تفسير الشوكاني تفسير الصفحة 578 من المصحف



فتح القدير - صفحة القرآن رقم 578

577

20- "كلا بل تحبون العاجلة" كلا للردع عن العجلة والترغيب في الأناة، وقيل هي ردع لمن لا يؤمن بالقرآن ويكونه بينا من الكفار. قال عطاء: أي لا يؤمن أبو جهل بالقرآن وبيانه. قرأ أهل المدينة والكوفيون "بل تحبون".
21- "وتذرون" بالفوقية في الفعلين جميعاً. وقرأ الباقون بالتحتية فيهما، فعلى القراءة الأولى يكون الخطاب لهم تقريعاً وتوبيخاً، وعلى القراءة الثانية يكون الكلام عائداً إلى الإنسان لأنه بمعنى الناس، والمعنى: تحبون الدنيا وتتركون "الآخرة" فلا تعملون لها.
22- "وجوه يومئذ ناضرة" أي ناعمة غضة حسنة، يقال: شجر ناضر وروض ناضر: أي حسن ناعم، ونضارة العيش حسنه وبهجته. قال الواحدي والمفسرون: يقولون مضيئة مفسرة مشرقة.
23- "إلى ربها ناظرة" هذا من النظر: أي إلى خالقها ومالك أمرها ناظرة: أي تنظر إليه، هكذا قال جمهور أهل العلم، والمراد به ما تواترت به الأحاديث الصحيحة من أن العباد ينظرون ربهم يوم القيامة كما ينظرون إلى القمر ليلة البدر. قال ابن كثير: وهذا بحمد الله مجمع عليه بين الصحابة والتابعين وسلف هذه الأمة كما هو متفق عليه بين أئمة الإسلام وهداة الأنام. وقال مجاهد: إن النظر هنا انتظار ما لهم عند الله من الثواب، وروي نحوه عن عكرمة. وقيل لا يصح هذا إلا عن مجاهد وحده. وإن قول القائل: نظرت إلى فلان ليس إلا رؤية عين، إذا أرادوا الانتظار قالوا: نظرته كما في قول الشاعر: فإنكما إن تنظراني ساعة من الدهر تنفعني لدى أم جندب فإذا أرادوا نظر العين قالوا: نظرت إليه كما قال الشاعر: نظرت إليها والنجوم كأنها مصابيح رهبان [تشب لفعال] وقول الآخر: إني إليك لما وعدت لناظر نظر الفقير إلى الغني الموسر أي أنظر إليك نظر ذل كما ينظر الفقير إلى الغني، وأشعار العرب وكلماتهم في هذا كثيرة جداً. ووجوه مبتدأ، وجاز الابتداء به مع كونه نكرة لأن المقام مقام تفصيل، وناضرة صفة لوجوه، ويومئذ ظرف لناضرة، ولو لم يكن المقام مقام تفصيل لكان وصف النكرة بقوله: ناضرة مسوغاً للابتداء بها، ولكن مقام التفصيل بمجرده مسوغ للابتداء بالنكرة.
24- "ووجوه يومئذ باسرة" أي كالحة عابسة كئيبة. قال في الصحاح: بسر الرجل وجهه بسوراً: أي كلح. قال السدي: باسرة: أي متغيرة، وقيل مصفرة، والمراد بالوجوه هنا وجوه الكفار.
