تفسير القرطبي الجامع لأحكام القرآن تفسير الصفحة 87 من المصحف



تفسير القرطبي - صفحة القرآن رقم 87

87- تفسير الصفحة رقم87 من المصحف
قوله تعالى: "أم لهم نصيب من الملك" أي ألهم ؟ والميم صلة. "نصيب" حظ "من الملك" وهذا على وجه الإنكار؛ يعني ليس لهم من الملك شيء، ولو كان لهم منه شيء لم يعطوا أحدا منه شيئا لبخلهم وحسدهم. وقيل: المعنى بل ألهم نصيب؛ فتكون أم منقطعة ومعناها الإضراب عن الأول والاستئناف للثاني. وقيل: هي عاطفة على محذوف؛ لأنهم أنفوا من أتباع محمد صلى الله عليه وسلم. والتقدير: أهم أولى بالنبوة ممن أرسلته أم لهم نصيب من الملك ؟. "فإذا لا يؤتون الناس نقيرا "أي يمنعون الحقوق. خبر الله عز وجل عنهم بما يعلمه منهم. والنقير: النكتة في ظهر النواة؛ عن ابن عباس وقتادة وغيرهما. وعن ابن عباس أيضا: النقير: ما نقر الرجل بأصبعه كما ينقر الأرض. وقال أبو العالية: سألت ابن عباس عن النقير فوضع طرف الإبهام على باطن السبابة ثم رفعهما وقال: هذا النقير. والنقير: أصل خشبة ينقر وينبذ فيه؛ وفيه جاء النهي ثم نسخ. وفلان كريم النقير أي الأصل. و"إذا "هنا ملغاه غير عاملة لدخول فاء العطف عليها، ولو نصب لجاز. قال سيبويه: "إذا "في عوامل الأفعال بمنزلة "أظن "في عوامل الأسماء، أي تلغى إذا لم يكن الكلام معتمدا عليها، فإن كانت في أول الكلام وكان الذي بعدها مستقبلا نصبت؛ كقولك: أنا أزورك فيقول مجيبا لك: إذا أكرمك. قال عبدالله بن عنتمة الضبي:
اردد حمارك لا يرتع بروضتنا إذن يرد وقيد العير مكروب
نصب لأن الذي قبل "إذن "تام فوقعت ابتداء كلام. فإن وقعت متوسطة بين شيئين كقولك. زيد إذا يزورك ألغيت؛ فإن دخل عليها فاء العطف أو واو العطف فيجور فيها الإعمال والإلغاء؛ أما الأعمال فلأن ما بعد الواو يستأنف على طريق عطف الجملة على الجملة، فيجوز في غير القرآن فإذا لا يؤتوا. وفي التنزيل "وإذا لا يلبثون "[الإسراء: 76] وفي مصحف أبي "وإذا لا يلبثوا". وأما الإلغاء فلأن ما بعد الواو لا يكون إلا بعه كلام يعطف عليه، والناصب للفعل عند سيبويه "إذا" لمضارعتها "أن"، وعند الخليل أن مضمرة بعد إذا. وزعم الفراء أن إذا تكتب بالألف وأنها منونة. قال النحاس: وسمعت علي بن سليمان يقول: سمعت أبا العباس محمد بن يزيد يقول: أشتهي أن أكوي يد من يكتب إذاً بالألف؛ إنها مثل لن وإن، ولا يدخل التنوين في الحروف.
