تفسير الشوكاني تفسير الصفحة 311 من المصحف



فتح القدير - صفحة القرآن رقم 311

310

ثم أردف سبحانه مقالة أولئك المفتخرين بأخرى مثلها على سبيل التعجب فقال: 77- "أفرأيت الذي كفر بآياتنا" أي أخبرني بقصة هذا الكافر واذكر حديثه عقب حديث أولئك، وإنما استعملوا أرأيت بمعنى أخبر، لأن رؤية الشيء من أسباب صحة الخبر عنه، والآيات تعم كل آية ومن جملتها آية البعث، والفاء للعطف على مقدر يدل عليه المقام: أي أنظرت فرأيت، واللام في "لأوتين مالاً وولداً" هي الموطئة للقسم، كأنه قال: والله لأوتين في الآخرة مالاً وولداً: أي انظر إلى حال هذا الكافر وتعجب من كلامه وتأليه على الله مع كفره به وتكذيبه بآياته.
ثم أجاب سبحانه عن قول هذا الكافر بما يدفعه ويبطله، فقال 78- "أطلع" على "الغيب" أي أعلم ما غاب عنه حتى يعلم أنه في الجنة "أم اتخذ عند الرحمن عهداً" بذلك، فإنه لا يتوصل إلى العلم إلا بإحدى هاتين الطريقتين، وقيل المعنى: أنظر في اللوح المحفوظ؟ أم اتخذ عند الرحمن عهداً، وقيل معنى: أم اتخذ عند الرحمن عهداً؟ أم قال لا إله إلا الله فأرحمه بها، وقيل المعنى أم قدم عملاً صالحاً فهو يرجوه، واطلع مأخوذ من قولهم: اطلع الجبل إذاً ارتقى إلى أعلاه. وقرأ حمزة والكسائي ويحيى بن وثاب والأعمش "وولداً" بضم الواو، والباقون بفتحها، فقيل هما لغتان معناهما واحد، يقال ولد وولد كما يقال عدم وعدم، قال الحارث بن حلزة: ولقد رأيت معاشراً قد ثمروا مالاً وولداً وقال آخر: فليت فلاناً كان في بطن أمه وليت فلاناً كان ولد حمار وقيل الولد بالضم للجمع وبالفتح للواحد. وقد ذهب الجمهور إلى أن هذا الكافر أراد بقوله: لأوتين مالاً وولداً أنه يؤتى ذلك في الدنيا. وقال جماعة في الجنة، وقيل المعنى: إن أقمت على دين آبائي لأوتين، وقيل المعنى: لو كنت على باطل لما أوتيت مالاً وولداً.
79- "كلا سنكتب ما يقول" كلا حرف ردع وزجر: أي ليس الأمر على ما قال هذا الكافر من أنه يؤتى المال والولد سيكتب ما يقول: أي ستحفظ عليه ما يقوله فنجازيه في الآخرة، أو سنظهر ما يقول، أو سننتقم منه انتقام من كتبت معصيته "ونمد له من العذاب مداً" أي نزيده عذاباً فوق عذابه مكان ما يدعيه لنفسه من الإمداد بالمال والولد، أو نطول له من العذاب ما يستحقه وهو عذاب من جمع بين الكفر والاستهزاء.