25- "تظن أن يفعل بها فاقرة" الفاقرة: الداهية العظيمة، يقال فقرته الفاقرة: أي كسرت فقار ظهره. قال قتادة: الفاقرة الشر، وقال السدي: الهلاك، وقال ابن زيد: دخول النار. وأصل الفاقرة: الوشم على أنف البعير بحديدة أو نار حتى تخلص إلى العظم، كذا قال الأصمعي، ومن هذا قولهم: قد عمل به الفاقرة. قال النابغة: أبا لي قبر لا يزال مقابلي وضربة فأس فوق رأسي فاقرة وقد أخرج ابن جرير وابن المنذر والحاكم وصححه عن سعيد بن جبير قال: سألت ابن عباس عن قوله: "لا أقسم بيوم القيامة" قال: يقسم ربك بما شاء من خلقه، قلت: "ولا أقسم بالنفس اللوامة" قال النفس اللؤوم، قلت: " أيحسب الإنسان ألن نجمع عظامه * بلى قادرين على أن نسوي بنانه " قال: لو شاء لجعله خفاً أو حافراً. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه "اللوامة" قال: المذمومة. وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر عنه أيضاً قال: التي تلوم على الخير والشر تقول: لو فعلت كذا وكذا. وأخرج ابن المنذر عنه أيضاً قال: تندم على ما فات وتلوم عليه. وأخرج ابن جرير عنه أيضاً "بل يريد الإنسان ليفجر أمامه" قال: يمضي قدماً. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عنه في الآية قال: هو الكافر الذي يكذب بالحساب. وأخرج ابن جرير عنه أيضاً في الآية قال: يعني الأمل يقول: اعمل ثم أتوب. وأخرج ابن أبي الدنيا في ذم الأمل والبيهقي في الشعب عنه أيضاً في الآية قال: يقدم الذنب ويؤخر التوبة. وأخرج الفريابي وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم وصححه والبيهقي في الشعب عنه أيضاً "بل يريد الإنسان ليفجر أمامه" يقول: سوف أتوب "يسأل أيان يوم القيامة" قال: يقول متى يوم القيامة، قال فبين له "إذا برق البصر". وأخرج ابن جرير عنه قال "إذا برق البصر" يعني الموت. وأخرج عبد بن حميد وابن أبي الدنيا وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن مسعود في قوله: "لا وزر" قال: لا حصن. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم من طرق عن ابن عباس فيقوله: "لا وزر" قال: لا حصن ولا ملجأ، وفي لفظ: لا حرز، وفي لفظ: لا جبل. وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عن ابن مسعود في قوله: " ينبأ الإنسان يومئذ بما قدم وأخر " قال: بما قدم من عمل، وأخر من سنة عمل بها من بعده من خير أو شر. وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس نحوه. وأخرج ابن جرير عن ابن عباس قال: بما قدم من المعصية وأخر من الطاعة فينبؤ بذلك. وأخرج عبد الرزاق وابن جرير وابن المنذر من طرق عنه في قوله: "بل الإنسان على نفسه بصيرة" قال: شهد على نفسه وحده "ولو ألقى معاذيره" قال: ولو اعتذر. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه "بل الإنسان على نفسه بصيرة" قال: سمعه وبصره ويديه ورجليه وجوارحه "ولو ألقى معاذيره" قال: ولو تجرد من ثيابه. وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن ابن عباس قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعالج من التنزيل شدة، فكان يحرك به لسانه وشفتيه مخافة أن يتفلت منه يريد أن يحفظه، فأنزل الله " لا تحرك به لسانك لتعجل به * إن علينا جمعه وقرآنه " قال: يقول إن علينا أن نجمعه في صدرك ثم تقرأه "فإذا قرأناه" يقول: إذا أنزلناه عليك "فاتبع قرآنه" فاستمع له وأنصت "ثم إن علينا بيانه" أن نبينه بلسانك، وفي لفظ: علينا أن نقرأه، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ذلك إذا أتاه جبريل أطرق. وفي لفظ: استمع، فإذا ذهب قرأه كما وعده الله. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه "فإذا قرأناه" قال: بيناه "فاتبع قرآنه" يقول: اعمل به وأخرج عبد الله بن أحمد في زوائد الزهد عن ابن مسعود في قوله: "كلا بل تحبون العاجلة" قال: عجلت لهم الدنيا شرها وخيرها وغيبت الآخرة. