تفسير الطبري تفسير الصفحة 96 من المصحف

 تفسير الطبري - صفحة القرآن رقم 96
097
095
 الآية : 107
القول في تأويل قوله تعالى: {وَلاَ تُجَادِلْ عَنِ الّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ إِنّ اللّهَ لاَ يُحِبّ مَن كَانَ خَوّاناً أَثِيماً }..
يعني بذلك جلّ ثناؤه: {وَلا تُجادِلْ} يا محمد فتخاصم {عَنِ الّذِينَ يَخْتانُونَ أنْفُسَهُمْ} يعني: يخوّنون أنفسهم, يجعلونها خونة بخيانتهم ما خانوا من أموال من خانوه ماله وهم بنو أبيرق, يقول: لا تخاصم عنهم من يطالبهم بحقوقهم, وما خانوه فيه من أموالهم. {إنّ اللّهَ لا يُحِبّ مَنْ كانَ خَوّانا أثِيم} يقول: إن الله لا يحبّ من كان من صفته خيانة الناس في أموالهم, وركوب الإثم في ذلك وغيره, مما حرّمه الله عليه.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل, وقد تقدّم ذكر الرواية عنهم.
8318ـ حدثنا الحسن بن يحيـى, قال: أخبرنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا معمر, عن قتادة: {وَلا تُجادلْ عَن الّذِينَ يَخْتانُونَ أنْفُسَهُمْ} قال: اختان رجل عمّا له درعا, فقذف بها يهوديا كان يغشاهم, فجادل عمّ الرجل قومه, فكان النبيّ صلى الله عليه وسلم عذره, ثم لحق بأرض الشرك, فنزلت فيه: {وَمَنْ يُشاقِقِ الرّسُولَ مَنْ بَعْدِ ما تَبَيّنَ لَهُ الهُدَى}... الاَية.
الآية : 108
القول في تأويل قوله تعالى: {يَسْتَخْفُونَ مِنَ النّاسِ وَلاَ يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيّتُونَ مَا لاَ يَرْضَىَ مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطاً }..
يعني جلّ ثناؤه بقوله: {يَسْتَخْفُونَ مِنَ النّاسِ} يستخفى هؤلاء الذين يختانون أنفسهم ما أوتوا من الخيانة, وركبوا من العار والمعصية من الناس الذي لا يقدرون لهم على شيء إلا ذكرهم بقبيح ما أوتوا من فعلهم وشنيع ما ركبوا من جرمهم إذا اطلعوا عليه حياء منهم, وحذرا من قبيح الأحدوثة. {وَلاَ يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللّهِ} الذي هو مطلع عليهم, لا يخفى عليه شيء من أعمالهم, وبيده العقاب والنكال وتعجيل العذاب, وهو أحقّ أن يستحيا منه من غيره, وأولى أن يعظم بأن لا يراهم حيث يكرهون أن يراهم أحد من خلقه {وهُوَ مَعَهُمْ} يعني: والله شاهدهم, {إذْ يُبَيّنُونَ ما لا يَرْضَى مِنَ القَوْلِ} يقول حين يسوّون ليلاً ما لا يرضى من القول فيغيرونه عن وجهه, ويكذبون فيه. وقد بينا معنى التبييت في غير هذا الموضع, وأنه كلّ كلام أو أمر أصلح ليلاً. وقد حكي عن بعض الطائيين أن التبييت في لغتهم التبديل, وأنشد للأسود بن عامر بن جُوَين الطائي في معاتبة رجل:
وَبَيّتَ قَوْلِيَ عَبْدَ المَلِيــكِ قاتَلَكَ اللّهُ عَبْدا كَنُودَا
بمعنى: بدلت قولي. ورُوي عن أبي رزين أنه كان يقول في معنى قوله: «يبيتون»: يؤلفون.
