تفسير ابن كثير تفسير الصفحة 96 من المصحف



تفسير ابن كثير - صفحة القرآن رقم 96

96 : تفسير الصفحة رقم 96 من القرآن الكريم

** إِنّآ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النّاسِ بِمَآ أَرَاكَ اللّهُ وَلاَ تَكُنْ لّلْخَآئِنِينَ خَصِيماً * وَاسْتَغْفِرِ اللّهِ إِنّ اللّهَ كَانَ غَفُوراً رّحِيماً * وَلاَ تُجَادِلْ عَنِ الّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ إِنّ اللّهَ لاَ يُحِبّ مَن كَانَ خَوّاناً أَثِيماً * يَسْتَخْفُونَ مِنَ النّاسِ وَلاَ يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيّتُونَ مَا لاَ يَرْضَىَ مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطاً * هَا أَنْتُمْ هَـَؤُلآءِ جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدّنْيَا فَمَن يُجَادِلُ اللّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَمْ مّن يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً
يقول تعالى: مخاطباً لرسوله محمد صلى الله عليه وسلم {إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق} أي هو حق من الله, وهو يتضمن الحق في خبره وطلبه, وقوله: {لتحكم بين الناس بما أراك الله} احتج به من ذهب من علماء الأصول إلى أنه كان صلى الله عليه وسلم له أن يحكم بالاجتهاد بهذه الاَية, وبما ثبت في الصحيحين من رواة هشام بن عروة, عن أبيه, عن زينب بنت أم سلمة, عن أم سلمة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم, سمع جلبة خصم بباب حجرته, فخرج إليهم فقال: «ألا إنما أنا بشر وإنما أقضي بنحو مما أسمع, ولعل أحدكم أن يكون ألحن بحجته من بعض فأقضي له فمن قضيت له بحق مسلم فإنما هي قطعة من النار فليحملها أو ليذرها» وقال الإمام أحمد: حدثنا وكيع, حدثنا أسامة بن زيد عن عبد الله بن رافع, عن أم سلمة, قالت: جاء رجلان من الأنصار يختصمان إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في مواريث بينهما قد درست, ليس عندهما بينة, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنكم تختصمون إليّ وإنما أنا بشر, ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض, وإنما أقضي بينكم على نحو مما أسمع, فمن قضيت له من حق أخيه شيئاً فلا يأخذه, فإنما أقطع له قطعة من النار يأتي بها إسطاماً في عنقه يوم القيامة» فبكى الرجلان, وقال كل منهما: حقي لأخي, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «أما إذا قلتما فاذهبا فاقتسما, ثم توخيا الحق بينكما ثم استهما, ثم ليحلل كل منكما صاحبه» وقد رواه أبو داود من حديث أسامة بن زيد به, وزاد «إني إنما أقضي بينكما برأي فيما لم ينزل علي فيه».
وقد روى ابن مردويه من طريق العوفي عن ابن عباس: أن نفراً من الأنصار غزوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض غزواته, فسرقت درع لأحدهم, فأظن بها رجل من الأنصار, فأتى صاحب الدرع رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إن طعمة بن أبيرق سرق درعي, فلما رأى السارق ذلك عمد إليها فألقاها في بيت رجل بريء, وقال لنفر من عشيرته: إني غيبت الدرع وألقيتها في بيت فلان وستوجد عنده, فانطلقوا إلى نبي الله صلى الله عليه وسلم ليلاً فقالوا: يا نبي الله إن صاحبنا بريء وإن صاحب الدرع فلان, وقد أحطنا بذلك علماً, فأعذر صاحبنا على رؤوس الناس, وجادل عنه, فإنه إن لم يعصمه الله بك يهلك, فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم, فبرأه وعذره على رؤوس الناس, فأنزل الله {إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله ولا تكن للخائنين خصيماً * واستغفر الله إن الله كان غفوراً رحيماً * ولا تجادل عن الذين يختانون أنفسهم} الاَية.
