تفسير الطبري تفسير الصفحة 4 من المصحف

 تفسير الطبري - صفحة القرآن رقم 4
005
003
 الآية : 17
القول فـي تأويـل قوله تعالـى:
{مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الّذِي اسْتَوْقَدَ نَاراً فَلَمّآ أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لاّ يُبْصِرُونَ }
قال أبو جعفر: فإن قال لنا قائل: وكيف قـيـل: مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الّذِي اسْتَوْقَدَ نارا وقد علـمت أن الهاء والـميـم من قوله: مَثَلُهُمْ كناية جماعة من الرجال أو الرجال والنساء. «والذي» دلالة علـى واحد من الذكور؟ فكيف جعل الـخبر عن واحد مثلاً لـجماعة؟ وهلاّ قـيـل: مثلهم كمثل الذين استوقدوا نارا وإن جاز عندك أن تـمثل الـجماعة بـالواحد فتـجيز لقائل رأى جماعة من الرجال فأعجبته صورهم وتـمام خـلقهم وأجسامهم أن يقول: كأن هؤلاء, أو كأن أجسام هؤلاء, نـخـلة.
قـيـل: أما فـي الـموضع الذي مثل ربنا جل ثناؤه جماعة من الـمنافقـين بـالواحد الذي جعله لأفعالهم مثلاً فجائز حسن, وفـي نظائره كما قال جل ثناؤه فـي نظير ذلك: تَدُورُ أعْيُنُهُمْ كالّذِي يُغْشَى عَلَـيْهِ مِنَ الـمَوْتِ يعنـي كدوران عين الذي يغشى علـيه من الـموت, وكقوله: ما خَـلْقُكُمْ وَلاَ بَعْثُكُمْ إلاّ كَنَفْسٍ واحِدَةٍ بـمعنى إلا كبعث نفس واحدة.
وأما فـي تـمثـيـل أجسام الـجماعة من الرجال فـي طول وتـمام الـخـلق بـالواحدة من النـخيـل, فغير جائز ولا فـي نظائره لفرق بـينهما.
فأما تـمثـيـل الـجماعة من الـمنافقـين بـالـمستوقد الواحد, فإنـما جاز لأن الـمراد من الـخبر عن مثل الـمنافقـين الـخبر عن مثل استضاءتهم بـما أظهروا بألسنتهم من الإقرار وهم لغيره مستبطنون من اعتقاداتهم الرديئة, وخـلطهم نفـاقهم البـاطن بـالإقرار بـالإيـمان الظاهر. والاستضاءةُ وإن اختلفت أشخاص أهلها معنى واحد لا معان مختلفة. فـالـمثل لها فـي معنى الـمَثَل للشخص الواحد من الأشياء الـمختلفة الأشخاص. وتأويـل ذلك: مثل استضاءة الـمنافقـين بـما أظهروه من الإقرار بـالله وبـمـحمد صلى الله عليه وسلم, وبـما جاء به قولاً وهم به مكذّبون اعتقادا, كمثل استضاءة الـموقد نارا. ثم أسقط ذكر الاستضاءة وأضيف الـمثل إلـيهم, كما قال نابغة بنـي جعدة:
وكَيْفَ تُواصِلُ مَن أصْبَحَتْخِلالَتُهُ كأبـي مَرْحَبِ
يريد كخلالة أبـي مرحب, فأسقط «خلالة», إذ كان فـيـما أظهر من الكلام دلالة لسامعيه علـى ما حذف منه. فكذلك القول فـي قوله: مَثَلُهُمْ كمَثَلِ الّذِي اسْتَوْقَدَ نارا لـما كان معلوما عند سامعيه بـما أظهر من الكلام أن الـمثل إنـما ضرب لاستضاءة القوم بـالإقرار دون أعيان أجسامهم حسن حذف ذكر الاستضاءة وإضافة الـمثل إلـى أهله. والـمقصود بـالـمثل ما ذكرنا, فلـما وصفنا جاز وحسن قوله: مَثَلُهُمْ كمَثَلِ الّذِي اسْتَوْقَدَ نارا ويشبه مثل الـجماعة فـي اللفظ بـالواحد, إذ كان الـمراد بـالـمثل الواحد فـي الـمعنى. وأما إذا أريد تشبـيه الـجماعة من أعيان بنـي آدم أو أعيان ذوي الصور والأجسام بشيء, فـالصواب من الكلام تشبـيه الـجماعة بـالـجماعة والواحد بـالواحد, لأن عين كل واحد منهم غير أعيان الاَخرين. ولذلك من الـمعنى افترق القول فـي تشبـيه الأفعال والأسماء, فجاز تشبـيه أفعال الـجماعة من الناس وغيرهم إذا كانت بـمعنى واحد بفعل الواحد, ثم حذف أسماء الأفعال, وإضافة الـمثل والتشبـيه إلـى الذين لهم الفعل, فـيقال: ما أفعالكم إلا كفعل الكلب, ثم يحذف فـيقال: ما أفعالكم إلا كالكلب أو كالكلاب, وأنت تعنـي: إلا كفعل الكلب وإلا كفعل الكلاب. ولـم يجز أن تقول: ما هم إلا نـخـلة, وأنت تريد تشبـيه أجسامهم بـالنـخـل فـي الطول والتـمام. وأما قوله: اسْتَوْقَدَ نارا فإنه فـي تأويـل أوقد, كما قال الشاعر:
وَدَاعٍ دَعَايا مَنْ يُجِيبُ إلـى النّدَىفَلَـمْ يَسْتَـجِبْهُ عِنْدَ ذَاكَ مُـجِيبُ
يريد: فلـم يجبه. فكان معنى الكلام إذا مثل استضاءة هؤلاء الـمنافقـين فـي إظهارهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم وللـمؤمنـين بألسنتهم من قولهم: آمنا بـالله وبـالـيوم الاَخر وصدقنا بـمـحمد, وبـما جاء به, وهم للكفر مستبطنون فـيـما الله فـاعل بهم, مثل استضاءة موقد نار بناره حتـى أضاءت له النار ما حوله, يعنـي ما حول الـمستوقد.
وقد زعم بعض أهل العربـية من أهل البصرة أن «الذي» فـي قوله: كمَثَلِ الّذِي اسْتَوْقَدَ نارا بـمعنى «الذين» كما قال جل ثناؤه: وَالّذِي جاءَ بـالصّدْقِ وصَدّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ الـمُتّقُونَ. وكما قال الشاعر:
فَإنّ الّذِي حَانَتْ بِفَلْـجٍ دِمَاؤُهُمْهُمْ الْقَوْمُ كُلّ الْقَوْمِ يَا أمّ خَالِدِ
قال أبو جعفر: والقول الأول هو القول لـما وصفنا من العلة, وقد أغفل قائل ذلك فرق ما بـين الذي فـي الاَيتـين وفـي البـيت, لأن «الذي» فـي قوله: وَالّذِي جاءَ بِـالصّدقِ قد جاءت الدلالة علـى أن معناها الـجمع, وهو قوله: أولَئِكَ هُمُ الـمُتّقُونَ وكذلك الذي فـي البـيت, وهو قوله: دماؤهم. ولـيست هذه الدلالة فـي قوله: كَمَثَلِ الّذِي اسْتَوْقَدَ نارا. فذلك فرق ما بـين «الذي» فـي قوله: كمَثَلِ الّذِي اسْتَوْقَدَ نارا وسائر شواهده التـي استشهد بها علـى أن معنى «الذي» فـي قوله: كمَثَلِ الّذِي اسْتَوْقَدَ نارا بـمعنى الـجماعة, وغير جائز لأحد نقل الكلـمة التـي هي الأغلب فـي استعمال العرب علـى معنى إلـى غيره إلا بحجة يجب التسلـيـم لها.
ثم اختلف أهل التأويـل فـي تأويـل ذلك, فروي عن ابن عبـاس فـيه أقوال أحدها ما:
204ـ حدثنا به مـحمد بن حميد, قال: حدثنا سلـمة عن ابن إسحاق, عن مـحمد بن أبـي مـحمد, عن عكرمة أو عن سعيد بن جبـير, عن ابن عبـاس, قال: ضرب الله للـمنافقـين مثلاً فقال: مَثَلُهُمْ كمَثَلِ الّذِي اسْتَوْقَدَ نارا فَلَـمّا أضَاءَتْ ما حَوْلَهُ ذَهَبَ اللّهُ بِنُورِهِمْ وتَرَكَهُمْ فـي ظُلُـماتٍ لا يُبْصِرُونَ أي يبصرون الـحق ويقولون به, حتـى إذا خرجوا به من ظلـمة الكفر أطفئوه بكفرهم ونفـاقهم فـيه, فتركهم فـي ظلـمات الكفر فهم لا يبصرون هدى ولا يستقـيـمون علـى حق. والاَخر ما:
205ـ حدثنا به الـمثنى به إبراهيـم, قال: حدثنا أبو صالـح, قال: حدثنا معاوية بن صالـح, عن علـيّ بن أبـي طلـحة, عن ابن عبـاس: مَثَلُهُمْ كمَثَلِ الّذِي اسْتَوْقَدَ نارا إلـى آخر الآية. هذا مثل ضربه الله للـمنافقـين أنهم كانوا يعتزون بـالإسلام فـيناكحهم الـمسلـمون ويوارثونهم ويقاسمونهم الفـيء, فلـما ماتوا سلبهم الله ذلك العز كما سلب صاحب النار ضوءه وتركهم فـي ظلـمات, يقول فـي عذاب. والثالث ما:
206ـ حدثنـي به موسى بن هارون, قال: حدثنا عمرو, قال: حدثنا أسبـاط, عن السدي فـي خبر ذكره عن أبـي مالك, وعن أبـي صالـح, عن ابن عبـاس, وعن مرة, عن ابن مسعود, وعن ناس من أصحاب النبـي صلى الله عليه وسلم: مَثَلُهُمْ كمَثَلِ الذِي اسْتَوْقَدَ نارا فَلَـمّا أضَاءَتْ ما حَوْلَهُ ذَهَبَ اللّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فـي ظُلُـماتٍ لا يُبْصِرُونَ: زعم أن أناسا دخـلوا فـي الإسلام مَقْدَم النبـي صلى الله عليه وسلم الـمدينة, ثم إنهم نافقوا فكان مثلهم كمثل رجل كان فـي ظلـمة فأوقد نارا فأضاءت له ما حوله من قذى أو أذى, فأبصره حتـى عرف ما يتقـي, فبـينا هو كذلك إذ طفئت ناره فأقبل لا يدري ما يتقـي من أذى, فكذلك الـمنافق كان فـي ظلـمة الشرك فأسلـم فعرف الـحلال من الـحرام, والـخير من الشرّ. فبـينا هو كذلك إذ كفر, فصار لا يعرف الـحلال من الـحرام, ولا الـخير من الشر. وأما النور فـالإيـمان بـما جاء به مـحمد صلى الله عليه وسلم, وكانت الظلـمة نفـاقهم. والاَخر ما:
207ـ حدثنـي به مـحمد بن سعيد, قال: حدثنـي أبـي سعيد بن مـحمد, قال: حدثنـي عمي عن أبـيه عن جده عن ابن عبـاس قوله: مَثَلَهُمُ كَمَثَلِ الّذِي اسْتَوْقَدَ نَارا إلـى: فَهُمُ لاَ يَرْجِعُونَ ضربه الله مثلاً للـمنافق, وقوله: ذَهَبَ اللّهُ بِنُورِهِمْ قال: أما النور فهو إيـمانهم الذي يتكلـمون به. وأما الظلـمة: فهي ضلالتهم وكفرهم, يتكلـمون به وهم قوم كانوا علـى هدى ثم نزع منهم فعتوا بعد ذلك. وقال آخرون بـما.
208ـ حدثنـي به بشر بن معاذ, قال: حدثنا يزيد بن زريع, عن سعيد, عن قتادة قوله: مَثَلَهُمْ كَمَثَلِ الّذِي اسْتَوْقَدَ نارا فَلّـمَا أضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللّهُ بِنُورِهِمْ وتَرَكَهُمْ فِـي ظُلُـمَاتٍ لا يُبْصِرُونَ وإن الـمنافق تكلـم بلا إلَه إلا الله فأضاءت له فـي الدنـيا فناكح بها الـمسلـمين وغازى بها الـمسلـمين ووارث بها الـمسلـمين وحقن بها دمه وماله. فلـما كان عند الـموت سُلبها الـمنافق لأنه لـم يكن لها أصل فـي قلبه ولا حقـيقة فـي علـمه.