8319ـ حدثنا محمد بن بشار, قال: حدثنا عبد الرحمن, قال: حدثنا سفيان, عن الأعمش, عن أبي رزين: {إذْ يُبَيّتُونَ ما لا يَرْضَى مِنَ القَوْلِ} قال: يؤلفون ما لا يَرْضَى من القول.
حدثنا أحمد بن سنان الواسطي, قال: حدثنا أبو يحيـى الحماني, عن سفيان, عن الأعمش, عن أبي رزين, بنحوه.
حدثنا الحسن بن يحيـى, قال: أخبرنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا الثوري, عن الأعمش, عن أبي رزين, مثله.
قال أبو جعفر: وهذا القول شبيه المعنى بالذي قلناه, وذلك أن التأليف هو التسوية والتغيير عما هو به وتحويله عن معناه إلى غيره.
وقد قيل: عني بقوله¹{يَسْتَخْفُونَ مِنَ النّاسِ وَلا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللّهِ}: الرهط الذين مشوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في مسألة المدافعة عن بني أبيرق والجدال عنه على ما ذكرنا قبل فيما مضى عن ابن عباس وغيره. {وكانَ اللّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيط} يعني جلّ ثناؤه: وكان الله بما يعمل هؤلاء المستخفون من الناس فيما أوتوا من جرمهم حياء منهم من تبييتهم ما لا يرضى من القول وغيره من أفعالهم محيطا محصيا, لا يخفي عليه شيء منه, حافظا لذلك عليهم, حتى يجازيهم عليه جزاءهم.
الآية : 109
القول في تأويل قوله تعالى: {هَا أَنْتُمْ هَـَؤُلآءِ جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدّنْيَا فَمَن يُجَادِلُ اللّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَمْ مّن يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً }..
يعني جلّ ثناؤه بقوله: {ها أنْتُمْ هَؤُلاءِ جادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الحَياةِ الدّنْي} ها أنتم الذين جادلتم يا معشر من جادل عن بني أبيرق في الحياة الدنيا. والهاء والميم في قوله: {عَنْهُمْ} من ذكر الخائنين. {فَمَنْ يُجادِلُ اللّهَ عَنْهُمْ} يقول: فمن ذا يخاصم الله عنهم يوم القيامة: أي يوم يقوم الناس من قبورهم لمحشرهم, فيدافع عنهم ما الله فاعل بهم, ومعاقبهم به. وإنما يعني بذلك أنكم أيها المدافعون عن هؤلاء الخائنين أنفسهم, وإن دافعتم عنهم في عاجل الدنيا, فإنهم سيصيرون في آجل الاَخرة إلى من لا يدافع عنهم عنده أحد فيما يحلّ بهم من أليم العذاب ونكال العقاب. وأما قوله: {أمّنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيل} فإنه يعني: ومن ذا الذي يكون على هؤلاء الخائنين وكيلاً يوم القيامة: أي ومن يتوكل لهم في خصومة ربهم عنهم يوم القيامة. وقد بينا معنى الوكالة فيما مضى, وأنها القيام بأمر من توكل له.
الآية : 110
القول في تأويل قوله تعالى: {وَمَن يَعْمَلْ سُوَءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمّ يَسْتَغْفِرِ اللّهَ يَجِدِ اللّهَ غَفُوراً رّحِيماً }..
يعني بذلك جلّ ثناؤه: ومن يعمل ذنبا, وهو السوء, أو يظلم نفسه بإكسابه إياها ما يستحقّ به عقوبة الله, {ثُمّ يَسْتَغْفِرِ اللّهَ} يقول: ثم يتوب إلى الله بانابته مما عمل من السوء وظلم نفسه ومراجعته ما يحبه الله من الأعمال الصالحة التي تمحو ذنبه وتذهب جُرمه, {يَجِدِ اللّهَ غَفُورا رَحِيم} يقول: يجد ربه ساترا عليه ذنبه بصفحه له عن عقوبته جرمه, رحيما به.
