تفسير الشوكاني تفسير الصفحة 4 من المصحف



فتح القدير - صفحة القرآن رقم 4

003

17- "مثلهم" مرتفع بالابتداء، وخبره إما الكاف في قوله: "كمثل" لأنها اسم: أي مثل مثل كما في قول الأعشى: أتنتهون ولن تنهى ذوي شطط كالطعن يذهب فيه الزيت والفتل وقول امرئ القيس: ورحنا بكابن الماء يجنب وسطنا تصوب فيه العين طوراً وترتقي أراد مثل الطعن وبمثل ابن الماء، ويجوز أن يكون الخبر محذوفاً: أي مثلهم مستنير كمثل، فالكاف على هذا حرف. والمثل: الشبه، والمثلان: المتشابهان "والذي" موضوع موضع الذين: أي كمثل الذين استوقدوا، وذلك موجود في كلام العرب كقول الشاعر: وإن الذي حانت بفلج دماؤهم هم القوم كلا القوم يا أم خالد ومنه "وخضتم كالذي خاضوا" ومنه "والذي جاء بالصدق وصدق به أولئك هم المتقون". ووقود النار: سطوعها وارتفاع لهبها، " استوقد " بمعنى أوقد مثل استجاب بمعنى أجاب، فالسين والتاء زائدتان، قاله الأخفش. ومنه قول الشاعر: وداع دعا يا من يجيب إلى الندا فلم يستجبه عند ذاك مجيب أي يجبه. والإضاءة فرط الإنارة، وفعلها يكون لازماً ومتعدياً. و"ما حوله" قيل: ما زائدة. وقيل: هي موصولة في محل نصب على أنها مفعول أضاءت وحوله منصوب على الظرفية، و"ذهب" من الذهاب، وهو زوال الشيء. و"تركهم" أي أبقاهم "في ظلمات" جمع ظلمة. وقرأ الأعمش بإسكان اللام على الأصل. وقرأ أشهب العقيلي بفتح اللام، وهي عدم النور.
18- و"صم" وما بعده خبر مبتدأ محذوف: أي هم. وقرأ ابن مسعود صماً بكماً عمياً بالنصب على الذم، ويجوز أن ينتصب بقوله تركهم. والصمم: الانسداد، يقال قناة صماء: إذا لم تكن مجوفة، وصممت القارورة: إذا سددتها، وفلان أصم: إذا انسدت خروق مسامعه. والأبكم: الذي لا ينطلق ولا يفهم، فإذا فهم فهو الأخرس. وقيل: الأخرس والأبكم واحد. والعمى: ذهاب البصر. والمراد بقوله: "فهم لا يرجعون" أي إلى الحق، وجواب لما في قوله فلما أضاءت، قيل هو: "ذهب الله بنورهم" وقيل: محذوف تقديره: طفئت فبقوا حائرين. وعلى الثاني فيكون قوله: "ذهب الله بنورهم" كلاماً مستأنفاً أو بدلاً من المقدر. ضرب الله هذا المثل للمنافقين لبيان أن ما يظهرونه من الإيمان مع ما يبطنونه من النفاق لا يثبت لهم به أحكام الإسلام، كمثل المستوقد الذي أضاءت ناره ثم طفئت، فإنه يعود إلى الظلمة ولا تنفعه تلك الإضاءة اليسيرة، فكان بقاء المستوقد في ظلمات لا يبصر كبقاء المنافق في حيرته وتردده. وإنما وصفت هذه النار بالإضاءة مع كونها نار باطل لأن الباطل كذلك تستطع ذوائب لهب ناره لحظة ثم تخفت. ومنه قولهم: للباطل صولة ثم يضمحل وقد تقرر علماء البلاغة أن لضرب الأمثال شأناً عظيماً في إبراز خفيات المعاني ورفع أستار محجبات الدقائق ولهذا استكثر من ذلك في كتابه العزيز، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكثر من ذلك في مخاطباته ومواعظه. قال ابن جرير: إن هؤلاء المضروب لهم المثل ها هنا لم يؤمنوا في وقت من الأوقات، واحتج بقوله تعالى: "ومن الناس من يقول: آمنا بالله وباليوم الآخر وما هم بمؤمنين". وقال ابن كثير: إن الصواب أن هذا إخبار عنهم في حال نفاقهم وكفرهم، وهذا لا ينفي أنه كان حصل لهم إيمان قبل ذلك، ثم سلبوه وطبع على قلوبهم كما يفيده قوله تعالى: "ذلك بأنهم آمنوا ثم كفروا فطبع على قلوبهم فهم لا يفقهون". قال ابن جرير: وصح ضرب مثل الجماعة بالواحد كما قال: "رأيتهم ينظرون إليك تدور أعينهم كالذي يغشى عليه من الموت" أي كدوران عيني الذي يغشى عليه من الموت، وقال تعالى: " مثل الذين حملوا التوراة ثم لم يحملوها كمثل الحمار يحمل أسفارا " أهـ. وقد أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله تعالى: "مثلهم كمثل الذي استوقد ناراً" قال: هذا مثل ضربه الله للمنافقين كانوا يعتزون بالإسلام فيناكحهم المسلمون ويوارثونهم ويقاسمونهم الفيء، فلما ماتوا سلبهم الله العز كما سلب صاحب النار ضوءه "وتركهم في ظلمات لا يبصرون" يقول: في عذاب "صم بكم عمي" فهم لا يسمعون الهدى ولا يبصرونه ولا يعقلونه. وأخرج ابن جرير عن ابن مسعود وناس من الصحابة في قوله: "مثلهم كمثل الذي استوقد ناراً" قالوا: إن ناساً دخلوا في الإسلام عند مقدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة ثم نافقوا، فكان مثلهم كمثل رجل كان في ظلمة فأوقد ناراً فأضاءت ما حوله من قذى وأذى فأبصره حتى عرف ما يتقي، فبينما هو كذلك إذ طفئت ناره فأقبل لا يدري ما يتقي من أذى. فكذلك المنافق كان في ظلمة الشرك فأسلم فعرف الحلال من الحرام والخير من الشر، فبينما هو كذلك إذ كفر فصار لا يعرف الحلال من الحرام ولا الخير من الشر، فهم صم بكم هم الخرس، فهم لا يرجعون إلى الإسلام. وأخرج ابن جرير عن ابن عباس في قوله: "كمثل الذي استوقد ناراً" قال: ضربه الله مثلاً للمنافق، وقوله: "ذهب الله بنورهم" قال: أما النور فهو إيمانهم الذي يتكلمون به، وأما الظلمة فهو ضلالهم. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس مثله. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن مجاهد نحوه. وأخرجا أيضاً عن قتادة نحوه. وأخرج ابن أبي حاتم عن عكرمة والحسن والسدي والربيع بن أنس نحو ما تقدم.