وحدثنا الـحسن بن يحيى, قال: أخبرنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا معمر, عن قتادة: مَثَلَهُمْ كَمَثَلِ الّذِي اسْتَوْقَدَ نارا فَلَـمّا أضَاءَتْ ما حَوْلَهُ هي لا إلَه إلا الله أضاءت لهم فأكلوا بها وشربوا وأمنوا فـي الدنـيا ونكحوا النساء وحقنوا بها دماءهم, حتـى إذا ماتوا ذهب الله بنورهم وتركهم فـي ظلـمات لا يبصرون.
209ـ وحدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: حدثنـي أبو نـميـلة, عن عبـيد بن سلـيـمان, عن الضحاك بن مزاحم قوله: كَمَثَلِ الّذِي اسْتَوْقَدَ نارا فَلَـمّا أضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ قال: أما النور فهو إيـمانهم الذي يتكلـمون به وأما الظلـمات, فهي ضلالتهم وكفرهم.
وقال آخرون بـما:
210ـ حدثنـي به مـحمد بن عمرو البـاهلـي, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى بن ميـمون, قال: حدثنا ابن أبـي نـجيح عن مـجاهد فـي قول الله: مَثَلَهُمُ كَمَثَلِ الّذِي اسْتَوْقَدَ نارا فَلَـمّا أَضَاءَتْ ما حَوْلَهُ قال: أما إضاءة النار: فإقبـالهم إلـى الـمؤمنـين والهدى وذهاب نورهم: إقبـالهم إلـى الكافرين والضلالة.
وحدثنـي الـمثنى بن إبراهيـم, قال: حدثنا أبو حذيفة, عن شبل, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد: مَثَلَهُمْ كَمَثَلِ الّذِي اسْتَوْقَدَ نارا فَلَـمّا أضَاءَتْ ما حَوْلَهُ: أما إضاءة النار: فإقبـالهم إلـى الـمؤمنـين والهدى وذهاب نورهم: إقبـالهم إلـى الكافرين والضلالة.
حدثنـي القاسم, قال: حدثنـي الـحسين, قال: حدثنـي حجاج, عن ابن جريج, عن مـجاهد مثله.
211ـ وحدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا إسحاق بن الـحجاج, عن عبد الله بن أبـي جعفر, عن أبـيه, عن الربـيع بن أنس, قال: ضرب مثل أهل النفـاق فقال: مَثَلَهُمْ كَمَثَلِ الّذِي اسْتَوْقَدَ نارا قال: إنـما ضوء النار ونورها ما أوقدتها, فإذا خمدت ذهب نورها, كذلك الـمنافق كلـما تكلـم بكلـمة الإخلاص أضاء له, فإذا شك وقع فـي الظلـمة.
212ـ وحدثنـي يونس بن عبد الأعلـى, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: حدثنـي عبد الرحمن بن زيد فـي قوله: كمَثَلِ الّذِي اسْتَوْقَدَ نارا إلـى آخر الآية. قال: هذه صفة الـمنافقـين, كانوا قد آمنوا حتـى أضاء الإيـمان فـي قلوبهم كما أضاءت النار لهؤلاء الذين استوقدوا ثم كفروا, فذهب الله بنورهم, فـانتزعه كما ذهب بضوء هذه النار, فتركهم فـي ظلـمات لا يبصرون.
وأولـى التأويلات بـالآية ما قاله قتادة والضحاك, وما رواه علـيّ بن أبـي طلـحة عن ابن عبـاس. وذلك أن الله جل ثناؤه إنـما ضرب هذا الـمثل للـمنافقـين الذين وصف صفتهم وقصّ قصصهم من لدن ابتدأ بذكرهم بقوله: مِنَ النّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَا بـاللّهِ وبَـالـيَوْمِ الاَخِرِ وَمَا هُمْ بِـمُؤْمِنِـينَ لا الـمعلنـين بـالكفر الـمـجاهرين بـالشرك.
ولو كان الـمثل لـمن آمن إيـمانا صحيحا ثم أعلن بـالكفر إعلانا صحيحا علـى ما ظنّ الـمتأول قول الله جل ثناؤه: كمَثَلِ الّذِي اسْتَوْقَدَ نارا فَلَـمّا أضَاءَتْ ما حَوْلَهُ ذَهَبَ اللّهْ بنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فـي ظُلُـمَاتِ لا يُبْصِرُونَ أن ضوء النار مثل لإيـمانهم الذي كان منهم عنده علـى صحة, وأن ذهاب نورهم مثل لارتدادهم وإعلانهم الكفر علـى صحة لـم يكن هنالك من القوم خداع ولا استهزاء عند أنفسهم ولا نفـاق, وأنى يكون خداع ونفـاق مـمن لـم يبدلك قولاً ولا فعلاً إلا ما أوجب لك العلـم بحاله التـي هو لك علـيها, وبعزيـمة نفسه التـي هو مقـيـم علـيها؟ إن هذا بغير شك من النفـاق بعيد ومن الـخداع بريء, فإن كان القوم لـم تكن لهم إلا حالتان: حال إيـمان ظاهر, وحال كفر ظاهر, فقد سقط عن القوم اسم النفـاق لأنهم فـي حال إيـمانهم الصحيح كانوا مؤمنـين, وفـي حال كفرهم الصحيح كانوا كافرين, ولا حالة هناك ثالثة كانوا بها منافقـين. وفـي وصف الله جل ثناؤه إياهم بصفة النفـاق ما ينبىء عن أن القول غير القول الذي زعمه من زعم أن القوم كانوا مؤمنـين ثم ارتدوا إلـى الكفر فأقاموا علـيه, إلا أن يكون قائل ذلك أراد أنهم انتقلوا من إيـمانهم الذي كانوا علـيه إلـى الكفر الذي هو نفـاق, وذلك قول إن قاله لـم تدرك صحته إلا بخير مستفـيض أو ببعض الـمعانـي الـموجبة صحته. فأما فـي ظاهر الكتاب, فلا دلالة علـى صحته لاحتـماله من التأويـل ما هو أولـى به منه. فإذا كان الأمر علـى ما وصفنا فـي ذلك, فأولـى تأويلات الآية بـالآية مثل استضاءة الـمنافقـين بـما أظهروا بألسنتهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم من الإقرار به, وقولهم له وللـمؤمنـين: آمَنا بـاللّهِ وكُتُبِهِ ورُسُلِهِ وَالـيَوْمِ الاَخِرِ, حتـى حُكم لهم بذلك فـي عاجل الدنـيا بحكم الـمسلـمين فـي حقن الدماء والأموال والأمن علـى الذرية من السبـاء, وفـي الـمناكحة والـموارثة كمثل استضاءة الـموقد النار بـالنار, حتـى إذا ارتفق بضيائها وأبصر ما حوله مستضيئا بنوره من الظلـمة, خمدت النار وانطفأت, فذهب نوره, وعاد الـمستضيء به فـي ظلـمة وحيرة. وذلك أن الـمنافق لـم يزل مستضيئا بضوء القول الذي دافع عنه فـي حياته القتل والسبـاء مع استبطانه ما كان مستوجبـا به القتل وسلب الـمال لو أظهره بلسانه, تُـخيّـل إلـيه بذلك نفسه أنه بـالله ورسوله والـمؤمنـين مستهزىء مخادع, حتـى سوّلت له نفسه, إذ ورد علـى ربه فـي الاَخرة, أنه ناج منه بـمثل الذي نـجا به فـي الدنـيا من الكذب والنفـاق. أوَ ما تسمع الله جل ثناؤه يقول إذ نعتهم ثم أخبرهم عند ورودهم علـيه: {يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللّهُ جَمِيعا فَـيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنّهُمْ علـى شَيْءٍ ألاَ إِنّهُمْ هُمُ الكَاذِبُونَ} ظنا من القوم أن نـجاتهم من عذاب الله فـي الاَخرة فـي مثل الذي كان به نـجاتهم من القتل والسبـاء وسلب الـمال فـي الدنـيا من الكذب والإفك, وأن خداعهم نافعهم هنالك نفعه إياهم فـي الدنـيا. حتـى عاينوا من أمر الله ما أيقنوا به أنهم كانوا من ظنونهم فـي غرور وضلال, واستهزاء بأنفسهم وخداع, إذ أطفأ الله نورهم يوم القـيامة فـاستنظروا الـمؤمنـين لـيقتبسوا من نورهم, فقـيـل لهم: ارجعوا وراءكم فـالتـمسوا نورا واصلوا سعيرا. فذلك حين ذهب الله بنورهم وتركهم فـي ظلـمات لا يبصرون, كما انطفأت نار الـمستوقد النار بعد إضاءتها له, فبقـي فـي ظلـمته حيران تائها يقول الله جل ثناؤه: يَوْمَ يَقُولُ الـمُنَافِقُونَ والـمُنَافِقَاتُ لِلّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِـيـلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَـالْتَـمِسُوا نُورا فَضُرِبَ بَـيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَـابٌ بـاطِنُهُ فِـيهِ الرّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ العَذَابُ يُنادونَهُمْ ألَـم نَكُنْ مَعَكُمْ قَالُوا بَلَـى وَلَكِنّكُمْ فَتَنْتُـمْ أنْفُسَكُمْ وَتَرَبّصْتُـمْ وَارْتَبْتُـمْ وَغَرّتْكُمُ الأمانِـيّ حتـى جاءَ أمْرُ اللّهِ وَغَرَكُمْ بـاللّهِ الغَرُورُ فـالـيَوْمَ لا يُؤْخَذُ منْكُمْ فِدْيَةٌ وَلا مِنَ الّذِينَ كَفَرُوا مأْوَاكُمُ النّارُ هِيَ مَوْلاَكُمْ وَبِئْسَ الـمَصِير.
فإن قال لنا قائل: إنك ذكرت أن معنى قول الله تعالـى ذكره: كمَثَلِ الذِي اسْتَوْقَدَ نارا فَلَـما أضَاءَتْ ما حَوْلَهُ: خمدت وانطفأت, ولـيس ذلك بـموجود فـي القرآن, فما دلالتك علـى أن ذلك معناه؟ قـيـل: قد قلنا إن من شأن العرب الإيجاز والاختصار إذا كان فـيـما نطقت به الدلالة الكافـية علـى ما حذفت وتركت, كما قال أبو ذؤيب الهذلـي:
عَصَيْتُ إلَـيْهَا القَلْبَ إنـي لأمْرِهاسَمِيعٌ فَمَا أدْرِي أَرُشْدٌ طِلاُبِها
يعنـي بذلك: فما أدري أرشد طلابها أم غيّ, فحذف ذكر «أم غيّ», إذ كان فـيـما نطق به الدلالة علـيها. وكما قال ذو الرمة فـي نعت حمير:
فَلَـمّا لَبِسْنَ اللّـيْـلَ أوْ حِينَ نَصّبَتْلَهُ مِنْ خَذَا آذَانها وَهْوَ جانِـحُ
يعنـي: أو حين أقبل اللـيـل. فـي نظائر لذلك كثـيرة كرهنا إطالة الكتاب بذكرها. فكذلك قوله: كمَثَلِ الّذِي اسْتَوْقَدَ نَارا فَلَـمّا أضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ لـما كان فـيه وفـيـما بعده من قوله: ذَهَبَ اللّهُ بِنُورِهِمْ وتَرَكَهُمْ فِـي ظُلُـمَاتٍ لا يُبْصِرُونَ دلالة علـى الـمتروك كافـية من ذكره اختصر الكلام طلب الإيجاز. وكذلك حذف ما حذف واختصار ما اختصر من الـخبر عن مثل الـمنافقـين بعده, نظير ما اختصر من الـخبر عن مثل الـمستوقد النار لأن معنى الكلام: فكذلك الـمنافقون ذهب الله بنورهم وتركهم فـي ظلـمات لا يبصرون بعد الضياء الذي كانوا فـيه فـي الدنـيا بـما كانوا يظهرون بألسنتهم من الإقرار بـالإسلام وهم لغيره مستبطنون, كما ذهب ضوء نار هذا الـمستوقد بـانطفـاء ناره وخمودها فبقـي فـي ظلـمة لا يبصر, والهاء والـميـم فـي قوله: ذَهَبَ الله بنُورِهمْ عائدة علـى الهاء والـميـم فـي قوله: مَثَلُهُمْ.