واختلف أهل التأويل فيمن عُني بهذه الاَية, فقال بعضهم: عني بها الذين وصفهم الله بالخيانة بقوله: {وَلا تُجادِلْ عَنِ الّذِينَ يَخْتانُونَ أنْفُسَهُمْ}.
وقال آخرون: بل عني بها الذين يجادلون عن الخائنين, الذين قال الله لهم: {ها أنْتُمْ هَؤُلاءِ جادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الحَياةِ الدّنْي} وقد ذكرنا قائلي القولين كليهما فيما مضى.
قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك عندنا أنه عنى بها كل من عمل سوءا أو ظلم نفسه, وإن كانت نزلت في أمر الخائنين والمجادلين عنهم الذين ذكر الله أمرهم في الاَيات قبلها.
وبنحو ما قلنا في ذلك قال جماعة من أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:
8320ـ حدثني محمد بن المثنى, قال: حدثنا ابن أبي عديّ, عن شعبة, عن عاصم, عن أبي وائل قال: قال عبد الله: كانت بنو إسرائيل إذا أصاب أحدهم ذنبا أصبح قد كتب كفارة ذلك الذنب على بابه, وإذا أصاب البول شيئا منه قرضه بالمقراض, فقال رجل: لقد أتى الله بني إسرائيل خيرا. فقال عبد الله: ما آتاكم الله خيرا مما أتاهم, جعل الله الماء لكم طهورا, وقال: و{الّذِينَ إذَا فَعَلُوا فاحِشَةً أوْ ظَلَمُوا أنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللّهَ فاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ} وقال: {وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءا أوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمّ يَسْتَغْفِرِ اللّهَ يَجِدِ اللّهَ غَفُورا رَحِيم}.
8321ـ حدثني يعقوب, قال: حدثنا هشيم, قال: حدثنا ابن عون, عن حبيب بن أبي ثابت, قال: جاءت امرأة إلى عبد الله بن مغفل, فسألته عن امرأة فجرت فحبلت, فلما ولدت قتلت ولدها, فقال ابن مغفل: ما لها؟ لها النار! فانصرفت وهي تبكي, فدعاها, ثم قال: ما أرى أمرك إلا أحد أمرين: {وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءا أوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمّ يَسْتَغْفِرِ اللّهَ يَجِدِ اللّهَ غَفُورا رَحِيم} قال: فمسحت عينها ثم مضت.
8322ـ حدثني المثنى, قال: حدثنا عبد الله بن صالح, قال: ثني معاوية, عن عليّ, عن ابن عباس, قوله: {وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءا أوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمّ يَسْتَغْفِرِ اللّهَ يَجِدِ اللّهَ غَفُورا رَحِيم} قال: أخبر الله عباده بحلمه وعفوه وكرمه, وسعة رحمته ومغفرته, فمن أذنب صغيرا كان أو كبيرا, ثم يستغفر الله, يجد الله غفورا رحيما, ولو كانت ذنوبه أعظم من السموات والأرض والجبال.
الآية : 111
القول في تأويل قوله تعالى: {وَمَن يَكْسِبْ إِثْماً فَإِنّمَا يَكْسِبُهُ عَلَىَ نَفْسِهِ وَكَانَ اللّهُ عَلِيماً حَكِيماً }..
يعني بذلك جلّ ثناؤه: ومن يأت ذنبا على عمد منه له ومعرفة به, فإنما يجترح وبال ذلك الذنب وضرّه وخزيه وعاره على نفسه دون غيره من سائر خلق الله, يقول: فلا تجادلوا أيها الذين تجادلون عن هؤلاء الخونة, فانكم وإن كنتم لهم عشيرة وقرابة وجيرانا برآء مما أتوه من الذنب ومن التبعة التي يُتْبَعون بها, فإنكم متى دافعتم عنهم أو خاصمتم بسببهم كنتم مثلهم, فلا تدافعوا عنهم, ولا تخاصموا.