الآيتان: 54 - 55 {أم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله فقد آتينا آل إبراهيم الكتاب والحكمة وآتيناهم ملكا عظيما، فمنهم من آمن به ومنهم من صد عنه وكفى بجهنم سعير}
قوله تعالى: "أم يحسدون" يعني اليهود. "الناس" يعني النبي صلى الله عليه وسلم خاصة؛ عن ابن عباس ومجاهد وغيرهما. حسدوه على النبوة وأصحابه على الإيمان به. وقال قتادة: "الناس "العرب، حسدتهم اليهود على النبوة. الضحاك: حسدت اليهود قريشا؛ لأن النبوة فيهم. والحسد مذموم وصاحبه مغموم وهو يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب؛ رواه أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم. وقال الحسن: ما رأيت ظالما أشبه بمظلوم من حاسد؛ نفس دائم، وحزن لازم، وعبرة لا تنفد. وقال عبدالله بن مسعود: لا تعادوا نعم الله. قيل له: ومن يعادي نعم الله ؟ قال: الذين يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله، يقول الله تعالى في بعض الكتب: الحسود عدو نعمتي متسخط لقضائي غير راض بقسمتي. ولمنصور الفقيه:
ألا قل لمن ظل لي حاسدا أتدري على من أسأت الأدب
أسأت على الله في حكمه إذا أنت لم ترض لي ما وهب
ويقال: الحسد أول ذنب عصي الله به في السماء، وأول ذنب عصي به في الأرض؛ فأما في السماء فحسد إبليس لآدم، وأما في الأرض فحسد قابيل لهابيل. ولأبي العتاهية في الناس:
فيا رب إن الناس لا ينصفونني فكيف ولو أنصفتهم ظلموني
وإن كان لي شيء تصدوا لأخذه وإن شئت أبغي شيئهم منعوني
وإن نالهم بذلي فلا شكر عندهم وإن أنا لم أبذل لهم شتموني
وإن طرقتني نكبة فكهوا بها وإن صحبتني نعمة حسدوني
سأمنع قلبي أن يحن إليهمو وأحجب عنهم ناظري وجفوني
وقيل: إذا سرك أن تسلم من الحاسد فغم عليه أمرك. ولرجل من قريش:
حسدوا النعمة لما ظهرت فرموها بأباطيل الكلم
وإذا ما الله أسدى نعمة لم يضرها قول أعداء النعم
ولقد أحسن من قال:
أصبر على حسد الحسو د فإن صبرك قاتله
فالنار تأكل بعضها إن لم تجد ما تأكله
وقال بعض أهل التفسير في قول الله تعالى: "ربنا أرنا الذين أضلانا من الجن والإنس نجعلهما تحت أقدامنا ليكونا من الأسفلين "[فصلت: 29]. إنه إنما أراد بالذي من الجن إبليس والذي من الإنس قابيل؛ وذلك أن إبليس كان أول من سن الكفر، وقابيل كان أول من سن القتل، وإنما كان أصل ذلك كله الحسد. وقال الشاعر:
إن الغراب وكان يمشي مشية فيما مضى من سالف الأحوال
حسد القطاة فرام يمشي مشيها فأصابه ضرب من التعقال
قوله تعالى: "فقد آتينا" ثم أخبر تعالى أنه آتى آل إبراهيم الكتاب والحكمة وآتاهم ملكا عظيما. قال همام بن الحارث: أيدوا بالملائكة. وقيل: يعني ملك سليمان؛ عن ابن عباس. وعنه أيضا: المعنى أم يحسدون محمدا على ما أحل الله له من النساء فيكون الملك العظيم على هذا أنه أحل لداود تسعا وتسعين امرأة ولسليمان أكثر من ذلك. واختار الطبري أن يكون المراد ما أوتيه سليمان من الملك وتحليل النساء. والمراد تكذيب اليهود والرد عليهم في قولهم: لو كان نبيا ما رغب في كثرة النساء ولشغلته النبوة عن ذلك؛ فأخبر الله تعالى بما كان لداود وسليمان يوبخهم، فأقرت اليهود أنه اجتمع عند سليمان ألف امرأة، فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: ألف امرأة ؟ قالوا: نعم ثلاثمائة مهرية، وسبعمائة سرية، وعند داود مائة امرأة. فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: (ألف عند رجل ومائة عند رجل أكثر أو تسع نسوة ) ؟ فسكتوا. وكان له يومئذ تسع نسوة.