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس "وجوه يومئذ ناضرة" قال: ناعمة. وأخرج ابن المنذر والآجري في الشريعة واللالكائي في السنة والبيهقي في الرؤية عنه "وجوه يومئذ ناضرة" قال: يعني حسنها "إلى ربها ناظرة" قال: نظرت إلى الخالق. وأخرج ابن مردويه عنه أيضاً "إلى ربها ناظرة" قال تنظر إلى وجه ربها. وأخرج ابن مردويه عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "" وجوه يومئذ ناضرة * إلى ربها ناظرة " قال: ينظرون إلى ربهم بلا كيفية ولا حد محدود ولا صفة معلومة" وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن أبي هريرة قال: "قال الناس: يا رسول الله هل نرى ربنا يوم القيامة؟ قال: هل تضارون في الشمس ليس دونها سحاب؟ قالوا: لا يا رسول الله، قال: فهل تضارون في القمر ليلة البدر ليس دونه سحاب؟ قالوا: لا يا رسول الله. قال: فإنكم ترونه يوم القيامة كذلك". وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما من حديث أبي هريرة نحوه. وقد قدمنا أن أحاديث الرؤية متواترة فلا نطيل بذكرها، وهي تأتي في مصنف مستقل، ولم يتسمك من نفاها واستبعدها بشيء يصلح للتمسك به لا من كتاب الله ولا من سنة رسوله. وقد أخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد والترمذي وابن جرير وابن المنذر والطبراني والدارقطني والحاكم وابن مردويه والبيهقي عن ابن عمر قال: قال رسول الله: "إن أدنى أهل الجنة منزلة لمن ينظر إلى جنانه وأزواجه ونعيمه وخدمه وسرره مسيرة ألف سنة، وأكرمهم على الله من ينظر إلى وجهه غدوة وعشية، ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم " وجوه يومئذ ناضرة * إلى ربها ناظرة "" وأخرج أحمد في المسند من حديثه بلفظ "إن أفضلهم منزلة لينظر في وجه الله كل يوم مرتين". وأخرج النسائي والدارقطني وصححه وأبو نعيم عن أبي هريرة قال: "قلنا يا رسول الله هل نرى ربنا، قال: هل ترون الشمس في يوم لا غيم فيه، وترون القمر في ليلة لا غيم فيها؟ قلنا نعم، قال: فإنكم سترون ربكم عز وجل، حتى إن أحدكم ليحاضر ربه محاضرة، فيقول: عبدي هل تعرف ذنب كذا وكذا؟ فيقول: ألم تغفر لي؟ فيقول: بمغفرتي صرت إلى هذا".
قوله: 26- "كلا" ردع وزجر: أي بعيد أن يؤمن الكافر بيوم القيامة، ثم استأنف، فقال: "إذا بلغت التراقي" أي بلغت النفس أو الروح التراقي، وهي جمع ترقوة، وهي عظيم بين ثغرة النحر والعاتق، ويكنى ببلوغ النفس التراقي عن الإشفاء على الموت، ومثله قوله: "فلولا إذا بلغت الحلقوم" وقيل معنى كلا حقاً: أي حقاً أن المساق إلى الله إذا بلغت التراقي، والمقصود تذكيرهم شدة الحال عند نزول الموت. قال دريد بن الصمة: ورب كريهة دافعت عنها وقد بلغت نفوسهم التراقي
27- "وقيل من راق" أي قال من حضر صاحبها من يرقيه ويشتفي برقيته؟. قال قتادة: التمسوا له الأطباء فلم يغنوا عنه من قضاء الله شيئاً، وبه قال أبو قلابة، ومنه قول الشاعر: هل للفتى من بنات الموت من واقي أم هل له من حمام الموت من راقي وقال أبو الجوزاء: هو من رقي يرقى إذا صعد، والمعنى: من يرقى بروحه إلى السماء [أملائكة] الرحمة أم ملائكة العذاب؟ وقيل إنه يقول ذلك ملك الموت، وذلك أن نفس الكافر تكره الملائكة قربها.
28- "وظن أنه الفراق" أي وأيقن الذي بلغت روحه الترقي أنه الفراق من الدنيا ومن الأهل والمال والولد.
29- "والتفت الساق بالساق" أي التفت ساقه بساقه عند نزول الموت به. وقال جمهور المفسرين: المعنى تتابعت عليه الشدائد. وقال الحسن: هما ساقاه إذا التفتا في الكفن. وقال زيد بن أسلم: التفت ساق الكفن بساق الميت، وقيل ماتت رجلاه ويبست ساقاه ولم تحملاه، وقد كان جوالاً عليهما. وقال الضحاك: اجتمع عليه أمران شديدان: الناس يجهزون جسده، والملائكة يجهزون روحه. وبه قال ابن زيد. والعرب لا تذكر الساق إلا في الشدائد الكبار، والمحن العظام، ومنه قولهم: قامت الحرب على ساق. وقيل الساق الأول تعذيب روحه عند خروج نفسه، والساق الآخر شدة البعث وما بعده.
30- "إلى ربك يومئذ المساق" أي إلى خالقك يوم القيامة المرجع، وذلك جمع العباد إلى الله يساقون إليه.
