشيج كقولك خليط، وممشوج كقولك مخلوط. وروي عن ابن عباس رضي الله عنه قال: الأمشاج: الحمرة في البياض، والبياض في الحمرة. وهذا قول يختاره كثير من أهل اللغة؛ قال الهذلي:
كان الريش والفوقين منه خلاف النصل سيط به مشيج
وعن ابن عباس أيضا قال: يختلط ماء الرجل وهو أبيض غليظ بماء المرأة وهو أصفر رقيق فيخلق منهما الولد، فما كان من عصب وعظم وقوة فهو من ماء الرجل، وما كان من لحم ودم وشعر فهو من ماء المرأة. وقد روي هذا مرفوعا؛ ذكره البزار.
وروي عن ابن مسعود: أمشاجها عروق المضغة. وعنه: ماء الرجل وماء المرأة وهما لونان. وقال مجاهد: نطفة الرجل بيضاء وحمراء ونطفة المرأة خضراء وصفراء. وقال ابن عباس: خلق من ألوان؛ خلق من تراب، ثم من ماء الفرج والرحم، وهي نطفة ثم علقة ثم مضغة ثم عظم ثم لحم. ونحوه قال قتادة: هي أطوار الخلق: طور وطور علقة وطور مضغة عظام ثم يكسو العظام لحما؛ كما قال في سورة "المؤمنون" "ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين" [المؤمنون: 12] الآية. وقال ابن السكيت: الأمشاج الأخلاط؛ لأنها ممتزجة من أنواع فخلق الإنسان منها ذا طبائع مختلفة. وقال أهل المعاني: الأمشاج ما جمع وهو في معنى الواحد؛ لأنه نعت للنطفة؛ كما يقال: برمة أعشار وثوب أخلاق. وروي عن أبي أيوب الأنصاري: قال جاء حبر من اليهود إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أخبرني عن ماء الرجل وماء المرأة؟ فقال: [ماء الرجل أبيض غليظ وماء المرأة أصفر رقيق فإذا علا ماء المرأة آنثت وإذا علا ماء الرجل أذكرت] فقال الحبر: أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله. وقد مضى هذا القول مستوفى في سورة "البقرة".
قوله تعالى: "نبتليه" أي نختبره. وقيل: نقدر فيه الابتلاء وهو الاختبار. وفيما يختبر به وجهان: أحدهما: نختبره بالخير والشر؛ قال الكلبي. الثاني: نختبر شكره في السراء وصبره في الضراء؛ قال الحسن. وقيل: "نبتليه" نكلفه. وفيه أيضا وجهان: أحدهما: بالعمل بعد الخلق؛ قال مقاتل. الثاني: بالدين ليكون مأمورا بالطاعة ومنهيا عن المعاصي. وروي عن ابن عباس: "نبتليه": نصرفه خلقا بعد خلق؛ لنبتليه بالخير والشر. وحكى محمد بن الجهم عن الفراء قال: المعنى والله أعلم "فجعلناه سميعا بصيرا" لنبتليه، وهي مقدمة معناها التأخير.
قلت: لأن الابتلاء لا يقع إلا بعد تمام الخلقة. وقيل: "جعلناه سميعا بصيرا": يعني جعلنا له سمعا يسمع به الهدى، وبصرا يبصر به الهدى.