عطف هذا المثل على المثل الأول بحرف الشك لقصد التخيير بين المثلين: أي مثلوهم بهذا أو هذا، وهي وإن كانت في الأصل للشك فقد توسع فيها حتى صارت لمجرد التساوي من غير شك -وقيل: إنها بمعنى الواو، قاله القراء وغيره، وأنشد: وقد زعمت ليلى بأني فاجر لنفسي تقاها أو عليها فجورها وقال آخر: نال الخلافة أو كانت له قدرا كما أتى ربه موسى على قدر والمراد بالصيب: المطر، واشتقاقه من صاب يصوب: إذا نزل. قال علقمة: فلا تعدلي بيني وبين معمر سقتك روايا الموت حيث تصوب وأصله صيوب، اجتمعت الياء والواو وسبقت إحداهما بالسكون فقلبت الواو ياء وأدغمت، كما فعلوا في ميت وسيد. والسماء في الأصل: كل ما علاك فأطلك. ومنه قيل لسقف البيت سماء. والسماء أيضاً: المطر سمي بها لنزوله منها، وفائدة ذكر نزوله من السماء مع كونه لا يكون إلا منها أنه لا يختص نزوله بجانب منها دون جانب، وإطلاق السماء على المطر واقع كثيراً في كلام العرب، فمنه قول حسان: ديار من بني الحسحاس قفر تعفيها الدوامس والسماء وقال آخر: إذا نزل السماء بأرض قوم والظلمات قد تقدم تفسيرها، وإنما جمعها إشارة إلى أنه انضم إلى ظلمة الليل ظلمة الغيم. والرعد: اسم لصوت الملك الذي يزجر السحاب. وقد أخرج الترمذي من حديث ابن عباس قال: "سألت اليهود النبي صلى الله عليه وسلم عن الرعد ما هو؟ قال: ملك من الملائكة بيده مخاريق من نار يسوق بها السحاب حيث شاء الله، قالوا: فما هذا الصوت الذي نسمع؟ قال: زجره بالسحاب إذا زجره حتى ينتهي إلى حيث أمر. قالت: صدقت" الحديث بطوله، وفي إسناده مقال. قال القرطبي: وعلى هذا التفسير أكثر العلماء -وقيل: هو اضطراب أجرام السحاب عند نزول المطر منها، وإلى هذا ذهب جمع من المفسرين تبعاً للفلاسفة وجهلة المتكلمين وقيل غير ذلك، والبرق: مخراق حديد بيد الملك الذي يسوق السحاب، وإليه ذهب كثير من الصحابة وجمهور علماء الشريعة للحديث السابق. وقال بعض المفسرين تبعاً للفلاسفة: إن البرق ما ينقدح من اصطكاك أجرام السحاب المتراكمة من الأبخرة المتصعدة المشتملة على جزء ناري يتلهب عند الاصطكاك. وقوله: 19- "يجعلون أصابعهم في آذانهم" جملة مستأنفة لا محل لها كأن قائلاً قال: فكيف حالهم عند ذلك الرعد؟ فقيل: يجعلون أصابعهم في آذانهم. وإطلاق الأصبع على بعضها مجاز مشهور، والعلاقة الجزئية والكلية لأن ذلك يجعل في الأذن إنما هو رأس الأصبع كلها. والصواعق ويقال الصواقع: هي قطعة نار تنفصل من مخراق الملك الذي يزجرالسحاب عند غضبه وشدة ضربه لها، ويدل على ذلك ما في حديث ابن عباس الذي ذكرنا بعضه قريباً وبه قال كثير من علماء الشريعة. ومنهم من قال: إنها نار تخرج من فم الملك. وقال الخليل: هي الواقعة الشديدة من صوت الرعد، يكون معها أحياناً قطعة نار تحرق ما أتت عليه. وقال أبو زيد الصاعقة: نار تسقط من السماء في رعد شديد. وقال بعض المفسرين تبعاً للفلاسفة ومن قال بقولهم: إنها نار لطيفة تنقدح من السحاب إذا اصطكت أجرامها. وسيأتي في سورة الرعد إن شاء الله في تفسير الرعد والبرق والصواعق ما له مزيد فائدة وإيضاح. ونصب "حذر الموت" على أنه مفعول لأجله. وقال الفراء: منصوب على التمييز. والموت: ضد الحياة. والإحاطة، الأخذ من جميع الجهات حتى لا تفوت المحاط به بوجه من الوجوه.
