تفسير القرطبي الجامع لأحكام القرآن تفسير الصفحة 96 من المصحف



تفسير القرطبي - صفحة القرآن رقم 96

96- تفسير الصفحة رقم96 من المصحف
الآية: 106 {واستغفر الله إن الله كان غفورا رحيم}
ذهب الطبري إلى أن المعنى: استغفر الله من ذنبك في خصامك للخائنين؛ فأمره بالاستغفار لما هم بالدفع عنهم وقطع يد اليهودي. وهذا مذهب من جوز الصغائر على الأنبياء، صلوات الله عليهم. قال ابن عطية: وهذا ليس بذنب؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم إنما دافع على الظاهر وهو يعتقد براءتهم. والمعنى: واستغفر الله للمذنبين من أمتك والمتخاصمين بالباطل؛ ومحلك من الناس أن تسمع من المتداعيين وتقضي بنحو ما تسمع، وتستغفر للمذنب. وقيل: هو أمر بالاستغفار على طريق التسبيح، كالرجل يقول: استغفر الله؛ على وجه التسبيح من غير أن يقصد توبة من ذنب. وقيل: الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم والمراد بنو أبيرق، كقوله تعالى: "يا أيها النبي اتق الله "[الأحزاب: 1]، "فإن كنت في شك "[يونس: 94].
الآية: 107 {ولا تجادل عن الذين يختانون أنفسهم إن الله لا يحب من كان خوانا أثيم}
أي لا تحاجج عن الذين يخونون أنفسهم؛ نزلت في أسير بن عروة كما تقدم. والمجادلة المخاصمة، من الجدل وهو الفتل؛ ومنه رجل مجدول الخلق، ومنه الأجدل للصقر. وقيل: هو من الجدالة وهي وجه الأرض، فكل واحد من الخصمين يريد أن يلقي صاحبه عليها؛ قال العجاج:
قد أركب الحالة بعد الحالة وأترك العاجز بالجدالة
منعفرا ليست له محاله
الجدالة الأرض؛ من ذلك قولهم: تركته مجدلا؛ أي مطروحا على الجدالة.
"إن الله لا يحب" أي لا يرضى عنه ولا ينوه بذكر. "من كان خوانا أثيما" خائنا. (وخوانا ) أبلغ؛ لأنه من أبنية المبالغة؛ وإنما كان ذلك لعظم قدر تلك الخيانة. والله أعلم.
الآيتان: 108 - 109 {يستخفون من الناس ولا يستخفون من الله وهو معهم إذ يبيتون ما لا يرضى من القول وكان الله بما يعملون محيطا، ها أنتم هؤلاء جادلتم عنهم في الحياة الدنيا فمن يجادل الله عنهم يوم القيامة أم من يكون عليهم وكيل}
قال الضحاك: لما سرق الدرع اتخذ حفرة في بيته وجعل الدرع تحت التراب؛ فنزلت "يستخفون من الناس ولا يستخفون من الله "يقول: لا يخفى مكان الدرع على الله "وهو معهم"
أي رقيب حفيظ عليهم. وقيل: "يستخفون من الناس "أي يستترون، كما قال تعالى: "ومن هو مستخف بالليل "[الرعد: 10] أي مستتر. وقيل: يستحيون من الناس، وهذا لأن الاستحياء سبب الاستتار. ومعنى "وهو معهم "أي بالعلم والرؤية والسمع، هذا قول أهل السنة. وقالت الجهمية والقدرية والمعتزلة: هو بكل مكان، تمسكا بهذه الآية وما كان مثلها، قالوا: لما قال "وهو معهم" ثبت أنه بكل مكان، لأنه قد أثبت كونه معهم تعالى الله عن قولهم، فإن هذه صفة الأجسام والله تعالى متعال عن ذلك ألا ترى مناظرة بشر في قول الله عز وجل: "ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم "[المجادلة: 7] حين قال: هو بذاته في كل مكان فقال له خصمه: هو في قلنسوتك وفي حشوك وفي جوف حمارك. تعالى الله عما يقولون ! حكى ذلك وكيع رضي الله عنه. ومعنى "يبيتون" يقولون. قال الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس. "ما لا يرضى من القول" أي ما لا يرضاه الله لأهل طاعته. "من القول "أي من الرأي والاعتقاد، كقولك: مذهب مالك الشافعي. وقيل: "القول "بمعنى المقول؛ لأن نفس القول لا يبيت.
قوله تعالى: "ها أنتم هؤلاء" يريد قوم بشير السارق لما هربوا به وجادلوا عنه. قال الزجاج: "هؤلاء" بمعنى الذين. "جادلتم" حاججتم. "في الدنيا فمن يجادل الله عنهم يوم القيامة" استفهام معناه الإنكار والتوبيخ. "أم من يكون عليهم وكيلا" الوكيل: القائم بتدبير الأمور، فالله تعالى قائم بتدبير خلقه. والمعنى: لا أحد يقوم بأمرهم إذا أخذهم الله بعذابه وأدخلهم النار.