ثم قال تعالى: للذين أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم مستخفين بالكذب {يستخفون من الناس ولا يستخفون من الله} الاَيتين, يعني الذين أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم مستخفين يجادلون عن الخائنين, ثم قال عز وجل: {ومن يعمل سوءاً أو يظلم نفسه} الاَية, يعني الذين أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم مستخفين بالكذب ثم قال: {ومن يكسب خطيئة أو إثماً ثم يرم به بريئاً فقد احتمل بهتاناً وإثماً مبين} يعني السارق والذين جادلوا عن السارق, وهذا سياق غريب, وكذا ذكر مجاهد وعكرمة وقتادة والسدي وابن زيد وغيرهم في هذه الاَية: إنها نزلت في سارق بني أبيرق على اختلاف سياقاتهم وهي متقاربة.
وقد روى هذه القصة محمد بن إسحاق مطولة, فقال أبو عيسى الترمذي عند تفسير هذه الاَية من جامعه, وابن جرير في تفسيره: حدثنا الحسن بن أحمد بن أبي شعيب أبو مسلم الحراني, حدثنا محمد بن سلمة الحراني, حدثنا محمد بن إسحاق عن عاصم بن عمر بن قتادة, عن أبيه, عن جده قتادة بن النعمان رضي الله عنه, قال: كان أهل بيت منا يقال لهم بنو أبيرق بشر وبشير ومبشر, وكان بشير رجلاً منافقاً يقول الشعر يهجو به أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم, ثم ينحله لبعض العرب, ثم يقول: قال فلان كذا وكذاو وقال فلان كذا وكذا, فإذا سمع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك الشعر قالوا: والله ما يقول هذا الشعر إلا هذا الرجل الخبيث أو كما قال الرجل, وقالوا ابن الأبيرق: قالها, قالوا: وكانوا أهل بيت حاجة وفاقة في الجاهلية والإسلام, وكان الناس إنما طعامهم بالمدينة التمر والشعير, وكان الرجل إذا كان له يسار فقدمت ضافطة من الشام من الدرمك ابتاع الرجل منها فخص بها نفسه, وأما العيال فإنما طعامهم التمر والشعير, فقدمت ضافطة من الشام فابتاع عمي رفاعة بن زيد حملاً من الدرمك فجعله في مشربة له, وفي المشربة سلاح ودرع وسيف, فعدي عليه من تحت البيت, فنقبت المشربة, وأخذ الطعام والسلاح. فلما أصبح أتاني عمي رفاعة فقال: يا ابن أخي, إنه قد عدي علينا في ليلتنا هذه, فنقبت مشربتنا, فذهب بطعامنا وسلاحنا, قال: فتحسسنا في الدار وسألنا, فقيل لنا: قد رأينا بني أبيرق استوقدوا في هذه الليلة ولا نرى فيما نرى إلا على بعض طعامكم, قال: وكان بنو أبيرق قالوا ـ ونحن نسأل في الدار ـ: والله ما نرى صاحبكم إلا لبيد بن سهل رجلاً منا له صلاح وإسلام, فلما سمع لبيد اخترط سيفه وقال: أنا أسرق ؟! والله ليخالطنكم هذا السيف أو لتبينن هذه السرقة, قالوا: إليك عنا أيها الرجل فما أنت بصاحبها, فسألنا في الدار حتى لم نشك أنهم أصحابها, فقال لي عمي: يا ابن أخي لو أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك له, قال قتادة: فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: إن أهل بيت منا أهل جفاء عمدوا إلى عمي رفاعة بن زيد فنقبوا مشربة له, وأخذوا سلاحه وطعامه فليردوا علينا سلاحنا, فأما الطعام, فلا حاجة لنا فيه, فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «سآمر في ذلك», فلما سمع بذلك بنو أبيرق أتوا رجلاً منهم يقال له أسير بن عمرو فكلموه في ذلك, فاجتمع في ذلك أناس من أهل الدار فقالوا: يارسول الله, إن قتادة بن النعمان وعمه, عمدا إلى أهل بيت منا أهل إسلام وصلاح يرمونهم بالسرقة من غير بينة ولا ثبت, قال قتادة: فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فكلمته, فقال: «عمدت إلى أهل بيت ذكر منهم إسلام وصلاح, ترميهم بالسرقة على غير بينة ولا ثبت, قال: فرجعت ولوددت أني خرجت من بعض مالي ولم أكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك, فأتاني عمي رفاعة فقال: يا ابن أخي ما صنعت ؟ فأخبرته بما قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم, فقال: الله المستعان, فلم نلبث أن نزل القرآن {إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله ولا تكن للخائنين خصيم} يعني بني أبيرق, {واستغفر الله} أي مما قلت لقتادة {إن الله كان غفوراً رحيماً, ولا تجادل عن الذين يختانون أنفسهم} ـ إلى قوله ـ {رحيم} أي لو استغفروا الله لغفر لهم {ومن يكسب إثماً فإنما يكسبه على نفسه ـ إلى قوله ـ إثماً مبين} قولهم للبيد {ولولا فضل الله عليك ورحمته ـ إلى قوله ـ فسوف نؤتيه أجراً عظيم} فلما نزل القرآن أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالسلاح فرده إلى رفاعة, فقال قتادة: لما أتيت عمي بالسلاح وكان شيخاً قد عسى أو عشي ـ الشك من أبي عيسى ـ في الجاهلية وكنت أرى إسلامه مدخولاً لما أتيته بالسلاح قال: يا ابن أخي هو في سبيل الله, فعرفت أن إسلامه كان صحيحاً, فلما نزل القرآن لحق بشير بالمشركين, فنزل على سلافة بنت سعد بن سمية, فأنزل الله تعالى: {ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيراً, إن الله لا يغفر أن يشرك به و يغفر ما دون ذلك لمن يشاء ومن يشرك بالله فقد ضل ضلالاً بعيد} فلما نزل على سلافة بنت سعد, هجاها حسان بن ثابت بأبيات من شعر فأخذت رحله فوضعته على رأسها ثم خرجت به, فرمته في الأبطح, ثم قالت: أهديت لي شعر حسان ما كنت تأتيني بخير, لفظ الترمذي ثم قال الترمذي: هذا حديث غريب, لا نعلم أحداً أسنده غير محمد بن سلمة الحراني.
ورواه يونس بن بكير وغير واحد عن محمد بن إسحاق عن عاصم بن عمر بن قتادة مرسلاً لم يذكروا فيه عن أبيه عن جده, ورواه ابن أبي حاتم عن هاشم بن القاسم الحراني عن محمد بن سلمة به ببعضه. ورواه ابن المنذر في تفسيره: حدثنا محمد بن إسماعيل يعني الصائغ, حدثنا الحسن بن أحمد بن شعيب الحراني, حدثنا محمد بن سلمة, فذكره بطوله. ورواه أبو الشيخ الأصبهاني في تفسيره عن محمد بن عياش بن أيوب والحسن بن يعقوب, كلاهما عن الحسن بن أحمد
ابن أبي شعيب الحراني عن محمد بن سلمة به, ثم قال في آخره: قال محمد بن سلمة: سمع مني هذا الحديث يحيى بن معين وأحمد بن حنبل وإسحاق بن إسرائيل, وقد روى هذا الحديث الحاكم أبو عبد الله النيسابوري في كتابه المستدرك عن ابن عباس الأصم, عن أحمد بن عبد الجبار العطاردي, عن يونس بن بكير, عن محمد بن إسحاق بمعناه أتم منه وفيه الشعر, ثم قال: وهذا حديث صحيح على شرط مسلم, ولم يخرجاه.
وقوله تعالى: {يستخفون من الناس ولا يستخفون من الله} الاَية, هذا إنكار على المنافقين في كونهم يستخفون بقبائحهم من الناس لئلا ينكروا عليهم, ويجاهرون الله بها, لأنه مطلع على سرائرهم وعالم بما في ضمائرهم, ولهذا قال: {وهو معهم إذ يبيتون مالا يرضى من القول وكان الله بما يعملون محيط} تهديد لهم ووعيد. ثم قال تعالى: {ها أنتم هؤلاء جادلتم عنهم في الحياة الدني} الاَية, أي هب أن هؤلاء انتصروا في الدنيا بما أبدوه أو أبدي لهم عند الحكام الذين يحكمون بالظاهر وهم متعبدون بذلك, فماذا يكون صنيعهم يوم القيامة بين يدي الله تعالى الذي يعلم السر وأخفى ؟ ومن ذا الذي يتوكل لهم يومئذ يوم القيامة في ترويج دعواهم ؟ أي لا أحد يومئذ يكون لهم وكيلاً, ولهذا قال: {أم من يكون عليهم وكيل}.