وقوله: 20- "يكاد البرق يخطف أبصارهم" جملة مستأنفة كأنه قيل: فكيف حالهم مع ذلك البرق؟ ويكاد: يقارب. والخطف: الأخذ بسرعة، ومنه سمي الطير خطافاً لسرعته. وقرأ مجاهد "يخطف" بكسر الطاء والفتح أفصح. وقوله: "كلما أضاء لهم مشوا فيه" كلام مستأنف كأنه قيل: كيف تصنعون في تارتي خفوق البرق وسكونه، وهو تمثيل لشدة الأمر على المنافقين بشدته على أهل الصيب "ولو شاء الله لذهب بسمعهم وأبصارهم" بالزيادة في الرعد والبرق "إن الله على كل شيء قدير" وهذا من جملة مقدوراته سبحانه. وقد أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: "أو كصيب" هو المطر ضرب مثله في القرآن "فيه ظلمات" يقول ابتلاء "ورعد وبرق" تخويف "يكاد البرق يخطف أبصارهم" يقول: يكاد محكم القرآن يدل على عورات المنافقين "كلما أضاء لهم مشوا فيه" يقول: كلما أصاب المنافقون من الإسلام عزاً اطمأنوا، فإن أصاب الإسلام نكبة قاموا ليرجعوا إلى الكفر كقوله: "ومن الناس من يعبد الله على حرف" الآية. وأخرج ابن جرير عن ابن مسعود وناس من الصحابة قالوا: كان رجلان من المنافقين من أهل المدينة هرباً من رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المشركين، فأصابهما هذا المطر الذي ذكر الله فيه رعد شديد وصواعق وبرق، فجعلا كلما أصابهما الصواعق يجعلان أصابعهما في آذانهما من الفرق أن تدخل الصواعق في مسامعهما فتقتلهما، وإذا لمع البرق مشيا في ضوئه وإذا لم يلمع لم يبصرا قاما مكانهما لا يمشيان فجعلا يقولان: ليتنا قد أصبحنا فنأتي محمداً فنضع أيدينا في يده، فأصبحا فأتياه فأسلما ووضعا أيديهما في يده وحسن إسلامهما فضرب الله شأن هذين المنافقين الخارجين مثلاً للمنافقين الذين بالمدينة، وكان المنافقون إذا حضروا مجلس النبي صلى الله عليه وسلم جعلوا أصابعهم في آذانهم فرقاً من كلام النبي صلى الله عليه وسلم أن ينزل فيهم شيء أو يذكروا بشيء فيقتلوا، كما كان ذلك المنافقان الخارجان يجعلان أصابعهما في آذانهما، وإذا أضاء لهم مشوا فيه: أي فإذا كثرت أموالهم وأولادهم وأصابوا غنيمة وفتحاً مشوا فيه وقالوا: إن دين محمد صلى الله عليه وسلم حينئذ صدق واستقاموا عليه، كما كان ذانك المنافقان يمشيان إذا أضاء لهم البرق، وإذا أظلم عليهم قاموا فكانوا إذا هلكت أموالهم وأولادهم وأصابهم البلاء قالوا: هذا من أجل دين محمد صلى الله عليه وسلم، وارتدوا كفراً كما قام المنافقان حين أظلم البرق عليهما. وأخرج ابن جرير عن ابن عباس قال: "أو كصيب" قال: هو المطر وهو مثل للمنافق في ضوئه يتكلم بما معه من كتاب الله مراءاة الناس، فإذا خلا وحده عمل بغيره فهو في ظلمة ما أقام على ذلك. وأما الظلمات: فالضلالات. وأما البرق: فالإيمان، وهم أهل الكتاب، وإذا أظلم عليهم: فهو رجل يأخذ بطرف الحق لا يستطيع أن يجاوزه. وأخرج ابن إسحاق وابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس أيضاً نحو ما سلف. وقد روي تفسيره بنحو ذلك عن جماعة من التابعين. واعلم أن المنافقين أصناف، فمنهم من يظهر الإسلام ويبطن الكفر، ومنهم من قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم كما ثبت في الصحيحين وغيرهما: "ثلاث من كن فيه كان منافقاً خالصاً، ومن كانت فيه واحدة منهن كان فيه خصلة من النفاق حتى يدعها: من إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان" وورد بلفظ أربع وزاد "وإذا خاصم فجر". وورد بلفظ "وإذا عاهد غدر". وقد ذكر ابن جرير ومن تبعه من المفسرين أن هذين المثلين لصنف واحد من المنافقين.
21- " يا أيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم لعلكم تتقون " لما فرغ سبحانه من ذكر المؤمنين والكافرين والمنافقين أقبل عليهم بالخطاب التفاتاً للنكتة السابقة في الفاتحة. ويا حرف نداء. والمنادى أي وهو اسم مفرد مبني على الضم، وها حرف تنبيه مقحم بين المنادى وصفته. قال سيبويه: كأنك كررت يا مرتين، وصار الاسم بينهما كما قالوا: ها هوذا. وقد تقدم الكلام في تفسير الناس والعبادة. وإنما خص نعمة الخلق وامتعن بها عليهم، لأن جميع النعم مترتبة عليها. وهي أصلها الذي لا يوجد شيء منها بدونها، وأيضاً فالكفار مقرون بأن الله هو الخالق "ولئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله" فامتن عليهم بما يعترفون به ولا ينكرونه. وفي أصل معنى الخلق وجهان: أحدهما التقدير. يقال: خلقت الأديم للسقاء: إذا قدرته قبل القطع. قال زهير: ولأنت تفري ما خلقت وبعـ ـض القوم يخلق ثم لا يفري الثاني: الإنشاء والاختراع والإبداع. ولعل أصلها الترجي والطمع والتوقع والإشفاق، وذلك مستحيل على الله سبحانه، ولكنه لما كانت المخاطبة منه سبحانه للبشر كان بمنزلة قوله لهم: افعلوا ذلك على الرجاء منكم والطمع وبهذا قال جماعة من أئمة العربية منهم سيبويه. وقيل: إن العرب استعملت لعل مجردة من الشك بمعنى لام كي. والمعنى هنا: لتتقوا: وكذلك ما وقع هذا الموقع، ومنه قول الشاعر: وقلتم لنــا كفــوا الحــروب لعلنـا نكف ووثقتم لنا كـل موثق فلما كففنا الحرب كانت عهودكم كشبه سراب في الملا متألق أي كفوا عن الحرب لنكف، ولو كانت لعل للشك لم يوثقوا لهم كل موثق، وبهذا قال جماعة منهم قطرب. وقيل: إنها بمعنى التعرض للشيء كأنه قال: متعرضين للتقوى. وجعل هنا بمعنى صير لتعديه إلى المفعولين، ومنه قول الشاعر: وقد جعلت أرى الإثنين أربعة والأربع اثنين لما هدني الكبر
22- و"فراشاً" أي وطاء يستقرون عليها. لما قدم نعمة خلقهم اتبعه بنعمة خلق الأرض فراشاً لهم، لما كانت الأرض التي هي مسكنهم ومحل استقرارهم من أعظم ما تدعو إليه حاجتهم، ثم أتبع ذلك بنعمة جعل السماء كالقبة المضروبة عليهم، والسقف للبيت الذي يسكنونه كما قال: "وجعلنا السماء سقفاً محفوظاً". وأصل البناء: وضع لبنة على أخرى. ثم امتن عليهم بإنزال الماء من السماء. وأصل ماء موه، قبلت الواو لتحركها وانفتاح ما قبلها ألفاً فصار ماه، فاجتمع حرفان خفيفان فقلبت الهاء همزة. والثمرات جمع ثمرة. والمعنى: أخرجنا لكم ألواناً من الثمرات وأنواعاً من النبات ليكون ذلك متاعاً لكم إلى حين. والأنداد جمع ند، وهو المثل والنظير. وقوله: "وأنتم تعلمون" جملة حالية والخطاب للكفار والمنافقين. فإن قيل: كيف وصفهم بالعلم وقد نعتهم بخلاف ذلك حيث قال: "ولكن لا يعلمون" "ولكن لا يشعرون" "وما كانوا مهتدين" "صم بكم عمي". فيقال إن المراد أن جهلهم وعدم شعورهم لا