الآية: 110 {ومن يعمل سوء أو يظلم نفسه ثم يستغفر الله يجد الله غفورا رحيم}
قال ابن عباس: عرض الله التوبة على بني أبيرق بهذه الآية، أي "ومن يعمل سوءا "بأن يسرق "أو يظلم نفسه "بأن يشرك "ثم يستغفر الله" يعني بالتوبة، فإن الاستغفار باللسان من غير توبة لا ينفع، وقد بيناه في "آل عمران". وقال الضحاك: نزلت الآية في شأن وحشي قاتل حمزة أشرك بالله وقتل حمزة، ثم جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: إني لنادم فهل لي من توبة ؟ فنزل: "ومن يعمل سوءا أو يظلم نفسه "الآية. وقيل: المراد بهذه الآية العموم والشمول لجميع الخلق. وروى سفيان عن أبي إسحاق عن الأسود وعلقمة قالا: قال عبدالله بن مسعود من قرأ هاتين الآيتين من سورة "النساء "ثم استغفر له: "ومن يعمل سوءا أو يظلم نفسه ثم يستغفر الله يجد الله غفورا رحيما". "ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاؤوك فاستغفروا الله واستغفر لهم الرسول لوجدوا الله توابا رحيما"[النساء: 64]. وروي عن علي رضي الله عنه أنه قال: كنت إذا سمعت حديثا من رسول الله صلى الله عليه وسلم نفعني الله به ما شاء، وإذا سمعته من غيره حلفته، وحدثني أبو بكر وصدق أبو بكر قال: ما من عبد يذنب ذنبا ثم يتوضأ ويصلي ركعتين ويستغفر الله إلا غفر له، ثم تلا هذه الآية "ومن يعمل سوءا أو يظلم نفسه ثم يستغفر الله يجد الله غفورا رحيما".
الآيتان: 111 - 112 {ومن يكسب إثما فإنما يكسبه على نفسه وكان الله عليما حكيما، ومن يكسب خطيئة أو إثما ثم يرم به بريئا فقد احتمل بهتانا وإثما مبين}
قوله تعالى: "ومن يكسب إثما" أي ذنبا "فإنما يكسبه على نفسه" أي عاقبته عائدة عليه. والكسب ما يجر به الإنسان إلى نفسه نفعا أو يدفع عنه به ضررا؛ ولهذا لا يسمى فعل الرب تعالى كسبا.
قوله تعالى: "ومن يكسب خطيئة أو إثما" قيل: هما بمعنى واحد كرر لاختلف اللفظ تأكيدا. وقال الطبري: إنما فرق بين الخطيئة والإثم أن الخطيئة تكون عن عمد وعن غير عمد، والإثم لا يكون إلا عن عمد. وقيل: الخطيئة ما لم تتعمده خاصة كالقتل بالخطأ. وقيل: الخطيئة الصغيرة، والإثم الكبيرة، وهذه الآية لفظها عام يندرج تحته أهل النازلة وغيرهم.
قوله تعالى: "ثم يرم به بريئا" قد تقدم اسم البريء في البقرة. والهاء في "به "للإثم أو للخطيئة. لأن معناها الإثم، أولهما جميعا. وقيل: ترجع إلى الكسب. "فقد احتمل بهتانا وإثما مبينا" تشبيه؛ إذ الذنوب ثقل ووزر فهي كالمحمولات. وقد قال تعالى: "وليحملن أثقالهم وأثقالا مع أثقالهم "[العنكبوت: 13]. والبهتان من البهت، وهو أن تستقبل أخاك بأن تقذفه بذنب وهو منه بريء. وروى مسلم عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أتدرون ما الغيبة ) ؟ قالوا: الله ورسوله أعلم؛ قال: (ذكرك أخاك بما يكره ). قيل: أفرأيت إن كان في أخي ما أقول ؟ قال: (إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته وإن لم يكن فيه فقد بهته ). وهذا نص؛ فرمي البريء بهت له. يقال: بهته بهتا وبهتا وبهتانا إذا قال عليه ما لم يفعله. وهو بهات والمقول له مبهوت. ويقال: بهت الرجل (بالكسر ) إذا دهش وتحير. وبهت (بالضم ) مثله، وأفصح منهما بهت، كما قال الله تعالى: "فبهت الذي كفر" [البقرة: 258] لأنه يقال: رجل مبهوت ولا يقال: باهت ولا بهيت، قال الكسائي.
الآية: 113 {ولولا فضل الله عليك ورحمته لهمت طائفة منهم أن يضلوك وما يضلون إلا أنفسهم وما يضرونك من شيء وأنزل الله عليك الكتاب والحكمة وعلمك ما لم تكن تعلم وكان فضل الله عليك عظيم}
قوله تعالى: "ولولا فضل الله عليك ورحمته" ما بعد "لولا" مرفوع بالابتداء عند سيبويه، والخبر محذوف لا يظهر، والمعنى: "ولولا فضل الله عليك ورحمته "بأن نبهك على الحق، وقيل: بالنبوءة والعصمة. "لهمت طائفة منهم أن يضلوك "عن الحق؛ لأنهم سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبرئ ابن أبيرق من التهمة ويلحقها اليهودي، فتفضل الله عز وجل على رسوله عليه السلام بأن نبهه على ذلك وأعلمه إياه. "وما يضلون إلا أنفسهم "لأنهم يعملون عمل الضالين، فوباله لهم راجع عليهم. "وما يضرونك من شيء "لأنك معصوم. "وأنزل الله عليك الكتاب والحكمة" هذا ابتداء كلام. وقيل: الواو للحال، كقولك: جئتك والشمس طالعة؛ ومنه قول امرئ القيس:
وقد أغتدي والطير في وكناتهما
فالكلام متصل، أي ما يضرونك من شيء مع إنزال الله عليك القرآن. "والحكمة" القضاء بالوحي. "وعلمك ما لم تكن تعلم" يعني من الشرائع والأحكام وكان فضله عليك كبيرا. و"تعلم" في موضع نصب؛ لأنه خبر كان. وحذفت الضمة من النون للجزم، وحذفت الواو لالتقاء الساكنين.