يقال: إن سليمان عليه السلام كان أكثر الأنبياء نساء. والفائدة في كثرة تزوجه أنه كان له قوة أربعين نبيا، وكل من كان أقوى فهو أكثر نكاحا. ويقال: إنه أراد بالنكاح كثرة العشيرة؛ لأن لكل امرأة قبيلتين قبيلة من جهة الأب وقبيلة من جهة الأم؛ فكلما تزوج امرأة صرف وجوه القبيلتين إلى نفسه فتكون عونا له على أعدائه. ويقال: إن كل من كان أتقى فشهوته أشد؛ لأن الذي لا يكون تقيا فإنما يتفرج بالنظر والمس، ألا ترى ما روى في الخبر: (العينان تزنيان واليدان تزنيان ). فإذا كان في النظر والمس نوع من قضاء الشهوة قل الجماع، والمتقي لا ينظر ولا يمس فتكون الشهوة مجتمعة في نفسه فيكون أكثر جماعا. وقال أبو بكر الوراق: كل شهوة تقسي القلب إلا الجماع فإنه يصفي القلب؛ ولهذا كان الأنبياء يفعلون ذلك.
قوله تعالى: "فمنهم من آمن به" يعني بالنبي صلى الله عليه وسلم لأنه تقدم ذكره وهو المحسود. "ومنهم من صد عنه" أعرض فلم يؤمن به. وقيل: الضمير في "به "راجع إلى إبراهيم. والمعنى: فمن آل إبراهيم من آمن به ومنهم من صد عنه. وقيل: يرجع إلى الكتاب. والله أعلم.
الآية: 56 {إن الذين كفروا بآياتنا سوف نصليهم نارا كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلودا غيرها ليذوقوا العذاب إن الله كان عزيزا حكيما
الآية: 57 - والذين آمنوا وعملوا الصالحات سندخلهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا لهم فيها أزواج مطهرة وندخلهم ظلا ظليل
}
قد تقدم معنى الإصلاء أول السورة. وقرأ حميد بن قيس "نصليهم "بفتح النون أي نشويهم. يقال: شاة مصلية. ونصب "نارا "على هذه القراءة بنزع الخافض تقديره بنار. "كلما نضجت جلودهم" يقال: نضج الشيء نضجا ونضجا، وفلان نضيج الرأي محكمه. والمعنى في الآية: تبدل الجلود جلودا أخر. فإن قال من يطعن في القرآن من الزنادقة: كيف جاز أن يعذب جلدا لم يعصه ؟ قيل له: ليس الجلد بمعذب ولا معاقب، وإنما الألم واقع على النفوس؛ لأنها هي التي تحس وتعرف فتبديل الجلود زيادة في عذاب النفوس. يدل عليه قوله تعالى: "ليذوقوا العذاب "وقوله تعالى: "كلما خبت زدناهم سعيرا "[الإسراء: 97]. فالمقصود تعذيب الأبدان وإيلام الأرواح. ولو أراد الجلود لقال: ليذقن العذاب. مقاتل: تأكله النار كل يوم سبع مرات. الحسن: سبعين ألف مرة كلما أكلتهم قيل لهم: عودوا فعادوا كما كانوا. ابن عمر: إذا احترقوا بدلت لهم جلود بيض كالقراطيس. وقيل: عنى بالجلود السرابيل؛ كما قال تعالى: "وترى المجرمين يومئذ مقرنين في الأصفاد سرابيلهم من قطران "[إبراهيم: 49 - 50] سميت جلودا للزومها جلودهم على المجاورة؛ كما يقال للشيء الخاص بالإنسان: هو جلدة ما بين عينيه. وأنشد ابن عمر رضي الله عنه:
يلومونني في سالم وألومهم وجلدة بين العين والأنف سالم
فكلما احترقت السرابيل أعيدت. قال الشاعر:
كسا اللؤم تيما خضرة في جلودها فويل لتيم من سرابيلها الخضر
فكنى عن الجلود بالسرابيل. وقيل: المعنى أعدنا الجلد الأول جديدا؛ كما تقول للصائغ: صغ لي من هذا الخاتم خاتما غيره؛ فيكسره ويصوغ لك منه خاتما. فالخاتم المصوغ هو الأول إلا أن الصياغة تغيرت والفضة واحدة. وهذا كالنفس إذا صارت ترابا وصارت لا شيء ثم أحياها الله تعالى. وكعهدك بأخ لك صحيح ثم تراه بعد ذلك سقيما مدنفا فتقول له: كيف أنت ؟ فيقول: أنا غير الذي عهدت. فهو هو، ولكن حاله تغيرت. فقول القائل: أنا غير الذي عهدت، وقوله تعالى: "غيرها" مجاز. ونظيره قوله تعالى: "يوم تبدل الأرض غير الأرض "[إبراهيم: 48] وهي تلك الأرض بعينها إلا أنها تغير آكامها وجبالها وأنهارها وأشجارها، ويزاد في سعتها ويسوى ذلك منها؛ على ما يأتي بيانه في سورة "إبراهيم "عليه السلام. ومن هذا المعنى قول الشاعر:
فما الناس بالناس الذين عهدتهم ولا الدار بالدار التي كنت أعرف
وقال الشعبي: جاء رجل إلى ابن عباس فقال: ألا ترى ما صنعت عائشة. ذمت دهرها، وأنشدت بيتي لبيد:
ذهب الذين يعاش في أكنافهم وبقيت في خلف كجلد الأجرب
يتلذذون مجانة ومذلة ويعاب قائلهم وإن لم يشغب
فقالت: رحم الله لبيدا فكيف لو أدرك زماننا هذا ! فقال ابن عباس: لئن ذمت عائشة دهرها لقد ذمت "عاد" دهرها؛ لأنه وجد في خزانة "عاد" بعدما هلكوا بزمن طويل كأطول ما يكون من رماح ذلك الزمن عليه مكتوب:
بلاد بها كنا ونحن بأهلها إذ الناس ناس والبلاد بلاد
البلاد باقية كما هي إلا أن أحوالها وأحوال أهلها تنكرت وتغيرت. "إن الله كان عزيزا" أي لا يعجزه شيء ولا يفوته. "حكيما" في إيعاده عباده. وقوله في صفة أهل الجنة: "وندخلهم ظلا ظليلا "يعني كثيفا لا شمس فيه. الحسن: وصف بأنه ظليل؛ لأنه لا يدخله ما يدخل ظل الدنيا من الحر والسموم ونحو ذلك. وقال الضحاك: يعني ظلال الأشجار وظلال قصورها الكلبي: "ظلا ظليلا" يعني دائما.
الآية: 58 {إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل إن الله نعما يعظكم به إن الله كان سميعا بصير}
قوله تعالى: "إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات" هذه الآية من أمهات الأحكام تضمنت جميع الدين والشرع. وقد اختلف من المخاطب بها؛ فقال علي بن أبى طالب وزيد بن أسلم وشهر بن حوشب وابن زيد: هذا خطاب لولاة المسلمين خاصة، فهي للنبي صلى الله عليه وسلم وأمرائه، ثم تتناول من بعدهم. وقال ابن جريج وغيره: ذلك خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم خاصة في أمر مفتاح الكعبة حين أخذه من عثمان بن أبي طلحة الحجبي العبدري من بني عبدالدار ومن ابن عمه شيبة بن عثمان بن أبي طلحة وكانا كافرين وقت فتح مكة، فطلبه العباس بن عبدالمطلب لتنضاف له السدانة إلى السقاية؛ فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم الكعبة فكسر ما كان فيها من الأوثان، وأخرج مقام إبراهيم ونزل عليه جبريل بهذه الآية. قال عمر بن الخطاب: وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقرأ هذه الآية، وما كنت سمعتها قبل منه، فدعا عثمان وشيبة فقال: (خذاها خالدة تالدة لا ينزعها منكم إلا ظالم ). وحكى مكي: أن شيبة أراد ألا يدفع المفتاح، ثم دفعه، وقال للنبي صلى الله عليه وسلم: خذه بأمانة الله. وقال ابن عباس: الآية في الولاة خاصة في أن يعظوا النساء في النشوز ونحوه ويردوهن إلى الأزواج. والأظهر في الآية أنها عامة في جميع الناس فهي تتناول الولاة فيما إليهم من الأمانات في قسمة الأموال ورد الظلامات والعدل في الحكومات. وهذا اختيار الطبري. وتتناول من دونهم من الناس في حفظ الودائع والتحرز في الشهادات وغير ذلك، كالرجل يحكم في نازلة ما ونحوه؛ والصلاة والزكاة وسائر العبادات أمانة الله تعالى. وروي هذا المعنى مرفوعا من حديث ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (القتل في سبيل الله يكفر الذنوب كلها ) أو قال: (كل شيء إلا الأمانة - والأمانة في الصلاة والأمانة في الصوم والأمانة في الحديث وأشد ذلك الودائع ). ذكره أبو نعيم الحافظ في الحلية. وممن قال إن الآية عامة في الجميع البراء بن عازب وابن مسعود وابن عباس وأبي بن كعب قالوا: الأمانة في كل شيء في الوضوء والصلاة والزكاة والجنابة والصوم والكيل والوزن والودائع، وقال ابن عباس: لم يرخص الله لمعسر ولا لموسر أن يمسك الأمانة.