الآية : 18
القول فـي تأويـل قوله تعالـى:
{صُمّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ }
قال أبو جعفر: وإذ كان تأويـل قول الله جل ثناؤه: ذَهَبَ الله بِنُورِهِمْ وتَرَكَهُمْ فـي ظُلُـماتٍ لا يُبْصِرُونَ هو ما وصفنا من أن ذلك خبر من الله جل ثناؤه عما هو فـاعل بـالـمنافقـين فـي الاَخرة, عند هتك أستارهم, وإظهاره فضائح أسرارهم, وسلبه ضياء أنوارهم من تركهم فـي ظلـم أهوال يوم القـيامة يترددون, وفـي حنادسها لا يبصرون فبـينٌ أن قوله جل ثناؤه: صُمّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ من الـمؤخر الذي معناه التقديـم, وأن معنى الكلام: أولَئِكَ الّذِينَ اشْتَرُوا الضّلاَلَةَ بـالهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِـجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ, صُمّ بُكْمٌ عُمْيٌ فهم لاَ يَرْجِعُونَ مَثَلُهُمْ كمَثَلِ الّذِي اسْتَوْقَدَ نَارا فَلَـمّا أضَاءَتْ ما حَوْلَهُ ذَهَبَ اللّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمُ فِـي ظُلُـماتٍ لا يَبْصِرُونَ, أوْ كمثل صيب من السمّاءِ. وإذ كان ذلك معنى الكلام, فمعلوم أن قوله: صُمّ بُكْمٌ عُمْيٌ يأتـيه الرفع من وجهين, والنصب من وجهين. فأما أحد وجهي الرفع, فعلـى الاستئناف لـما فـيه من الذم, وقد تفعل العرب ذلك فـي الـمدح والذم, فتنصب وترفع وإن كان خبرا عن معرفة, كما قال الشاعر:
لا يَبْعَدَنْ قَوْمِي الّذِينَ هُمُسُمّ العُداةِ وآفَةُ الـجُزْرِ
النّازِلِـينَ بِكُلّ مُعْتَرَكٍوَالطّيّبِـينَ مَعَاقِدَ أُلازْرِ
فـيروي: «النازلون والنازلـين» وكذلك «الطيبون والطيبـين», علـى ما وصفت من الـمدح. والوجه الاَخر علـى نـية التكرير من أولئك, فـيكون الـمعنى حينئذٍ: أولَئِكَ الّذِينَ اشْتَروا الضّلاَلَةَ بـالهدَى فَمَا رَبِحَتْ تِـجارَتُهُمْ وَما كَانُوا مُهْتَدِينَ أولئك صُمّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ.
وأما أحد وجهي النصب, فأن يكون قطعا مـما فـي «مهتدين», من ذكر «أولئك», لأن الذي فـيه من ذكرهم معرفة, والصمّ نكرة. والاَخر أن يكون قطعا من «الذين», لأن «الذين» معرفة والصم نكرة. وقد يجوز النصب فـيه أيضا علـى وجه الذم فـيكون ذلك وجها من النصب ثالثا. فأما علـى تأويـل ما روينا عن ابن عبـاس من غير وجه رواية علـيّ بن أبـي طلـحة عنه, فإنه لا يجوز فـيه الرفع إلا من وجه واحد وهو الاستئناف.
وأما النصب فقد يجوز فـيه من وجهين: أحدهما الذمّ, والاَخر القطع من الهاء والـميـم اللتـين فـي «تركهم», أو من ذكرهم فـي «لا يبصرون». وقد بـينا القول الذي هو أولـى بـالصواب فـي تأويـل ذلك. والقراءةُ التـي هي قراءةُ الرفعُ دون النصب, لأنه لـيس لأحد خلاف رسوم مصاحب الـمسلـمين, وإذا قرىء نصبـا كانت قراءة مخالفة رسم مصاحفهم.
قال أبو جعفر: وهذا خبر من الله جل ثناؤه عن الـمنافقـين, أنهم بـاشترائهم الضلالة بـالهدى, لـم يكونوا للهدى والـحق مهتدين, بل هم صمّ عنهما فلا يسمعونهما لغلبة خذلان الله علـيهم, بُكْمٌ عن القـيـل بهما, فلا ينطقون بهما والبكم: الـخُرْس, وهو جمع أبكم عميٌ عن أن يبصروهما فـيعقلوهما لأن الله قد طبع علـى قلوبهم بنفـاقهم فلا يهتدون. وبـمثل ما قلنا فـي ذلك قال علـماء أهل التأويـل.
213ـ حدثنا عبد بن حميد, قال: حدثنا سلـمة, عن مـحمد بن إسحاق, عن مـحمد بن أبـي مـحمد مولـى زيد بن ثابت, عن عكرمة, أو عن سعيد بن جبـير, عن ابن عبـاس: صمّ بُكْمٌ عُمْيٌ عن الـخير.
214ـ حدثنـي الـمثنى بن إبراهيـم, قال: حدثنا عبد الله بن صالـح, قال: حدثنـي معاوية بن صالـح عن علـيّ بن أبـي طلـحة, عن ابن عبـاس: صُمّ بُكْمٌ عُمْيٌ يقول: لا يسمعون الهدى, ولا يبصرونه, ولا يعقلونه.
215ـ وحدثنـي موسى بن هارون, قال: حدثنا عمرو بن حماد, قال: حدثنا أسبـاط عن السدي فـي خبر ذكره عن أبـي مالك, وعن أبـي صالـح, عن ابن عبـاس, وعن مرة عن ابن مسعود, وعن ناس من أصحاب النبـي صلى الله عليه وسلم: بُكْمٌ: هم الـخرس.
216ـ حدثنا بشر بن معاذ, قال: حدثنا يزيد بن زريع, عن سعيد, عن قتادة قوله: صمّ بُكْمٌ عُمْيٌ: صم عن الـحق فلا يسمعونه, عمي عن الـحق فلا يبصرونه, بكم عن الـحق فلا ينطقون به.
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: فَهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ.
قال أبو جعفر: وقوله: فَهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ إخبـار من الله جل ثناؤه عن هؤلاء الـمنافقـين الذين نعتهم الله بـاشترائهم الضلالة بـالهدى, وصمـمهم عن سماع الـخير والـحق, وبكمهم عن القـيـل بهما, وعماهم عن إبصارهما أنهم لا يرجعون إلـى الإقلاع عن ضلالتهم, ولا يتوبون إلـى الإنابة من نفـاقهم, فآيس الـمؤمنـين من أن يبصر هؤلاء رشدا, ويقولوا حقا, أو يسمعوا داعيا إلـى الهدى, أو أن يذكروا فـيتوبوا من ضلالتهم, كما آيس من توبة قادة كفـار أهل الكتاب والـمشركين وأحبـارهم الذين وصفهم بأنه قد ختـم علـى قلوبهم وعلـى سمعهم وغَشّى علـى أبصارهم. وبـمثل الذي قلنا فـي تأويـل ذلك قال أهل التأويـل.
217ـ حدثنا بشر بن معاذ, قال: حدثنا يزيد بن زريع, عن سعيد, عن قتادة: فَهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ أي لا يتوبون ولا يذكرون.
218ـ وحدثنـي موسى بن هارون, قال: حدثنا عمرو بن حماد, قال: حدثنا أسبـاط, عن السدي فـي خبر ذكره, عن أبـي مالك, وعن أبـي صالـح, عن ابن عبـاس, وعن مرة, عن ابن مسعود, وعن ناس من أصحاب النبـي صلى الله عليه وسلم: فَهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ إلـى الإسلام.
وقد رُوي عن ابن عبـاس قول يخالف معناه معنى هذا الـخبر وهو ما:
219ـ حدثنا به ابن حميد, قال: حدثنا سلـمة, عن مـحمد بن إسحاق, عن مـحمد بن أبـي مـحمد مولـى زيد بن ثابت, عن عكرمة, أو عن سعيد بن جبـير, عن ابن عبـاس: فَهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ: أي فلا يرجعون إلـى الهدى ولا إلـى خير, فلا يصيبون نـجاة ما كانوا علـى ما هم علـيه.
وهذا تأويـل ظاهر التلاوة بخلافه, وذلك أن الله جل ثناؤه أخبر عن القوم أنهم لا يرجعون عن اشترائهم الضلالة بـالهدى إلـى ابتغاء الهدى وإبصار الـحق من غير حصر منه جل ذكره ذلك من حالهم إلـى وقت دون وقت وحال دون حال. وهذا الـخبر الذي ذكرناه عن ابن عبـاس ينبىء عن أن ذلك من صفتهم مـحصور علـى وقت وهو ما كانوا علـى أمرهم مقـيـمين, وأن لهم السبـيـل إلـى الرجوع عنه. وذلك من التأويـل دعوى بـاطلة لا دلالة علـيها من ظاهر ولا من خبر تقوم بـمثله الـحجة فـيسلـم لها.
الآية : 19
القول فـي تأويـل قوله تعالـى:
{أَوْ كَصَيّبٍ مّنَ السّمَآءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصْابِعَهُمْ فِيَ آذَانِهِم مّنَ الصّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ واللّهُ مُحِيطٌ بِالْكافِرِينَ }
قال أبو جعفر: والصيّب الفـيعل, من قولك: صاب الـمطر يصوب صَوْبـا: إذا انـحدر ونزل, كما قال الشاعر:
فَلَسْتَ لانْسِيَ وَلَكِنْ لـمَءَلاكٍتَنَزّلَ مِنْ جَوّ السمّاءِ يَصُوبُ
وكما قال علقمة بن عبدة:
كأنّهُمُ صَابَتْ عَلَـيْهمْ سَحَابَةٌصَوَاعِقُها لِطَيْرِهِنّ دَبِـيبُ
فَلا تَعْدِلـي بَـيْنِـي وَبَـيْنَ مُغَمّرِسُقِـيتِ رَوَايا الـمُزْنِ حِينَ تَصُوبُ
يعنـي: حين تنـحدر. وهو فـي الأصل: صيوب, ولكن الواو لـما سبقتها ياء ساكنة صيرتا جميعا ياء مشددة, كما قـيـل: سيد من ساد يسود, وجيد من جاد يجود. وكذلك تفعل العرب بـالواو إذا كانت متـحركة وقبلها ياء ساكنة تصيرهما جميعا ياء مشددة. وبـما قلنا من القول فـي ذلك قال أهل التأويـل.
220ـ حدثنـي مـحمد بن إسماعيـل الأحمسي, قال: حدثنا مـحمد بن عبـيد, قال: حدثنا هارون بن عنترة, عن أبـيه, عن ابن عبـاس فـي قوله: أو كَصَيّبٍ مِنَ السّمَاءِ قال: القطر.
221ـ وحدثنـي عبـاس بن مـحمد, قال: حدثنا حجاج, قال: قال ابن جريج, قال لـي عطاء: الصيب: الـمطر.
222ـ وحدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا أبو صالـح, قال: حدثنـي معاوية بن صالـح, عن علـيّ عن ابن عبـاس, قال: الصيب: الـمطر.
223ـ وحدثنـي موسى, قال: حدثنا عمرو, قال: حدثنا أسبـاط, عن السدي فـي خبر ذكره عن أبـي مالك وعن أبـي صالـح, عن ابن عبـاس, وعن مرة, عن ابن مسعود, وعن ناس من أصحاب النبـي صلى الله عليه وسلم: الصيب: الـمطر.
وحدثنـي مـحمد بن سعد, قال: حدثنـي أبـي سعد, قال: حدثنـي عمي الـحسين, عن أبـيه, عن جده, عن ابن عبـاس مثله.
224ـ وحدثنا بشر بن معاذ, قال: حدثنا يزيد, عن سعيد, عن قتادة: أو كصيب قال: الـمطر.
وحدثنا الـحسن بن يحيى, قال: أخبرنا عبد الرزاق, قال: أنبأنا معمر, عن قتادة مثله.
225ـ وحدثنـي مـحمد بن عمرو البـاهلـي, وعمرو بن علـي, قالا: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى بن ميـمون, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد: الصيب: الـمطر.
وحدثنـي الـمثنى قال: حدثنا أبو حذيفة, قال: حدثنا شبل, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد: الصيب: الـمطر.
226ـ حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا إسحاق عن ابن أبـي جعفر, عن أبـيه, عن الربـيع بن أنس: الصيب: الـمطر.
