سورة النساء | للقراءة من المصحف بخط كبير واضح
استماع mp3 | الجلالين&الميسر | تفسير الشوكاني |
إعراب الصفحة | تفسير ابن كثير | تفسير القرطبي |
التفسير المختصر | تفسير الطبري | تفسير السعدي |
تفسير ابن كثير تفسير الصفحة 87 من المصحف
** أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مّنَ الْمُلْكِ فَإِذاً لاّ يُؤْتُونَ النّاسَ نَقِيراً * أَمْ يَحْسُدُونَ النّاسَ عَلَىَ مَآ آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَآ آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مّلْكاً عَظِيماً * فَمِنْهُمْ مّنْ آمَنَ بِهِ وَمِنْهُمْ مّن صَدّ عَنْهُ وَكَفَىَ بِجَهَنّمَ سَعِيراً
يقول تعالى: أم لهم نصيب من الملك, وهذا استفهام إنكاري, أي ليس لهم نصيب من الملك ثم وصفهم بالبخل, فقال: {فإذاً لا يؤتون الناس نقير}, أي لأنهم لو كان لهم نصيب في الملك والتصرف لما أعطوا أحداً من الناس ولا سيما محمداً صلى الله عليه وسلم شيئاً, ولا ما يملأ النقير وهو النقطة التي في النواة في قول ابن عباس والأكثرين. وهذه الاَية كقوله تعالى: {قل لو أنتم تملكون خزائن رحمة ربي إذاً لأمسكتم خشية الإنفاق} أي خوف أن يذهب ما بأيديكم مع أنه لا يتصور نفاده وإنما هو من بخلكم وشحكم, ولهذا قال تعالى: {وكان الإنسان قتور} أي بخيلاً, ثم قال {أم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله} يعني بذلك حسدهم النبي صلى الله عليه وسلم على ما رزقه الله من النبوة العظيمة, ومنعهم من تصديقهم إياه حسدهم له, لكونه من العرب وليس من بني إسرائيل. وقال الطبراني: حدثنا محمد بن عبد الله الحضرمي, حدثنا يحيى الحماني, حدثنا قيس بن الربيع عن السدي, عن عطاء, عن ابن عباس في قوله {أم يحسدون الناس} الاَية, قال ابن عباس: نحن الناس دون الناس, قال الله تعالى: {فقد آتينا آل إبراهيم الكتاب والحكمة وآتيناهم ملكاً عظيم} أي فقد جعلنا في أسباط بني إسرائيل, الذين هم من ذرية إبراهيم النبوة وأنزلنا عليهم الكتب وحكموا فيهم بالسنن, وهي الحكمة, وجعلنا منهم الملوك ومع هذا {فمنهم من آمن به}, أي بهذا الإيتاء وهذا الإنعام, {ومنهم من صد عنه} أي كفر به وأعرض عنه وسعى في صد الناس عنه, وهو منهم ومن جنسهم أي من بني إسرائيل. فقد اختلفوا عليهم, فكيف بك يا محمد ولست من بني إسرائيل ؟ وقال مجاهد: {فمنهم من آمن به}, أي بمحمد صلى الله عليه وسلم, {ومنهم من صد عنه}, فالكفرة منهم أشد تكذيباً لك, وأبعد عما جئتهم به من الهدى, والحق المبين, ولهذا قال متوعداً لهم {وكفى بجهنم سعير} أي وكفى بالنار عقوبة لهم على كفرهم وعنادهم ومخالفتهم كتب الله ورسله.
** إِنّ الّذِينَ كَفَرُواْ بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَاراً كُلّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدّلْنَاهُمْ جُلُوداً غَيْرَهَا لِيَذُوقُواْ الْعَذَابَ إِنّ اللّهَ كَانَ عَزِيزاً حَكِيماً * وَالّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَداً لّهُمْ فِيهَآ أَزْوَاجٌ مّطَهّرَةٌ وَنُدْخِلُهُمْ ظِـلاّ ظَلِيلاً
يخبر تعالى عما يعاقب به في نار جهنم من كفر بآياته وصد عن رسله, فقال {إن الذين كفروا بآياتن} الاَية, أي ندخلهم ناراً دخولاً يحيط بجميع أجرامهم وأجزائهم, ثم أخبر عن دوام عقوبتهم ونكالهم, فقال {كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلوداً غيرها ليذوقوا العذاب} قال الأعمش عن ابن عمر: إذا احترقت جلودهم بدلوا جلوداً غيرها بيضاء أمثال القراطيس, رواه ابن أبي حاتم, وقال يحيى بن يزيد الحضرمي أنه بلغه في الاَية, قال: يجعل للكافر مائة جلد, بين كل جلدين لون من العذاب, ورواه ابن أبي حاتم. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي, حدثنا علي بن محمد الطنافسي, حدثنا حسين الجعفي عن زائدة, عن هشام, عن الحسن قوله: {كلما نضجت جلودهم} الاَية, قال: تنضجهم في اليوم سبعين ألف مرة. قال حسين: وزاد فيه فضيل عن هشام عن الحسن {كلما نضجت جلودهم} كلما أنضجتهم فأكلت لحومهم قيل لهم عودوا فعادوا. وقال أيضاً: ذكر عن هشام بن عمار, حدثنا سعيد بن يحيى ـ يعني سعدان ـ حدثنا نافع مولى يوسف السلمي البصري, عن نافع, عن ابن عمر, قال: قرأ رجل عند عمر هذه الاَية {كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلوداً غيره} فقال عمر: أعدها علي, فأعادها, فقال معاذ بن جبل: عندي تفسيرها تبدل في ساعة مائة مرة. فقال عمر: هكذا سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم, وقد رواه ابن مردويه عن محمد بن أحمد بن إبراهيم, عن عبدان بن محمد المروزي, عن هشام بن عمار به. ورواه من وجه آخر بلفظ آخر, فقال: حدثنا محمد بن إسحاق عن عمران, حدثنا إبراهيم بن محمد بن الحارث, حدثنا شيبان بن فروخ, حدثنا نافع أبو هرمز, حدثنا نافع عن ابن عمر, قال: تلا رجل عند عمر هذه الاَية: {كلما نضجت جلودهم} الاَية, قال: فقال عمر: أعدها علي, وثم كعب, فقال أنا عندي تفسير هذه الاَية قرأتها قبل الإسلام قال: فقال هاتها يا كعب فإن جئت بها كما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم صدقناك, وإلا لم ننظر إليها, فقال: إني قرأتها قبل الإسلام: كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلوداً غيرها في الساعة الواحدة عشرين ومائة مرة. فقال عمر: هكذا سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقال الربيع بن أنس: مكتوب في الكتاب الأول: أن جلد أحدهم أربعون ذراعاً, وسنه تسعون ذراعاً, وبطنه لو وضع فيه جبل لوسعه, فإذا أكلت النار جلودهم بدلوا جلوداً غيرها. وقد ورد في الحديث ما هو أبلغ من هذا, قال الإمام أحمد: حدثنا وكيع, حدثنا أبو يحيى الطويل عن أبي يحيى القتات, عن مجاهد, عن ابن عمر, عن النبي صلى الله عليه وسلم قال «يعظم أهل النار في النار حتى إن بين شحمة أذن أحدهم إلى عاتقه مسيرة سبعمائة عام, وإن غلظ جلده سبعون ذرعاً, وإن ضرسه مثل أحد» تفرد به أحمد من هذا الوجه وقيل المراد بقوله: {كلما نضجت جلودهم} أي سرابيلهم, حكاه ابن جرير, وهو ضعيف لأنه خلاف الظاهر. وقوله: {والذين آمنوا وعملوا الصالحات سندخلهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبد} هذا إخبار عن مآل السعداء في جنات عدن التي تجري فيها الأنهار في جميع فجاجها, ومحالها وأرجائها حيث شاءوا وأين أرادوا وهم خالدون فيها أبداً لا يحولون ولا يزولون ولا يبغون عنها حولاً. وقوله: {لهم فيها أزواج مطهرة} أي من الحيض والنفاس والأذى والأخلاق الرذيلة, والصفات الناقصة, كما قال ابن عباس: مطهرة من الأقذار والأذى. وكذا قال عطاء والحسن والضحاك والنخعي وأبو صالح وعطية والسدي. وقال مجاهد: مطهرة من البول والحيض والنخام والبزاق والمني والولد. وقال قتادة: مطهرة من الأذى والمآثم, ولا حيض ولا كلف. وقوله {وندخلهم ظلاً ظليل} أي ظلاً عميقاً كثيراً غزيراً طيباً أنيقاً. قال ابن جرير: حدثنا ابن بشار, حدثنا عبد الرحمن, وحدثنا ابن المثنى, حدثنا ابن جعفر, قالا: حدثنا شعبة, قال: سمعت أبا الضحاك يحدث عن أبي هريرة, عن النبي صلى الله عليه وسلم, قال «إن في الجنة لشجرة يسير الراكب في ظلها مائة عام لا يقطعها: شجرة الخلد».
** إِنّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدّواْ الأمَانَاتِ إِلَىَ أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ إِنّ اللّهَ نِعِمّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنّ اللّهَ كَانَ سَمِيعاً بَصِيراً
يخبر تعالى أنه يأمر بأداء الأمانات إلى أهلها. وفي حديث الحسن عن سمرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «أد الأمانة إلى من ائتمنك, ولا تخن من خانك» رواه الإمام أحمد وأهل السنن, وهذا يعم جميع الأمانات الواجبة على الإنسان من حقوق الله عز وجل على عباده من الصلوات والزكوات والصيام والكفارات والنذور وغير ذلك مما هو مؤتمن عليه ولا يطلع عليه العباد, ومن حقوق العباد بعضهم على بعض كالودائع وغير ذلك مما يأتمنون به بعضهم على بعض من غير اطلاع بينة على ذلك, فأمر الله عز وجل بأدائها, فمن لم يفعل ذلك في الدنيا أخذ منه ذلك يوم القيامة, كما ثبت في الحديث الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «لتؤدن الحقوق إلى أهلها حتى يقتص للشاة الجماء من القرناء». وقال ابن أبي حاتم: حدثنا محمد بن إسماعيل الأحمسي, حدثنا وكيع عن سفيان, عن عبد الله بن السائب, عن زاذان, عن عبد الله بن مسعود, قال: إن الشهادة تكفر كل ذنب إلا الأمانة, يؤتى بالرجل يوم القيامة, وإن كان قتل في سبيل الله, فيقال: أد أمانتك, فيقول فأنى أؤديها وقد ذهبت الدنيا ؟ فتمثل له الأمانة في قعر جهنم فيهوي إليها فيحملها على عاتقه, قال: فتنزل عن عاتقه فيهوي على أثرها أبد الاَبدين. قال زاذان: فأتيت البراء فحدثته, فقال: صدق أخي: {إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهله}. وقال سفيان الثوري عن ابن أبي ليلى, عن رجل عن ابن عباس في الاَية, قال: هي مبهمة للبر والفاحر, وقال محمد بن الحنفية: هي مُسْجَلة للبر والفاجر وقال أبو العالية الأمانة ما أمروا به ونهوا عنه. وقال ابن أبي حاتم. حدثنا أبو سعيد, حدثنا حفص بن غياث عن الأعمش عن أبي الضحى عن مسروق, قال: قال أبي بن كعب: من الأمانة أن المرأة ائتمنت على فرجها. وقال الربيع بن أنس: هي من الأمانات فيما بينك وبين الناس. وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس {إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهله}, قال: قال يدخل فيه وعظ السلطان النساء يعني يوم العيد, وقد ذكر كثير من المفسرين أن هذه الاَية نزلت في شأن عثمان بن طلحة بن أبي طلحة واسم أبي طلحة عبد الله بن عبد العزى بن عثمان بن عبد الدار بن قصي بن كلاب القرشي العبدري حاجب الكعبة المعظمة, وهو ابن عم شيبة بن عثمان بن أبي طلحة الذي صارت الحجابة في نسله إلى اليوم, أسلم عثمان هذا في الهدنة بين صلح الحديبية, وفتح مكة, هو وخالد بن الوليد وعمرو بن العاص, وأما عمه عثمان بن طلحة بن أبي طلحة, فكان معه لواء المشركين يوم أحد, وقتل يومئذ كافراً, وإنما نبهنا على هذا النسب لأن كثيراً من المفسرين قد يشتبه عليه هذا بهذا, وسبب نزولها فيه لما أخذ منه رسول الله صلى الله عليه وسلم مفتاح الكعبة يوم الفتح ثم رده عليه. وقال محمد بن إسحاق في غزوة الفتح: حدثني محمد بن جعفر بن الزبير عن عبيد الله بن عبد الله بن أبي ثور, عن صفية بنت شيبة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما نزل بمكة واطمأن الناس خرج حتى جاء البيت, فطاف به سبعاً على راحلته يستلم الركن بمحجن في يده, فلما قضى طوافه دعا عثمان بن طلحة فأخذ منه مفتاح الكعبة ففتحت له, فدخلها فوجد فيها حمامة من عيدان, فكسرها بيده ثم طرحها, ثم وقف على باب الكعبة وقد استكنّ له الناس في المسجد, قال ابن إسحاق: فحدثني بعض أهل العلم أن رسول صلى الله عليه وسلم قام على باب الكعبة, فقال «لا إله إلا الله وحده لا شريك له, صدق وعده, ونصر عبده, وهزم الأحزاب وحده, ألا كل مأثرة أو دم أو مال يدعى فهو تحت قدمي هاتين, إلا سدانة البيت وسقاية الحاج» وذكر بقية الحديث في خطبه النبي صلى الله عليه وسلم يومئذ إلى أن قال: ثم جلس رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد, فقام إليه علي بن أبي طالب ومفتاح الكعبة في يده, فقال: يا رسول الله, اجمع لنا الحجابة مع السقاية صلى الله عليك, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «أين عثمان بن طلحة ؟» فدعي له, فقال له «هاك مفتاحك يا عثمان, اليوم يوم وفاء وبر» قال ابن جرير: حدثني القاسم, حدثنا الحسين عن حجاج, عن ابن جريج في الاَية, قال: نزلت في عثمان بن طلحة, قبض منه رسول الله صلى الله عليه وسلم مفتاح الكعبة فدخل في البيت يوم الفتح, فخرج وهو يتلو هذه الاَية {إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهله} الاَية, فدعا عثمان إليه فدفع إليه المفتاح, قال: وقال عمر بن الخطاب لما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من الكعبة وهو يتلو هذه الاَية {إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهله} فداه أبي وأمي ما سمعته يتلوها قبل ذلك. حدثنا القاسم, حدثنا الحسين, حدثنا الزنجي بن خالد عن الزهري قال: دفعه إليه وقال: أعينوه. وروى ابن مردويه من طريق الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس في قوله عز وجل {إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهله} قال: لما فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة دعا عثمان بن طلحة, فلما أتاه قال «أرني المفتاح» فأتاه به, فلما بسط يده إليه قام إليه العباس, فقال: يا رسول الله, بأبي أنت وأمي, اجمعه لي مع السقاية, فكف عثمان يده, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «أرني المفتاح يا عثمان» فبسط يده يعطيه, فقال العباس مثل كلمته الأولى, فكف عثمان يده. ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «يا عثمان إن كنت تؤمن بالله واليوم الاَخر فهاتني المفتاح» فقال: هاك بأمانة الله, قال فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم ففتح باب الكعبة, فوجد في الكعبة تمثال إبراهيم عليه الصلاة والسلام معه قداح يستقسم بها, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «ما للمشركين قاتلهم الله, وما شأن إبراهيم وشأن القداح» ثم دعا بجفنة فيها ماء, فأخذ ماء فغمسه فيه, ثم غمس به تلك التماثيل, وأخرج مقام إبراهيم وكان في الكعبة, فألزقه في حائط الكعبة, ثم قال: «يا أيها الناس هذه القبلة», قال: ثم خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فطاف في البيت شوطاً أو شوطين ثم نزل عليه جبريل فيما ذكر لنا برد المفتاح ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم {إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهله} حتى فرغ من الاَية, وهذا من المشهورات أن هذه الاَية نزلت في ذلك, وسواء كانت نزلت في ذلك أو لا, فحكمها عام, ولهذا قال ابن عباس ومحمد بن الحنفية: هي للبر والفاجر, أي هي أمر لكل أحد, وقوله: {وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل} أمر منه تعالى بالحكم بالعدل بين الناس, ولهذا قال محمد بن كعب وزيد بن أسلم وشهر بن حوشب: إن هذه الاَية إنما نزلت في الأمراء, يعني الحكام بين الناس, وفي الحديث «إن الله مع الحاكم ما لم يجر فإذا جار وكله الله إلى نفسه», وفي الأثر «عدل يوم كعبادة أربعين سنة», وقوله: {إن الله نعما يعظكم به} أي يأمركم به من أداء الأمانات والحكم بالعدل بين الناس وغير ذلك من أوامره وشرائعه الكاملة العظيمة الشاملة. وقوله تعالى: {إن الله كان سميعاً بصير} أي سميعاً لأقوالكم, بصيراً بأفعالكم, كما قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو زرعة, حدثنا يحيى بن عبد الله بن بكير, حدثنا عبد الله بن لهيعة عن يزيد بن أبي حبيب, عن أبي الخير, عن عقبة بن عامر, قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يُقْري هذه الاَية {سميعاً بصير} يقول: بكل شيء بصير, وقد قال ابن أبي حاتم: أخبرنا يحيى بن عبدك القزويني, أنبأنا المقري يعني أبا عبد الرحمن عبد الله بن يزيد, حدثنا حرملة يعني ابن عمران التجيبي المصري, حدثني أبو يونس, سمعت أبا هريرة يقرأ هذه الاَية {إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهله} إلى قوله: {إن الله نعما يعظكم به إن الله كان سميعاً بصير} ويضع إبهامه على أذنه, والتي تليها على عينه ويقول: هكذا سمعت رسول الله يقرؤها ويضع إصبعيه. قال أبو زكريا: وصفه لنا المقري, ووضع أبو زكريا إبهامه اليمنى على عينه اليمنى, والتي تليها على الأذن اليمنى, وأرانا فقال: هكذا وهكذا. رواه أبو داود وابن حبان في صحيحه, والحاكم في مستدركه, وابن مردويه في تفسيره من حديث أبي عبد الرحمن المقري بإسناده نحوه. وأبو يونس هذا مولى أبي هريرة واسمه سليم بن جبير.
** يَا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرّسُولَ وَأُوْلِي الأمْرِ مِنْكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرّسُولِ إِن كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الاَخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً
قال البخاري: حدثنا صدقة بن الفضل, حدثنا حجاج بن محمد الأعور عن ابن جريج, عن يعلى بن مسلم, عن سعيد بن جبير, عن ابن عباس {أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم} قال: نزلت في عبد الله بن حذافة بن قيس بن عدي إذ بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم في سرية, وهكذا أخرجه بقية الجماعة إلا ابن ماجة من حديث حجاج بن محمد الأعور به. وقال الترمذي: حديث حسن غريب, ولا نعرفه إلا من حديث ابن جريج. وقال الإمام أحمد: حدثنا أبو معاوية عن الأعمش, عن سعد بن عبيدة, عن أبي عبد الرحمن السلمي, عن علي, قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سرية واستعمل عليهم رجلاً من الأنصار, فلما خرجوا وجد عليهم في شيء, قال: فقال لهم: أليس قد أمركم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تطيعوني ؟ قالوا: بلى. قال: اجمعوا لي حطباً, ثم دعا بنار فأضرمها فيه, ثم قال: عزمت عليكم لتدخلنها, قال: فهمّ القوم أن يدخلوها قال: فقال لهم شاب منهم: إنما فررتم إلى رسول الله من النار, فلا تعجلوا حتى تلقوا رسول الله صلى الله عليه وسلم, فإن أمركم أن تدخلوها فادخلوها, قال: فرجعوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبروه, فقال لهم «لو دخلتموها ما خرجتم منها أبداً, إنما الطاعة في المعروف», أخرجاه في الصحيحين من حديث الأعمش به. وقال أبو داود: حدثنا مسدّد, حدثنا يحيى عن عبيد الله, حدثنا نافع عن عبد الله بن عمر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم, قال «السمع والطاعة على المرء المسلم فيما أحب وكره, ما لم يؤمر بمعصية, فإذا أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة» وأخرجاه من حديث يحيى القطان. وعن عبادة بن الصامت قال: «بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة, في منشطنا ومكرهنا, وعسرنا ويسرنا, وأثرة علينا. وأن لا ننازع الأمر أهله, قال: «إلا أن تروا كفراً بواحاً عندكم فيه من الله برهان», أخرجاه, وفي الحديث الاَخر عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «اسمعوا وأطيعوا, وإن أمر عليكم عبد حبشي كأن رأسه زبيبة», رواه البخاري. وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: أوصاني خليلي أن أسمع وأطيع, وإن كان عبداً حبشياً مُجَدّع الأطراف, رواه مسلم. وعن أم الحصين أنها سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب في حجة الوداع يقول: «ولو استعمل عليكم عبد يقودكم بكتاب الله, اسمعوا له وأطيعوا» رواه مسلم, وفي لفظ له «عبداً حبشياً مجدوعاً» وقال ابن جرير: حدثني علي بن مسلم الطوسي, حدثنا ابن أبي فديك, حدثني عبد الله بن محمد بن عروة عن هشام بن عروة عن أبي صالح السمان, عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «سيليكم بعدي ولاة, فيليكم البرّ ببره والفاجر بفجوره, فاسمعوا لهم وأطيعوا في كل ما وافق الحق وصلوا وراءهم فإن أحسنوا فلكم ولهم وإن أساؤوا فلكم وعليهم». وعن أبي هريرة رضي الله عنه. أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «كانت بنو إسرائيل تسوسهم الأنبياء كلما هلك نبي خلفه نبي, وإنه لا نبي بعدي وسيكون خلفاء فيكثرون» قالوا: يا رسول الله, فما تأمرنا ؟ قال «أوفوا ببيعة الأول فالأول, وأعطوهم حقهم, فإن الله سائلهم عما استرعاهم», أخرجاه. وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من رأى من أميره شيئاً فكرهه فليصبر, فإنه ليس أحد يفارق الجماعة شبراً فيموت إلا مات ميتة جاهلية», أخرجاه. وعن ابن عمر أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم: يقول « من خلع يداً من طاعة لقي الله يوم القيامة لا حجة له, ومن مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية» رواه مسلم. وروى مسلم أيضاً عن عبد الرحمن بن عبد رب الكعبة, قال: دخلت المسجد فإذا عبد الله بن عمرو بن العاص جالس في ظل الكعبة والناس حوله مجتمعون عليه, فأتيتهم فجلست إليه, فقال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر فنزلنا منزلاً فمنا من يصلح خباءه, ومنا من ينتضل, ومنا من هو في جشره, إذ نادى منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم: الصلاة جامعة, فاجتمعنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «إنه لم يكن نبي من قبلي إلا كان حقاً عليه أن يدل أمته على خير ما يعلمه لهم, وينذرهم شر ما يعلمه لهم, وإن أمتكم هذه جعل عافيتها في أولها, وسيصيب آخرها بلاء, وأمور تنكرونها, وتجيء فتن يرفق بعضها بعضاً, وتجيء الفتنة فيقول المؤمن: هذه مهلكتي, ثم تنكشف وتجيء الفتنة فيقول المؤمن: هذه هذه, فمن أحب أن يزحزح عن النار ويدخل الجنة, فلتأته منيته وهو يؤمن با لله واليوم الاَخر, وليأت إلى الناس الذي يحب أن يؤتى إليه, ومن بايع إماماً فأعطاه صفقة يده وثمرة قلبه, فليطعه إن استطاع, فإن جاء آخر ينازعه فاضربوا عنق الاَخر», قال: فدنوت منه فقلت: أنشدك بالله, آنت سمعت هذا من رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ فأهوى إلى أذنيه وقلبه بيديه, وقال: سمعته أذناي, ووعاه قلبي, فقلت له: هذا ابن عمك معاوية يأمرنا أن نأكل أموالنا بيننا بالباطل, ونقتل أنفسنا, والله تعالى يقول: {يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم ولا تقتلوا أنفكسم إن الله كان بكم رحيم} قال: فسكت ساعة, ثم قال: أطعه في طاعة الله, واعصه في معصية الله, والأحاديث في هذا كثيرة. وقال ابن جرير: حدثنا محمد بن الحسين, حدثنا أحمد بن الفضل, حدثنا أسباط عن السدي في قوله: {أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم} قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سرية عليها خالد بن الوليد وفيها عمار بن ياسر, فساروا قبل القوم الذين يريدون, فلما بلغوا قريباً منهم عّرسوا وأتاهم ذو العيينتين فأخبرهم, فأصبحوا قد هربوا غير رجل فأمر أهله فجمعوا متاعهم, ثم أقبل يمشي في ظلمة الليل حتى أتى عسكر خالد, فسأل عن عمار بن ياسر فأتاه فقال: يا أبا اليقظان, إني قد أسلمت وشهدت أن لا إله إلا الله, وأن محمداً عبده ورسوله, وإن قومي لما سمعوا بكم هربوا, وإني بقيت فهل إسلامي نافعي غداً, وإلا هربت ؟ قال عمار: بل هو ينفع فأقم, فأقام, فلما أصبحوا أغار خالد فلم يجد أحداً غير الرجل, فأخذه وأخذ ماله, فبلغ عماراً الخبر, فأتى خالداً فقال: خل عن الرجل فإنه قد أسلم وإنه في أمان مني, فقال خالد: وفيم أنت تجير ؟ فاستبا وارتفعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأجاز أمان عمار ونهاه أن يجير الثانية على أمير, فاستبا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال خالد: أتترك هذا العبد الأجدع يسبني, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «يا خالد لا تسب عماراً فإنه من يسب عماراً يسبه الله, ومن يبغضه يبغضه الله, ومن يلعن عماراً يلعنه الله» فغضب عمار فقام فتبعه خالد فأخذ بثوبه فاعتذر إليه فرضي عنه فأنزل الله عز وجل قوله {أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم} وهكذا رواه ابن أبي حاتم من طريق عن السدي مرسلاً, ورواه ابن مردويه من رواية الحكم بن ظهير عن السدي عن أبي صالح عن ابن عباس فذكره بنحوه والله أعلم. وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس {وأولي الأمر منكم} يعني أهل الفقه والدين, وكذا قال مجاهد وعطاء والحسن البصري وأبو العالية {وأولي الأمر منكم} يعني العلماء والظاهر والله أعلم أنها عامة في كل أولي الأمر من الأمراء والعلماء كما تقدم. وقد قال تعالى: {لولا ينهاهم الربانيون والأحبار عن قولهم الإثم وأكلهم السحت} وقال تعالى {فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون} وفي الحديث الصحيح المتفق عليه عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال «من أطاعني فقد أطاع الله ومن عصاني فقد عصى الله, ومن أطاع أميري فقد أطاعني, ومن عصى أميري فقد عصاني», فهذه أوامر بطاعة العلماء والأمراء, ولهذا قال تعالى {أطيعوا الله} أي اتبعوا كتابه {وأطيعوا الرسول} أي خذوا بسنته {وأولي الأمر منكم} أي فيما أمروكم به من طاعة الله لا في معصية الله, فإنه لا طاعة لمخلوق في معصية الله كما تقدم في الحديث الصحيح «إنما الطاعة في المعروف», وقال الإمام أحمد: حدثنا عبد الرحمن حدثنا همام حدثنا قتادة عن أبي مراية عن عمران بن حصين عن النبي صلى الله عليه وسلم قال «لا طاعة في معصية الله». وقوله {فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول} قال مجاهد وغير واحد من السلف أي إلى كتاب الله وسنة رسوله. وهذا أمر من الله عز وجل بأن كل شيء تنازع الناس فيه من أصول الدين وفروعه أن يرد التنازع في ذلك إلى الكتاب والسنة كما قال تعالى {وما اختلفتم فيه من شيء فحكمه إلى الله} فما حكم به الكتاب والسنة وشهدا له بالصحة فهو الحق, وماذا بعد الحق إلا الضلال, ولهذا قال تعالى {إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الاَخر} أي ردوا الخصومات والجهالات إلى كتاب الله وسنة رسوله فتحاكموا إليهما فيما شجر بينكم {إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الاَخر} فدل على أن من لم يتحاكم في محل النزاع إلى الكتاب والسنة ولا يرجع إليهما في ذلك فليس مؤمناً بالله ولا باليوم الاَخر, وقوله {ذلك خير} أي التحاكم إلى كتاب الله وسنة رسوله, والرجوع إليهما في فصل النزاع خير {وأحسن تأويل} أي وأحسن عاقبة ومآلا كما قاله السدي وغير واحد. وقال مجاهد: وأحسن جزاء وهو قريب.