يتناول هذا: أي كونهم يعلمون أنه المنعم دون غيره من الأنداد، فإنهم كانوا يعلمون هذا ولا ينكرونه كما حكاه الله عنهم في غير آية. وقد يقال: المراد وأنتم تعلمون وحدانيته بالقوة والإمكان لو تدبرتم ونظرتم. وفيه دليل على وجوب استعمال الحجج وترك التقليد. قال ابن فورك: المراد وتجعلون لله أنداداً بعد علمكم الذي هو نفي الجهل بأن الله واحد انتهى. وحذف مفعول تعلمون للدلالة على عدم اختصاص ما هم عليه من العلم بنوع واحد من الأنواع الموجبة للتوحيد. وقد أخرج البزار والحاكم وابن مردويه والبيهقي في الدلائل عن ابن مسعود قال: ما كان "يا أيها الذين آمنوا" فهو أنزل بالمدينة، وما كان "يا أيها الناس" فهو أنزل بمكة. وروي نحو ذلك عن ابن أبي شيبة وعبد بن حميد والطبراني في الأوسط والحاكم وصححه. وروى نحوه أبو عبيد وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر من قول علقمة. وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن مردويه وابن المنذر عن الضحاك مثله. وكذا أخرج أبو عبيد عن ميمون بن مهران. وأخرج نحوه أيضاً ابن أبي شيبة وابن مردويه عن عروة وعكرمة. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: "يا أيها الناس" قال: هي للفريقين جميعاً من الكفار والمؤمنين. وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي مالك في قوله: "لعلكم" يعني كي. وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن عون بن عبد الله بن عتبة قال: لعل من الله واجب. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن مسعود وناس من الصحابة في قوله: "الذي جعل لكم الأرض فراشاً" أي تمشون عليها وهي المهاد والقرار "والسماء بناء" قال كهيئة القبة وهي سقف الأرض. وأخرج أبو الشيخ في العظمة عن الحسن أنه سئل: المطر من السماء أم من السحاب؟ قال: من السماء. وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن كعب قال: السحاب غربال المطر، ولولا السحاب حين ينزل الماء من السماء لأفسد ما يقع عليه من الأرض والبذر. وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن خالد بن معدان قال: المطر ماء يخرج من تحت العرش فينزل من سماء إلى سماء حتى يجتمع في سماء الدنيا، فيجتمع في موضع يقال له الأبزم، فتجيء السحاب السود فتدخله فتشربه مثل شرب الإسفنجة فيسوقها الله حيث يشاء. وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن عكرمة قال: ينزل الماء من السماء السابعة، فتقع القطرة منه على الحساب مثل البعير. وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن خالد بن يزيد قال: المطر منه من السماء، ومنه ما يستقيه الغيم من البحر فيعذبه الرعد والبرق، وأخرج ابن أبي الدنيا في كتاب المطر عن ابن عباس قال: إذا جاء القطر من السماء تفتحت له الأصداف فكان لؤلؤاً. وأخرج الشافعي في الأم وابن أبي الدنيا في كتاب المطر وأبو الشيخ في العظمة عن المطلب بن حنطب أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ما من ساعة من ليل ولا نهار إلا والسماء تمطر فيها يصرفه الله حيث يشاء". وأخرج ابن أبي الدنيا وأبو الشيخ عنن ابن عباس قال: ما نزل مطر من السماء إلا ومعه البذر، أما لو أنكم بسطتم نطعا لرأيتموه. وأخرج ابن أبي الدنيا وأبو الشيخ عن ابن عباس قال: المطر مزاجة من الجنة، فإذا كثر المزاج عظمت البركة وإن قل المطر، وإذا قل المزاج قلت البركة وإن كثر المطر. وأخرج أبو الشيخ عن الحسن قال: ما من عام بأمطر من عام ولكن الله يصرفه حيث يشاء، وينزل مع المطر كذا وكذا من الملائكة يكتبون حيث يقع ذلك المطر ومن يرزقه ومن يخرج منه مع كل قطرة. وأخرج ابن إسحاق وابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: "فلا تجعلوا لله أنداداً" أي لا تشركوا به غيره من الأنداد التي لا تضر ولا تنفع "وأنتم تعلمون" أنه لا رب لكم يرزقكم غيره. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس "أنداداً" قال: أشباهاً. وأخرج ابن جرير عن ابن مسعود "أنداداً" قال : أكفاء من الرجال يطيعونهم في معصية الله . وأخرج عبد بن حميد عن قتادة "أندادا " قال : شركاء. وأخرج ابن أبي شيبة وأحمد والبخاري في الأدب المفرد والنسائي وابن ماجه وأبو نعيم في الحلية عن ابن عباس قال: "قال رجل للنبي صلى الله عليه وسلم: ما شاء الله وشئت، قال: جعلتني لله نداً ما شاء الله وحده". وأخرج ابن سعد عن قتيلة بنت صيفي قالت: "جاء حبر من الأحبار إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا محمد نعم القوم أنتم لولا أنكم تشركون، قال: وكيف؟ قال: يقول أحدكم لا والكعبة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: من حلف فليحلف برب الكعبة. فقال: يا محمد نعم القوم أنتم لولا أنكم تجعلون لله نداً، قال: وكيف ذلك؟ قال: يقول أحدكم ما شاء الله وشئت، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: فمن قال منكم ما شاء الله قال: ثم شئت" وأخرج ابن أبي شيبة وأحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجه والبيهقي عن حذيفة بن اليمان قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تقولوا ما شاء الله وشاء فلان، قولوا ما شاء الله ثم شاء فلان" وأخرج أحمد وابن ماجه والبيهقي وابن مردويه عن طفيل بن سخبرة "أنه رأى فيما يرى النائم كأنه مر برهط من اليهود فقال: أنتم نعم القوم لولا أنكم تزعمون أن عزيراً ابن الله، فقالوا: وأنتم نعم القوم لولا أنكم تقولون ما شاء الله وشاء محمد. ثم مر برهط من النصارى فقال: أنتم نعم القوم لولا أنكم تقولون المسيح ابن الله، قالوا: وأنتم نعم القوم لولا أنكم تقولون ما شاء الله وشاء محمد. فلما أصبح أخبر النبي صلى الله عليه وسلم فخطب فقال: إن طفيلاً رأى رؤيا وإنكم تقولون كلمة كان يمنعني الحياء منكم فلا تقولوها، ولكن قولوا: ما شاء الله وحده لا شريك له" وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: الأنداد هو الشرك أخفى من دبيب النمل على صفا سوداء في ظلمة الليل، وهو أن تقول: والله وحياتك يا فلان وحياتي، وتقول: لولا كلبه هذا لأتانا اللصوص، ولولا القط في الدار لأتى اللصوص، وقول الرجل: ما شاء الله وشئت، وقول الرجل: لولا الله وفلان، هذا كله شرك. وأخرج البخاري ومسلم عن ابن مسعود قال: "قلت: يا رسول الله أي الذنب أعظم؟ قال: أن تجعل لله نداً وهو خلقك" الحديث.