قوله تعالى: "إنا هديناه السبيل" أي بينا له وعرفناه طريق الهدى والضلال، والخير والشر ببعث الرسل، فآمن أو كفر؛ كقوله تعالى: "وهديناه النجدين" [البلد: 10]. وقال مجاهد: أي بينا له السبيل إلى الشقاء والسعادة. وقال الضحاك وأبو صالح والسدي: السبيل هنا خروجه من الرحم. وقيل: منافعه ومضاره التي يهتدي إليها بطبعه وكمال عقله. "إما شاكرا وإما كفورا" أي أيهما فعل فقد بينا له. قال الكوفيون: "إن" ها هنا تكون جزاء و"ما" زائدة أي بينا له الطريق إن شكر أو كفر. واختاره الفراء ولم يجزه البصريون؛ إذ لا تدخل "إن" للجزاء على الأسماء إلا أن يضمر بعدها فعل. وقيل: أي هديناه الرشد، أي بينا له سبيل التوحيد بنصب الأدلة عليه؛ ثم إن خلقنا له الهداية اهتدى وآمن، وإن خذلناه كفر. وهو كما تقول: قد نصحت لك، إن شئت فاقبل، وإن شئت فاترك؛ أي فإن شئت، فتحذف الفاء. وكذا "إما شاكرا" والله أعلم. ويقال: هديته السبيل وللسبيل وإلى السبيل. وقد تقدم في "الفاتحة" وغيرها. وجمع بين الشاكر والكفور، ولم يجمع بين الشكور والكفور مع اجتماعهما في معنى المبالغة؛ نفيا للمبالغة في الشكر وإثباتا لها في الكفر؛ لأن شكر الله تعالى لا يؤدى، فانتفت عنه المبالغة، ولم تنتف عن الكفر المبالغة، فقل شكره، لكثرة النعم عليه وكثرة كفره وإن قل مع الإحسان إليه. حكاه الماوردي.
الآية: 4 {إنا أعتدنا للكافرين سلاسل وأغلالا وسعير}
قوله تعالى: "إنا أعتدنا للكافرين سلاسل وأغلالا وسعيرا" بين حال الفريقين، وأنه تعبد العقلاء وكلفهم ومكنهم مما أمرهم، فمن كفر فله العقاب، ومن وحد وشكر فله الثواب. والسلاسل: القيود في جهنم طول كل سلسلة سبعون ذراعا كما مضى في "الحاقة". وقرأ نافع والكسائي وأبو بكر عن عاصم وهشام عن ابن عامر "سلاسلا" منونا. الباقون بغير تنوين. ووقف قنبل وابن كثير وحمزة بغير ألف. الباقون بالألف. فأما "قوارير" الأول فنونه نافع وابن كثير والكسائي وأبو بكر عن عاصم، ولم ينون الباقون. ووقف فيه يعقوب وحمزة بغير ألف. والباقون بالألف. وأما "قوارير" الثانية فنونه أيضا نافع والكسائي وأبو بكر، ولم ينون الباقون. فمن نون قرأها بالألف، ومن لم ينون أسقط منها الألف، واختار أبو عبيد التنوين في الثلاثة، والوقف بالألف اتباعا لخط المصحف؛ قال: رأيت في مصحف عثمان "سلاسلا" بالألف و"وقواريرا" الأول بالألف، وكان الثاني مكتوبا بالألف فحكت فرأيت أثرها هناك بينا. فمن صرف فله أربع حجج: أحدها: أن الجموع أشبهت الآحاد فجمعت جمع الآحاد، فجعلت في حكم الآحاد فصرفت. الثانية: أن الأخفش حكى عن العرب صرف جميع ما لا ينصرف إلا أفعل منك، وكذا قال الكسائي والفراء: هو على لغة من يجر الأسماء كلها إلا قولهم هو أظرف منك فإنهم لا يجرونه؛ وأنشد ابن الأنباري في ذلك قول عمرو بن كلثوم:
