تفسير السعدي تفسير الصفحة 4 من المصحف


مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لا يُبْصِرُونَ ( 17 ) صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ ( 18 ) أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ ( 19 ) يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ( 20 ) .
أي: مثلهم المطابق لما كانوا عليه كمثل الذي استوقد نارا، أي: كان في ظلمة عظيمة, وحاجة إلى النار شديدة فاستوقدها من غيره, ولم تكن عنده معدة, بل هي خارجة عنه، فلما أضاءت النار ما حوله, ونظر المحل الذي هو فيه, وما فيه من المخاوف وأمنها, وانتفع بتلك النار, وقرت بها عينه, وظن أنه قادر عليها, فبينما هو كذلك, إذ ذهب الله بنوره, فذهب عنه النور, وذهب معه السرور, وبقي في الظلمة العظيمة والنار المحرقة, فذهب ما فيها من الإشراق, وبقي ما فيها من الإحراق، فبقي في ظلمات متعددة: ظلمة الليل, وظلمة السحاب, وظلمة المطر, والظلمة الحاصلة بعد النور, فكيف يكون حال هذا الموصوف؟ فكذلك هؤلاء المنافقون, استوقدوا نار الإيمان من المؤمنين, ولم تكن صفة لهم, فانتفعوا بها وحقنت بذلك دماؤهم, وسلمت أموالهم, وحصل لهم نوع من الأمن في الدنيا، فبينما هم على ذلك إذ هجم عليهم الموت, فسلبهم الانتفاع بذلك النور, وحصل لهم كل هم وغم وعذاب, وحصل لهم ظلمة القبر, وظلمة الكفر, وظلمة النفاق, وظلم المعاصي على اختلاف أنواعها, وبعد ذلك ظلمة النار [ وبئس القرار ] .
فلهذا قال تعالى [ عنهم ] : ( صُمٌّ ) أي: عن سماع الخير، ( بُكْمٌ ) [ أي ] : عن النطق به، ( عُمْيٌ ) عن رؤية الحق، ( فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ ) لأنهم تركوا الحق بعد أن عرفوه, فلا يرجعون إليه، بخلاف من ترك الحق عن جهل وضلال, فإنه لا يعقل, وهو أقرب رجوعا منهم.
ثم قال تعالى: ( أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ ) يعني: أو مثلهم كصيب، أي: كصاحب صيب من السماء، وهو المطر الذي يصوب, أي: ينزل بكثرة، ( فِيهِ ظُلُمَاتٌ ) ظلمة الليل, وظلمة السحاب, وظلمات المطر، ( وَرَعْدٌ ) وهو الصوت الذي يسمع من السحاب، ( وَبَرْقٌ ) وهو الضوء [ اللامع ] المشاهد مع السحاب.
( كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ ) البرق في تلك الظلمات ( مَشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا ) أي: وقفوا.
فهكذا حال المنافقين, إذا سمعوا القرآن وأوامره ونواهيه ووعده ووعيده, جعلوا أصابعهم في آذانهم, وأعرضوا عن أمره ونهيه ووعده ووعيده, فيروعهم وعيده وتزعجهم وعوده، فهم يعرضون عنها غاية ما يمكنهم, ويكرهونها كراهة صاحب الصيب الذي يسمع الرعد, ويجعل أصابعه في أذنيه خشية الموت, فهذا تمكن له السلامة. وأما المنافقون فأنى لهم السلامة, وهو تعالى محيط بهم, قدرة وعلما فلا يفوتونه ولا يعجزونه, بل يحفظ عليهم أعمالهم, ويجازيهم عليها أتم الجزاء.
ولما كانوا مبتلين بالصمم, والبكم, والعمى المعنوي, ومسدودة عليهم طرق الإيمان، قال تعالى: ( وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ ) أي: الحسية, ففيه تحذير لهم وتخويف بالعقوبة الدنيوية, ليحذروا, فيرتدعوا عن بعض شرهم ونفاقهم، ( إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ) فلا يعجزه شيء، ومن قدرته أنه إذا شاء شيئا فعله من غير ممانع ولا معارض.