وحدثت عن الـمنـجاب, قال: حدثنا بشر بن عمارة, عن أبـي روق, عن الضحاك, عن ابن عبـاس قال: الصيب: الـمطر.
227ـ وحدثنـي يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال عبد الرحمن بن زيد: أوْ كَصَيّبٍ مِنَ السمّاءِ قال: أو كغيث من السماء.
228ـ وحدثنا سوار بن عبد الله العنبري, قال: قال سفـيان: الصيب: الذي فـيه الـمطر.
حدثنا عمرو بن علـي, قال: حدثنا معاوية, قال: حدثنا ابن جريج, عن عطاء فـي قوله: أو كصيب من السماء قال: الـمطر.
قال أبو جعفر: وتأويـل ذلك: مثل استضاءة الـمنافقـين بضوء إقرارهم بـالإسلام مع استسرارهم الكفر, مثل إضاءة موقد النار بضوء ناره علـى ما وصف جل ثناؤه من صفته, أو كمثل مطر مظلـم وَدْقُه تـحدّر من السماء تـحمله مزنة ظلـماء فـي لـيـلة مظلـمة, وذلك هو الظلـمات التـي أخبر الله جل ثناؤه أنها فـيه.
فإن قال لنا قائل: أخبرنا عن هذين الـمثلـين, أهما مثلان للـمنافقـين أو أحدهما؟ فإن يكونا مثلـين للـمنافقـين فكيف قـيـل: أوْ كَصَيّبٍ, و«أو» تأتـي بـمعنى الشك فـي الكلام, ولـم يقل: وكصيب, بـالواو التـي تلـحق الـمثل الثانـي بـالـمثل الأول؟ أو يكون مثل القوم أحدهما, فما وجه ذكر الاَخر ب«أو», وقد علـمت أن «أو» إذا كانت فـي الكلام فإنـما تدخـل فـيه علـى وجه الشك من الـمخبر فـيـما أخبر عنه, كقول القائل: لقـينـي أخوك أو أبوك, وإنـما لقـيه أحدهما, ولكنه جهل عين الذي لقـيه منهما, مع علـمه أن أحدهما قد لقـيه وغير جائز فـي الله جل ثناؤه أن يضاف إلـيه الشك فـي شيء أو عزوب علـم شيء عنه فـيـما أخبر أو ترك الـخبر عنه. قـيـل له: إن الأمر فـي ذلك بخلاف الذي ذهبت إلـيه, و«أو» وإن كانت فـي بعض الكلام تأتـي بـمعنى الشك, فإنها قد تأتـي دالة علـى مثل ما تدلّ علـيه الواو إما بسابق من الكلام قبلها, وإما بـما يأتـي بعدها كقول توبة بن الـحُمَيّر:
وَقَدْ زَعَمَتْ لَـيْـلَـى بأنَى فـاجِرٌلِنَفْسِي تُقاها أوْ عَلَـيْهَا فُجُورُها
ومعلوم أن ذلك من توبة علـى غير وجه الشك فـيـما قال. ولكن لـما كانت «أو» فـي هذا الـموضع دالة علـى مثل الذي كانت تدل علـيه الواو لو كانت مكانها, وَضَعَها موضعها. وكذلك قول جرير:
جاءَ الـخِلاَفَةَ أوْ كَانَتْ لَهُ قَدَراكما أتـى رَبّهُ مُوسَى علـى قَدَرِ
قال آخر
فَلَوْ كانَ البُكاءُ يَرُدّ شَيْئابَكَيْتُ علـى جُبَـيرٍ أوْ عَناقِ
عَلـى الـمَرأيْنِ إذْ مَضَيا جَمِيعالِشأْنِهِما بِحُزْنٍ وَاشْتِـياقِ
أوْ كَصَيّبٍ منَ السمّاءِ لـما كان معلوما أن «أو» دالة فـي ذلك علـى مثل الذي كانت تدل علـيه الواو, ولو كانت مكانها كان سواء نطق فـيه ب«أو» أو بـالواو. وكذلك وجه حذف الـمثل من قوله: أوْ كَصَيّبٍ لـما كان قوله: كمَثَلِ الّذِي اسْتَوْقَدَ نارا دالاّ علـى أن معناه: كمثل صيب, حذف الـمثل واكتفـى بدلالة ما مضى من الكلام فـي قوله: كمَثَلِ الّذِي اسْتَوْقَدَ نارا علـى أن معناه: أو كمثل صيب, من إعادة ذكر الـمثل طلب الإيجاز والاختصار.
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: { فِـيهِ ظُلُـماتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أصَابِعَهُمْ فِـي آذَانِهِمْ مِنَ الصّوَاعِقِ حَذَرَ الـمَوْتِ وَاللّهُ مُـحِيطٌ بـالكافِرينَ يَكادُ البَرْقُ يَخْطَفُ أبْصَارَهُمْ كلّـما أضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِـيهِ وَإِذَا أظْلَـمَ عَلَـيْهِمْ قَامُو}.
قال أبو جعفر: فأما الظلـمات فجمع, واحدها ظلـمة وأما الرعد فإن أهل العلـم اختلفوا فـيه فقال بعضهم: هو ملك يزجر السحاب. ذكر من قال ذلك:
229ـ حدثنا مـحمد بن الـمثنى, قال: حدثنا مـحمد بن جعفر, قال: حدثنا شعبة عن الـحكم, عن مـجاهد, قال: الرعد ملك يزجر السحاب بصوته.
وحدثنا مـحمد بن الـمثنى, قال: حدثنا ابن أبـي عديّ, عن شعبة عن الـحكم عن مـجاهد مثله.
وحدثنـي يحيى بن طلـحة الـيربوعي, قال: حدثنا فضيـل بن عياض, عن لـيث, عن مـجاهد مثله.
230ـ وحدثنـي يعقوب بن إبراهيـم, قال: حدثنا هشيـم قال: أنبأنا إسماعيـل بن سالـم عن أبـي صالـح, قال: الرعد ملك من الـملائكة يسبح.
231ـ وحدثنـي نصر بن عبد الرحمن الأودي, قال: حدثنا مـحمد بن يعلـى, عن أبـي الـخطاب البصري, عن شهر بن حوشب قال: الرعد: ملك موكل بـالسحاب, يسوقه كما يسوق الـحادي الإبل, يسبح كلـما خالفت سحابة سحابة صاح بها, فإذا اشتد غضبه طارت النار من فـيه, فهي الصواعق التـي رأيتـم.
232ـ وحدثت عن الـمنـجاب بن الـحارث, قال: حدثنا بشر بن عمارة, عن أبـي روق, عن الضحاك, عن ابن عبـاس, قال: الرعد: ملك من الـملائكة اسمه الرعد, وهو الذي تسمعون صوته.
233ـ حدثنا أحمد بن إسحاق الأهوازي, قال: حدثنا أبو أحمد, قال: حدثنا عبد الـملك بن حسين عن السدي, عن أبـي مالك, عن ابن عبـاس, قال: الرعد: ملك يزجر السحاب بـالتسبـيح والتكبـير.
234ـ وحدثنا الـحسن بن مـحمد, قال: حدثنا علـيّ بن عاصم, عن ابن جريج, عن مـجاهد, عن ابن عبـاس, قال: الرعد: اسم ملك, وصوته هذا تسبـيحه, فإذا اشتدّ زجره السحاب اضطرب السحاب واحتك فتـخرج الصواعق من بـينه.
235ـ حدثنا الـحسن, قال: حدثنا عفـان, قال: حدثنا أبو عوانة, عن موسى البزار, عن شهر بن حوشب عن ابن عبـاس, قال: الرعد: ملك يسوق السحاب بـالتسبـيح, كما يسوق الـحادي الإبل بحدائه.
حدثنا الـحسن بن مـحمد, قال: حدثنا يحيى بن عبـاد وشبـابة قالا: حدثنا شعبة, عن الـحكم, عن مـجاهد, قال: الرعد: ملك يزجر السحاب.
236ـ حدثنا أحمد بن إسحاق, قال: حدثنا أبو أحمد الزبـيري, قال: حدثنا عتاب بن زياد, عن عكرمة, قال: الرعد: ملك فـي السحاب يجمع السحاب كما يجمع الراعي الإبل.
237ـ وحدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, قال: الرعد: خَـلْقٌ من خَـلْقِ الله جل وعز سامع مطيع لله جل وعز.
238ـ حدثنا القاسم بن الـحسن, قال: حدثنا الـحسين بن داود, قال: حدثنـي حجاج, عن ابن جريج, عن عكرمة, قال: إن الرعد ملك يؤمر بـازجاء السحاب فـيؤلف بـينه, فذلك الصوت تسبـيحه.
239ـ وحدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: حدثنـي حجاح, عن ابن جريج, عن مـجاهد, قال: الرعد: ملك.
240ـ وحدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا الـحجاج بن الـمنهال, قال: حدثنا حماد بن سلـمة, عن الـمغيرة بن سالـم, عن أبـيه أو غيره, أن علـي بن أبـي طالب قال: الرعد: ملك.
241ـ حدثنا الـمثنى, قال: حدثنا حجاج, قال: حدثنا حماد, قال: أخبرنا موسى بن سالـم أبو جهضم مولـى ابن عبـاس, قال: كتب ابن عبـاس إلـى أبـي الـجَلَد يسأله عن الرعد؟ فقال: الرعد: ملك.
242ـ حدثنا الـمثنى, قال: حدثنا مسلـم بن إبراهيـم, قال: حدثنا عمر بن الولـيد السنـي, عن عكرمة, قال: الرعد: ملك يسوق السحاب كما يسوق الراعي الإبل.
243ـ حدثنـي سعد بن عبد الله بن عبد الـحكم, قال: حدثنا حفص بن عمر, قال: حدثنا الـحكم بن أبـان, عن عكرمة, قال: كان ابن عبـاس إذا سمع الرعد, قال: سبحان الذي سبحت له, قال: وكان يقول: إن الرعد: ملك ينعق بـالغيث كما ينعق الراعي بغنـمه.
وقال آخرون: إن الرعد: ريح تـختنق تـحت السحاب, فتصاعد فـيكون منه ذلك الصوت ذكر من قال ذلك:
244ـ حدثنا أحمد بن إسحاق, قال: حدثنا أبو أحمد الزبـيري, قال: حدثنا بشر بن إسماعيـل, عن أبـي كثـير, قال: كنت عند أبـي الـجَلَد, إذ جاءه رسول ابن عبـاس بكتاب إلـيه, فكتب إلـيه: كتبت تسألنـي عن الرعد, فـالرعد: الريح.
245ـ حدثنـي إبراهيـم بن عبد الله, قال: حدثنا عمران بن ميسرة, قال: حدثنا ابن إدريس عن الـحسن بن الفرات, عن أبـيه, قال: كتب ابن عبـاس إلـى أبـي الـجلد يسأله عن الرعد, فقال: الرعد: ريح.
قال أبو جعفر: فإن كان الرعد ما ذكره ابن عبـاس ومـجاهد, فمعنى الآية: أو كصيب من السماء فـيه ظلـمات وصوت رعد لأن الرعد إنْ كان ملكا يسوق السحاب, فغير كائن فـي الصيب لأن الصّيب إنـما هو ما تـحدّر من صوب السحاب والرعد: إنـما هو فـي جوّ السماء يسوق السحاب, علـى أنه لو كان فـيه يـمر لـم يكن له صوت مسموع, فلـم يكن هنالك رعب يرعب به أحد لأنه قد قـيـل: إن مع كل قطرة من قطر الـمطر ملكا, فلا يعدو الـملك الذي اسمه الرعد لو كان مع الصيب إذا لـم يكن مسموعا صوته أن يكون كبعض تلك الـملائكة التـي تنزل مع القطر إلـى الأرض فـي أن لا رعب علـى أحد بكونه فـيه. فقد عُلـم إذْ كان الأمر علـى ما وصفنا من قول ابن عبـاس إن معنى الآية: أو كمثل غيث تـحدر من السماء فـيه ظلـمات وصوت رعد إن كان الرعد هو ما قاله ابن عبـاس, وأنه استغنى بدلالة ذكر الرعد بـاسمه علـى الـمراد فـي الكلام من ذكر صوته. وإن كان الرعد ما قاله أبو الـخـلد فلا شيء فـي قوله: «فـيه ظلـمات ورعد» متروك, لأن معنى الكلام حينئذٍ: فـيه ظلـمات ورعد الذي هو وما وصفنا صفته.