كأن سيوفنا فينا وفيهم مخاريق بأيدي لا عبينا
وقال لبيد:
وجزور أيسار دعوت لحتفها بمغالق متشابه أجسامها
وقال لبيد أيضا:
فضلا وذو كرم يعين على الندى سمح كسوب رغائب غنامها
فصرف مخاريق ومغالق ورغائب، وسبيلها ألا تصرف. والحجة الثالثة: أن يقول نونت قوارير الأول لأنه رأس آية، ورؤوس الآي جاءت بالنون، كقوله جل وعز: "مذكورا". "سميعا بصيرا" فنونا الأول ليوقف بين رؤوس الآي، ونونا الثاني على الجوار للأول. والحجة الرابعة: اتباع المصاحف، وذلك أنهما جميعا في مصاحف مكة والمدينة والكوفة بالألف. وقد احتج من لم يصرفهن بأن قال: إن كل جمع بعد الألف منه ثلاثة أحرف أو حرفان أو حرف مشدد لم يصرف في معرفة ولا نكرة؛ فالذي بعد الألف منه ثلاثة أحرف قولك: قناديل ودنانير ومناديل، والذي بعد الألف منه حرفان قول الله عز وجل: "لهدمت صوامع" [الحج: 40] لأن بعد الألف منه حرفين، وكذلك قوله: "ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيرا" [الحج: 40]. والذي بعد الألف منه حرف مشدد شواب ودواب. وقال خلف: سمعت يحيى بن آدم يحدث عن ابن إدريس قال: في المصاحف الأول الحرف الأول بالألف والثاني بغير ألف؛ فهذا حجة لمذهب حمزة. وقال خلف: رأيت في مصحف ينسب إلى قراءة ابن مسعود الأول بالألف والثاني بغير ألف. وأما أفعل منك فلا يقول أحد من العرب في شعره ولا في غيره هو أفعل منك منونا؛ لأن من تقوم مقام الإضافة فلا يجمع بين تنوين وإضافة في حرف؛ لأنهما دليلان من دلائل الأسماء ولا يجمع بين دليلين؛ قال الفراء وغيره.
قوله تعالى: "وأغلالا" جمع غل تغل بها أيديهم إلى أعناقهم. وعن جبير بن نفير عن أبي الدرداء كان يقول: ارفعوا هذه الأيدي إلى الله جل ثناؤه قبل أن تغل بالأغلال. قال الحسن: إن الأغلال لم تجعل في أعناق أهل النار؛ لأنهم أعجزوا الرب سبحانه ولكن إذلالا. "وسعيرا" تقدم القول فيه.
الآية: 5 - 6 {إن الأبرار يشربون من كأس كان مزاجها كافورا، عينا يشرب بها عباد الله يفجرونها تفجير}
قوله تعالى: "إن الأبرار يشربون من كأس" الأبرار: أهل الصدق واحدهم بر، وهو من امتثل أمر الله تعالى. وقيل: البر الموحد والأبرار جمع بار مثل شاهد وأشهاد، وقيل: هو جمع بر مثل نهر وأنهار؛ وفي الصحاح: وجمع البر الأبرار، وجمع البار البررة، وفلان يبر خالقه ويتبرره أي يطيعه، والأم برة بولدها. وروى ابن عمر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إنما سماهم الله جل ثناؤه الأبرار لأنهم بروا الآباء والأبناء، كما أن لوالدك عليك حقا كذلك لولدك عليك حقا). وقال الحسن: البر الذي لا يؤذي الذر. وقال قتادة: الأبرار الذين يؤدون حق الله ويوفون بالنذر.