** وَمَن يَعْمَلْ سُوَءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمّ يَسْتَغْفِرِ اللّهَ يَجِدِ اللّهَ غَفُوراً رّحِيماً * وَمَن يَكْسِبْ إِثْماً فَإِنّمَا يَكْسِبُهُ عَلَىَ نَفْسِهِ وَكَانَ اللّهُ عَلِيماً حَكِيماً * وَمَن يَكْسِبْ خَطِيَئَةً أَوْ إِثْماً ثُمّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَاناً وَإِثْماً مّبِيناً * وَلَوْلاَ فَضْلُ اللّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمّتْ طّآئِفَةٌ مّنْهُمْ أَن يُضِلّوكَ وَمَا يُضِلّونَ إِلاّ أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَضُرّونَكَ مِن شَيْءٍ وَأَنزَلَ اللّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً
يخبر تعالى عن كرمه وجوده أن كل من تاب إليه, تاب عليه من أي ذنب كان. فقال تعالى: {ومن يعمل سوءاً أو يظلم نفسه ثم يستغفر الله يجد الله غفوراً رحيم} قال علي بن أبي طلحة, عن ابن عباس أنه قال في هذه الاَية: أخبر الله عباده بعفوه وحلمه وكرمه, وسعة رحمته, ومغفرته فمن أذنب ذنباً صغيراً كان أو كبيراً {ثم يستغفر الله يجد الله غفوراً رحيم} ولو كانت ذنوبه أعظم من السموات والأرض والجبال, رواه ابن جرير, وقال ابن جرير أيضاً: حدثنا محمد بن مثنى, حدثنا محمد بن أبي عدي, حدثنا شعبة عن عاصم عن أبي وائل, قال: قال عبد الله: كان بنو إسرائيل إذا أصاب أحدهم ذنباً أصبح قد كتب كفارة ذلك الذنب على بابه, وإذا أصاب البول منه شيئاً قرضه بالمقراض فقال رجل: لقد آتى الله بني إسرائيل خيراً, فقال عبد الله رضي الله عنه: ما آتاكم الله خير مما آتاهم, جعل الماء لكم طهوراً, وقال تعالى: {والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم}, وقال: {ومن يعمل سوءاً أو يظلم نفسه ثم يستغفر الله يجد الله غفوراً رحيم}, وقال أيضاً: حدثني يعقوب, حدثنا هشيم عن ابن عون, عن حبيب بن أبي ثابت, قال: جاءت امرأة إلى عبد الله بن مغفل فسألته عن امرأة فجرت فحبلت, فلما ولدت قتلت ولدها, قال عبد الله بن مغفل: لها النار, فانصرفت وهي تبكي فدعاها ثم قال: ما أرى أمرك إلا أحد أمرين {ومن يعمل سوءاً أو يظلم نفسه ثم يستغفر الله يجد الله غفوراً رحيم} قال: فمسحت عينها ثم مضت.
وقال الإمام أحمد: حدثنا عبد الرحمن بن مهدي, حدثنا شعبة عن عثمان بن المغيرة, قال: سمعت علي بن ربيعة من بني أسد يحدث عن أسماء أو ابن أسماء من بني فزارة, قال: قال علي رضي الله عنه: كنت إذا سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئاً نفعني الله بما شاء أن ينفعني منه. وحدثني أبو بكر ـ وصدق أبو بكر ـ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما من مسلم يذنب ذنباً, ثم يتوضأ ثم يصلي ركعتين ثم يستغفر الله لذلك الذنب, إلا غفر له» وقرأ هاتين الاَيتين {ومن يعمل سوءاً أو يظلم نفسه} الاَية, {والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم}, الاَية. وقد تكلمنا على هذا الحديث وعزيناه إلى من رواه من أصحاب السنن, وذكرنا ما في سنده من مقال في مسند أبي بكر الصديق رضي الله عنه, وقد تقدم بعض ذلك في سورة آل عمران أيضاً.