"ونرثه ما يقول" أي نميته فنرثه المال والولد الذي يقول إنه يؤتاه. والمعنى: مسمي ما يقول ومصداقه، وقيل المعنى: نحرمه ما تمناه ونعطيه غيره "ويأتينا فرداً" أي يوم القيامة لا مال له ولا ولد، بل نسلبه ذلك، فكيف يطمع في أن نؤتيه، وقيل المراد بما يقول نفس القول لا مسماه، والمعنى: إنما يقول هذا القول ما دام حياً، فإذا أمتناه حلنا بينه وبين أن يقوله ويأتينا رافضاً له منفرداً عنه، والأول أولى. وقد أخرج ابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله: "أي الفريقين خير مقاماً" قال: قريش نقوله لها ولأصحاب محمد. وأخرج الفريابي وسعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: "خير مقاماً" قال: المنازل "وأحسن ندياً" قال: المجالس، وفي قوله: "أحسن أثاثاً" قال: المتاع والمال "ورئياً" قال: المنظر. وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله: "قل من كان في الضلالة فليمدد له الرحمن مداً" فليدعه الله في طغيانه، وأخرج ابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم عن حبيب بن أبي ثابت قال في حرف أبي قل من كان في الضلالة فإنه يزيد الله ضلالة. وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما في قوله "أفرأيت الذي كفر" من حديث خباب بن الأرت قال: كنت رجلاً قيناً وكان لي على العاص بن وائل دين، فأتيته أتقاضاه فقال: لا والله لا أقضيك حتى تكفر بمحمد، فقلت: والله لا أكفر بمحمد حتى تموت ثم تبعث، قال: فإني مت ثم بعثت جئتني ولي ثم مال وولد فأعطيك، فأنزل الله فيه هذه الآية. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: "أم اتخذ عند الرحمن عهداً" قال: لا إله إلا الله يرجو بها. وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عنه في قوله: "ونرثه ما يقول" قاله ماله وولده.
حكى سبحانه ما كان عليه هؤلاء الكفار الذين تمنوا ما لا يستحقونه، وتألوا على الله سبحانه من اتخاذهم الآلهة من دون الله لأجل يتعززون بذلك. قال الهروي: معنى 81- "ليكونوا لهم عزاً" ليكونوا لهم أعواناً. قال الفراء: معناه ليكونوا لهم شفعاء في الآخرة، وقيل معناه: ليتعززوا بهم من عذاب الله ويمتنعوا بها.
82- "كلا سيكفرون بعبادتهم" أي ليس الأمر كما ظنوا وتوهموا، والضمير في الفعل إما للآلهة: أي ستجحد هذه الأصنام عبادة الكفار لها يوم ينطقها الله سبحانه، لأنها عند أن عبدوها جمادات لا تعقل ذلك، وإما للمشركين: أي سيجحد المشركون أنهم عبدوا الأصنام، ويدل على الوجه الأول قوله تعالى: "ما كانوا إيانا يعبدون" وقوله: "فألقوا إليهم القول إنكم لكاذبون" ويدل على الوجه الثاني قوله تعالى: "والله ربنا ما كنا مشركين" وقرأ ابن أبي نهيك كلا بالتنوين، وروي عنه مع ذلك ضم الكاف وفتحها فعلى الضم هي بمعنى جميعاً وانتصابها بفعل مضمر كأنه قال: سيكفرون كلا سيكفرون بعبادهم، وعلى الفتح يكون مصدراً لفعل محذوف تقديره: كل هذا الرأي كلا، وقراءة الجمهور هي الصواب، وهي حرف ردع وجزر "ويكونون عليهم ضداً" أي تكون هذه الآلهة التي ظنوها عزاً لهم ضداً عليهم: أي ضداً للعز وضد العز الذل هذا على الوجه الأول، وأما على الوجه الثاني فيكون المشركون للآلهة ضداً وأعداء يكفرون بها بعد أن كانوا يحبونها ويؤمنون بها.