وأما البرق, فإن أهل العلـم اختلفوا فـيه فقال بعضهم بـما:
246ـ حدثنا مطر بن مـحمد الضبـي, قال: حدثنا أبو عاصم ح وحدثنـي مـحمد بن بشار قال: حدثنـي عبد الرحمن بن مهدي وحدثنا أحمد بن إسحاق الأهوازي, قال: حدثنا أبو أحمد الزبـيري, قالوا جميعا: حدثنا سفـيان الثوري, عن سلـمة بن كهيـل, عن سعيد بن أشوع, عن ربـيعة بن الأبـيض, عن علـيّ قال: البرق: مخاريق الـملائكة.
247ـ حدثنا أحمد بن إسحاق, قال: حدثنا أبو أحمد الزبـيري, قال: حدثنا عبد الـملك بن الـحسين, عن السدي عن أبـي مالك, عن ابن عبـاس: البرق مخاريق بأيدي الـملائكة يزجرون بها السحاب.
248ـ وحدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا الـحجاج, قال: حدثنا حماد, عن الـمغيرة بن سالـم, عن أبـيه أو غيره أن علـيّ بن أبـي طالب قال: الرعد: الـملك, والبرق: ضربه السحاب بـمخراق من حديد.
وقال آخرون: هو سوط من نور يزجر به الـملك السحاب.
حدثت عن الـمنـجاب بن الـحارث, قال: حدثنا بشر بن عمارة عن أبـي روق, عن الضحاك, عن ابن عبـاس بذلك.
وقال آخرون: هو ماء. ذكر من قال ذلك:
249ـ حدثنا أحمد بن إسحاق الأهوازي, قال: حدثنا أبو أحمد الزبـيري, قال: حدثنا بشر بن إسماعيـل, عن أبـي كثـير, قال: كنت عند أبـي الـجَلَد إذ جاءه رسول ابن عبـاس بكتاب إلـيه, فكتب إلـيه: تسألنـي عن البرق, فـالبرق: الـماء.
250ـ حدثنا إبراهيـم بن عبد الله, قال: حدثنا عمران بن ميسرة, قال: حدثنا ابن إدريس, عن الـحسن بن الفرات, عن أبـيه, قال: كتب ابن عبـاس إلـى أبـي الـجَلَد يسأله عن البرق, فقال: البرق: ماء.
حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا جرير, عن عطاء, عن رجل من أهل البصرة من قرائهم, قال: كتب ابن عبـاس إلـى أبـي الـجَلَد رجل من أهل هجر يسأله عن البرق, فكتب إلـيه: كتبت إلـيّ تسألنـي عن البرق: وإنه من الـماء.
وقال آخرون: هو مَصْعُ مَلَكٍ.
251ـ حدثنا مـحمد بن بشار, قال: حدثنا عبد الرحمن بن مهدي, قال: حدثنا سفـيان عن عثمان بن الأسود, عن مـجاهد, قال: البرق: مَصْع مَلَك.
252ـ حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا إسحاق, قال: حدثنا هشام, عن مـحمد بن مسلـم الطائفـي, قال: بلغنـي أن البرق ملك له أربعة أوجه: وجه إنسان, ووجه ثور, ووجه نسر, ووجه أسد, فإذا مصع بأجنـحته فذلك البرق.
253ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: حدثنـي حجاج, عن ابن جريج, عن وهب بن سلـيـمان, عن شعيب الـجبـائي, قال: فـي كتاب الله الـملائكة حملة العرش, لكل ملك منهم وجه إنسان, وثور, وأسد, فإذا حركوا أجنـحتهم فهو البرق. وقال أمية بن أبـي الصلت:
رَجُلٌ وَثَوْرٌ تَـحْتَ رِجْلِ يَـمِينِهِوالنّسْرُ للاخْرَى وَلَـيْثٌ مُرْصِدُ
254ـ حدثنا الـحسين بن مـحمد, قال: حدثنا علـيّ بن عاصم, عن ابن جريج, عن مـجاهد, عن ابن عبـاس: البرق: ملك.
255ـ وقد حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: حدثنـي حجاج, عن ابن جريج, قال: الصواعق ملك يضرب السحاب بـالـمخاريق يصيب منه من يشاء.
قال أبو جعفر: وقد يحتـمل أن يكون ما قاله علـيّ بن أبـي طالب وابن عبـاس ومـجاهد بـمعنى واحد وذلك أن تكون الـمخاريق التـي ذكر علـيّ رضي الله عنه أنها هي البرق هي السياط التـي هي من نور التـي يزجي بها الـملك السحاب, كما قال ابن عبـاس. ويكون إزجاء الـملك السحاب: مَصْعَهُ إياه بها, وذاك أن الـمِصَاعَ عند العرب أصله الـمـجالدة بـالسيوف, ثم تستعمله فـي كل شيء جُولد به فـي حرب وغير حرب, كما قال أعشى بنـي ثعلبة وهو يصف جواري يـلعبن بحلـيهن ويجالدن به.
إذَا هُنّ نازَلْنَ أقْرَانَهُنّوكانَ الـمِصَاعُ بِـمَا فـي الـجُوَنْ
يقال منه: ماصعه مِصَاعا. وكأن مـجاهدا إنـما قال: «مصع ملك», إذ كان السحاب لا يـماصع الـملك, وإنـما الرعد هو الـمـماصع له, فجعله مصدرا من مصعه يَـمْصَعُه مصعا, وقد ذكرنا ما فـي معنى الصاعقة ما قال شهر بن حوشب فـيـما مضى.
وأما تأويـل الآية, فإن أهل التأويـل مختلفون فـيه. فرُوي عن ابن عبـاس فـي ذلك أقوال أحدها ما:
256ـ حدثنا به مـحمد بن حميد, قال: حدثنا سلـمة, قال: حدثنا مـحمد بن إسحاق, عن مـحمد بن أبـي مـحمد مولـى زيد بن ثابت, عن عكرمة, أو عن سعيد بن جبـير, عن ابن عبـاس: أوْ كَصَيّبٍ مِنَ السمّاءِ فِـيهِ ظُلُـمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أصَابِعَهُمْ فـي آذَانِهِمْ مِنَ الصّوَاعِقِ حَذَرَ الـمَوْتِ أي هم من ظلـمات ما هم فـيه من الكفر والـحذر من القتل علـى الذي هم علـيه من الـخلاف, والتـخوّف منكم علـى مثل ما وصف من الذي هو فـي ظلـمة الصيب, فجعل أصابعه فـي أذنـيه من الصواعق حذر الـموت يَكادَ البَرْقُ يَخْطَفُ أبْصَارَهُمْ أي لشدة ضوء الـحق, كُلّـما أضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِـيهِ وَإذَا أظْلَـمَ عَلَـيْهِمْ قَامُوا أي يعرفون الـحق ويتكلـمون به, فهم من قولهم به علـى استقامة, فإذا ارتكسوا منه إلـى الكفر قاموا متـحيرين. والاَخر ما:
257ـ حدثنـي به موسى بن هارون, قال: حدثنا عمرو, قال: حدثنا أسبـاط, عن السدي فـي خبر ذكره عن أبـي مالك, وعن أبـي صالـح, عن ابن عبـاس, وعن مرة, عن ابن مسعود, وعن ناس من أصحاب النبـي صلى الله عليه وسلم: أوْ كَصَيّبٍ مِنَ السمّاءِ فِـيهِ ظُلُـماتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ إلـى: إِنّ اللّهَ علـى كُلّ شَيْءٍ قَدِيرٌ: أما الصيب والـمطر. كانا رجلان من الـمنافقـين من أهل الـمدينة هربـا من رسول الله صلى الله عليه وسلم إلـى الـمشركين, فأصابهما هذا الـمطر الذي ذكر الله فـيه رعد شديد وصواعق وبرق, فجعلا كلـما أضاء لهما الصواعق جعلا أصابعهما فـي آذانهما من الفَرَق أن تدخـل الصواعق فـي مسامعهما فتقتلهما, وإذ لـمع البرق مشيا فـي ضوئه, وإذا لـم يـلـمع لـم يبصرا وقاما مكانهما لا يـمشيان, فجعلا يقولان: لـيتنا قد أصبحنا فنأتـي مـحمدا فنضع أيدينا فـي يده فأصبحا فأتـياه فأسلـما ووضعا أيديهما فـي يده وحسن إسلامهما. فضرب الله شأن هذين الـمنافقـين الـخارجين مثلاً للـمنافقـين الذين بـالـمدينة. وكان الـمنافقون إذا حضروا مـجلس النبـي صلى الله عليه وسلم, جعلوا أصابعهم فـي آذانهم فَرَقا من كلام النبـي صلى الله عليه وسلم أن ينزل فـيهم شيء أو يذكروا بشيء فـيقتلوا, كما كان ذانك الـمنافقان الـخارجان يجعلان أصابعهما فـي آذانهما, وإذا أضاء لهم مشوا فـيه. فإذا كثرت أموالهم وولد لهم الغلـمان وأصابوا غنـيـمة أو فتـحا مشوا فـيه, وقالوا: إن دين مـحمد صلى الله عليه وسلم دين صدق فـاستقاموا علـيه, كما كان ذانك الـمنافقان يـمشيان إذا أضاء لهم البرق مشوا فـيه, وإذا أظلـم علـيهم قاموا. فكانوا إذا هلكت أموالهم, وولد لهم الـجواري, وأصابهم البلاء قالوا: هذا من أجل دين مـحمد, فـارتدّوا كفـارا كما قام ذانك الـمنافقان حين أظلـم البرق علـيهما. والثالث ما:
258ـ حدثنـي به مـحمد بن سعد قال: حدثنـي أبـي, قال: حدثنـي عمي, عن أبـيه, عن جده, عن ابن عبـاس: أوْ كَصَيّبٍ مِنَ السمّاءِ كمطر فـيه ظلـمات ورعد وبرق إلـى آخر الآية, هو مثل الـمنافق فـي ضوء ما تكلـم بـما معه من كتاب الله وعمل, مراءاةً للناس, فإذا خلا وحده عمل بغيره. فهو فـي ظلـمة ما أقام علـى ذلك. وأما الظلـمات فـالضلالة, وأما البرق فـالإيـمان, وهم أهل الكتاب. وإذا أظلـم علـيهم, فهو رجل يأخذ بطرف الـحق لا يستطيع أن يجاوزه. والرابع ما:
259ـ حدثنـي به الـمثنى, قال: حدثنا عبد الله بن صالـح, قال: حدثنـي معاوية بن صالـح, عن علـيّ بن أبـي طلـحة, عن ابن عبـاس: أوْ كَصَيّبٍ منَ السمّاءِ وهو الـمطر, ضرب مثله فـي القرآن يقول: «فـيه ظلـمات», يقول: ابتلاء. «ورعد» يقول: فـيه تـخويف, وبرق يَكادُ البَرْقُ يَخْطَفُ أبْصَارَهُمْ يقول: يكاد مـحكم القرآن يدلّ علـى عورات الـمنافقـين, كُلّـما أضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِـيهِ يقول: كلـما أصاب الـمنافقون من الإسلام عزّا اطمأنوا, وإن أصابوا الإسلام نكبة, قالوا: ارجعوا إلـى الكفر. يقول: وَإذَا أظْلَـمَ عَلَـيْهِمْ قامُوا كقوله: وَمِنَ النّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللّهَ علـى حَرْفٍ فإنْ أصَابَهُ خَيْرٌ اطْمأنّ بِهِ وَإِنْ أصَابَتْهُ فِتْنَةٌ إلـى آخر الآية.
ثم اختلف سائر أهل التأويـل بعد ذلك فـي نظير ما رُوي عن ابن عبـاس من الاختلاف.
260ـ فحدثنـي مـحمد بن عمرو البـاهلـي, قال: حدثنا أبو عاصم, عن عيسى بن ميـمون, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد, قال: إضاءة البرق وإظلامه علـى نـحو ذلك الـمثل.
وحدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا أبو حذيفة, قال: حدثنا شبل عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد مثله.
حدثنا عمرو بن علـيّ, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى, عن ابن أبـي نـجيح عن مـجاهد مثله.