وفي الحديث: (الأبرار الذين لا يؤذون أحدا). "يشربون من كأس" أي من إناء فيه الشراب. قال ابن عباس: يريد الخمر. والكأس في اللغة الإناء فيه الشراب: وإذا لم يكن فيه شراب لم يسم كأسا. قال عمرو بن كلثوم:
صَبْنتِ الكأسَ عنا أمَّ عمرو وكان الكأس مجراها اليمينا
وقال الأصمعي: يقال صبنت عنا الهدية أو ما كان من معروف تصبن صبنا: بمعنى كففت؛ قاله الجوهري. "كان مزاجها" أي شوبها وخلطها، قال حسان:
كأن سبيئة من بيت رأس يكون مزاجها عسل وماء
ومنه مزاج البدن وهو ما يمازجه من الصفراء والسوداء والحرارة والبرودة. "كافورا" قال ابن عباس: هو اسم عين ماء في الجنة، يقال له عين الكافور. أي يمازجه ماء هذه العين التي تسمى كافورا. وقال سعيد عن قتادة: تمزج لهم بالكافور وتختم بالمسك. وقال مجاهد. وقال عكرمة: مزاجها طعمها. وقيل: إنما الكافور في ريحها لا في طعمها. وقيل: أراد كالكافور في بياضه وطيب رائحته وبرده؛ لأن الكافور لا يشرب؛ كقوله تعالى: "حتى إذا جعله نارا" [الكهف: 96] أي كنار. وقال ابن كيسان: طيب بالمسك والكافور والزنجبيل. وقال مقاتل: ليس بكافور الدنيا. ولكن سمى الله ما عنده بما عندكم حتى تهتدي لها القلوب. وقوله: "كان مزاجها" "كان" زائدة أي من كأس مزاجها كافور. "عينا يشرب بها عباد الله" قال الفراء: إن الكافور اسم لعين ماء في الجنة؛ "فعينا" بدل من كافور على هذا. وقيل: بدل من كأس على الموضع. وقيل: هي حال من المضمر في "مزاجها". وقيل: (نصب على المدح؛ كما يذكر الرجل فتقول: العاقل اللبيب؛ أي ذكرتم العاقل اللبيب فهو نصب بإضمار أعني. وقيل يشربون عينا. وقال الزجاج المعنى من عين. ويقال: كافور وقافور. والكافور أيضا: وعاء طلع النخل وكذلك الكفرى؛ قاله الأصمعي. وأما قول الراعي:
تكسو المفارق واللبات ذا أرج من قصب معتلف الكافور دراج
فإن الظبي الذي يكون منه المسك إنما يرعى سنبل الطيب فجعله كافورا. "يشرب بها" قال الفراء: يشرب بها ويشربها سواء في المعنى، وكأن يشرب بها يروى بها وينقع؛ وأنشد:
شربن بماء البحر ثم ترفعت متى لجج خضر لهن نئيج
قال: ومثله فلان يتكلم بكلام حسن، ويتكم كلاما حسنا. وقيل: المعنى يشربها والباء زائدة وقيل: الباء بدل "من" تقديره يشرب منها؛ قاله القتبي. "يفجرونها تفجيرا" فيقال: إن الرجل منهم ليمشي في بيوتاته ويصعد إلى قصوره، وبيده قضيب يشير به إلى الماء فيجري معه حيثما دار في منازله على مستوى الأرض في غير أخدود، ويتبعه حيثما صعد إلى أعلى قصوره؛ وذلك قوله تعالى: "عينا يشرب بها عباد الله يفجرونها تفجيرا" أي يشققونها شقا كما يفجر الرجل النهر ها هنا وها هنا إلى حيث يريد. وعن ابن أبي نجيح عن مجاهد "يفجرونها تفجيرا" يقودونها حيث شاؤوا وتتبعهم حيثما مالوا مالت معهم. وروى أبو مقاتل عن أبي صالح عن سعد عن أبي سهل عن الحسن قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أربع عيون في الجنة عينان تجريان من تحت العرش إحداهما التي ذكر الله "يفجرونها تفجيرا" [والأخرى الزنجبيل] والأخريان نضاختان من فوق العرش إحداهما التي ذكر الله [عينا فيها تسمى] "سلسبيلا" والأخرى التسنيم) ذكره الترمذي الحكيم في "نوادر الأصول". وقال: فالتسنيم للمقربين خاصة شربا لهم، والكافور للأبرار شربا لهم؛ يمزج للأبرار من التسنيم شرابهم، وأما الزنجبيل والسلسبيل فللإبرار منها مزاج هكذا ذكره في التنزيل وسكت عن ذكر ذلك لمن هي شرب، فما كان للإبرار مزاج فهو للمقربين صرف، وما كان للإبرار صرف فهو لسائر أهل الجنة مزاج. والأبرار هم الصادقون، والمقربون: هم الصديقون.