تفسير ابن كثير - صفحة القرآن رقم 87
87 : تفسير الصفحة رقم 87 من القرآن الكريم** أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مّنَ الْمُلْكِ فَإِذاً لاّ يُؤْتُونَ النّاسَ نَقِيراً * أَمْ يَحْسُدُونَ النّاسَ عَلَىَ مَآ آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَآ آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مّلْكاً عَظِيماً * فَمِنْهُمْ مّنْ آمَنَ بِهِ وَمِنْهُمْ مّن صَدّ عَنْهُ وَكَفَىَ بِجَهَنّمَ سَعِيراً
يقول تعالى: أم لهم نصيب من الملك, وهذا استفهام إنكاري, أي ليس لهم نصيب من الملك ثم وصفهم بالبخل, فقال: {فإذاً لا يؤتون الناس نقير}, أي لأنهم لو كان لهم نصيب في الملك والتصرف لما أعطوا أحداً من الناس ولا سيما محمداً صلى الله عليه وسلم شيئاً, ولا ما يملأ النقير وهو النقطة التي في النواة في قول ابن عباس والأكثرين. وهذه الاَية كقوله تعالى: {قل لو أنتم تملكون خزائن رحمة ربي إذاً لأمسكتم خشية الإنفاق} أي خوف أن يذهب ما بأيديكم مع أنه لا يتصور نفاده وإنما هو من بخلكم وشحكم, ولهذا قال تعالى: {وكان الإنسان قتور} أي بخيلاً, ثم قال {أم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله} يعني بذلك حسدهم النبي صلى الله عليه وسلم على ما رزقه الله من النبوة العظيمة, ومنعهم من تصديقهم إياه حسدهم له, لكونه من العرب وليس من بني إسرائيل. وقال الطبراني: حدثنا محمد بن عبد الله الحضرمي, حدثنا يحيى الحماني, حدثنا قيس بن الربيع عن السدي, عن عطاء, عن ابن عباس في قوله {أم يحسدون الناس} الاَية, قال ابن عباس: نحن الناس دون الناس, قال الله تعالى: {فقد آتينا آل إبراهيم الكتاب والحكمة وآتيناهم ملكاً عظيم} أي فقد جعلنا في أسباط بني إسرائيل, الذين هم من ذرية إبراهيم النبوة وأنزلنا عليهم الكتب وحكموا فيهم بالسنن, وهي الحكمة, وجعلنا منهم الملوك ومع هذا {فمنهم من آمن به}, أي بهذا الإيتاء وهذا الإنعام, {ومنهم من صد عنه} أي كفر به وأعرض عنه وسعى في صد الناس عنه, وهو منهم ومن جنسهم أي من بني إسرائيل. فقد اختلفوا عليهم, فكيف بك يا محمد ولست من بني إسرائيل ؟ وقال مجاهد: {فمنهم من آمن به}, أي بمحمد صلى الله عليه وسلم, {ومنهم من صد عنه}, فالكفرة منهم أشد تكذيباً لك, وأبعد عما جئتهم به من الهدى, والحق المبين, ولهذا قال متوعداً لهم {وكفى بجهنم سعير} أي وكفى بالنار عقوبة لهم على كفرهم وعنادهم ومخالفتهم كتب الله ورسله.
** إِنّ الّذِينَ كَفَرُواْ بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَاراً كُلّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدّلْنَاهُمْ جُلُوداً غَيْرَهَا لِيَذُوقُواْ الْعَذَابَ إِنّ اللّهَ كَانَ عَزِيزاً حَكِيماً * وَالّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَداً لّهُمْ فِيهَآ أَزْوَاجٌ مّطَهّرَةٌ وَنُدْخِلُهُمْ ظِـلاّ ظَلِيلاً
يخبر تعالى عما يعاقب به في نار جهنم من كفر بآياته وصد عن رسله, فقال {إن الذين كفروا بآياتن} الاَية, أي ندخلهم ناراً دخولاً يحيط بجميع أجرامهم وأجزائهم, ثم أخبر عن دوام عقوبتهم ونكالهم, فقال {كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلوداً غيرها ليذوقوا العذاب} قال الأعمش عن ابن عمر: إذا احترقت جلودهم بدلوا جلوداً غيرها بيضاء أمثال القراطيس, رواه ابن أبي حاتم, وقال يحيى بن يزيد الحضرمي أنه بلغه في الاَية, قال: يجعل للكافر مائة جلد, بين كل جلدين لون من العذاب, ورواه ابن أبي حاتم. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي, حدثنا علي بن محمد الطنافسي, حدثنا حسين الجعفي عن زائدة, عن هشام, عن الحسن قوله: {كلما نضجت جلودهم} الاَية, قال: تنضجهم في اليوم سبعين ألف مرة. قال حسين: وزاد فيه فضيل عن هشام عن الحسن {كلما نضجت جلودهم} كلما أنضجتهم فأكلت لحومهم قيل لهم عودوا فعادوا. وقال أيضاً: ذكر عن هشام بن عمار, حدثنا سعيد بن يحيى ـ يعني سعدان ـ حدثنا نافع مولى يوسف السلمي البصري, عن نافع, عن ابن عمر, قال: قرأ رجل عند عمر هذه الاَية {كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلوداً غيره} فقال عمر: أعدها علي, فأعادها, فقال معاذ بن جبل: عندي تفسيرها تبدل في ساعة مائة مرة. فقال عمر: هكذا سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم, وقد رواه ابن مردويه عن محمد بن أحمد بن إبراهيم, عن عبدان بن محمد المروزي, عن هشام بن عمار به. ورواه من وجه آخر بلفظ آخر, فقال: حدثنا محمد بن إسحاق عن عمران, حدثنا إبراهيم بن محمد بن الحارث, حدثنا شيبان بن فروخ, حدثنا نافع أبو هرمز, حدثنا نافع عن ابن عمر, قال: تلا رجل عند عمر هذه الاَية: {كلما نضجت جلودهم} الاَية, قال: فقال عمر: أعدها علي, وثم كعب, فقال أنا عندي تفسير هذه الاَية قرأتها قبل الإسلام قال: فقال هاتها يا كعب فإن جئت بها كما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم صدقناك, وإلا لم ننظر إليها, فقال: إني قرأتها قبل الإسلام: كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلوداً غيرها في الساعة الواحدة عشرين ومائة مرة. فقال عمر: هكذا سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقال الربيع بن أنس: مكتوب في الكتاب الأول: أن جلد أحدهم أربعون ذراعاً, وسنه تسعون ذراعاً, وبطنه لو وضع فيه جبل لوسعه, فإذا أكلت النار جلودهم بدلوا جلوداً غيرها. وقد ورد في الحديث ما هو أبلغ من هذا, قال الإمام أحمد: حدثنا وكيع, حدثنا أبو يحيى الطويل عن أبي يحيى القتات, عن مجاهد, عن ابن عمر, عن النبي صلى الله عليه وسلم قال «يعظم أهل النار في النار حتى إن بين شحمة أذن أحدهم إلى عاتقه مسيرة سبعمائة عام, وإن غلظ جلده سبعون ذرعاً, وإن ضرسه مثل أحد» تفرد به أحمد من هذا الوجه وقيل المراد بقوله: {كلما نضجت جلودهم} أي سرابيلهم, حكاه ابن جرير, وهو ضعيف لأنه خلاف الظاهر. وقوله: {والذين آمنوا وعملوا الصالحات سندخلهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبد} هذا إخبار عن مآل السعداء في جنات عدن التي تجري فيها الأنهار في جميع فجاجها, ومحالها وأرجائها حيث شاءوا وأين أرادوا وهم خالدون فيها أبداً لا يحولون ولا يزولون ولا يبغون عنها حولاً. وقوله: {لهم فيها أزواج مطهرة} أي من الحيض والنفاس والأذى والأخلاق الرذيلة, والصفات الناقصة, كما قال ابن عباس: مطهرة من الأقذار والأذى. وكذا قال عطاء والحسن والضحاك والنخعي وأبو صالح وعطية والسدي. وقال مجاهد: مطهرة من البول والحيض والنخام والبزاق والمني والولد. وقال قتادة: مطهرة من الأذى والمآثم, ولا حيض ولا كلف. وقوله {وندخلهم ظلاً ظليل} أي ظلاً عميقاً كثيراً غزيراً طيباً أنيقاً. قال ابن جرير: حدثنا ابن بشار, حدثنا عبد الرحمن, وحدثنا ابن المثنى, حدثنا ابن جعفر, قالا: حدثنا شعبة, قال: سمعت أبا الضحاك يحدث عن أبي هريرة, عن النبي صلى الله عليه وسلم, قال «إن في الجنة لشجرة يسير الراكب في ظلها مائة عام لا يقطعها: شجرة الخلد».
** إِنّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدّواْ الأمَانَاتِ إِلَىَ أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ إِنّ اللّهَ نِعِمّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنّ اللّهَ كَانَ سَمِيعاً بَصِيراً
يخبر تعالى أنه يأمر بأداء الأمانات إلى أهلها. وفي حديث الحسن عن سمرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «أد الأمانة إلى من ائتمنك, ولا تخن من خانك» رواه الإمام أحمد وأهل السنن, وهذا يعم جميع الأمانات الواجبة على الإنسان من حقوق الله عز وجل على عباده من الصلوات والزكوات والصيام والكفارات والنذور وغير ذلك مما هو مؤتمن عليه ولا يطلع عليه العباد, ومن حقوق العباد بعضهم على بعض كالودائع وغير ذلك مما يأتمنون به بعضهم على بعض من غير اطلاع بينة على ذلك, فأمر الله عز وجل بأدائها, فمن لم يفعل ذلك في الدنيا أخذ منه ذلك يوم القيامة, كما ثبت في الحديث الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «لتؤدن الحقوق إلى أهلها حتى يقتص للشاة الجماء من القرناء». وقال ابن أبي حاتم: حدثنا محمد بن إسماعيل الأحمسي, حدثنا وكيع عن سفيان, عن عبد الله بن السائب, عن زاذان, عن عبد الله بن مسعود, قال: إن الشهادة تكفر كل ذنب إلا الأمانة, يؤتى بالرجل يوم القيامة, وإن كان قتل في سبيل الله, فيقال: أد أمانتك, فيقول فأنى أؤديها وقد ذهبت الدنيا ؟ فتمثل له الأمانة في قعر جهنم فيهوي إليها فيحملها على عاتقه, قال: فتنزل عن عاتقه فيهوي على أثرها أبد الاَبدين. قال زاذان: فأتيت البراء فحدثته, فقال: صدق أخي: {إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهله}. وقال سفيان الثوري عن ابن أبي ليلى, عن رجل عن ابن عباس في الاَية, قال: هي مبهمة للبر والفاحر, وقال محمد بن الحنفية: هي مُسْجَلة للبر والفاجر وقال أبو العالية الأمانة ما أمروا به ونهوا عنه. وقال ابن أبي حاتم. حدثنا أبو سعيد, حدثنا حفص بن غياث عن الأعمش عن أبي الضحى عن مسروق, قال: قال أبي بن كعب: من الأمانة أن المرأة ائتمنت على فرجها. وقال الربيع بن أنس: هي من الأمانات فيما بينك وبين الناس. وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس {إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهله}, قال: قال يدخل فيه وعظ السلطان النساء يعني يوم العيد, وقد ذكر كثير من المفسرين أن هذه الاَية نزلت في شأن عثمان بن طلحة بن أبي طلحة واسم أبي طلحة عبد الله بن عبد العزى بن عثمان بن عبد الدار بن قصي بن كلاب القرشي العبدري حاجب الكعبة المعظمة, وهو ابن عم شيبة بن عثمان بن أبي طلحة الذي صارت الحجابة في نسله إلى اليوم, أسلم عثمان هذا في الهدنة بين صلح الحديبية, وفتح مكة, هو وخالد بن الوليد وعمرو بن العاص, وأما عمه عثمان بن طلحة بن أبي طلحة, فكان معه لواء المشركين يوم أحد, وقتل يومئذ كافراً, وإنما نبهنا على هذا النسب لأن كثيراً من المفسرين قد يشتبه عليه هذا بهذا, وسبب نزولها فيه لما أخذ منه رسول الله صلى الله عليه وسلم مفتاح الكعبة يوم الفتح ثم رده عليه. وقال محمد بن إسحاق في غزوة الفتح: حدثني محمد بن جعفر بن الزبير عن عبيد الله بن عبد الله بن أبي ثور, عن صفية بنت شيبة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما نزل بمكة واطمأن الناس خرج حتى جاء البيت, فطاف به سبعاً على راحلته يستلم الركن بمحجن في يده, فلما قضى طوافه دعا عثمان بن طلحة فأخذ منه مفتاح الكعبة ففتحت له, فدخلها فوجد فيها حمامة من عيدان, فكسرها بيده ثم طرحها, ثم وقف على باب الكعبة وقد استكنّ له الناس في المسجد, قال ابن إسحاق: فحدثني بعض أهل العلم أن رسول صلى الله عليه وسلم قام على باب الكعبة, فقال «لا إله إلا الله وحده لا شريك له, صدق وعده, ونصر عبده, وهزم الأحزاب وحده, ألا كل مأثرة أو دم أو مال يدعى فهو تحت قدمي هاتين, إلا سدانة البيت وسقاية الحاج» وذكر بقية الحديث في خطبه النبي صلى الله عليه وسلم يومئذ إلى أن قال: ثم جلس رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد, فقام إليه علي بن أبي طالب ومفتاح الكعبة في يده, فقال: يا رسول الله, اجمع لنا الحجابة مع السقاية صلى الله عليك, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «أين عثمان بن طلحة ؟» فدعي له, فقال له «هاك مفتاحك يا عثمان, اليوم يوم وفاء وبر» قال ابن جرير: حدثني القاسم, حدثنا الحسين عن حجاج, عن ابن جريج في الاَية, قال: نزلت في عثمان بن طلحة, قبض منه رسول الله صلى الله عليه وسلم مفتاح الكعبة فدخل في البيت يوم الفتح, فخرج وهو يتلو هذه الاَية {إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهله} الاَية, فدعا عثمان إليه فدفع إليه المفتاح, قال: وقال عمر بن الخطاب لما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من الكعبة وهو يتلو هذه الاَية {إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهله} فداه أبي وأمي ما سمعته يتلوها قبل ذلك. حدثنا القاسم, حدثنا الحسين, حدثنا الزنجي بن خالد عن الزهري قال: دفعه إليه وقال: أعينوه. وروى ابن مردويه من طريق الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس في قوله عز وجل {إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهله} قال: لما فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة دعا عثمان بن طلحة, فلما أتاه قال «أرني المفتاح» فأتاه به, فلما بسط يده إليه قام إليه العباس, فقال: يا رسول الله, بأبي أنت وأمي, اجمعه لي مع السقاية, فكف عثمان يده, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «أرني المفتاح يا عثمان» فبسط يده يعطيه, فقال العباس مثل كلمته الأولى, فكف عثمان يده. ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «يا عثمان إن كنت تؤمن بالله واليوم الاَخر فهاتني المفتاح» فقال: هاك بأمانة الله, قال فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم ففتح باب الكعبة, فوجد في الكعبة تمثال إبراهيم عليه الصلاة والسلام معه قداح يستقسم بها, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «ما للمشركين قاتلهم الله, وما شأن إبراهيم وشأن القداح» ثم دعا بجفنة فيها ماء, فأخذ ماء فغمسه فيه, ثم غمس به تلك التماثيل, وأخرج مقام إبراهيم وكان في الكعبة, فألزقه في حائط الكعبة, ثم قال: «يا أيها الناس هذه القبلة», قال: ثم خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فطاف في البيت شوطاً أو شوطين ثم نزل عليه جبريل فيما ذكر لنا برد المفتاح ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم {إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهله} حتى فرغ من الاَية, وهذا من المشهورات أن هذه الاَية نزلت في ذلك, وسواء كانت نزلت في ذلك أو لا, فحكمها عام, ولهذا قال ابن عباس ومحمد بن الحنفية: هي للبر والفاجر, أي هي أمر لكل أحد, وقوله: {وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل} أمر منه تعالى بالحكم بالعدل بين الناس, ولهذا قال محمد بن كعب وزيد بن أسلم وشهر بن حوشب: إن هذه الاَية إنما نزلت في الأمراء, يعني الحكام بين الناس, وفي الحديث «إن الله مع الحاكم ما لم يجر فإذا جار وكله الله إلى نفسه», وفي الأثر «عدل يوم كعبادة أربعين سنة», وقوله: {إن الله نعما يعظكم به} أي يأمركم به من أداء الأمانات والحكم بالعدل بين الناس وغير ذلك من أوامره وشرائعه الكاملة العظيمة الشاملة. وقوله تعالى: {إن الله كان سميعاً بصير} أي سميعاً لأقوالكم, بصيراً بأفعالكم, كما قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو زرعة, حدثنا يحيى بن عبد الله بن بكير, حدثنا عبد الله بن لهيعة عن يزيد بن أبي حبيب, عن أبي الخير, عن عقبة بن عامر, قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يُقْري هذه الاَية {سميعاً بصير} يقول: بكل شيء بصير, وقد قال ابن أبي حاتم: أخبرنا يحيى بن عبدك القزويني, أنبأنا المقري يعني أبا عبد الرحمن عبد الله بن يزيد, حدثنا حرملة يعني ابن عمران التجيبي المصري, حدثني أبو يونس, سمعت أبا هريرة يقرأ هذه الاَية {إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهله} إلى قوله: {إن الله نعما يعظكم به إن الله كان سميعاً بصير} ويضع إبهامه على أذنه, والتي تليها على عينه ويقول: هكذا سمعت رسول الله يقرؤها ويضع إصبعيه. قال أبو زكريا: وصفه لنا المقري, ووضع أبو زكريا إبهامه اليمنى على عينه اليمنى, والتي تليها على الأذن اليمنى, وأرانا فقال: هكذا وهكذا. رواه أبو داود وابن حبان في صحيحه, والحاكم في مستدركه, وابن مردويه في تفسيره من حديث أبي عبد الرحمن المقري بإسناده نحوه. وأبو يونس هذا مولى أبي هريرة واسمه سليم بن جبير.
** يَا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرّسُولَ وَأُوْلِي الأمْرِ مِنْكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرّسُولِ إِن كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الاَخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً
قال البخاري: حدثنا صدقة بن الفضل, حدثنا حجاج بن محمد الأعور عن ابن جريج, عن يعلى بن مسلم, عن سعيد بن جبير, عن ابن عباس {أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم} قال: نزلت في عبد الله بن حذافة بن قيس بن عدي إذ بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم في سرية, وهكذا أخرجه بقية الجماعة إلا ابن ماجة من حديث حجاج بن محمد الأعور به. وقال الترمذي: حديث حسن غريب, ولا نعرفه إلا من حديث ابن جريج. وقال الإمام أحمد: حدثنا أبو معاوية عن الأعمش, عن سعد بن عبيدة, عن أبي عبد الرحمن السلمي, عن علي, قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سرية واستعمل عليهم رجلاً من الأنصار, فلما خرجوا وجد عليهم في شيء, قال: فقال لهم: أليس قد أمركم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تطيعوني ؟ قالوا: بلى. قال: اجمعوا لي حطباً, ثم دعا بنار فأضرمها فيه, ثم قال: عزمت عليكم لتدخلنها, قال: فهمّ القوم أن يدخلوها قال: فقال لهم شاب منهم: إنما فررتم إلى رسول الله من النار, فلا تعجلوا حتى تلقوا رسول الله صلى الله عليه وسلم, فإن أمركم أن تدخلوها فادخلوها, قال: فرجعوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبروه, فقال لهم «لو دخلتموها ما خرجتم منها أبداً, إنما الطاعة في المعروف», أخرجاه في الصحيحين من حديث الأعمش به. وقال أبو داود: حدثنا مسدّد, حدثنا يحيى عن عبيد الله, حدثنا نافع عن عبد الله بن عمر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم, قال «السمع والطاعة على المرء المسلم فيما أحب وكره, ما لم يؤمر بمعصية, فإذا أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة» وأخرجاه من حديث يحيى القطان. وعن عبادة بن الصامت قال: «بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة, في منشطنا ومكرهنا, وعسرنا ويسرنا, وأثرة علينا. وأن لا ننازع الأمر أهله, قال: «إلا أن تروا كفراً بواحاً عندكم فيه من الله برهان», أخرجاه, وفي الحديث الاَخر عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «اسمعوا وأطيعوا, وإن أمر عليكم عبد حبشي كأن رأسه زبيبة», رواه البخاري. وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: أوصاني خليلي أن أسمع وأطيع, وإن كان عبداً حبشياً مُجَدّع الأطراف, رواه مسلم. وعن أم الحصين أنها سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب في حجة الوداع يقول: «ولو استعمل عليكم عبد يقودكم بكتاب الله, اسمعوا له وأطيعوا» رواه مسلم, وفي لفظ له «عبداً حبشياً مجدوعاً» وقال ابن جرير: حدثني علي بن مسلم الطوسي, حدثنا ابن أبي فديك, حدثني عبد الله بن محمد بن عروة عن هشام بن عروة عن أبي صالح السمان, عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «سيليكم بعدي ولاة, فيليكم البرّ ببره والفاجر بفجوره, فاسمعوا لهم وأطيعوا في كل ما وافق الحق وصلوا وراءهم فإن أحسنوا فلكم ولهم وإن أساؤوا فلكم وعليهم». وعن أبي هريرة رضي الله عنه. أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «كانت بنو إسرائيل تسوسهم الأنبياء كلما هلك نبي خلفه نبي, وإنه لا نبي بعدي وسيكون خلفاء فيكثرون» قالوا: يا رسول الله, فما تأمرنا ؟ قال «أوفوا ببيعة الأول فالأول, وأعطوهم حقهم, فإن الله سائلهم عما استرعاهم», أخرجاه. وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من رأى من أميره شيئاً فكرهه فليصبر, فإنه ليس أحد يفارق الجماعة شبراً فيموت إلا مات ميتة جاهلية», أخرجاه. وعن ابن عمر أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم: يقول « من خلع يداً من طاعة لقي الله يوم القيامة لا حجة له, ومن مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية» رواه مسلم. وروى مسلم أيضاً عن عبد الرحمن بن عبد رب الكعبة, قال: دخلت المسجد فإذا عبد الله بن عمرو بن العاص جالس في ظل الكعبة والناس حوله مجتمعون عليه, فأتيتهم فجلست إليه, فقال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر فنزلنا منزلاً فمنا من يصلح خباءه, ومنا من ينتضل, ومنا من هو في جشره, إذ نادى منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم: الصلاة جامعة, فاجتمعنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «إنه لم يكن نبي من قبلي إلا كان حقاً عليه أن يدل أمته على خير ما يعلمه لهم, وينذرهم شر ما يعلمه لهم, وإن أمتكم هذه جعل عافيتها في أولها, وسيصيب آخرها بلاء, وأمور تنكرونها, وتجيء فتن يرفق بعضها بعضاً, وتجيء الفتنة فيقول المؤمن: هذه مهلكتي, ثم تنكشف وتجيء الفتنة فيقول المؤمن: هذه هذه, فمن أحب أن يزحزح عن النار ويدخل الجنة, فلتأته منيته وهو يؤمن با لله واليوم الاَخر, وليأت إلى الناس الذي يحب أن يؤتى إليه, ومن بايع إماماً فأعطاه صفقة يده وثمرة قلبه, فليطعه إن استطاع, فإن جاء آخر ينازعه فاضربوا عنق الاَخر», قال: فدنوت منه فقلت: أنشدك بالله, آنت سمعت هذا من رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ فأهوى إلى أذنيه وقلبه بيديه, وقال: سمعته أذناي, ووعاه قلبي, فقلت له: هذا ابن عمك معاوية يأمرنا أن نأكل أموالنا بيننا بالباطل, ونقتل أنفسنا, والله تعالى يقول: {يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم ولا تقتلوا أنفكسم إن الله كان بكم رحيم} قال: فسكت ساعة, ثم قال: أطعه في طاعة الله, واعصه في معصية الله, والأحاديث في هذا كثيرة. وقال ابن جرير: حدثنا محمد بن الحسين, حدثنا أحمد بن الفضل, حدثنا أسباط عن السدي في قوله: {أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم} قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سرية عليها خالد بن الوليد وفيها عمار بن ياسر, فساروا قبل القوم الذين يريدون, فلما بلغوا قريباً منهم عّرسوا وأتاهم ذو العيينتين فأخبرهم, فأصبحوا قد هربوا غير رجل فأمر أهله فجمعوا متاعهم, ثم أقبل يمشي في ظلمة الليل حتى أتى عسكر خالد, فسأل عن عمار بن ياسر فأتاه فقال: يا أبا اليقظان, إني قد أسلمت وشهدت أن لا إله إلا الله, وأن محمداً عبده ورسوله, وإن قومي لما سمعوا بكم هربوا, وإني بقيت فهل إسلامي نافعي غداً, وإلا هربت ؟ قال عمار: بل هو ينفع فأقم, فأقام, فلما أصبحوا أغار خالد فلم يجد أحداً غير الرجل, فأخذه وأخذ ماله, فبلغ عماراً الخبر, فأتى خالداً فقال: خل عن الرجل فإنه قد أسلم وإنه في أمان مني, فقال خالد: وفيم أنت تجير ؟ فاستبا وارتفعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأجاز أمان عمار ونهاه أن يجير الثانية على أمير, فاستبا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال خالد: أتترك هذا العبد الأجدع يسبني, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «يا خالد لا تسب عماراً فإنه من يسب عماراً يسبه الله, ومن يبغضه يبغضه الله, ومن يلعن عماراً يلعنه الله» فغضب عمار فقام فتبعه خالد فأخذ بثوبه فاعتذر إليه فرضي عنه فأنزل الله عز وجل قوله {أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم} وهكذا رواه ابن أبي حاتم من طريق عن السدي مرسلاً, ورواه ابن مردويه من رواية الحكم بن ظهير عن السدي عن أبي صالح عن ابن عباس فذكره بنحوه والله أعلم. وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس {وأولي الأمر منكم} يعني أهل الفقه والدين, وكذا قال مجاهد وعطاء والحسن البصري وأبو العالية {وأولي الأمر منكم} يعني العلماء والظاهر والله أعلم أنها عامة في كل أولي الأمر من الأمراء والعلماء كما تقدم. وقد قال تعالى: {لولا ينهاهم الربانيون والأحبار عن قولهم الإثم وأكلهم السحت} وقال تعالى {فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون} وفي الحديث الصحيح المتفق عليه عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال «من أطاعني فقد أطاع الله ومن عصاني فقد عصى الله, ومن أطاع أميري فقد أطاعني, ومن عصى أميري فقد عصاني», فهذه أوامر بطاعة العلماء والأمراء, ولهذا قال تعالى {أطيعوا الله} أي اتبعوا كتابه {وأطيعوا الرسول} أي خذوا بسنته {وأولي الأمر منكم} أي فيما أمروكم به من طاعة الله لا في معصية الله, فإنه لا طاعة لمخلوق في معصية الله كما تقدم في الحديث الصحيح «إنما الطاعة في المعروف», وقال الإمام أحمد: حدثنا عبد الرحمن حدثنا همام حدثنا قتادة عن أبي مراية عن عمران بن حصين عن النبي صلى الله عليه وسلم قال «لا طاعة في معصية الله». وقوله {فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول} قال مجاهد وغير واحد من السلف أي إلى كتاب الله وسنة رسوله. وهذا أمر من الله عز وجل بأن كل شيء تنازع الناس فيه من أصول الدين وفروعه أن يرد التنازع في ذلك إلى الكتاب والسنة كما قال تعالى {وما اختلفتم فيه من شيء فحكمه إلى الله} فما حكم به الكتاب والسنة وشهدا له بالصحة فهو الحق, وماذا بعد الحق إلا الضلال, ولهذا قال تعالى {إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الاَخر} أي ردوا الخصومات والجهالات إلى كتاب الله وسنة رسوله فتحاكموا إليهما فيما شجر بينكم {إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الاَخر} فدل على أن من لم يتحاكم في محل النزاع إلى الكتاب والسنة ولا يرجع إليهما في ذلك فليس مؤمناً بالله ولا باليوم الاَخر, وقوله {ذلك خير} أي التحاكم إلى كتاب الله وسنة رسوله, والرجوع إليهما في فصل النزاع خير {وأحسن تأويل} أي وأحسن عاقبة ومآلا كما قاله السدي وغير واحد. وقال مجاهد: وأحسن جزاء وهو قريب.
الصفحة رقم 87 من المصحف تحميل و استماع mp3