قلت: وهذا إجماع. وأجمعوا على أن الأمانات مردودة إلى أربابها الأبرار منهم والفجار؛ قاله ابن المنذر. والأمانة مصدر بمعنى المفعول فلذلك جمع. ووجه النظم بما تقدم أنه تعالى أخبر عن كتمان أهل الكتاب صفة محمد صلى الله عليه وسلم، وقولهم: إن المشركين أهدى سبيلا، فكان ذلك خيانة منهم فانجر الكلام إلى ذكر جميع الأمانات؛ فالآية شاملة بنظمها لكل أمانة وهي أعداد كثيرة كما ذكرنا. وأمهاتها في الأحكام: الوديعة واللقطة والرهن والعارية. وروى أبي بن كعب قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (أد الأمانة إلى من ائتمنك ولا تخن من خانك ). أخرجه الدارقطني. ورواه أنس وأبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم وقد تقدم في "البقرة "معناه. وروى أبو أمامة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في خطبته عام حجة الوداع: (العارية مؤداة والمنحة مردودة والدين مقضي والزعيم غارم ). صحيح أخرجه الترمذي وغيره. وزاد الدارقطني: فقال رجل: فعهد الله ؟ قال: (عهد الله أحق ما أدي ). وقال بمقتضى هذه الآية والحديث في رد الوديعة وأنها مضمونة على كل حال كانت مما يغاب عليها أو لا يغاب تعدي فيها أو لم يتعد - عطاء والشافعي وأحمد وأشهب. وروي أن ابن عباس وأبا هريرة رضي الله عنهما ضمنا الوديعة. وروى ابن القاسم عن مالك أن من استعار حيوانا أو غيره مما لا يغاب عليه فتلف عنده فهو مصدق في تلفه ولا يضمنه إلا بالتعدي. وهذا قول الحسن البصري والنخعي، وهو قول الكوفيين والأوزاعي قالوا: ومعنى قول عليه السلام: (العارية مؤداة) هو كمعنى قوله تعالى: "إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها". فإذا تلفت الأمانة لم يلزم المؤتمن غرمها لأنه مصدق فكذلك العارية إذا تلفت من غير تعد؛ لأنه لم يأخذها على الضمان، فإذا تلفت بتعديه عليها لزمه قيمتها لجنايته عليها. وروي عن علي وعمر وابن مسعود أنه لا ضمان في العارية. وروى الدارقطني عن، عمرو بن شعيب، عن أبيه عن جده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا ضمان على مؤتمن ). واحتج الشافعي فيما استدل به بقول صفوان للنبي صلى الله عليه وسلم لما استعار منه الأدراع: أعارية مضمونة أو عارية مؤداة ؟ فقال: (بل عارية مؤداة ).