83- "ألم تر أنا أرسلنا الشياطين على الكافرين". ذكر الزجاج في معنى هذا وجهين: أحدهما أن معناه خلينا بين الكافرين وبين الشياطين فلم نعصمهم منهم ولم نعذهم، بخلاف المؤمنين الذين قيل فيهم "إن عبادي ليس لك عليهم سلطان" الوجه الثاني أنهم أرسلوا عليهم وقيضوا لهم بكفرهم قال "ومن يعش عن ذكر الرحمن نقيض له شيطاناً" فمعنى الإرسال ها هنا التسليط ومن ذلك قوله سبحانه لإبليس "واستفزز من استطعت منهم بصوتك" ويؤيد الوجه الثاني تمام الآية، وهو "تؤزهم أزاً" فإن الأز والهز والاستفزاز معناها التحريك والتهييج والإزعاج، فأخبر الله سبحانه أن الشياطين تحرك الكافرين وتهيجهم وتغويهم، وذلك هو التسليط لها عليهم، وقيل معنى الأز الاستعجال، وهو مقارب لما ذكرنا لأن الاستعجال تحريك وتهييج واستفزاز وإزعاج، وسياق هذه الآية لتعجيب رسول الله صلى الله عليه وسلم من حالهم وللتنبيه له على أن جميع ذلك بإضلال الشياطين وإغوائهم، وجملة: تؤزهم أزاً في محل نصب على الحال، أو مستأنفة على تقدير سؤال يدل عليه المقام، كأنه قيل ماذا تفعل الشياطين بهم؟
84- "فلا تعجل عليهم" بأن تطلب من الله إهلاكهم بسبب تصميمهم على الكفر وعنادهم للحق وتمردهم عن داعي الله سبحانه، ثم علل سبحانه هذا النهي بقوله: "إنما نعد لهم عداً" يعني نعد الأيام والليالي والشهور والسنين من أعمارهم إلى انتهاء آجالهم، وقيل نعد أنفاسهم، وقيل خطواتهم، وقيل لحظاتهم، وقيل الساعات. وقال قطرب: نعد أعمالهم. وقيل المعنى: لا تعجل عليهم فإنما نؤخرهم ليزدادوا إثماً.
ثم لما قرر سبحانه أمر الحشر وأجاب عن شبهة منكريه أراد أن يشرح حال المكلفين حينئذ، فقال: 85- "يوم نحشر المتقين إلى الرحمن وفداً" الظرف منصوب بفعل مقدر: أي اذكر يا محمد يوم الحشر، وقيل منصوب بالفعل الذي بعده، ومعنى حشرهم إلى الرحمن: حشرهم إلى جنته ودار كرامته، كقوله: "إني ذاهب إلى ربي" والوفد جمع وافد كالركب جمع راكب وصحب جمع صاحب، يقال وفد يفد وفداً إذا خرج إلى ملك أو أمر خطير كذا قال الجوهري.
86- "ونسوق المجرمين إلى جهنم ورداً" السوق الحث على السير، والورد العطاش قاله الأخفش وغيره. وقال الفراء وابن الأعرابي: هم المشاة، وقال الأزهري: هم المشاة العطاش كالإبل ترد الماء. وقيل ورداً: أي للورد، كقولك جئتك إكراماً: أي للإكرام، وقيل أفراداً. قيل لا تناقض بين هذه الأقوال فهم يساقون مشاة عطاشاً أفراداً، وأصل الورد الجماعة التي ترد الماء من طير أو إبل أو قوم أو غير ذلك. والورد الماء الذي يورد.
وجملة 87- "لا يملكون الشفاعة". مستأنفة لبيان بعض ما يكون في ذلك اليوم من الأمور، والضمير في يملكون راجع إلى الفريقين، وقيل للمتقين خاصة، وقيل للمجرمين خاصة، والأول أولى. ومعنى لا يملكون الشفاعة: أنهم لا يملكون أن يشفعوا لغيرهم، وقيل لا يملك غيرهم أن يشفع لهم، والأول أولى "إلا من اتخذ عند الرحمن عهداً" هذا الاستثناء متصل على الوجه الأول: أي لا يملك الفريقان المذكوران الشفاعة إلا من استعد لذلك بما يصير به من جملة الشافعين لغيرهم بأن يكون مؤمناً متقياً، فهذا معنى اتخاذ العهد عند الله. وقيل معنى اتخاذ العهد أن الله أمره بذلك كقولهم: عهد الأمير إلى فلان إذا أمره به. وقيل معنى اتخاذ العهد شهادة أن لا إله إلا الله، وقيل غير ذلك. وعلى الاتصال في هذا الاستثناء يكون محل من في من اتخذ الرفع على البدل، أو النصب على أصل الاستثناء. وأما على الوجه الثاني فالاستثناء منقطع لأن التقدير: لا يملك المجرمون الشفاعة "إلا من اتخذ عند الرحمن عهداً" وهم المسلمون، وقيل هو متصل على هذا الوجه أيضاً، والتقدير: لا يملك المجرمون الشفاعة إلا من كان منهم مسلماً.