31- "فلا صدق ولا صلى" أي لم يصدق بالرسالة ولا بالقرآن، ولا صلى لربه، والضمير يرجع إلى الإنسان المذكور في أول هذه السورة. قال قتادة: فلا صدق بكتاب الله ولا صلى لله، وقيل فلا آمن بقلبه ولا عمل ببدنه. قال الكسائي لا بمعنى لم، وكذا قال الأخفش: والعرب تقول: لا ذهب أي لم يذهب، وهذا مستفيض في كلام العرب، ومنه: إن تغفر اللهم تغفر جما وأي عبد لك إلا ألما
32- "ولكن كذب وتولى" أي كذب بالرسول وبما جاء به، وتولى عن الطاعة والإيمان.
33- "ثم ذهب إلى أهله يتمطى" أي يتبختر ويختال في مشيته افتخاراً بذلك. وقيل هو مأخوذ من المطي وهو الظهر، والمعنى يلوي مطاه. وقيل أصله يتمطط، وهو التمدد والتثاقل: أي يتثاقل ويتكاسل عن الداعي إلى الحق.
34- "أولى لك فأولى".
35- " أولى لك فأولى * ثم أولى لك فأولى " أي وليك الويل، وأصله أولاك الله ما تكرهه، واللام مزيدة كما في "ردف لكم" وهذا تهديد شديد والتكرير للتأكيد: أي تكرر عليك ذلك مرة بعد مرة. قال الواحدي: قال المفسرون: أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بيد أبي جهل، ثم قال: "أولى لك فأولى" فقال أبو جهل: بأي شيء تهددني لا تستطيع أنت ولا ربك أن تفعلا بي شيئاً، وإن لأعز أهل هذا الوادي، فنزله هذه الآية. وقيل معناه: الويل لك، ومنه قول الخنساء: هممت بنفسي بعض الهمو م فأولى لنفسي أولى لها وعلى القول بأنه الويل، قيل هو من المقلوب كأنه قيل: أويل لك، ثم أخر الحرف المعتل. وقيل ومعنى التكرير لهذا اللفظ أربع مرات، والويل لك حياً، والويل لك ميتاً، والويل لك يوم البعث، والويل لك يوم تدخل النار. وقيل المعنى: إن الذم لك أولى لك من تركه. وقيل المعنى: أنت أولى وأجدر بهذا العذاب قاله ثعلب. وقال الأصمعي: أولى فيه كلام العرب معناه مقاربة الهلاك. قال المبرد: كأنه يقول: قد وليت الهلاك وقد دانيته، وأصله من الولي، وهو القرب وأنشد الفراء: فأولى أن يكون لك الولاء أي قارب أن يكون لك، وأنشد أيضاً: أولى لمن هاجت له أن يكمدا
36- "أيحسب الإنسان أن يترك سدى" أي هملاً لا يؤمر ولا ينهى ولا يحاسب ولا يعاقب، وقال السدي: معناه المهمل، ومنه إبل سدى: أي ترعى بلا راع، وقيل المعنى: أيحسب أن يترك في قبره كذلك أبداً لا يبعث.
وجملة 37- " ألم يك نطفة من مني يمنى " مستأنفة: أي ألم يك ذلك الإنسان [قطرة] من مني يراق في الرحم، وسمي المني منياً لإرابته، والنطفة: الماء القليل، يقال نطف الماء: إذا قطر. قرأ الجمهور "ألم يك" بالتحتية على إرجاع الضمير إلى الإنسان. وقرأ الحسن بالفوقية على الالتفات إليه توبيخاً له. وقرأ الجمهور أيضاً "تمنى" بالفوقية على أن الضمير للنطفة. وقرأ حفص وابن محيصن ومجاهد ويعقوب بالتحتية على أن الضمير للمني، ورويت هذه القراءة عن أبي عمرو، واختارها أبو حاتم.
38- "ثم كان علقة" أي كان بعد النطفة علقة: أي دماً "فخلق" أي فقدر بأن جعلها مضغة مخلقة "فسوى" أي فعدله وكمل نشأته ونفخ فيه الروح.
39- "فجعل منه" أي حصل من الإنسان، وقيل من المني "الزوجين" أي الصنفين من نوع الإنسان. ثم بين ذلك فقال: "الذكر والأنثى" أي الرجل والمرأة.