وقد رواه ابن مردويه في تفسيره من وجه آخر عن علي فقال: حدثنا أحمد بن محمد بن زياد, حدثنا إبراهيم بن إسحاق الحراني, حدثنا دواد بن مهران الدباغ حدثنا عمر بن يزيد عن أبي إسحاق عن عبد خير عن علي, قال: سمعت أبا بكر ـ هو الصديق ـ يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «ما من عبد أذنب فقام فتوضأ فأحسن الوضوء, ثم قام فصلى واستغفر من ذنبه, إلا كان حقاً على الله أن يغفر له» لأن الله يقول: {ومن يعمل سوءاً أو يظلم نفسه} الاَية, ثم رواه من طريق أبان بن أبي عياش عن أبي إسحاق السبيعي, عن الحارث, عن علي, عن الصديق, بنحوه, وهذا إسناد لا يصح. وقال ابن مردويه: حدثنا محمد بن علي بن دحيم, حدثنا أحمد بن حازم, حدثنا موسى بن مروان الرقي حدثنا مبشر بن إسماعيل الحلبي عن تمام بن نجيح حدثني كعب بن ذهل الأزدي قال: سمعت أبا الدرداء يحدث قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا جلسنا حوله, وكانت له حاجة فقام إليها وأراد الرجوع, ترك نعليه في مجلسه أو بعض ما عليه, وأنه قام فترك نعليه, قال أبو الدرداء: فأخذ ركوة من ماء فاتبعته فمضى ساعة ثم رجع ولم يقض حاجته, فقال: «إنه أتاني آت من ربي فقال: إنه {من يعمل سوءاً أو يظلم نفسه ثم يستغفر الله يجد الله غفوراً رحيم} فأردت أن أبشر أصحابي».
قال أبو الدرداء: وكانت قد شقت على الناس الاَية التي قبلها {ومن يعمل سوءاً يجز به} فقلت: يا رسول الله, وإن زنى وإن سرق, ثم استغفر ربه غفز له ؟ قال «نعم». ثم قلت الثانية, قال «نعم». قلت الثالثة, قال «نعم» وإن زنى وإن سرق ثم استغفر الله, غفر الله له على رغم أنف أبي الدرداء». قال: فرأيت أبا الدرداء يضرب أنف نفسه بأصبعه, هذا حديث غريب جداً من هذا الوجه بهذا السياق, وفي إسناده ضعف.
وقوله: {ومن يكسب إثماً فإنما يكسبه على نفسه} الاَية, كقوله تعالى: {ولا تزر وازرة وزر أخرى} الاَية, يعني أنه لا يغني أحد عن أحد, وإنما على كل نفس ما عملت لا يحمل عنها غيرها, ولهذا قال تعالى: {وكان الله عليماً حكيم} أي من علمه وحكمته, وعدله ورحمته كان ذلك, ثم قال: {ومن يكسب خطيئة أو إثماً ثم يرم به بريئ} الاَية, يعني كما اتهم بنو أبيرق بصنيعهم القبيح ذلك الرجل الصالح وهو لبيد بن سهل كما تقدم في الحديث أو زيد بن السمين اليهودي على ما قاله الاَخرون, وقد كان بريئاً وهم الظلمة الخونة, كما أطلع الله على ذلك رسوله صلى الله عليه وسلم, ثم هذا التقريع وهذا التوبيخ عام فيهم وفي غيرهم ممن اتصف بصفتهم فارتكب مثل خطيئتهم, فعليه مثل عقوبتهم.
وقوله: {ولولا فضل الله عليك ورحمته لهمت طائفة منهم أن يضلوك وما يضلون إلا أنفسهم وما يضرونك من شيء} وقال الإمام ابن أبي حاتم: أنبأنا هاشم بن القاسم الحراني فيما كتب إلي, حدثنا محمد بن سلمة عن محمد بن إسحاق, عن عاصم بن عمر بن قتادة الأنصاري, عن أبيه, عن جده قتادة بن النعمان, وذكر قصة بني أبيرق, فأنزل الله {لهمت طائفة منهم أن يضلوك وما يضلون إلا أنفسهم وما يضرونك من شيء} يعني أسيد بن عروة وأصحابه, يعني بذلك لما أثنوا على بني أبيرق ولاموا قتادة بن النعمان في كونه اتهمهم وهم صلحاء برآء, ولم يكن الأمر كما أنهوه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم, ولهذا أنزل الله فصل القضية وجلاءها لرسول الله صلى الله عليه وسلم ثم امتن عليه بتأييده إياه في جميع الأحوال, وعصمته له, وما أنزل عليه من الكتاب وهو القرآن والحكمة, وهي السنة {وعلمك مالم تكن تعلم} أي قبل نزول ذلك عليك, كقوله: {وكذلك أوحينا إليك روحاً من أمرنا ماكنت تدري ما الكتاب} إلى آخر السورة, وقال تعالى: {وما كنت ترجو أن يلقى إليك الكتاب إلا رحمة من ربك} ولهذا قال: {وكان فضل الله عليك عظيم}.