تفسير السعدي تفسير الصفحة 311 من المصحف


أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَالَ لأُوتَيَنَّ مَالا وَوَلَدًا ( 77 ) أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا ( 78 ) كَلا سَنَكْتُبُ مَا يَقُولُ وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذَابِ مَدًّا ( 79 ) وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ وَيَأْتِينَا فَرْدًا ( 80 ) وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا ( 81 ) كَلا سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا ( 82 ) .
أي: أفلا تتعجب من حالة هذا الكافر، الذي جمع بين كفره بآيات الله ودعواه الكبيرة، أنه سيؤتى في الآخرة مالا وولدا، أي: يكون من أهل الجنة، هذا من أعجب الأمور، فلو كان مؤمنا بالله وادعى هذه الدعوى، لسهل الأمر.
وهذه الآية - وإن كانت نازلة في كافر معين- فإنها تشمل كل كافر، زعم أنه على الحق، وأنه من أهل الجنة، قال الله، توبيخا له وتكذيبا: ( أَطَّلَعَ الْغَيْبَ ) أي: أحاط علمه بالغيب، حتى علم ما يكون، وأن من جملة ما يكون، أنه يؤتى يوم القيامة مالا وولدا؟ ( أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا ) أنه نائل ما قاله، أي: لم يكن شيء من ذلك، فعلم أنه متقول، قائل ما لا علم له به. وهذا التقسيم والترديد، في غاية ما يكون من الإلزام وإقامة الحجة؛ فإن الذي يزعم أنه حاصل له خير عند الله في الآخرة، لا يخلو: إما أن يكون قوله صادرا عن علم بالغيوب المستقبلة، وقد علم أن هذا لله وحده، فلا أحد يعلم شيئا من المستقبلات الغيبية، إلا من أطلعه الله عليه من رسله.
وإما أن يكون متخذا عهدا عند الله، بالإيمان به، واتباع رسله، الذين عهد الله لأهله، وأوزع أنهم أهل الآخرة، والناجون الفائزون. فإذا انتفى هذان الأمران، علم بذلك بطلان الدعوى، ولهذا قال تعالى: ( كَلا ) أي: ليس الأمر كما زعم، فليس للقائل اطلاع على الغيب، لأنه كافر، ليس عنده من علم الرسائل شيء، ولا اتخذ عند الرحمن عهدا، لكفره وعدم إيمانه، ولكنه يستحق ضد ما تقوله، وأن قوله مكتوب، محفوظ، ليجازى عليه ويعاقب، ولهذا قال: ( سَنَكْتُبُ مَا يَقُولُ وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذَابِ مَدًّا ) أي: نزيده من أنواع العقوبات، كما ازداد من الغي والضلال.
( وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ ) أي: نرثه ماله وولده، فينتقل من الدنيا فردا، بلا مال ولا أهل ولا أنصار ولا أعوان ( وَيَأْتِينَا فَرْدًا ) فيرى من وخيم العذاب وأليم العقاب، ما هو جزاء أمثاله من الظالمين.
أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا ( 83 ) فَلا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا ( 84 ) .
وهذا من عقوبة الكافرين أنهم - لما لم يعتصموا بالله، ولم يتمسكوا بحبل الله، بل أشركوا به ووالوا أعداءه، من الشياطين- سلطهم عليهم، وقيضهم لهم، فجعلت الشياطين تؤزهم إلى المعاصي أزا، وتزعجهم إلى الكفر إزعاجا، فيوسوسون لهم، ويوحون إليهم، ويزينون لهم الباطل، ويقبحون لهم الحق، فيدخل حب الباطل في قلوبهم ويتشربها، فيسعى فيه سعي المحق في حقه، فينصره بجهده ويحارب عنه، ويجاهد أهل الحق في سبيل الباطل، وهذا كله، جزاء له على توليه من وليه وتوليه لعدوه، جعل له عليه سلطان، وإلا فلو آمن بالله، وتوكل عليه، لم يكن له عليه سلطان، كما قال تعالى:
إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ
( فَلا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ ) أي على هؤلاء الكفار المستعجلين بالعذاب ( إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا ) أي أن لهم أياما معدودة لا يتقدمون عنها ولا يتأخرون نمهلهم ونحلم عنهم مدة ليراجعوا أمر الله فإذا لم ينجع فيهم ذلك أخذناهم أخذ عزيز مقتدر
يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْدًا ( 85 ) وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْدًا ( 86 ) لا يَمْلِكُونَ الشَّفَاعَةَ إِلا مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا ( 87 ) .