40- "أليس ذلك" أي ليس ذلك الذي أنشأ هذا الخلق البديع وقدر عليه "بقادر على أن يحيي الموتى" أي يعيد الأجسام بالبعث كما كانت عليه في الدنيا، فإن الأعادة أهون من الابتداء، وأيسر مؤنة منه. قرأ الجمهور "بقادر" وقرأ زيد بن علي يقدر فعلاً مضارعاً، وقرأ الجمهور "يحيي" بنصبه بأن. وقرأ طلحة بن سليمان والفياض بن غزوان بسكونها تخفيفاً، أو على إجراء الوصل مجرى الوقف كما مر في مواضع. وقد أخرج ابن أبي الدنيا وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: "وقيل من راق" قال: تنتزع نفسه حتى إذا كانت في تراقيه، قيل من يرقى بروحه ملائكة الرحمة أو ملائكة العذاب "والتفت الساق بالساق" قال: التفت عليه الدنيا والآخرة وملائكة العذاب أيهم يرقى به. وأخرج عبد بن حميد عنه "وقيل من راق" قل من راق يرقى. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه أيضاً "والتفت الساق بالساق" يقول: آخر يوم من أيام الدنيا وأول يوم من أيام الآخرة، فتلقى الشدة بالشدة إلا من رحم الله. وأخرج ابن أبي حاتم عنه أيضاً "يتمطى" قال: يختال. وأخرج سعيد بن منصور وعبد بن حميد والنسائي وابن جرير وابن المنذر والطبراني والحاكم وصححه وابن مردويه عن سعيد بن جبير قال: سألت اسن عباس عن قوله: "أولى لك فأولى" أشيء قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي جهل من قبل نفسه، أم أمره الله به؟ قال: بلى قاله من قبل نفسه ثم أنزله الله. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس "أن يترك سدى" قال: هملا. وأخرج عبد بن حميد وابن الأنباري عن صالح أبي الخليل قال: "كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا قرأ هذه الآية " أليس ذلك بقادر على أن يحيي الموتى " قال: سبحانك اللهم وبلى". وأخرج ابن مردويه عن البراء بن عازب قال: لما نزلت هذه الآية " أليس ذلك بقادر على أن يحيي الموتى " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم سبحانك ربي وبلى. وأخرج ابن النجار في تاريخه "عن أبي أمامة أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول عند قراءته لهذه الآية: بلى وأنا على ذلك من الشاهدين". وأخرج أحمد وأبو داود والترمذي وابن المنذر والحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من قرأ منكم "والتين والزيتون" فانتهى إلى آخرها "أليس الله بأحكم الحاكمين" فليقل بلى وأنا على ذلك من الشاهدين. ومن قرأ "لا أقسم بيوم القيامة" فانتهى إلى قوله: "أليس ذلك بقادر على أن يحيي الموتى" فليقل بلى، ومن قرأ "والمرسلات عرفاً" فبلغ "فبأي حديث بعده يؤمنون" فليقل آمنا بالله" وفي إسناده رجل مجهول. وأخرج ابن المنذر وابن مردويه عن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا قرأت لا أقسم بيوم القيامة فبلغت "أليس ذلك بقادر على أن يحيي الموتى" فقال بلى". سورة الإنسان هي إحدى وثلاثون آية قال الجمهور : هي مدنية. وقال مقاتل والكلبي: هي مكية. وأخرج النحاس عن ابن عباس أنها نزلت بمكة. وأخرج ابن مردويه عن ابن الزبير مثله، وقيل فيها مكي من قوله: "إنا نحن نزلنا عليك القرآن تنزيلاً" إلى آخر السورة، وما قبله مدني. وأخرج الطبراني وابن مردويه وابن عساكر عن ابن عمر قال:" جاء رجل من الحبشة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: سل واستفهم، فقال: يا رسول الله فضلتم علينا بالألوان والصور والنبوة أفرأيت إن آمنت بما آمنت به وعملت بما عملت به: أني كائن