23- "في ريب" أي شك مما نزلنا على عبدنا: أي القرآن أنزله على محمد صلى الله عليه وسلم. والعبد مأخوذ من التعبد وهو التذلل. والتنزيل التدريج والتنجيم. وقوله: "فأتوا" الفاء جواب الشرط وهو أمر معناه التعجيز. لما احتج عليهم بما يثبت الوحدانية ويبطل الشرك عقبه بما هو الحجة على إثبات نبوة محمد صلى الله عليه وسلم وما يدفع الشبهة في كون القرآن معجزة، فتحداهم بأن يتلوا بسورة من سوره. والسورة الطائفة من القرآن المسماة باسم خاص، سميت بذلك لأنها مشتملة على كلماتها كاشتمال سور البلد عليها. ومن في قوله: "من مثله" زائدة لقوله: فأتوا بسورة مثله. والضمير في مثله عائد على القرآن عند جمهور أهل العلم. وقيل: عائد على التوراة والإنجيل، لأن المعنى: فأتوا بسورة من كتاب مثله فإنها تصدق ما فيه. وقيل: يعود على النبي صلى الله عليه وسلم، والمعنى من بشر مثل محمد: أي لا يكتب ولا يقرأ. والشهداء جمع شهيد بمعنى الحاضر أو القائم بالشهادة أو المعاون، والمراد هنا بالآلهة. ومعنى "دون": أدنى مكان من الشيء واتسع فيه حتى استعمل في تخطي الشيء إلى شيء آخر، ومنه ما في هذه الآية، وكذلك قوله تعالى: "لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين" وله معان أخر، منها التقصير عن الغاية والحقارة، يقال: هذا الشيء دون: أي حقير، ومنه: إذا ما علا المرء رام العلا ويقنع بالدون من كان دونا والقرب يقال هذا دون ذاك: أي أقرب منه ويكون إغراء، تقول: دونك زيداً: أي خذه من أدنى مكان "من دون الله" متعلق بادعوا: أي ادعوا الذين يشهدون لكم من دون الله إن كنتم صادقين فيما قلتم من أنكم تقدرون على المعارضة، وهذا تعجيز لهم وبيان لانقطاعهم. والصدق خلاف الكذب، وهو مطابقة الخبر للواقع أو للاعتقاد أو لهما على الخلاف المعروف في علم المعاني.
24- "فإن لم تفعلوا" يعني فيما مضى "ولن تفعلوا" أي تطيقوا ذلك فيما يأتي وتبين لكم عجزكم عن المعارضة "فاتقوا النار" بالإيمان بالله وكتبه ورسله والقيام بفرائضه واجتناب مناهيه وعبر عن الإتيان بالفعل لأن الإتيان فعل من الأفعال لقصد الاختصار، وجملة لن تفعلوا لا محل لها من الإعراب لأنها اعتراضية، ولن للنفي المؤكد لما دخلت عليه، وهذا من الغيوب التي أخبر بها القرآن قبل وقوعها، لأنها لم تقع المعارضة من أحد الكفرة في أيام النبوة وفيما بعدها وإلى الآن. والوقود بالفتح: الحطب، وبالضم: التوقد أي المصدر، وقد جاء في الفتح. والمراد بالحجارة الأصنام التي كانوا يعبدونها لأنهم قرنوا أنفسهم بها في الدنيا فجعلت وقوداً للنار معهم. ويدل على هذا قوله تعالى: "إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم" أي حطب جهنم. وقيل: المراد بها حجارة الكبريت، وفي هذا من التهويل ما لا يقدر قدره من كون هذه النار تتقد بالناس والحجارة، فأوقدت بنفس ما يراد إحراقه بها، والمراد بقوله: "أعدت" جعلت عدة لعذابهم وهيئت لذلك. وقد كرر الله سبحانه تحدي الكفار بهذا في مواضع في القرآن، منها هذا، ومنها قوله تعالى في سورة القصص: " قل فاتوا بكتاب من عند الله هو أهدى منهما أتبعه إن كنتم صادقين " وقال في سبحان: "قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيراً" وقال في سورة هود: " أم يقولون افتراه قل فاتوا بعشر سور مثله مفتريات وادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين " وقال في سورة يونس: " وما كان هذا القرآن أن يفترى من دون الله ولكن تصديق الذي بين يديه وتفصيل الكتاب لا ريب فيه من رب العالمين * أم يقولون افتراه قل فاتوا بسورة مثله وادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين ". وقد وقع الخلاف بين أهل العلم هل وجه الإعجاز في القرآن هو كونه في الرتبة العلية من البلاغة الخارجة عن طوق البشر، أو كان العجز عن المعارضة للصرفة من الله سبحانه لهم عن أن يعارضوه، والحق الأول، والكلام في هذا مبسوط في مواطنه. وقد أخرج أحمد والبخاري ومسلم والنسائي والبيهقي في الدلائل عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما من نبي من الأنبياء إلا أعطي ما مثله آمن عليه البشر، وإنما كان الذي أوتيته وحياً أوحاه الله إلي، فأرجو أن أكون أكثرهم تابعاً يوم القيامة" وقد أخرج ابن أبي حاتم عن الحسن في قوله: "وإن كنتم في ريب" قال: هذا قول الله لمن شك من الكفار فيما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله: "وإن كنتم في ريب" قال: في شك " مما نزلنا على عبدنا فاتوا بسورة من مثله " قال: من مثل القرآن حقاً وصدقاً لا باطل فيه ولا كذب. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن مجاهد " فاتوا بسورة من مثله " قال: مثل القرآن "وادعوا شهداءكم" قال: ناس يشهدون لكم إذا أتيتم بها أنها مثله. وأخرج ابن إسحاق وابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: "شهداءكم" قال: أعوانكم على ما أنتم عليه "فإن لم تفعلوا ولن تفعلوا" فقد بين لكم الحق . وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن قتادة " فإن لم تفعلوا ولن تفعلوا " يقول: لن تقدروا على ذلك ولن تطيقوه. وأخرج عبد بن حميد عن مجاهد أنه كان يقرأ كل شيء في القرآن وقودها برفع الواو الأولى، إلا التي في السماء ذات البروج "النار ذات الوقود" بنصب الواو. وأخرج عبد الرزاق وسعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني في الكبير والحاكم وصححه عن ابن مسعود قال: إن الحجارة التي ذكرها الله في القرآن في قوله: "وقودها الناس والحجارة" حجارة من كبريت خلقها الله عنده كيف شاء. وأخرج ابن جرير عن ابن عباس مثله. وأخرج ابن جرير أيضاً عن عمرو بن ميمون مثله أيضاً. وأخرج ابن مردويه والبيهقي في شعب الإيمان عن أنس قال: "تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية "وقودها الناس والحجارة" قال: أوقد عليها ألف عام حتى احمرت، وألف عام حتى ابيضت، وألف عام حتى اسودت، فهي سوداء مظلمة لا يطفأ لهبها". وأخرج ابن أبي شيبة والترمذي وابن مردويه والبيهقي عن أبي هريرة مرفوعاً مثله. وأخرج أحمد ومالك والبخاري ومسلم عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "نار بني آدم التي توقدون جزء من سبعين جزءاً من نار جهنم، قالوا: يا رسول الله إن كانت لكفاية؟ قال: فإنها قد فضلت عليها بتسعة وستين جزءاً كلهن مثل حرها". وأخرج الترمذي وحسنه عن أبي سعيد مرفوعاً نحوه. وأخرج ابن ماجه والحاكم وصححه عن أنس مرفوعاً نحوه أيضاً. وأخرج مالك في الموطأ والبيهقي في البعث عن أبي هريرة قال: أترونها حمراء مثل ناركم هذه التي توقدون، إنها لأشد سواداً من القار. وأخرج ابن إسحاق وابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: "أعدت للكافرين" قال: أي لمن كان مثل ما أنتم عليه من الكفر.
لما ذكر تعالى جزاء الكافرين عقبة بجزاء المؤمنين ليجمع بين الترغيب والترهيب والوعد والوعيد كما هي عادته سبحانه في كتابه العزيز، لما في ذلك من تنشيط عباده المؤمنين لطاعاته، وتثبيط عباده الكافرين عن معاصيه. والتبشير: الإخبار بما يظهر أثره على البشرة، وهي الجلدة الظاهرة، من البشر والسرور. قال القرطبي: أجمع العلماء على أن المكلف إذا قال: من بشرني من عبيدي فهو حر فبشره واحد من عبيده فأكثر فإن أولهم يكون حراً دون الثاني واختلفوا إذا قال: من أخبرني من عبيدي بكذا فهو حر، فقال أصحاب الشافعي: يعم لأن كل واحد منهم مخبر، وقال علماؤنا: لا، لأن المكلف إنما قصد خبراً يكون بشارة، وذلك مختص بالأول انتهى. والحق أنه إن أراد مدلول الخبر عتقوا جميعاً، وإن أراد الخبر المقيد بكونه بشارة عتق الأول، فالخلاف لفظي. والمأمور بالتبشير قيل: هو النبي صلى الله عليه وسلم، وقيل: هو كل أحد كما في قوله صلى الله عليه وسلم: "بشر المشائين" وهذه الجمل وإن كانت مصدرة بالإنشاء فلا يقدح ذلك في عطفها على ما قبلها، لأن المراد عطف جملة وصف ثواب المطيعين على جملة وصف عقاب العاصين من دون نظر إلى ما اشتمل عليه الوصفان من الأفراد المتخالفة خبراً وإنشاءً. وقيل: إن قوله: 25- "وبشر" معطوف على قوله: "فاتقوا النار"، وليس هذا بجيد. "الصالحات" الأعمال المستقيمة. والمراد هنا: الأعمال المطلوبة منهم المفترضة عليهم- وفيه رد على من يقول إن الإيمان بمجرده يكفي، فالجنة تنال بالإيمان والعمل الصالح. والجنات: البساتين، وإنما سميت جنات لأنها تجن ما فيها: أي تستره بشجرها، وهو اسم لدار الثواب كلها وهي مشتملة على جنات كثيرة. والأنهار جمع نهر، وهو المجرى الواسع فوق الجدول ودون البحر، والمراد: الماء الذي يجري فيها، وأسند الجري إليها مجازاً، والجاري حقيقة هو الماء كما في قوله تعالى: "واسأل القرية" أي أهلها وكما قال الشاعر: ونبئت أن النار بعدك أوقدت واستب بعدك يا كليب المجلس والضمير في قوله: "من تحتها" عائد إلى الجنات لاشتمالها على الأشجار: أي من تحت أشجارها. وقوله: " كلما رزقوا " وصف آخر للجنات، أو هو جملة مستأنفة كأن سائلاً قال: كيف ثمارها. و"من ثمرة" في معنى من أي ثمرة: أي نوع من أنواع الثمرات. والمراد بقوله: "هذا الذي رزقنا من قبل" أنه شبيهه ونظيره، لا أنه هو، لأن ذات الحاضر لا تكون عين ذات الغائب لاختلافهما، وذلك أن اللون يشبه اللون وإن كان الحجم والطعم والرائحة والماوية متخالفة. والضمير في بد عائد إلى الرزق، وقيل: المراد أنهم أتوا بما يرزقونه في الجنة متشابهاً فما يأتيهم في أول النهار يشابه الذي يأتيهم في آخره، فيقولون هذا الذي رزقنا من قبل، فإذا أكلوا وجدوا له طعماً غير طعم الأول. و"متشابهاً" منصوب على الحال. والمراد بتطهير الأزواج أنه لا يصيبهن ما يصيب النساء من قذر الحيض والنفاس وسائر الأدناس التي لا يمتنع تعلقها بنساء الدنيا. والخلود: البقاء الدائم الذي لا ينقطع، وقد يستعمل مجازاً فيما يطول، والمراد هنا الأول. وقد أخرج ابن ماجه وابن أبي الدنيا في صفة الجنة والبزار وابن أبي حاتم وابن حبان والبيهقي وابن مردويه عن أسامة بن زيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ألا هل مشمر للجنة فإن الجنة لا خطر لها، هي ورب الكعبة نور يتلألأ، وريحانة تهتز، وقصر مشيد، ونهر مطرد، وثمرة نضيجة، وزوجة