قوله تعالى: "وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل" قال الضحاك: بالبينة على المدعي واليمين على من أنكر. وهذا خطاب للولاة والأمراء والحكام، ويدخل في ذلك بالمعنى جميع الخلق كما ذكرنا في أداء الأمانات. قال صلى الله عليه وسلم: (إن المقسطين يوم القيامة على منابر من نور عن يمين الرحمن وكلتا يديه يمين الذين يعدلون في حكمهم وأهليهم وما ولوا ). وقال: (كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته فالإمام راع وهو مسؤول عن رعيته والرجل راع على أهله وهو مسؤول عنهم والمرأة راعية على بيت زوجها وهي مسؤولة عنه والعبد راع على مال سيده وهو مسؤول عنه ألا فكلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته ). فجعل في هذه الأحاديث الصحيحة كل هؤلاء رعاة: وحكاما على مراتبهم، وكذلك العالم الحاكم؛ لأنه إذا أفتى حكم وقضى وفصل بين الحلال والحرام، والفرض والندب، والصحة والفساد، فجميع ذلك أمانة تؤدى وحكم يرضى. وقد تقدم في (البقرة) القول في "نعما".
قوله تعالى: "إن الله كان سميعا بصيرا" وصف الله تعالى نفسه بأنه سميع بصير يسمع ويرى؛ كما قال تعالى: "إنني معكما أسمع وأرى" [طه:46] فهذا طريق السمع. والعقل يدل على ذلك؛ فإن انتفاء السمع والبصر يدل على نقيضهما من العمى والصمم، إذ المحل القابل للضدين لا يخلو من أحدهما، وهو تعالى مقدس عن النقائص ويستحيل صدور الأفعال الكاملة من المتصف، بالنقائص؛ كخلق السمع والبصر ممن ليس له سمع ولا بصر. وأجمعت الأمة على تنزيهه تعالى عن النقائص وهو أيضا دليل سمعي يكتفى به مع نص القرآن في مناظرة من تجمعهم كلمة الإسلام. جل الرب تبارك وتعالى عما يتوهمه المتوهمون ويختلقه المفترون الكاذبون "سبحان ربك رب العزة عما يصفون "[الصافات:180].
الآية: 59 {يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويل}
لما تقدم إلى الولاة في الآية المتقدمة وبدأ بهم فأمرهم بأداء الأمانات وأن يحكموا بين الناس بالعدل، تقدم في هذه الآية إلى الرعية فأمر بطاعته جل وعز أولا، وهي امتثال أوامره واجتناب نواهيه، ثم بطاعة رسوله ثانيا فيما أمر به ونهى عنه، ثم بطاعة الأمراء ثالثا؛ على قول الجمهور وأبي هريرة وابن عباس وغيرهم. قال سهل بن عبدالله التستري: أطيعوا السلطان في سبعة: ضرب الدراهم والدنانير، والمكاييل والأوزان، والأحكام والحج والجمعة والعيدين والجهاد. قال سهل: وإذا نهى السلطان العالم أن يفتي فليس له أن يفتي، فإن أفتى فهو عاص وإن كان أميرا جائرا. وقال ابن خويز منداد: وأما طاعة السلطان فتجب فيما كان له فيه طاعة، ولا تجب فيما كان لله فيه معصية؛ ولذلك قلنا: إن ولاة زماننا لا تجوز طاعتهم ولا معاونتهم ولا تعظيمهم، ويجب الغزو معهم متى غزوا، والحكم من قولهم، وتولية الإمامة والحسبة؛ وإقامة ذلك على وجه الشريعة. وإن صلوا بنا وكانوا فسقة من جهة المعاصي جازت الصلاة معهم، وإن كانوا مبتدعة لم تجز الصلاة معهم إلا أن يخافوا فيصلي معهم تقية وتعاد الصلاة.
قلت: روي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال: حق على الإمام أن يحكم بالعدل، ويؤدي الأمانة؛ فإذا فعل ذلك وجب على المسلمين أن يطيعوه؛ لأن الله تعالى أمرنا بأداء الأمانة والعدل، ثم أمر بطاعته. وقال جابر بن عبدالله ومجاهد: "أولو الأمر "أهل القرآن والعلم؛ وهو اختيار مالك رحمه الله، ونحوه قول الضحاك قال: يعني الفقهاء والعلماء في الدين. وحكي عن مجاهد أنهم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم خاصة. وحكى عن عكرمة أنها إشارة إلى أبي بكر وعمر رضي الله عنهما خاصة. وروى سفيان بن عيينة عن الحكم بن أبان أنه سأل عكرمة عن أمهات الأولاد فقال: هن حرائر. فقلت بأي شيء ؟ قال بالقرآن. قلت: بأي شيء في القرآن ؟ قال: قال الله تعالى: "أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم "وكان عمر من أولي الأم؛ قال: عتقت ولو بسقط. وسيأتي هذا المعنى مبينا في سورة "الحشر "عند قوله تعالى: "وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا" [الحشر: 7]. وقال ابن كيسان: هم أولو العقل، الرأي الذين يدبرون أمر الناس.
