تفسير السعدي تفسير الصفحة 387 من المصحف

 وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ من القوة والعقل واللب، وذلك نحو أربعين سنة في الغالب، وَاسْتَوَى كملت فيه تلك الأمور آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا أي: حكما يعرف به الأحكام الشرعية، ويحكم به بين الناس، وعلما كثيرا.
وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ في عبادة اللّه المحسنين لخلق اللّه، نعطيهم علما وحكما بحسب إحسانهم، ودل هذا على كمال إحسان موسى عليه السلام.
وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِهَا إما وقت القائلة، أو غير ذلك من الأوقات التي بها يغفلون عن الانتشار. فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلانِ أي: يتخاصمان ويتضاربان هَذَا مِنْ شِيعَتِهِ أي: من بني إسرائيل وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ القبط.
فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ لأنه قد اشتهر، وعلم الناس أنه من بني إسرائيل، واستغاثته لموسى، دليل على أنه بلغ موسى عليه السلام مبلغا يخاف منه، ويرجى من بيت المملكة والسلطان.
فَوَكَزَهُ مُوسَى أي: وكز الذي من عدوه، استجابة لاستغاثة الإسرائيلي، فَقَضَى عَلَيْهِ أي: أماته من تلك الوكزة، لشدتها وقوة موسى.
فندم موسى عليه السلام على ما جرى منه، و قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ أي: من تزيينه ووسوسته، إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ فلذلك أجريت ما أجريت بسبب عداوته البينة، وحرصه على الإضلال.
ثم استغفر ربه قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ خصوصا للمخبتين، المبادرين للإنابة والتوبة، كما جرى من موسى عليه السلام.
فـ قَالَ موسى رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ بالتوبة والمغفرة، والنعم الكثيرة، فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا أي: معينا ومساعدا لِلْمُجْرِمِينَ أي: لا أعين أحدا على معصية، وهذا وعد من موسى عليه السلام، بسبب منة اللّه عليه، أن لا يعين مجرما، كما فعل في قتل القبطي. وهذا يفيد أن النعم تقتضي من العبد فعل الخير، وترك الشر.
( فـ ) لما جرى منه قتل الذي هو من عدوه أَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خَائِفًا يَتَرَقَّبُ هل يشعر به آل فرعون، أم لا؟ وإنما خاف، لأنه قد علم، أنه لا يتجرأ أحد على مثل هذه الحال سوى موسى من بني إسرائيل.
فبينما هو على تلك الحال فَإِذَا الَّذِي اسْتَنْصَرَهُ بِالأَمْسِ على عدوه يَسْتَصْرِخُهُ على قبطي آخر. قَالَ لَهُ مُوسَى موبخا له على حاله إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ أي: بين الغواية، ظاهر الجراءة.
فَلَمَّا أَنْ أَرَادَ أَنْ يَبْطِشَ موسى بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَهُمَا أي: له وللمخاصم المستصرخ، أي: لم يزل اللجاج بين القبطي والإسرائيلي، وهو يستغيث بموسى، فأخذته الحمية، حتى هم أن يبطش بالقبطي، قَالَ له القبطي زاجرا له عن قتله: أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْسًا بِالأَمْسِ إِنْ تُرِيدُ إِلا أَنْ تَكُونَ جَبَّارًا فِي الأَرْضِ لأن من أعظم آثار الجبار في الأرض، قتل النفس بغير حق.
وَمَا تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ وإلا فلو أردت الإصلاح لحلت بيني وبينه من غير قتل أحد، فانكف موسى عن قتله، وارعوى لوعظه وزجره، وشاع الخبر بما جرى من موسى في هاتين القضيتين، حتى تراود ملأ فرعون، وفرعون على قتله، وتشاوروا على ذلك.
وقيض اللّه ذلك الرجل الناصح، وبادرهم إلى الإخبار لموسى بما اجتمع عليه رَأْيُ ملئهم. فقال: وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى أي: ركضا على قدميه من نصحه لموسى، وخوفه أن يوقعوا به، قبل أن يشعر، فـ قَالَ يَا مُوسَى إِنَّ الْمَلأَ يَأْتَمِرُونَ أي: يتشاورون فيك لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ عن المدينة إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ فامتثل نصحه.
فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ أن يوقع به القتل، ودعا اللّه، و قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ فإنه قد تاب من ذنبه وفعله غضبا من غير قصد منه للقتل، فَتَوعُّدُهُمْ له ظلم منهم وجراءة.