حسناء جميلة، وحلل كثيرة، ومقام في أبد في دار سليمة، وفاكهة خضراء" الحديث. والأحاديث في وصف الجنة كثيرة جداً ثابتة في الصحيحين وغيرهما. وأخرج ابن أبي حاتم وابن حبان والطبراني والحاكم وابن مردويه والبيهقي في البعث عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أنهار الجنة تفجر من تحت جبال مسك". وأخرج ابن أبي شيبة وأبو حاتم وأبو الشيخ وابن حبان والبيهقي في البعث وصححه عن ابن مسعود نحوه موقوفاً. وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي مالك في قوله: "تجري من تحتها الأنهار" قال: يعني المساكن تجري أسفلها أنهارها. وأخرج ابن جرير عن ابن مسعود وناس من الصحابة في قوله: " كلما رزقوا منها من ثمرة رزقا " قال: أتوا بالثمرة في الجنة فنظروا إليها "قالوا هذا الذي رزقنا من قبل" في الدنيا "وأتوا به متشابهاً" في اللون والمرأى وليس يشبه الطعم. وأخرج عبد بن حميد عن علي بن زيد وقتادة نحوه. وأخرج مسدد في مسنده وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: ليس في الدنيا مما في الجنة شيء إلا الأسماء. وأخرج عبد بن حميد عن عكرمة قال: قولهم: "من قبل" معناه: هذا مثل الذي كان بالأمس. وأخرج ابن جرير عن يحيى بن أبي كثير نحوه. وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير عن مجاهد قال: "متشابهاً" في اللون مختلفاً في الطعم. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن الحسن في قوله: "متشابهاً" قال: خيار كله يشبه بعضه بعضاً لا رذل فيه، ألم تروا إلى ثمار الدنيا كيف ترذلون بعضه. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن قتادة مثله. وأخرج الحاكم وصححه وابن مردويه عن أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: "ولهم فيها أزواج مطهرة" قال: من الحيض والغائط والبزاق والنخامة. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: من القذر والأذى. وأخرج ابن جرير عن ابن مسعود قال: لا يحضن ولا يحدثن ولا يتنخمن. وقد روي نحو هذا عن جماعة من التابعين وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في صفات أهل الجنة في الصحيحين وغيرهما من طريق جماعة من الصحابة أن أهل الجنة لا يبصقون ولا يتمخطون ولا يتغوطون. وثبت أيضاً عن النبي صلى الله عليه وسلم في أحاديث كثيرة في الصحيحين وغيرهما من صفات نساء أهل الجنة ما لا يتسع المقام لبسطه، فلينظر في دواوين الإسلام وغيرها. وأخرج ابن جرير وابن إسحاق وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: "وهم فيها خالدون" أي خالدون أبداً، يخبرهم أن الثواب بالخير والشر مقيم على أهله أبداً لا انقطاع له. وأخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير في قوله: "وهم فيها خالدون" يعني لا يموتون. وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "يدخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار، ثم يقوم مؤذن بينهم، يا أهل النار لا موت ويا أهل الجنة لا موت، كل هو خالد فيما هو فيه". وأخرج البخاري من حديث أبي هريرة نحوه. وأخرج الطبراني والحاكم وصححه من حديث معاذ نحوه. وأخرج الطبراني وابن مردويه وأبو نعيم من حديث ابن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لو قيل لأهل النار إنكم ماكثون في النار عدد كل حصاة في الدنيا لفرحوا بها ولو قيل لأهل الجنة إنكم ماكثون عدد كل حصاة لحزنوا، ولكن جعل لهم الأبد".
أنزل الله هذه الآية رداً على الكفار لما أنكروا ما ضربه سبحانه من الأمثال كقوله: "مثلهم كمثل الذي استوقد ناراً" وقوله: "أو كصيب من السماء" فقالوا الله أجل وأعلا من أن يضرب الأمثال. وقال الرازي: إنه تعالى لما بين الدليل كون القرآن معجزاً أورد ها هنا شبهة أوردها الكفار قدحاً في ذلك وأجاب عنها، وتقرير الشبهة أنه جاء في القرآن ذكر النحل والعنكبوت والنمل، وهذه الأشياء لا يليق ذكرها بكلام الفصحاء فاشتمال القرآن عليها يقدح في فصاحته فضلاً عن كونه معجزاً. وأجاب الله عنها بأن صغر هذه الأشياء لا تقدح في الفصاحة إذا كان ذكرها مشتملاً على حكمة بالغة انتهى. ولا يخفاك أن تقرير هذه الشبهة على هذا الوجه وإرجاع الإنكار إلى مجرد الفصاحة لا مستند له ولا دليل عليه، وقد تقدمه إلى شيء من هذا صاحب الكشاف، والظاهر ما ذكرناه أولاً لكون هذه الآية جاءت بعقب المثلين اللذين هما مذكوران قبلهما، ولا يستلزم استنكارهم لضرب الأمثال بالأشياء المحقرة أن يكون ذلك لكونه قادحاً في الفصاحة والإعجاز. والحياء: تغير وانكسار يعتري الإنسان من تخوف ما يعاب به ويذم: كذا في الكشاف، وتبعه الرازي في مفاتيح الغيب. وقال القرطبي: أصل الاستحياء الانقباض عن الشيء والامتناع منه خوفاً من مواقعة القبيح، وهذا محال على الله انتهى. وقد اختلفوا في تأويل ما في هذه الآية من ذكر الحياء فقيل: ساغ ذلك لكونه واقعاً في الكلام المحكي عن الكفار، وقيل: هو من باب المشاكلة كما تقدم، وقيل: هو جار على سبيل التمثيل. قال في الكشاف: مثل تركه تخييب العبد وأنه لا يرد يديه صفراً من