قلت: وأصح هذه الأقوال الأول والثاني؛ أما الأول فلأن أصل الأم منهم والحكم إليهم. وروى الصحيحان عن ابن عباس قال: نزل "يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم" في عبدالله بن حذافة بن قيس بن عدي السهمي إذ بعثه النبي صلى الله عليه وسلم في سرية. قال أبو عمر: وكان في عبدالله بن حذافة دعابة معروفة؛ ومن دعابته أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمره على سرية فأمرهم أن يجمعوا حطبا ويوقدوا نارا؛ فلما أوقدوها أمرهم بالتقحم فيها، فقال لهم: ألم يأمركم رسول الله صلى الله عليه وسلم بطاعتي ؟ ! وقال: (من أطاع أميري فقد أطاعني ). فقالوا: ما آمنا بالله واتبعنا رسوله إلا لننجو من النار ! فصوب رسول الله صلى الله عليه وسلم فعلهم وقال: (لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق قال الله تعالى: "ولا تقتلوا أنفسكم "[النساء: 29] ). وهو حدث صحيح الإسناد مشهور. وروى محمد بن عمرو بن علقمة عن عمر بن الحكم بن ثوبان أن أبا سعيد الخدري قال: كان عبدالله بن حذافة بن قيس، السهمي من أصحاب بدر وكانت فيه دعابة. وذكر الزبير قال: حدثني عبدالجبار بن سعيد عن عبدالله بن وهب عن الليث بن سعد قال: بلغني أنه حل حزام راحلة رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض أسفاره، حتى كاد رسول الله صلى الله عليه وسلم يقع. قال ابن وهب: فقلت لليث ليضحكه ؟ قال: نعم كانت فيه دعابة. قال ميمون بن مهران ومقاتل والكلبي: "أولوا الأمر" أصحاب السرايا. وأما القول الثاني فيدل على صحته قوله تعالى "فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول". فأمر تعالى برد المتنازع فيه إلى كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، وليس لغير العلماء معرفة كيفية الرد إلى الكتاب والسنة؛ ويدل هذا على صحة كون سؤال العلماء واجبا، وامتثال فتواهم لازما. قال سهل بن عبدالله رحمه الله: لا يزال الناس بخير ما عظموا السلطان والعلماء؛ فإذا عظموا هذين أصلح الله دنياهم وأخراهم، وإذا استخفوا بهذين أفسد دنياهم وأخراهم. وأما القول الثالث فخاص، وأخص منه القول الرابع. وأما الخامس فيأباه ظاهر اللفظ وإن كان المعنى صحيحا، فإن العقل لكل فضيلة أس، ولكل أدب ينبوع، وهو الذي جعله الله للدين أصلا وللدنيا عمادا، فأوجب الله التكليف بكمال، وجعل الدنيا مدبرة بأحكامه؛ والعاقل أقرب إلى ربه تعالى من جميع المجتهدين بغير عقل وروى هذا المعنى عن ابن عباس. وزعم قوم أن المراد بأولي الأمر علي والأئمة المعصومون. ولو كان كذلك ما كان لقوله: "فردوه إلى الله والرسول "معنى، بل كان يقول فردوه إلى الإمام وأولي الأمر، فإن قوله عند هؤلاء هو المحكم على الكتاب والسنة. وهذا قول مهجور مخالف لما عليه الجمهور. وحقيقة الطاعة امتثال الأمر، كما أن المعصية ضدها وهي مخالفة الأمر. والطاعة مأخوذة من أطاع إذا انقاد، والمعصية مأخوذة من عصى إذا اشتد. و"أولو "واحدهم "ذو "على غير قياس كالنساء والإبل والخيل، كل واحد اسم الجمع ولا واحد له من لفظه. وقد قيل في واحد الخيل: خائل وقد تقدم.