يخبر تعالى عن تفاوت الفريقين المتقين، والمجرمين، وأن المتقين له - باتقاء الشرك والبدع والمعاصي- يحشرهم إلى موقف القيامة مكرمين، مبجلين معظمين، وأن مآلهم الرحمن، وقصدهم المنان، وفودا إليه، والوافد لا بد أن يكون في قلبه من الرجاء، وحسن الظن بالوافد [ إليه ] ما هو معلوم، فالمتقون يفدون إلى الرحمن، راجين منه رحمته وعميم إحسانه، والفوز بعطاياه في دار رضوانه، وذلك بسبب ما قدموه من العمل بتقواه، واتباع مراضيه، وأن الله عهد إليهم بذلك الثواب على ألسنة رسله فتوجهوا إلى ربهم مطمئنين به، واثقين بفضله.
وأما المجرمون، فإنهم يساقون إلى جهنم وردا، أي: عطاشا، وهذا أبشع ما يكون من الحالات، سوقهم على وجه الذل والصغار إلى أعظم سجن وأفظع عقوبة، وهو جهنم، في حال ظمئهم ونصبهم يستغيثون فلا يغاثون، ويدعون فلا يستجاب لهم، ويستشفعون فلا يشفع لهم، ولهذا قال: ( لا يَمْلِكُونَ الشَّفَاعَةَ ) أي: ليست الشفاعة ملكهم، ولا لهم منها شيء، وإنما هي لله تعالى قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا وقد أخبر أنه لا تنفعهم شفاعة الشافعين، لأنهم لم يتخذوا عنده عهدا بالإيمان به وبرسله، وإلا فمن اتخذ عنده عهدا فآمن به وبرسله واتبعهم، فإنه ممن ارتضاه الله، وتحصل له الشفاعة كما قال تعالى: وَلا يَشْفَعُونَ إِلا لِمَنِ ارْتَضَى وسمى الله الإيمان به واتباع رسله عهدا، لأنه عهد في كتبه وعلى ألسنة رسله، بالجزاء الجميل لمن اتبعهم.
وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا ( 88 ) لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا ( 89 ) تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا ( 90 ) أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا ( 91 ) وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا ( 92 ) إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ إِلا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا ( 93 ) لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا ( 94 ) وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا ( 95 ) .
وهذا تقبيح وتشنيع لقول المعاندين الجاحدين، الذين زعموا أن الرحمن اتخذ ولدا، كقول النصارى: المسيح ابن الله، واليهود: عزير ابن الله، والمشركين: الملائكة بنات الله، تعالى الله عن قولهم علوا كبيرا.
( لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا ) أي: عظيما وخيما.
من عظيم أمره أنه ( تَكَادُ السَّمَاوَاتُ ) على عظمتها وصلابتها ( يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ ) أي: من هذا القول ( وَتَنْشَقُّ الأرْضُ ) منه، أي: تتصدع وتنفطر ( وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا ) أي: تندك الجبال.
( أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ ) أي: من أجل هذه الدعوى القبيحة تكاد هذه المخلوقات، أن يكون منها ما ذكر. والحال أنه: ( مَا يَنْبَغِي ) أي: لا يليق ولا يكون ( لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا ) وذلك لأن اتخاذه الولد، يدل على نقصه واحتياجه، وهو الغني الحميد. والولد أيضا، من جنس والده، والله تعالى لا شبيه له ولا مثل ولا سمي.
( إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ إِلا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا ) أي: ذليلا منقادا، غير متعاص ولا ممتنع، الملائكة، والإنس، والجن وغيرهم، الجميع مماليك، متصرف فيهم، ليس لهم من الملك شيء، ولا من التدبير شيء، فكيف يكون له ولد، وهذا شأنه وعظمة ملكه؟!!.
( لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا ) أي: لقد أحاط علمه بالخلائق كلهم، أهل السماوات والأرض، وأحصاهم وأحصى أعمالهم، فلا يضل ولا ينسى، ولا تخفى عليه خافية.
( وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا ) أي: لا أولاد، ولا مال، ولا أنصار، ليس معه إلا عمله، فيجازيه الله ويوفيه حسابه، إن خيرا فخير، وإن شرا فشر، كما قال تعالى: وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