عطائه لكرمه بترك من يترك رد المحتاج إليه حياءً منه انتهى. وقد قرأ ابن محيصن وابن كثير في رواية عنه ويستحي بياء واحدة وهي لغة تميم وبكر بن وائل، نقلت فيها حركة الياء الأولى إلى الحاء فسكنت، ثم استثقلت الضمة على الثانية فسكنت، فحذفت إحداهما لالتقاء الساكنين. وضرب المثل: اعتماده وصنعه. وما في قوله: 26- "ما بعوضة" إبهامية أي موجبة لإبهام ما دخلت عليه حتى يصير أعم مما كان عليه وأكثر شيوعاً في أفراده، وهي في موضع نصب على البدل من قوله: "مثلاً" و"بعوضة" نعت لها لإبهامها، قاله الفراء والزجاج وثعلب، وقيل: إنها زائدة، وبعوضة بدل من مثل. ونصب بعوضة في هذين الوجهين ظاهر، وقيل: إنها منصوبة بنزع الخافض، والتقدير: أن يضرب مثلاً ما بين بعوضة فحذف لفظ بين. وقد روي هذا عن الكسائي، وقيل إن يضرب بمعنى يجعل فتكون بعوضة لفظ بين. وقد روي هذا عن الكسائي، وقيل إن يضرب بمعنى يجعل فتكون بعوضة المفعول الثاني. وقرأ الضحاك وإبراهيم بن أبي عبلة ورؤبة بن العجاج بعوضة بالرفع وهي لغة تميم. قال أبو الفتح: وجه ذلك أن ما اسم بمنزلة الذي، وبعوضة رفع على إضمار المبتدأ، ويحتمل أن تكون ما إستفهامية كأنه قال تعالى: "ما بعوضة فما فوقها" حتى لا يضرب المثل به، بل يدان لمثل بما هو أقل من ذلك بكثير، والبعوضة فعولة من بعض: إذا قطع، يقال: بعض وبضع بمعنى، والبعوض: البق، الواحدة بعوضة، سميت بذلك لصغرها قاله الجوهري وغيره. وقوله: "فما فوقها" قال الكسائي وأبو عبيدة وغيرهما. فما فوقها والله أعلم ما دونها: أي أنها فوقها في الصغر كجناحها. قال الكسائي: وهذا كقولك في الكلام أتراه قصيراً فيقول القائل: أو فوق ذلك أي أقصر مما ترى. ويمكن أن يراد فما زاد عليها في الكبر. وقد قال بذلك الجماعة. قوله: " فأما الذين آمنوا " أما حرف فيه معنى الشرط، وقدره سيبويه بمهما يكن من شيء فكذا. وذكر صاحب الكشاف أن فائدته في الكلام أنه يعطيه فضل توكيد وجعل تقدير سيبويه دليلاً على ذلك. والضمير في "أنه" راجع إلى المثل. و"الحق" الثابت، وهو المقابل للباطل والحق واحد الحقوق، والمراد هنا الأول. وقد اختلف النحاة في "ماذا" فقيل: هي بمنزلة اسم واحد بمعنى: أي شيء أراد الله، فتكون في موضع نصب بأراد. قال ابن كيسان: وهو الجيد. وقيل: ما اسم تام في موضع رفع بالابتداء، وذا بمعنى الذي، وهو خبر المبتدأ مع صلته، وجوابه يكون على الأول منصوباً وعلى الثاني مرفوعاً. والإرادة نقيض الكراهة، وقد اتفق المسلمون على أنه يجوز إطلاق هذا اللفظ على الله سبحانه، و"مثلاً" قال ثعلب: منصوب على القطع، والتقدير: أراد مثلاً. وقال ابن كيسان: هو منصوب على التمييز الذي وقع موقع الحال، وهذا أقوى من الأول. وقوله: "يضل به كثيراً ويهدي به كثيراً" هو كالتفسير للجملتين السابقتين المصدرتين بأما، فهو خبر من الله سبحانه. وقيل: هو حكاية لقول الكافرين كأنهم قالوا: ما مراد الله بهذا المثل الذي يفرق به الناس إلى ضلالة وإلى هدى؟ وليس هذا بصحيح، فإن الكافرين لا يقرون بأن في القرآن شيئاً من الهداية، ولا يعترفون على أنفسهم بشيء من الضلالة. قال القرطبي: ولا خلاف أن قوله: " وما يضل به إلا الفاسقين " من كلام الله سبحانه. وقد نقح البحث الرازي في تفسيره مفاتيح الغيب في هذا الموضع تنقيحاً نفسياً، وجوده وطوله وأوضح فروعه وأصوله، فليرجع إليه فإنه مفيد جداً. وأما صاحب الكشاف فقد اعتمد ها هنا على عصاه التي يتوكأ عليها في تفسيره، فجعل إسناد الإضلال إلى الله سبحانه بكونه سبباً، فهو من الإسناد المجازي إلى ملابس للفاعل الحقيقي. وحكى القرطبي عن أهل الحق من المفسرين أن المراد بقوله: "يضل" يخذل. والفسق: الخروج عن الشيء، يقال: فسقت الرطبة: إذا خرجت عن قشرها. والفأرة من جحرها ذكر معنى هذا الفراء. وقد استشهد أبو بكر بن الأنباري في كتاب الزاهر له على معنى الفسق بقول رؤبة بن العجاج: يهوين في نجد وغورا غائرا فواسقا عن قصدها جوائر وقد زعم ابن الأعرابي أنه لم يسمع قط في كلام الجاهلية ولا في شعرهم فاسق، وهذا مردود عليه، فقد حكي ذلك عن العرب وأنه من كلامهم جماعة من أئمة اللغة كابن فارس والجوهري وابن الأنباري وغيرهم. وقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "خمس فواسق" الحديث. وقال في الكشاف: الفسق الخروج عن القصد، ثم ذكر عجز بيت رؤية المذكور، ثم قال: والفاسق في الشريعة: الخارج عن أمر الله بارتكاب الكبيرة انتهى. وقال القرطبي: والفسق في عرف الاستعمال الشرعي: الخروج من طاعة الله عز وجل، فقد يقع على من خرج بكفر وعلى من خرج بعصيان انتهى. وهذا هو أنسب بالمعنى اللغوي، ولا وجه لقصره على بعض الخارجين دون بعض. قال الرازي في تفسيره: واختلف أهل القبلة هل هو مؤمن أو كافر؟ فعند أصحابنا أنه مؤمن، وعند الخوارج أنه كافر، وعند المعتزلة لا مؤمن ولا كافر، واحتج المخالف بقوله تعالى: "بئس الاسم الفسوق بعد الإيمان" وقوله: "إن المنافقين هم الفاسقون" وقوله: "حبب إليكم الإيمان وزينه في قلوبكم وكره إليكم الكفر والفسوق والعصيان" وهذه المسألة طويلة مذكورة في علم الكلام انتهى.