261ـ وحدثنا بشر بن معاذ, قال: حدثنا يزيد بن زُريع, عن سعيد, عن قتادة فـي قول الله: فِـيهِ ظُلُـمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ إلـى قوله: وَإذَا أظْلَـمَ عَلَـيْهِمْ قامُوا, فـالـمنافق إذا رأى فـي الإسلام رخاء أو طمأنـينة أو سلوة من عيش, قال: أنا معكم وأنا منكم وإذا أصابته شدة حقحق والله عندها فـانقُطع به فلـم يصبر علـى بلائها, ولـم يحتسب أجرها, ولـم يَرْجُ عاقبتها.
262ـ وحدثنا الـحسن بن يحيى, قال: أخبرنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا معمر, عن قتادة: فِـيهِ ظُلُـماتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يقول: أخبر عن قوم لا يسمعون شيئا إلا ظنوا أنهم هالكون فـيه حذرا من الـموت, والله مـحيط بـالكافرين. ثم ضرب لهم مثلاً آخر فقال: يَكادُ البَرْقُ يَخْطَفُ أبْصَارَهُمْ كُلّـما أضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِـيهِ يقول: هذا الـمنافق, إذا كثر ماله وكثرت ماشيته وأصابته عافـية قال: لـم يصبنـي منذ دخـلت فـي دينـي هذا إلاّ خير, وَإِذَا أظْلَـمَ عَلَـيْهِمْ قامُوا يقول: إذا ذهبت أموالهم وهلكت مواشيهم وأصابهم البلاء قاموا متـحيرين.
263ـ وحدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا إسحاق بن الـحجاج, عن عبد الله بن أبـي جعفر, عن أبـيه, عن الربـيع بن أنس: فِـيهِ ظُلُـمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ قال: مثلهم كمثل قوم ساروا فـي لـيـلة مظلـمة ولها مطر ورعد وبرق علـى جادة, فلـما أبرقت أبصروا الـجادّة فمضوا فـيها, وإذا ذهب البرق تـحيروا. وكذلك الـمنافق كلـما تكلـم بكلـمة الإخلاص أضاء له, فإذا شك تـحير ووقع فـي الظلـمة, فكذلك قوله: كُلّـما أضَاءَ لَهُمْ مَشَوا فِـيهِ وَإذَا أظْلَـمَ عَلَـيْهِمْ قَامُوا ثم قال: فـي أسماعهم وأبصارهم التـي عاشوا بها فـي الناس وَلَوْ شَاءَ اللّهُ لَذَهَبَ بِسَمَعِهِمْ وأبْصَارِهِمْ قال أبو جعفر:
264ـ وحدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: حدثنا أبو نُـميـلة, عن عبـيد بن سلـيـمان البـاهلـي, عن الضحاك بن مزاحم: فِـيهِ ظُلُـماتٌ قال: أما الظلـمات فـالضلالة, والبرق: الإيـمان.
265ـ وحدثنـي يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: حدثنـي عبد الرحمن بن زيد فـي قوله: فِـيهِ ظُلُـماتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ فقرأ حتـى بلغ: إِنّ اللّهَ علـى كُلّ شَيْءٍ قَدِير قال: هذا أيضا مثل ضربه الله للـمنافقـين, كانوا قد استناروا بـالإسلام كما استنار هذا بنور هذا البرق.
266ـ وحدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: حدثنـي حجاج, قال: قال ابن جريج: لـيس شيءٌ فـي الأرض سمعه الـمنافق إلا ظنّ أنه يراد به وأنه الـموت كراهية له, والـمنافق أكره خـلق الله للـموت, كما إذا كانوا بـالبَراز فـي الـمطر فرّوا من الصواعق.
267ـ حدثنا عمرو بن علـيّ, قال: حدثنا أبو معاوية, قال: حدثنا ابن جريج, عن عطاء فـي قوله: أوْ كَصَيبٍ مِنَ السمّاءِ فِـيهِ ظُلُـمات وَرَعْد وَبَرْق قال: مثل ضُرِبَ للكفـار.
وهذه الأقوال التـي ذكرنا عمن رويناها عنه, فإنها وإن اختلفت فـيها ألفـاظ قائلـيها متقاربـات الـمعانـي لأنها جميعا تنبىء عن أن الله ضرب الصيب لظاهر إيـمان الـمنافق مثلاً, ومثّل ما فـيه من ظلـمات بضلالته, وما فـيه من ضياء برق بنور إيـمانه, واتقاءه من الصواعق بتصيـير أصابعه فـي أذنـيه بضعف جنانه ونَـخْبِ فؤاده من حلول عقوبة الله بساحته, ومشيه فـي ضوء البرق بـاستقامته علـى نور إيـمانه, وقـيامه فـي الظلام بحيرته فـي ضلالته وارتكاسه فـي عمهه.
فتأويـل الآية إذا إذا كان الأمر علـى ما وصفنا: أَوَ مَثَلُ ما استضاء به الـمنافقون من قـيـلهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم وللـمؤمنـين بألسنتهم: آمنا بـالله وبـالـيوم الاَخر وبـمـحمد وما جاء به, حتـى صار لهم بذلك فـي الدنـيا أحكام الـمؤمنـين, وهم مع إظهارهم بألسنتهم ما يظهرون بـالله وبرسوله صلى الله عليه وسلم, وما جاء به من عند الله وبـالـيوم الاَخر, مكذّبون, ولـخلاف ما يظهرون بـالألسن فـي قلوبهم معتقدون, علـى عَمًى منهم وجهالة بـما هم علـيه من الضلالة لا يدرون أيّ الأمرين اللذين قد شرعا لهم فـيه الهداية فـي الكفر الذي كانوا علـيه قبل إرسال الله مـحمدا صلى الله عليه وسلم بـما أرسله به إلـيهم, أم فـي الذي أتاهم به مـحمد صلى الله عليه وسلم من عند ربهم؟ فهم من وعيد الله إياهم علـى لسان مـحمد صلى الله عليه وسلم وَجِلُون, وهم مع وجلهم من ذلك فـي حقـيقته شاكون فـي قلوبهم مرض فزادهم الله مرضا. كمثل غيث سرى لـيلاً فـي مزنة ظلـماء ولـيـلة مظلـمة يحدوها رعد ويستطير فـي حافـاتها برق شديد لـمعانه كثـير خَطَرانه, يكاد سنا برقه يذهب بـالأبصار, ويختطفها من شدة ضيائه ونور شعاعه وينهبط منها نارات صواعق تكاد تدع النفوس من شدة أهوالها زواهق. فـالصيب مثلٌ لظاهر ما أظهر الـمنافقون بألسنتهم من الإقرار والتصديق, والظلـمات التـي هي فـيه لظلـمات ما هم مستبطنون من الشك والتكذيب ومرض القلوب. وأما الرعد والصواعق فلـما هم علـيه من الوجل من وعيد الله إياهم علـى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم فـي آي كتابه, إما فـي العاجل وإما فـي الاَجل, أي يحل بهم مع شكهم فـي ذلك: هل هو كائن, أم غير كائن, وهل له حقـيقة أم ذلك كذب وبـاطل؟ مَثَلٌ. فهم من وجلهم أن يكون ذلك حقا يتقونه بـالإقرار بـما جاء به مـحمد صلى الله عليه وسلم بألسنتهم مخافة علـى أنفسهم من الهلاك ونزول النقمات. وذلك تأويـل قوله جل ثناؤه: يَجْعَلُونَ أصَابِعَهُمْ فِـي آذَانِهِمْ مِنَ الصّوَاعِقِ حَذَرَ الـمَوْتِ يعنـي بذلك يتقون وعيد الله الذي أنزله فـي كتابه علـى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم بـما يبدونه بألسنتهم من ظاهر الإقرار, كما يتقـي الـخائف أصوات الصواعق بتغطية أذنـيه وتصيـير أصابعه فـيها حذرا علـى نفسه منها.
وقد ذكرنا الـخبر الذي رُوي عن ابن مسعود وابن عبـاس أنهما كانا يقولان: إن الـمنافقـين كانوا إذا حضروا مـجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم أدخـلوا أصابعهم فـي آذانهم فَرَقا من كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ينزل فـيهم شيء, أو يُذكروا بشيء فـيقتلوا. فإن كان ذلك صحيحا, ولست أعلـمه صحيحا, إذ كنت بإسناده مرتابـا فإن القول الذي روي عنهما هو القول. وإن يكن غير صحيح, فأولـى بتأويـل الآية ما قلنا لأن الله إنـما قص علـينا من خبرهم فـي أول مبتدأ قصصهم أنهم يخادعون الله ورسوله والـمؤمنـين بقولهم آمنا بـالله وبـالـيوم الاَخر, مع شك قلوبهم ومرض أفئدتهم فـي حقـيقة ما زعموا أنهم به مؤمنون مـما جاءهم به رسول الله صلى الله عليه وسلم من عند ربهم, وبذلك وصفهم فـي جميع آي القرآن التـي ذكر فـيها صفتهم. فكذلك ذلك فـي هذه الآية.
وإنـما جعل الله إدخالهم أصابعهم فـي آذانهم مثلاً لاتقائهم رسول الله صلى الله عليه وسلم والـمؤمنـين بـما ذكرنا أنهم يتقونهم به كما يتقـي سامع صوت الصاعقة بإدخال أصابعه فـي أذنـيه. وذلك من الـمَثَلِ نظير تـمثـيـل الله جل ثناؤه ما أنزل فـيهم من الوعيد فـي آي كتابه بأصوات الصواعق, وكذلك قوله: حَذَرَ الـمَوْت جعله جل ثناؤه مثلاً لـخوفهم وإشفـاقهم من حلول عاجل العقاب الـمهلك الذي توعده بساحتهم, كما يجعل سامع أصوات الصواعق أصابعه فـي أذنـيه حذر العطب والـموت علـى نفسه أن تزهق من شدتها. وإنـما نصب قوله: حذر الـموت علـى نـحو ما تنصب به التكرمة فـي قولك: زرتَكَ تكرمَةَ لك, تريد بذلك: من أجل تكرمتك, وكما قال جل ثناؤه: وَيَدْعُونَنَا رَغَبـا وَرَهَبـا علـى التفسير للفعل. وقد رُوي عن قتادة أنه كان يتأوّل قوله: حَذَرَ الـمَوْت: حذرا من الـموت.
268ـ حدثنا بذلك الـحسن بن يحيى, قال: حدثنا عبد الرزاق, قال: أنبأنا معمر عنه.
وذلك مذهب من التأويـل ضعيف, لأن القوم لـم يجعلوا أصابعهم فـي آذانهم حذرا من الـموت فـيكون معناه ما قال إنه مراد به حذرا من الـموت, وإنـما جعلوها من حذار الـموت فـي آذانهم.
وكان قتادة وابن جريج يتأوّلان قوله:طط يَجْعَلُونَ أصَابِعَهُمْ فـي آذَانهِمْ مِنَ الصّوَاعِقِ حَذَرَ الـمَوْتِ أن ذلك من الله جل ثناؤه صفةٌ للـمنافقـين بـالهلع. وضعف القلوب, وكراهة الـموت, ويتأوّلان فـي ذلك قوله: يَحْسَبُونَ كُلّ صَيْحَةٍ عَلَـيْهِمْ. ولـيس الأمر فـي ذلك عندي كالذي قالا. وذلك أنه قد كان فـيهم من لا تنكر شجاعته ولا تدفع بسالته كقزمان الذي لـم يقم مقامه أحد من الـمؤمنـين بـاحُد أو دونه. وإنـما كانت كراهتهم شُهود الـمشاهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وتركهم معاونته علـى أعدائه لأنهم لـم يكونوا فـي أديانهم مستبصرين ولا برسول الله صلى الله عليه وسلم مصدقـين, فكانوا للـحضور معه مشاهده كارهين, إلا بـالتـخذيـل عنه. ولكن ذلك وصف من الله جل ثنائهم لهم بـالإشفـاق من حلول عقوبة الله بهم علـى نفـاقهم, إما عاجلاً, وإما آجلاً.
ثم أخبر جل ثناؤه أن الـمنافقـين الذين نعتهم النعت الذي ذكر وضرب لهم الأمثال التـي وصف وإن اتقوا عقابه وأشفقوا عذابه إشفـاق الـجاعل فـي أذنـيه أصابعه حِذَار حلول الوعيد الذي توعدهم به فـي آي كتابه, غير منـجيهم ذلك من نزوله بعَقْوَتهم وحلوله بساحتهم, إما عاجلاً فـي الدنـيا, وإما آجلاً فـي الاَخرة, للذي فـي قلوبهم من مرضها والشك فـي اعتقادها, فقال: وَاللّهُ مُـحِيطٌ بـالكافِرِينَ بـمعنى جامعهم فمـحلّ بهم عقوبته.