قوله تعالى: "فإن تنازعتم في شيء" أي تجادلتم واختلفتم؛ فكأن كل واحد ينتزع حجة الآخر ويذهبها. والنزع الجذب. والمنازعة مجاذبة الحجج؛ ومنه الحديث (وأنا أقول ما لي ينازعني القرآن ). وقال الأعشى:
نازعتم قضب الريحان متكئا وقهوة مزة راووقها خضل
الخضل النبات الناعم والخضيلة الروضة "في شيء" أي من أمر دينكم. "فردوه إلى الله والرسول" أي ردوا ذلك الحكم إلى كتاب الله أو إلى رسوله بالسؤال في حياته، أو بالنظر في سنته بعد وفاته صلى الله عليه وسلم؛ هذا قول مجاهد والأعمش وقتادة، وهو الصحيح. ومن لم ير هذا أختل إيمانه؛ لقوله تعالى: "إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر". وقيل: المعنى قولوا الله ورسوله أعلم؛ فهذا هو الرد. وهذا كما قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: الرجوع إلى الحق خير من التمادي في الباطل. والقول الأول أصح؛ لقول علي رضي الله عنه: ما عندنا إلا ما في كتاب الله وما في هذه الصحيفة، أو فهم أعطيه رجل مسلم. ولو كان كما قال هذا القائل لبطل الاجتهاد الذي خص به هذه الأمة والاستنباط الذي أعطيها، ولكن تضرب الأمثال ويطلب المثال حتى يخرج الصواب. قال أبو العالية: وذلك قوله تعالى: "ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم "[النساء: 83]. نعم، ما كان مما استأثر الله بعلمه ولم يطلع عليه أحدا من خلقه فذلك الذي يقال فيه: الله أعلم. وقد استنبط علي رضي الله عنه مدة أقل الحمل - وهو ستة أشهر - من قوله تعالى: "وحمله وفصاله ثلاثون شهرا "[الأحقاف:15] وقوله تعالى: "والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين" [البقرة: 233] فإذا فصلنا الحولين من ثلاثين شهرا بقيت ستة أشهر؛ ومثله كثير. وفي قوله تعالى: "وإلى الرسول" دليل على أن سنته صلى الله عليه وسلم يعمل بها ويمتثل ما فيها. قال صلى الله عليه وسلم: (ما نهيتكم عنه فاجتنبوه وما أمرتكم به فافعلوا منه ما استطعتم فإنما أهلك من كان قبلكم كثرة مسائلهم واختلافهم على أنبيائهم ) أخرجه مسلم. وروى أبو داود عن أبي رافع عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا ألفين أحدكم متكئا على أريكته يأتيه الأمر من أمري مما أمرت به أو نهيت عنه فيقول لا ندري ما وجدنا في كتاب الله اتبعناه ). وعن العرباض بن سارية أنه حضر رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب الناس وهو يقول: (أيحسب أحدكم متكئا على أريكته قد يظن أن الله لم يحرم شيئا إلا ما في هذا القرآن ألا وإني والله قد أمرت ووعظت ونهيت عن أشياء إنها لمثل القرآن أو أكثر ). وأخرجه الترمذي من حديث المقدام بن معديكرب بمعناه وقال: حديث حسن غريب. والقاطع قوله تعالى: "فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة "[النور: 63] الآية. وسيأتي.
قوله تعالى: "ذلك خير" أي ردكم ما اختلفتم فيه إلى الكتاب والسنة خير من التنازع. "وأحسن تأويلا" أي مرجعا؛ من آل يؤول إلى كذا أي صار. وقيل: من ألت الشيء إذا جمعته وأصلحته. فالتأويل جمع معاني ألفاظ أشكلت بلفظ لا إشكال فيه؛ يقال: أول الله عليك أمرك أي جمعه. ويجوز أن يكون المعنى وأحسن من تأويلكم.