وأما قوله: {وكانَ اللّهُ عَلِيما حَكِيم} فإنه يعني: وكان الله عالما بما تفعلون أيها المجادلون عن الذين يختانون أنفسهم في جدالكم عنهم وغير ذلك من أفعالكم وأفعال غيركم, وهو يحصيها عليكم وعليهم, حتى يجازي جميعكم بها. {حَكِيم} يقول: وهو حكيم بسياستكم وتدبيركم, وتدبير جميع خلقه. وقيل: نزلت هذه الاَية في بني أبيرق, وقد ذكرنا من قال ذلك فيما مضى قبل.
الآية : 112
القول في تأويل قوله تعالى: {وَمَن يَكْسِبْ خَطِيَئَةً أَوْ إِثْماً ثُمّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَاناً وَإِثْماً مّبِيناً }..
يعني بذلك جلّ ثناؤه: ومن يعمل خطيئة, وهي الذنب, أو إثما, وهو ما لا يحلّ من المعصية. وإنما فّرق بين الخطيئة والإثم, لأن الخطيئة قد تكون من قبل العمد وغير العمد, والإثم لا يكون إلا من العمد, ففصل جلّ ثناؤه لذلك بينهما, فقال: ومن يأت خطيئة على غير عمد منه لها, أو إثما على عمد منه ثم يرم به بريئا, يعني بالذي تعمده بريئا, يعني ثم يصف ما أتى من خطئه أو إثمه الذي تعمده بريئا مما أضافه إليه ونحله إياه¹ {فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتانا وإثْما مُبِين} يقول: فقد تحمل بفعله ذلك فرية وكذبا وإثما عظيما, يعني وجرما عظيما على علم منه وعمد لما أتى من معصيته وذنبه.
واختلف أهل التأويل فيمن عنى الله بقوله: {بَرِيئ} بعد إجماع جميعهم على أن الذي رمى البريء من الإثم الذي كان أتاه ابن أبيرق الذي وصفنا شأنه قبل. فقال بعضهم: عنى الله عزّ وجلّ بالبريء رجلاً من المسلمين يقال له لبيد بن سهل.
وقال آخرون: بل عنى رجلاً من اليهود يقال له زيد بن السمين, وقد ذكرنا الرواية عمن قال ذلك فيما مضى. وممن قال كان يهوديا, ابن سيرين.
8323ـ حدثني محمد بن عمرو, قال: حدثنا غندر, عن شعبة, عن خالد الحذاء, عن ابن سيرين: {ثُمّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئ} قال: يهوديا.
حدثنا محمد بن المثنى, قال: حدثنا بدل بن المحبر, قال: حدثنا شعبة, عن خالد, عن ابن سيرين, مثله.
وقيل: {يَرْمِ بِهِ بَرِيئ} بمعنى: ثم يرم بالإثم الذي أتى هذا الخائن من هو بريء مما رماه به, فالهاء في قوله «به» عائدة على الإثم, ولو جعلت كناية من ذكر الإثم والخطيئة كان جائزا, لأن الأفعال وإن اختلفت العبارات عنها فراجعة إلى معنى واحد بأنها فعل.
وأما قوله: {فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتانا وإثْما مُبِين} فإن معناه: فقد تحمل هذا الذي رمي بما أتى من المعصية وركب من الإثم والخطيئة من هو بريء مما رماه به من ذلك بهتانا, وهو الفرية والكذب, وإثما مبينا, يعني وزرا مبينا, يعني أنه يبين عن أمر عمله وجراءته على ربه وتقدمه على خلافه فيما نهاه عنه لمن يعرف أمره.
الآية : 113
القول في تأويل قوله تعالى: {وَلَوْلاَ فَضْلُ اللّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمّتْ طّآئِفَةٌ مّنْهُمْ أَن يُضِلّوكَ وَمَا يُضِلّونَ إِلاّ أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَضُرّونَكَ مِن شَيْءٍ وَأَنزَلَ اللّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً }..