معك في الجنة، قال: نعم والذي نفسي بيده إنه ليرى بياض الأسود في الجنة من مسيرة ألف عام، ثم قال: من قال لا إله إلا الله كان له عهد عند الله. ومن قال: سبحان الله وبحمده كتب له مائة ألف حسنة وأربعة وعشرون ألف حسنة، ونزلت هذه السورة "هل أتى على الإنسان حين من الدهر" إلى قوله: "ملكاً كبيراً" فقال الحبشي: وإن عيني لترى ما ترى عيناك في الجنة، قال: نعم، فاشتكى حتى فاضت نفسه. قال ابن عمر: فلقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يدليه في حفرته بيده". وأخرج أحمد في الزهد عن محمد بن مطرف قال: حدثني الثقة "أن رجلاً أسود كان يسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن التسبيح والتهليل، فقال له عمر بن الخطاب: أكثرت على رسول الله، فقال: مه يا عمر. وأنزلت على النبي صلى الله عليه وسلم "هل أتى على الإنسان حين من الدهر" حتى إذا أتى على ذكر الجنة زفر الأسود زفرة خرجت نفسه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: مات شوقاً إلى الجنة". وأخرج نحوه ابن وهب عن ابن زيد مرفوعاً مرسلاً. وأخرج أحمد والترمذي وحسنه وابن ماجه وابن منيع وأبو الشيخ في العظمة والحاكم وصححه والضياء عن أبي ذر قال: "قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم "هل أتى على الإنسان" حتى ختمها، ثم قال: إني أرى ما لا ترون وأسمع ما لا تسمعون، أطت السماء وحق لها أن تئط ما فيها موضع أربع أصابع إلا وملك واضع جبهته ساجداً لله، والله لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيراً، وما تلذذتم بالنساء على الفرش، ولخرجتم إلى الصعدات تجأرون إلى الله عز وجل". حكى الواحدي عن المفسرين وأخل المعاني أن 1- "هل" هنا بمعنا قد، وليس باستفهام، وقد قال بهذا سيبويه والكسائي والفراء وأبو عبيدة. قال الفراء: هل تكون جحداً وتكون خبراً فهذا من الخبر لأنك تقول: هل أعطيتك تقرره بأنك أعطيته، والجحد أن تقول: هل يقدر أحد على مثل هذا، وقيل هي وإن كانت بمعنى قد ففيها معنى الاستفهام، والأصل أهل أتى، فالمعنى: أقد أتى، والاستفهام للتقرير والتقريب، والمراد بالإنسان هنا آدم، قال قتادة والثوري وعكرمة والسدي وغيرهم "حين من الدهر" قيل أربعون سنة قبل أن ينفخ فيه الروح، وقيل إنه خلق من طين أربعين سنة، ثم من حمأ مسنون أربعين سنة، ثم من صلصال أربعين سنة فتم خلقه بعد مائة وعشرين سنة. وقيل الحين المذكور هنا لا يعرف مقداره وقيل المراد بالإنسان بنو آدم، والحين مدة الحمل، وجملة "لم يكن شيئاً مذكوراً" في محل نصب على الحال من الإنسان، أو في محل رفع صفة لحين. قال الفراء وقطرب وثعلب: المعنى أنه كان جسداً مصوراً تراباً وطيناً لا يذكر ولا يعرف ولا يدري ما اسمه ولا ما يراد به، ثم نفخ فيه الروح فصار مذكوراً. وقال يحيى بن سلام: لم يكن شيئاً مذكوراً في الخلق وإن كان عند الله شيئاً مذكوراً، وقيل ليس المراد بالذكر هنا الإخبار، فإن إخبار الرب عن الكائنات قديم، بل هو الذكر بمعنى الخطر والشرف، كما في قوله: "وإنه لذكر لك ولقومك". قال القشيري: ما كان مذكوراً للخلق وإن كان مذكوراً لله سبحانه. قال الفراء: كان شيئاً ولم يكن مذكوراً. فجعل النفي متوجهاً إلى القيد. وقيل المعنى: قد مضت أزمنة وما كان آدم شيئاً ولا مخلوقاً ولا مذكوراً لأحد من الخليقة. وقال مقاتل: في الكلام تقديم وتأخير وتقديره: هل أتى حين من لم يكن شيئاً مذكوراً، لأنه خلقه بعد خلق الحيوان كله ولم يخلق بعده حيوان.