88- "وقالوا اتخذ الرحمن ولداً" قرأ يحيى بن وثاب وحمزة والكسائي ولداً بضم الواو وإسكان الللام. وقرأ الباقون في الأربعة المواضع المذكورة في هذه السورة بفتح الواو واللام، وقد قدمنا الفرق بين القراءتين، والجملة مستأنفة لبيان قول اليهود والنصارى ومن يزعم من العرب أن الملائكة بنات الله.
وفي قوله: 89- "لقد جئتم شيئاً إداً" التفات من الغيبة إلى الخطاب، وفيه رد لهذه المقالة الشنعاء، والإد كما قال الجوهري: الداهية والأمر الفظيع، وكذلك الأدة، وجمع الأدة أدد، يقال أدت فلاناً الداهية تؤده أداء بالفتح. وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي أداً بفتح الهمزة، وقرأ الجمهور بالكسر، وقرأ ابن عباس وأبو العالية آداً مثل ماداً، وهي مأخوذة من الثقل، يقال أده الحمل يؤده: إذا أثقله. قال الواحدي "لقد جئتم شيئاً إداً" أي عظيماً في قول الجميع، ومعنى الآية: قلتم قولاً عظيماً. وقيل الإد العجب، والإدة الشدة، والمعنى متقارب والتركيب يدور على الشدة والثقل.
90- "تكاد السماوات يتفطرن منه" قرأ نافع والكسائي وحفص ويحيى بن وثاب "يكاد" بالتحتية، وقرأ الباقون بالفوقية وقرأ نافع وابن كثير وحفص " يتفطرن " بالتاء الفوقية، وقرأ حمزة وابن عامر وأبو عمر وأبو بكر والمفضل "يتفطرن" بالتحتية من الانفطار، واختار هذه القراءة أبو عبيد لقوله: "إذا السماء انفطرت" وقوله "السماء منفطر به" وقرأ ابن مسعود يتصدعن والانفطار والتفطر التشقق "وتنشق الأرض" أي وتكاد أن تنشق الأرض، وكرر الفعل للتأكيد لأن تتفطرن وتنشق معناهما واحد "وتخر الجبال" أي تسقط وتنهدم، وانتصاب "هداً" على أنه مصدر مؤكد لأن الخرور في معناه، أو هو مصدر لفعل مقدر: أي وتنهد هداً، أو على الحال أي مهدودة، أو على أنه مفعول له: أي لأنها تنهد. قال الهروي: يقال هدني الأمر وهد ركني: أي كسرني وبلغ مني. قال الجوهري: هد البناء يهده هداً كسره وضعضعه، وهدته المصيبة أوهنت ركنه، وانهد الجبل: أي انكسر والهدة صوت وقع الحائط، كما قال ابن الأعرابي.
ومحل 91- "أن دعوا للرحمن ولداً" الجر بدلاً من الضمير في منه. وقال الفراء: في محل نصب بمعنى لأن دعوا. وقال الكسائي: هو في محل خفض بتقدير الخافض، وقيل في محل رفع على أنه فاعل هداً. والدعاء بمعنى التسمية: أي سمو الرحمن ولداً، أو بمعنى النسبة أي نسبوا له ولداً.
92- "وما ينبغي للرحمن أن يتخذ ولداً" أي لا يصلح له ولا يليق به لاستحالة ذلك عليه لأن الولد يقتضي الجنسية والحدوث، والجملة في محل نصب على الحال: أي قالوا اتخذ الرحمن ولداً، أو أن دعوا للرحمن ولداً، والحال أنه ما يليق به سبحانه ذلك.
93- "إن كل من في السماوات والأرض" أي ما كل من في السموات والأرض "إلا" وهو "آتي" الله يوم القيامة مقراً بالعبودية خاضعاً ذليلاً كما قال: "وكل أتوه داخرين" أي صاغرين. والمعنى: أن الخلق كلهم عبيده فكيف يكون واحد منهم ولداً له؟ وقرئ آت على الأصل.
94- "لقد أحصاهم" أي حصرهم وعلم عددهم "وعدهم عداً" أي عد أشخاصهم بعد أن حصرهم فلا يخفى عليه أحد منهم.