وفي هذه الآية وما أشبهها, رد على القدرية القائلين بأن أفعالهم غير داخلة في قدرة الله تعالى, لأن أفعالهم من جملة الأشياء الداخلة في قوله: ( إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ) .
يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ( 21 ) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ ( 22 ) .
هذا أمر عام لكل الناس, بأمر عام, وهو العبادة الجامعة, لامتثال أوامر الله, واجتناب نواهيه, وتصديق خبره, فأمرهم تعالى بما خلقهم له، قال تعالى: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ .
ثم استدل على وجوب عبادته وحده, بأنه ربكم الذي رباكم بأصناف النعم, فخلقكم بعد العدم, وخلق الذين من قبلكم, وأنعم عليكم بالنعم الظاهرة والباطنة, فجعل لكم الأرض فراشا تستقرون عليها, وتنتفعون بالأبنية, والزراعة, والحراثة, والسلوك من محل إلى محل, وغير ذلك من أنواع الانتفاع بها، وجعل السماء بناء لمسكنكم, وأودع فيها من المنافع ما هو من ضروراتكم وحاجاتكم, كالشمس, والقمر, والنجوم.
( وَأَنزلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً ) والسماء: [ هو ] كل ما علا فوقك فهو سماء, ولهذا قال المفسرون: المراد بالسماء هاهنا: السحاب، فأنزل منه تعالى ماء، ( فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ ) كالحبوب, والثمار, من نخيل, وفواكه, [ وزروع ] وغيرها ( رِزْقًا لَكُمْ ) به ترتزقون, وتقوتون وتعيشون وتفكهون.
( فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا ) أي: نظراء وأشباها من المخلوقين, فتعبدونهم كما تعبدون الله, وتحبونهم كما تحبون الله, وهم مثلكم, مخلوقون, مرزوقون مدبرون, لا يملكون مثقال ذرة في السماء ولا في الأرض، ولا ينفعونكم ولا يضرون، ( وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ ) أن الله ليس له شريك, ولا نظير, لا في الخلق, والرزق, والتدبير, ولا في العبادة فكيف تعبدون معه آلهة أخرى مع علمكم بذلك؟ هذا من أعجب العجب, وأسفه السفه.
وهذه الآية جمعت بين الأمر بعبادة الله وحده, والنهي عن عبادة ما سواه, وبيان الدليل الباهر على وجوب عبادته, وبطلان عبادة من سواه, وهو [ ذكر ] توحيد الربوبية, المتضمن لانفراده بالخلق والرزق والتدبير، فإذا كان كل أحد مقرا بأنه ليس له شريك في ذلك, فكذلك فليكن إقراره بأن [ الله ] لا شريك له في العبادة, وهذا أوضح دليل عقلي على وحدانية الباري، وبطلان الشرك.
وقوله تعالى: ( لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ) يحتمل أن المعنى: أنكم إذا عبدتم الله وحده, اتقيتم بذلك سخطه وعذابه, لأنكم أتيتم بالسبب الدافع لذلك، ويحتمل أن يكون المعنى: أنكم إذا عبدتم الله, صرتم من المتقين الموصوفين بالتقوى, وكلا المعنيين صحيح, وهما متلازمان، فمن أتى بالعبادة كاملة, كان من المتقين، ومن كان من المتقين, حصلت له النجاة من عذاب الله وسخطه. ثم قال تعالى:
وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ( 23 ) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ ( 24 ) .