2- "إنا خلقنا الإنسان من نطفة" المراد بالإنسان هنا ابن آدم. قال القرطبي: من غير خلاف، والنطفة: الماء الذي يقطر، وهو المني وكل ماء قليل في وعاء فهو نطفة، وجمعها نطف، و"أمشاج" صفة لنطفة، وهي جمع مشج، أو مشيج، وهي الأخلاط، والمراد نطفة الرجل ونطفة المرأة واختلاطهما. يقال مشج هذا بهذا فهو ممشوج: أي خلط هذا بهذا فهو مخلوط. قال المبرد: مشج يمشج إذا اختلط، وهو هنا اختلاط النطفة بالدم. قال رؤبة بن العجاج: يطرحن كل معجل مشاج لم يكس جلداً من دم أمشاج قال الفراء: أمشاج اختلاط ماء الرجل وماء المرأة والدم والعلقة، ويقال مشج هذا: إذا خلط، وقيل الأمشاج: الحمرة في البياض والبياض في الحمرة. قال القرطبي: وهذا قول يختاره كثير من أهل اللغة. قال الهذلي: كأن الريش والوقين منـه حلاف النصل نيط به مشيـج وذلك لأن ماء الرجل أبيض غليظ وماء المرأة أصفر رقيق فيخلق منهما الولد. قال ابن السكيت: الأمشاج: الأخلاط لأنها ممتزجة من أنواع يخلق الإنسان منها وطباع مختلفة. وقيل الأمشاج لفظ مفرد كبرمة أعشار، ويؤيد هذا وقوعه نعتاً لنطفة، وجملة "نبتليه" في محل نصب على الحال من فاعل خلقنا: أي مريدين ابتلاءه، ويجوز أن يكون حالاً من الإنسان، والمعنى: نبتليه بالخير والشر وبالتكاليف. قال الفراء: معناه والله أعلم "جعلناه سميعاً بصيرا" نبتليه وهي مقدمة معناها التأخير، لأن الابتلاء لا يقع إلى بعدج تمام الخلقة، وعلى هذا تكون هذه الحال مقدرة، وقيل مقارنة. وقيل معنى الابتلاء: نقله من حال إلى حال على طريقه الاستعارة، والأول أولى.
ثم ذكر سبحانه أنه أعطاءه ما يصح معه الابتلاء فقال: 3- "إنا هديناه السبيل إما شاكراً وإما كفوراً" أي بينا له وعرفناه طريق الهدى والضلال والخير والشر كما في قوله: "وهديناه النجدين" قال مجاهد: أي بينا السبيل إلى الشقاء والسعادة. وقال الضحاك والسدي وأبو صالح: السبيل هنا خروجه من الرحم، وقيل منافعه ومضاره التي يهتدي إليها بطبعه وكمال عقله، وانتصاب شاكراً وكفوراً على الحال من مفعول هديناه: أي مكناه من سلوك الطريق في حالتيه جميعاً، وقيل على الحال من سبيل على المجاز: أي عرفناه السبيل إما سبيلاً شاكراً وإما سبيلاً كفوراً. وحكى مكي عن الكوفيين أن قوله إما هي إن شرطية زيدت بعدها ما: أي بينا له الطريق إن شكر وإن كفر. واختار هذا الفراء، ولا يجيزه البصريون لأن إن الشرطية لا تدخل على الأسماء إلا أن يضمر بعدها فعل، ولا يصح هنا إضمار الفعل لأنه كان يلزم رفع شاكراً وكفوراً. ويمكن أن يضمر فعل ينصب شاكراً وكفوراً، وتقديره: إن خلقناه شاكراً فشكور وإن خلقناه كافراً فكفور، وهذا على قراءة الجمهور "إما شاكراً وإما كفوراً" بكسر همزة إما. وقرأ أبو السماك وأبو العجاج بفتحها، وهي على الفتح إما العاطفة في لغة بعض العرب، أو هي التفصيلية وجوابها مقدر، وقيل انتصب شاكراً وكفوراً بإضمار كان، والتقدير: سواء كان شاكراً أو كان كفوراً.