وكان مـجاهد يتأوّل ذلك كما:
269ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو البـاهلـي, قال: حدثنا أبو عاصم عن عيسى بن ميـمون, عن عبد الله بن أبـي نـجيح, عن مـجاهد فـي قول الله: وَاللّهُ مُـحِيطٌ بـالكافِرِينَ قال: جامعهم فـي جهنـم.
وأما ابن عبـاس فروي عنه فـي ذلك ما:
270ـ حدثنـي به ابن حميد, قال: حدثنا سلـمة, عن ابن إسحاق, عن مـحمد بن أبـي مـحمد مولـى زيد بن ثابت, عن عكرمة, أو عن سعيد بن جبـير, عن ابن عبـاس: وَاللّهُ مُـحِيطٌ بـالكافِرِينَ يقول: الله منزل ذلك بهم من النقمة.
حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: حدثنا حجاج عن ابن جريج, عن مـجاهد فـي قوله: وَاللّهُ مُـحِيطٌ بـالكافِرِينَ قال: جامعهم.
ثم عاد جل ذكره إلـى نعت إقرار الـمنافقـين بألسنتهم, والـخبر عنه وعنهم وعن نفـاقهم, وإتـمام الـمثل الذي ابتدأ ضربه لهم ولشكهم ومرض قلوبهم, فقال: يَكَادُ البَرْقُ يعنـي بـالبرق: الإقرار الذي أظهروه بألسنتهم بـالله وبرسوله وما جاء به من عند ربهم, فجعل البرق له مثلاً علـى ما قدمنا صفته. يَخْطَفُ أبْصَارَهُمْ يعنـي: يذهب بها ويستلبها ويـلتـمعها من شدة ضيائه ونور شعاعه. كما:
271ـ حدثت عن الـمنـجاب بن الـحارث, قال: حدثنا بشر بن عمار, عن أبـي روق, عن الضحاك, عن ابن عبـاس, فـي قوله: يَكَادُ البَرْقُ يَخْطَفُ أبْصَارَهُمْ قال: يـلتـمع أبصارَهم ولـمّا يفعل.
قال أبو جعفر: والـخطف: السلب, ومنه الـخبر الذي رُوي عن النبـي صلى الله عليه وسلم «أنه نهى عن الـخطفة» يعنـي بها النّهْبَة ومنه قـيـل للـخُطاف الذي يخرج به الدلو من البئر خُطّاف لاختطافه واستلابه ما علق به. ومنه قول نابغة بنـي ذبـيان:
خطَاطِيفُ حُجْنٌ فِـي حبـالٍ مَتِـينَةٍتَـمُدّ بِها أيْدٍ إلَـيْكَ نَوَازِعُ
فجعل ضوء البرق وشدة شعاع نوره كضوء إقرارهم بألسنتهم وبرسوله صلى الله عليه وسلم وبـما جاء به من عند الله والـيوم الاَخر وشعاع نوره, مثلاً.
ثم قال تعالـى ذكره: كُلّـما أضَاءَ لَهُمْ يعنـي أن البرق كلـما أضاء لهم, وجعل البرق لإيـمانهم مثلاً. وإنـما أراد بذلك أنهم كلـما أضاء لهم الإيـمان وإضاءتهم لهم أن يروا فـيه ما يعجبهم فـي عاجل دنـياهم من النصرة علـى الأعداء, وإصابة الغنائم فـي الـمغازي, وكثرة الفتوح, ومنافعها, والثراء فـي الأموال, والسلامة فـي الأبدان والأهل والأولاد, فذلك إضاءته لهم لأنهم إنـما يظهرون بألسنتهم ما يظهرونه من الإقرار ابتغاء ذلك, ومدافعة عن أنفسهم وأموالهم وأهلـيهم وذراريهم, وهم كما وصفهم الله جل ثناؤه بقوله: وَمِنَ النّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللّهَ علـى حَرْفٍ فَـانْ أصَابَهُ خَيْرٌ اطْمأنّ وَإنْ أصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ علـى وَجْهِهِ.
ويعنـي بقوله: مَشَوْا فِـيهِ مشوا فـي ضوء البرق. وإنـما ذلك مثل لإقرارهم علـى ما وصفنا. فمعناه: كلـما رأوا فـي الإيـمان ما يعجبهم فـي عاجل دنـياهم علـى ما وصفنا, ثبتوا علـيه وأقاموا فـيه, كما يـمشي السائر فـي ظلـمة اللـيـل وظلـمة الصيب الذي وصفه جل ثناؤه, إذا برقت فـيها بـارقة أبصر طريقه فـيها وَإِذَا أظْلَـمَ يعنـي ذهب ضوء البرق عنهم. ويعنـي بقوله: «علـيهم»: علـى السائرين فـي الصيب الذي وصف جل ذكره, وذلك للـمنافقـين مثل. ومعنى إظلام ذلك: أن الـمنافقـين كلـما لـم يروا فـي الإسلام ما يعجبهم فـي دنـياهم عند ابتلاء الله مؤمنـي عبـاده بـالضرّاء وتـمـحيصه إياهم بـالشدائد والبلاء من إخفـاقهم فـي مغزاهم وإنالة عدوّهم منهم, أو إدبـار من دنـياهم عنهم أقاموا علـى نفـاقهم وثبتوا علـى ضلالتهم كما قام السائر فـي الصيب الذي وصف جل ذكره إذا أظلـم وخفت ضوء البرق, فحار فـي طريقه فلـم يعرف منهجه.
الآية : 20
القول فـي تأويـل قوله تعالـى:{يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ كُلّمَا أَضَآءَ لَهُمْ مّشَوْاْ فِيهِ وَإِذَآ أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُواْ وَلَوْ شَآءَ اللّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ إِنّ اللّهَ عَلَىَ كُلّ شَيْءٍ قَدِيرٌ }.
قال أبو جعفر: وإنـما خص جل ذكره السمع والأبصار بأنه لو شاء أذهبها من الـمنافقـين دون سائر أعضاء أجسامهم للذي جرى من ذكرها فـي الاَيتـين, أعنـي قوله: يَجْعَلُونَ أصَابِعَهُمْ فِـي آذَانِهِمْ مِنَ الصّوَاعِقِ وقوله: يَكادُ البَرْقُ يَخْطَفُ أبْصَارَهُمْ كُلّـما أضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِـيهِ فجرى ذكرها فـي الاَيتـين علـى وجه الـمثل. ثم عقب جل ثناؤه ذكر ذلك بأنه لو شاء أذهبه من الـمنافقـين عقوبة لهم علـى نفـاقهم وكفرهم, وعيدا من الله لهم, كما توعدهم فـي الآية التـي قبلها بقوله: وَاللّهُ مُـحِيطٌ بـالكافرِينَ واصفـا بذلك جل ذكره نفسه أنه الـمقتدر علـيهم وعلـى جمعهم, لإحلال سخطه بهم, وإنزال نقمته علـيهم, ومـحذرهم بذلك سطوته, ومخوّفهم به عقوبته, لـيتقوا بأسه, ويسارعوا إلـيه بـالتوبة. كما:
272ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا سلـمة, عن ابن إسحاق, عن مـحمد بن أبـي مـحمد, عن عكرمة, أو عن سعيد بن جبـير, عن ابن عبـاس: وَلَوْ شاءَ اللّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهمْ وأبْصَارِهِمْ لـما تركوا من الـحق بعد معرفته.
273ـ وحدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا إسحاق, قال: حدثنا ابن أبـي جعفر, عن أبـيه, عن الربـيع بن أنس, قال: ثم قال يعنـي قال الله فـي أسماعهم يعنـي أسماع الـمنافقـين وأبصارهم التـي عاشوا بها فـي الناس: وَلَوْ شاءَ اللّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وأبْصَارِهِمْ.
قال أبو جعفر: وإنـما معنى قوله: لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وأبْصَارِهِمْ لأذهب سمعهم وأبصارهم, ولكن العرب إذا أدخـلوا البـاء فـي مثل ذلك قالوا: ذهبت ببصره, وإذا حذفوا البـاء قالوا: أذهبت بصره, كما قال جل ثناؤه: آتنا غَدَاءَنَا ولو أدخـلت البـاء فـي الغداء لقـيـل: ائتنا بغدائنا.
قال أبو جعفر: فإن قال لنا قائل: وكيف قـيـل: لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ فوحد, وقال: وأبْصَارِهِمْ فجمع؟ وقد علـمت أن الـخبر فـي السمع خبر عن سمع جماعة, كما الـخبر فـي الأبصار خبر عن أبصار جماعة؟ قـيـل: قد اختلف أهل العربـية فـي ذلك, فقال بعض نـحويـي الكوفـي: وحد لسمع لأنه عنى به الـمصدر وقصد به الـخرق, وجمع الأبصار لأنه عنى به الأعين. وكان بعض نـحويـي البصرة يزعم أن السمع وإن كان فـي لفظ واحد فإنه بـمعنى جماعة, ويحتـجّ فـي ذلك بقول الله: لا يَرْتَدّ إلَـيْهِمْ طَرْفُهُمْ يريد لا ترتد إلـيهم أطرافهم, وبقوله: وَيُوَلونَ الدّبُرَ يراد به أدبـارهم. وإنـما جاز ذلك عندي لأن فـي الكلام ما يدلّ علـى أنه مراد به الـجمع, فكان فـيه دلالة علـى الـمراد منه, وأداء معنى الواحد من السمع عن معنى جماعة مغنـيا عن جِماعِهِ, ولو فعل بـالبصر نظير الذي فعل بـالسمع, أو فعل بـالسمع نظير الذي فعل بـالأبصار من الـجمع والتوحيد, كان فصيحا صحيحا لـما ذكرنا من العلة كما قال الشاعر:
كُلُوا فـي بَعْضِ بَطْنكُمْ تَعِفّوافإنّ زَمانَنا زَمَنٌ خَمِيصُ
فوحد البطن, والـمراد منه البطون لـما وصفنا من العلة.
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: إنّ اللّهَ علـى كُلّ شَيْءٍ قَدِير.
قال أبو جعفر: وإنـما وصف الله نفسه جل ذكره بـالقدرة علـى كل شيء فـي هذا الـموضع, لأنه حذر الـمنافقـين بأسه وسطوته وأخبرهم أنه بهم مـحيط وعلـى إذهاب أسماعهم وأبصارهم قدير, ثم قال: فـاتقونـي أيها الـمنافقون واحذروا خداعي وخداع رسولـي وأهل الإيـمان بـي لا أحل بكم نقمتـي فإنـي علـى ذلك وعلـى غيره من الأشياء قدير. ومعنى قدير: قادر, كما معنى علـيـم: عالـم, علـى ما وصفت فـيـما تقدم من نظائره من زيادة معنى فعيـل علـى فـاعل فـي الـمدح والذم.
الآية : 21
القول فـي تأويـل قوله تعالـى:
{يَاأَيّهَا النّاسُ اعْبُدُواْ رَبّكُمُ الّذِي خَلَقَكُمْ وَالّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلّكُمْ تَتّقُونَ }
قال أبو جعفر: فأمر جل ثناؤه الفريقـين اللذين أخبر الله عن أحدهما أنه سواء علـيهم أأنذروا أم لـم يُنذروا أنهم لا يؤمنون, لطبعه علـى قلوبهم, وعلـى سمعهم وأبصارهم, وعن الاَخر أنه يخادع الله والذين آمنوا بـما يبدي بلسانه من قـيـله: آمنا بـالله والـيوم الاَخر, مع استبطانه خلاف ذلك, ومرض قلبه, وشكه فـي حقـيقة ما يبدي من ذلك وغيرهم من سائر خـلقه الـمكلفـين, بـالاستكانة والـخضوع له بـالطاعة, وإفراد الربوبـية له, والعبـادة دون الأوثان والأصنام والاَلهة لأنه جل ذكره هو خالقهم وخالق من قبلهم من آبـائهم وأجدادهم, وخالق أصنامهم وأوثانهم وآلهتهم, فقال لهم جل ذكره: فـالذي خـلقكم وخـلق آبـاءكم وأجدادكم وسائر الـخـلق غيركم وهو يقدر علـى ضركم ونفعكم أولـى بـالطاعة مـمن لا يقدر لكم علـى نفع ولا ضر. وكان ابن عبـاس فـيـما رُوي لنا عنه يقول فـي ذلك نظير ما قلنا فـيه, غير أنه ذكر عنه أنه كان يقول فـي معنى: اعْبُدُوا رَبكُمْ وَحّدوا ربكم. وقد دللنا فـيـما مضى من كتابنا هذا علـى أن معنى العبـادة الـخضوع لله بـالطاعة والتذلل له بـالاستكانة. والذي أراد ابن عبـاس إن شاء الله بقوله فـي تأويـل قوله: اعْبُدُوا رَبّكُمْ وَحّدُوه: أي أفردوا الطاعة والعبـادة لربكم دون سائر خـلقه.