وهذا دليل عقلي على صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم, وصحة ما جاء به، فقال: ( وإن كنتم ) معشر المعاندين للرسول, الرادين دعوته, الزاعمين كذبه في شك واشتباه, مما نزلنا على عبدنا, هل هو حق أو غيره ؟ فهاهنا أمر نصف، فيه الفيصلة بينكم وبينه، وهو أنه بشر مثلكم, ليس بأفصحكم ولا بأعلمكم وأنتم تعرفونه منذ نشأ بينكم, لا يكتب ولا يقرأ، فأتاكم بكتاب زعم أنه من عند الله, وقلتم أنتم أنه تقوَّله وافتراه، فإن كان الأمر كما تقولون, فأتوا بسورة من مثله, واستعينوا بمن تقدرون عليه من أعوانكم وشهدائكم, فإن هذا أمر يسير عليكم، خصوصا وأنتم أهل الفصاحة والخطابة, والعداوة العظيمة للرسول، فإن جئتم بسورة من مثله, فهو كما زعمتم, وإن لم تأتوا بسورة من مثله وعجزتم غاية العجز, ولن تأتوا بسورة من مثله، ولكن هذا التقييم على وجه الإنصاف والتنزل معكم، فهذا آية كبرى, ودليل واضح [ جلي ] على صدقه وصدق ما جاء به, فيتعين عليكم اتباعه, واتقاء النار التي بلغت في الحرارة العظيمة [ والشدة ] , أن كانت وقودها الناس والحجارة, ليست كنار الدنيا التي إنما تتقد بالحطب, وهذه النار الموصوفة معدة ومهيأة للكافرين بالله ورسله. فاحذروا الكفر برسوله, بعد ما تبين لكم أنه رسول الله.
وهذه الآية ونحوها يسمونها آيات التحدي, وهو تعجيز الخلق أن يأتوا بمثل هذا القرآن، قال تعالى قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا .
وكيف يقدر المخلوق من تراب, أن يكون كلامه ككلام رب الأرباب؟ أم كيف يقدر الناقص الفقير من كل الوجوه, أن يأتي بكلام ككلام الكامل, الذي له الكمال المطلق, والغنى الواسع من كل الوجوه؟ هذا ليس في الإمكان, ولا في قدرة الإنسان، وكل من له أدنى ذوق ومعرفة [ بأنواع ] الكلام, إذا وزن هذا القرآن العظيم بغيره من كلام البلغاء, ظهر له الفرق العظيم.
وفي قوله: ( وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ ) إلى آخره, دليل على أن الذي يرجى له الهداية من الضلالة: [ هو ] الشاك الحائر الذي لم يعرف الحق من الضلال، فهذا إذا بين له الحق فهو حري بالتوفيق إن كان صادقا في طلب الحق.
وأما المعاند الذي يعرف الحق ويتركه, فهذا لا يمكن رجوعه, لأنه ترك الحق بعد ما تبين له, لم يتركه عن جهل, فلا حيلة فيه.
وكذلك الشاك غير الصادق في طلب الحق, بل هو معرض غير مجتهد في طلبه, فهذا في الغالب أنه لا يوفق.
وفي وصف الرسول بالعبودية في هذا المقام العظيم, دليل على أن أعظم أوصافه صلى الله عليه وسلم, قيامه بالعبودية, التي لا يلحقه فيها أحد من الأولين والآخرين.
كما وصفه بالعبودية في مقام الإسراء، فقال: سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ وفي مقام الإنزال، فقال: تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ .
وفي قوله: ( أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ ) ونحوها من الآيات, دليل لمذهب أهل السنة والجماعة, أن الجنة والنار مخلوقتان خلافا للمعتزلة، وفيها أيضا, أن الموحدين وإن ارتكبوا بعض الكبائر لا يخلدون في النار, لأنه قال: ( أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ ) فلو كان [ عصاة الموحدين ] يخلدون فيها, لم تكن معدة للكافرين وحدهم، خلافا للخوارج والمعتزلة.
وفيها دلالة على أن العذاب مستحق بأسبابه, وهو الكفر, وأنواع المعاصي على اختلافها.