ثم بين سبحانه ما أعد للكافرين فقال: 4- " إنا أعتدنا للكافرين سلاسل وأغلالا وسعيرا " قرأ نافع والكسائي وأبو بكر عن عاصم وهشام عن ابن عمر " سلاسل " بالتنوين، ووقف قنبل عن ابن كثير وحمزة بغير ألف، والباقون وقفوا بالألف. ووجه من قرأ بالتنوين في سلاسل مع كون فيه صيغة منتهى الجموع أنه قصد بذلك التناسب لأن ما قبله وهو "إما شاكراً وإما كفوراً"، وما بعده وهو "أغلالاً وسعيراً" منون، أو على لغة من يصرف جميع ما لا ينصرف كما حكاه الكسائي وغيره من الكوفيين عن بعض العرب. قال الأخفش: سمعنا من العرب من يصرف كل ما لا ينصرف، لأن الوصل في الأسماء الصرف وترك الصرف لعارض فيها. قال الفراء: هو على لغة من يجر الأسماء كلها إلا قولهم: هو أظرف منك فإنهم لا يجرونه، وأنشد ابن الأنباري في ذلك قول عمرو بن كلثوم: كــأن ســيــوفـنــا فــيـنــا وفــيــهــم مخـــاريـــق بــأيـــدي لاعــبــيــنــا ومن ذلك قول الشاعر: وإذا الــرجـــال رأوا يــزيــد رأيتـهم خضــع الـرقــاب نــواكس الأبصار بكسر السين من نواكس، وقول لبيد: وحســـور أستـــار دعـــوني لحتفـهـا بمــعــالــق متشـــابـــه أعــــلاقـهـــا وقوله أيضاً: فضلا وذو كرم [يعين] على الندى سمــح لشـــوب رغــائب غنـــامهــــا وقيل إن التنوين لموافقة رسم المصاحف المكية والمدنية والكوفية فإنها فيها بالألف، وقيل إن هذا التنوين بدل من حرف الإطلاق، ويجري الوصل مجرى الوقف، والسلاسل قد تقدم تفسيرها، والخلاف فيها هل هي القيود، أو ما يجعل في الأعناق كما في قول الشاعر: .. .. .. .. .. .. .. .. ..ولــكــن أحاطت بالرقاب السلاســل والأغلال [جمع] غل تغل به الأيدي إلى الأعناق، والسعير: الوقود الشديد، وقد تقدم تفسير السعير.
ثم ذكر سبحانه ما أعده للشاكرين فقال: 5- "إن الأبرار يشربون من كأس" الأبرار: أهل الطاعة والإخلاص، والصدق جمع بر أو بار. قال في الصحاح: جمع البر الأبرار، وجمع البار البررة، وفلان يبر خالقه ويبرره: أي يطيعه. وقال الحسن: البر الذي لا يؤذي الذر. وقال قتادة: الأبرار الذي يؤدون حق الله ويوفون بالنذر. والكأس في اللغة هو الإناء الذي فيه الشراب، وإذا لم يكن فيه الشراب لم يسم كأساً، ولا وجه لتخصيصه بالزجاجة، بل يكون من الزجاج ومن الذهب والفضة والصيني وغير ذلك، وقد كانت كاسات العرب من أجناس مختلفة، وقد يطلق الكأس على نفس الخمر كما في قول الشاعر: وكأس شربت على لذة وأخرى تــداويت منهـا بهـا "كان مزاجها كافوراً" أي يخالطها وتمزج به، يقال مزجه يمزجه مزجاً: أي خلطه يخلطه خلطاً، ومنه قول الشاعر: كــأن سببيـة من بــيت رأس كـان مزاجهــا عسل ومــاء وقول عمرو بن كلثوم: صددت الكأس عنا أم عمرو وكان الكـأس مجراها اليمينا معتقــة كــأن الخـص فـيــهـا إذا ما الماء خالطهـا سخينــا ومنه مزاج البدن، وهو ما يمازجه من الأخلاط، والكافور قيل: هو اسم عين في الجنة يقال لها الكافوري تمزج خمر الجنة بماء هذه العين. وقال قتادة ومجاهد: تمزج لهم بالكافور وتختم بهم بالمسك. وقال عكرمة: مزاجها طعمها، وقيل إنما الكافور في ريحها لا في طعمها. وقيل إنما أراد الكافور في بياضه وطيب رائحته وبرده، لأن الكافور لا يشرب كما في قوله: "حتى إذا جعله ناراً" أي كنار. وقال ابن كيسان: طيبها المسك والكافور والزنجبيل. وقال مقاتل: ليس هو كافور الدنيا، وإنما سمي الله ما عنده بما عندكم حتى تهتدي له القلوب، والجملة في محل جر صفة لكأس. وقيل إن كان هنا زائدة: أي من كأس مزاجها كافوراً.