يعني بقوله جلّ ثناؤه: {وَلَوْلا فَضْلُ اللّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ} ولولا أن الله تفضل عليك يا محمد فعصمك بتوفيقه وتبيانه لك أمر هذا الخائن, فكففت لذلك عن الجدال عنه, ومدافعة أهل الحقّ عن حقهم قبله¹ {لَهَمّتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ} يقول: لهمت فرقة منهم, يعني من هؤلاء الذين يختانون أنفسهم, {أنْ يُضِلّوكَ} يقول: يزلوك عن طريق الحق, وذلك لتلبيسهم أمر الخائن عليه صلى الله عليه وسلم وشهادتهم للخائن عنده بأنه بريء مما ادّعى عليه, ومسألتهم إياه أن يعذره ويقوم بمعذرته في أصحابه, فقال الله تبارك وتعالى: وما يضلّ هؤلاء الذين هموا بأن يضلوك عن الواجب من الحكم في أمر هذا الخائن درع جاره, إلا أنفسهم.
فإن قال قائل: ما كان وجه إضلالهم أنفسهم؟ قيل: وجه إضلالهم أنفسهم: أخذهم بها في غير ما أباح الله لهم الأخذ بها فيه من سبله, وذلك أن الله جلّ ثناؤه قد كان تقدم إليهم فيما تقدم في كتابه على لسان رسوله إلى خلقه بالنهي عن أن يتعاونوا على الإثم والعدوان والأمر بالتعاون على الحقّ, فكان من الواجب لله فيمن سعى في أمر الخائنين الذين وصف الله أمرهم بقوله: {وَلا تَكُنْ للخائِنِينَ خَصِيم} معاونة من ظلموه دون من خاصمهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في طلب حقه منهم, فكان سعيهم في معونتهم دون معونة من ظلموه, أخذا منهم في غير سبيل الله, وذلك هو إضلالهم أنفسهم, الذي وصفه الله فقال: {وَما يُضِلّونَ إلاّ أنْفُسَهُمْ وَما يَضُرّونَكَ مِنْ شَيْءٍ} وما يضرّك هؤلاء الذين هموا لك أن يزلوك عن الحقّ في أمر هذا الخائن من قومه وعشيرته من شيء, لأن الله مثبتك ومسدّدك في أمورك ومبين لك أمر من سعوا في ضلالك عن الحقّ في أمره وأمرهم, ففاضحه وإياهم.
وقوله: {وأنْزَلَ اللّهُ عَلَيْكَ الكِتابَ والحِكْمَةَ} يقول: ومن فضل الله عليك يا محمد مع سائر ما تفضل به عليك من نعمه, أنه أنزل عليك الكتاب, وهو القرآن الذي فيه بيان كل شيء, وهدى وموعظة, {والحِكْمَةَ}: يعني وأنزل عليك مع الكتاب الحكمة, وهي ما كان في الكتاب مجملاً ذكره, من حلاله وحرامه, وأمره ونهيه وأحكامه, ووعده ووعيده. {وَعَلّمَكَ ما لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ} من خبر الأوّلين والاَخرين, وما كان, وما هو كائن قبل, ذلك من فضل الله عليك يا محمد مذ خلقك, فاشكره على ما أولاك من إحسانه إليك بالتمسك بطاعته, والمسارعة إلى رضاه ومحبته, ولزوم العمل بما أنزل إليك في كتابه وحكمته, ومخالفة من حاول إضلالك عن طريقه ومنهاج دينه, فإن الله هو الذي يتولاك بفضله, ويكفيك غائلة من أرادك بسوء وحاول صدّك عن سبيله, كما كفاك أمر الطائفة التي همت أن تضلك عن سبيله في أمر هذا الخائن, ولا أحد من دونه ينقذك من سوء إن أراد بك إن أنت خالفته في شيء من أمره ونهيه واتبعت هوى من حاول صدّك عن سبيله. وهذه الاَية تنبيه من الله نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم على موضع حظه, وتذكير منه له الواجب عليه من حقه