274ـ حدثنا مـحمد بن حميد, قال: حدثنا سلـمة, عن ابن إسحاق, عن مـحمد بن أبـي مـحمد, عن عكرمة, أو عن سعيد بن جبـير, عن ابن عبـاس, قال: قال الله: يا أيها الناسُ اعْبُدُوا رَبّكُمْ للفريقـين جميعا من الكفـار والـمنافقـين, أي وحدوا ربكم الذي خـلقكم والذين من قبلكم.
275ـ وحدثنـي موسى بن هارون, قال: حدثنا عمرو بن حماد, عن أسبـاط, عن السدي فـي خبر ذكره, عن أبـي مالك, وعن أبـي صالـح, عن ابن عبـاس, وعن مرة, عن ابن مسعود, وعن ناس من أصحاب النبـي صلى الله عليه وسلم: يا أيّها النّاسُ اعْبُدُوا رَبّكُمْ الّذِي خَـلَقَكُمْ وَالّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ يقول: خـلقكم وخـلق الذين من قبلكم.
قال أبو جعفر: وهذه الآية من أدلّ دلـيـل علـى فساد قول من زعم أن تكلـيف ما لا يطاق إلا بـمعونة الله غير جائز إلا بعد إعطاء الله الـمكلف الـمعونة علـى ما كلفه. وذلك أن الله أمر من وصفنا بعبـادته والتوبة من كفره, بعد إخبـاره عنهم أنهم لا يؤمنون وأنهم عن ضلالتهم لا يرجعون.
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: لَعَلّكُمْ تَتّقُونَ.
قال أبو جعفر: وتأويـل ذلك: لعلكم تتقون بعبـادتكم ربكم الذي خـلقكم, وطاعتكم إياه فـيـما أمركم به ونهاكم عنه, وإفرادكم له العبـادة, لتتقوا سخطه وغضبه أن يحل علـيكم, وتكونوا من الـمتقـين الذين رضي عنهم ربهم.
وكان مـجاهد يقول فـي تأويـل قوله: لَعَلّكُمْ تَتّقُونَ: تطيعون.
276ـ حدثنا ابن وكيع, قال: حدثنـي أبـي عن سفـيان, عن ابن نـجيح عن مـجاهد فـي قوله: لَعَلّكُمْ تَتّقُونَ قال: لعلكم تطيعون.
قال أبو جعفر: والذي أظن أن مـجاهدا أراد بقوله هذا: لعلكم أن تتقوا ربكم بطاعتكم إياه وإقلاعكم عن ضلالتكم.
قال أبو جعفر: فإن قال لنا قائل: فكيف قال جل ثناؤه: لَعَلّكُمْ تَتّقُونَ؟ أوَ لـم يكن عالـما بـما يصير إلـيه أمرهم إذا هم عبدوه وأطاعوه, حتـى قال لهم: لعلكم إذا فعلتـم ذلك أن تتقوا, فأخرج الـخبر عن عاقبة عبـادتهم إياه مخرج الشك؟ قـيـل له: ذلك علـى غير الـمعنى الذي توهمت, وإنـما معنى ذلك: اعبدوا ربكم الذي خـلقكم والذين من قبلكم, لتتقوه بطاعته وتوحيده وإفراده بـالربوبـية والعبـادة, كما قال الشاعر:
وقُلْتُـمْ لَنا كُفّوا الـحُرُوبَ لَعَلّنَانَكُفّ وَوَثّقْتُـمْ لَنا كُلّ مَوْثِقِ
فلَـمّا كَفَفْنَا الـحَرْبَ كانَتْ عُهُودُكُمْكَلَـمْـحِ سَرَابٍ فِـي الفَلاَ مُتَألّقِ
يريد بذلك: قلتـم لنا كفوا لنكفّ. وذلك أن «لعلّ» فـي هذا الـموضع لو كان شكّا لـم يكونوا وثقوا لهم كُلّ موثق.
الآية : 22
القول فـي تأويـل قوله تعالـى:
{الّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأرْضَ فِرَاشاً وَالسّمَاءَ بِنَآءً وَأَنزَلَ مِنَ السّمَآءِ مَآءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثّمَرَاتِ رِزْقاً لّكُمْ فَلاَ تَجْعَلُواْ للّهِ أَندَاداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ }
وقوله: الّذِي جعَلَ لَكُمُ الأرْضَ فِرَاشا مردود علـى «الذي» الأولـى فـي قوله: اعْبُدُوا رَبّكُمُ الّذِي خَـلَقَكُمْ وهما جميعا من نعت «ربكم», فكأنه قال: اعبدوا ربكم الـخالقكم, والـخالق الذي من قبلكم, الـجاعل لكم الأرض فراشا. يعنـي بذلك أنه جعل لكم الأرض مهادا وموطئا وقرارا يستقرّ علـيها. يذكّر ربنا جل ذكره بذلك من قـيـله زيادة نعمه عندهم وآلائه لديهم, لـيذكروا أياديه عندهم فـينـيبوا إلـى طاعته, تعطفـا منه بذلك علـيهم, ورأفة منه بهم, ورحمة لهم, من غير ما حاجة منه إلـى عبـادتهم, ولكن لـيتـم نعمته علـيهم ولعلهم يهتدون. كما:
277ـ حدثنـي موسى بن هارون, قال: حدثنا عمرو, قال: حدثنا أسبـاط, عن السديّ فـي خبر ذكره, عن أبـي مالك, وعن أبـي صالـح, عن ابن عبـاس, وعن مرة, عن ابن مسعود, وعن ناس من أصحاب النبـي صلى الله عليه وسلم: الّذِي جَعَلَ لَكُمُ أَلارْضَ فِرَاشا فهي فراش يُـمْشَى علـيها, وهي الـمهاد والقرار.
278ـوحدثنا بشر بن معاذ, قال: حدثنا يزيد بن زريع, عن سعيد, عن قتادة: الّذِي جَعَلَ لَكُمُ أَلارْضَ فِرَاشا قال: مهادا لكم.
279ـوحدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا إسحاق, عن عبد الله بن أبـي جعفر, عن أبـيه, عن الربـيع بن أنس: الّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأرْضَ فِرَاشا: أي مهادا.
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: وَالسّماءَ بِناءً.
قال أبو جعفر: وإنـما سميت السماء سماءً لعلوّها علـى الأرض وعلـى سكانها من خـلقه, وكل شيء كان فوق شيء آخر فهو لـما تـحته سماءٌ. ولذلك قـيـل لسقـف البـيت سماؤه, لأنه فوقه مرتفع علـيه, ولذلك قـيـل: سما فلان لفلان: إذا أشرف له وقصد نـحوه عالـيا علـيه, كما قال الفرزدق:
سَمَوْنَا لِنَـجْرَانَ الـيَـمانِـي وأهْلِهِوَنَـجْرَانُ أَرْضٌ لَـمْ تُدَيّثْ مَقاوِلُه
وكما قال نابغة بنـي ذبـيان:
سَمَتْ لـي نَظْرَةٌ فَرأيْتُ مِنْهَاتُـحَيْتَ الـخِدْرِ وَاضِعَةَ القِرَامِ
يريد بذلك: أشرفت لـي نظرة وبدت, فكذلك السماء: سُميت الأرض سماءً, لعلوّها وإشرافها علـيها. كما:
280ـ حدثنـي موسى بن هارون, قال: حدثنا عمرو بن حماد, قال: حدثنا أسبـاط, عن السدي فـي خبر ذكره, عن أبـي مالك, وعن أبـي صالـح, عن ابن عبـاس, وعن مرة, عن ابن مسعود, وعن ناس من أصحاب النبـي صلى الله عليه وسلم: وَالسّماءَ بِناءً, فبناء السماء علـى الأرض كهيئة القبة, وهي سقـف علـى الأرض.
281ـ وحدثنا بشر بن معاذ, قال: حدثنا يزيد, عن سعيد, عن قتادة فـي قول الله وَالسّمَاءَ بِنَاءً قال: جعل السماء سقـفـا لك.
وإنـما ذكر السماء والأرض جل ثناؤه فـيـما عدّد علـيهم من نعمه التـي أنعمها علـيهم, لأن منهما أقواتهم وأرزاقهم ومعايشهم, وبهما قوام دنـياهم, فأعلـمهم أن الذي خـلقهما وخـلق جميع ما فـيهما وما هم فـيه من النعم هو الـمستـحقّ علـيهم الطاعة, والـمستوجب منهم الشكر والعبـادة دون الأصنام والأوثان التـي لا تضرّ ولا تنفع.
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: وأنْزَلَ مِنَ السّمَاءِ ماءً فأخْرَجَ بِهِ مِنَ الثّمَرَاتِ رِزْقا لَكُمْ.
يعنـي بذلك أنه أنزل من السماء مطرا, فأخرج بذلك الـمطر مـما أنبتوه فـي الأرض من زرعهم وغرسهم ثمرات رزقا لهم غذاءً وأقواتا. فنبههم بذلك علـى قدرته وسلطانه, وذكرهم به آلاءه لديهم, وأنه هو الذي خـلقهم وهو الذي يرزقهم ويكفلهم دون من جعلوه له نِدّا وعِدْلاً من الأوثان والاَلهة, ثم زجرهم عن أن يجعلوا له ندّا مع علـمهم بأن ذلك كما أخبرهم, وأنه لا ندّ له ولا عدل, ولا لهم نافعٌ ولا ضارّ ولا خالقٌ ولا رازق سواه.
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: فَلا تَـجْعَلُوا لِلّهِ أنْدَادا.
قال أبو جعفر: والأنداد, جمع ندّ, والندّ: العِدْل والـمثل, كما قال حسان بن ثابت:
أتَهْجُوهُ وَلَسْتَ لَهُ بِنِدَفَشَرّكما لـخَيْرِكُما الفِداءُ
يعنـي بقوله: «ولست له بند»: لست له بـمثل ولا عدل. وكل شيء كان نظيرا لشيء وشبـيها فهو له ندّ. كما:
282ـ حدثنا بشر بن معاذ, قال: حدثنا يزيد, عن سعيد, عن قتادة: فَلاَ تَـجْعَلُوا لِلّهِ أَنْدَادا أي عدلاء.
283ـ وحدثنـي الـمثنى, قال: حدثنـي أبو حذيفة, قال: حدثنا شبل, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد: فَلاَ تَـجْعَلُوا لِلّهِ أَنْدَادا أي عدلاء.
284ـ وحدثنـي موسى بن هارون, قال: حدثنا عمرو, قال: حدثنا أسبـاط, عن السدي عن خبر ذكره عن أبـي مالك, وعن أبـي صالـح, عن ابن عبـاس, وعن مرة, عن ابن مسعود, وعن ناس من أصحاب النبـي صلى الله عليه وسلم: فَلاَ تَـجْعَلُوا لِلّهِ أَنْدَادا قال: أكفـاء من الرجال تطيعونهم فـي معصية الله.
285ـ وحدثنـي يونس بن عبد الأعلـى قال: أخبرنا ابن وهب قال: قال ابن زيد فـي قول الله: فَلاَ تَـجْعَلُوا لِلّهِ أَنْدَادا قال: الأنداد: الاَلهة التـي جعلوها معه وجعلوا لها مثل ما جعلوا له.
286ـ وحدثت عن الـمنـجاب, قال: حدثنا بشر, عن أبـي روق, عن الضحاك, عن ابن عبـاس فـي قوله: فَلاَ تَـجْعَلُوا لِلّهِ أنْدَادا قال: أشبـاها.
287ـ حدثنـي مـحمد بن سنان, قال: حدثنا أبو عاصم عن شبـيب عن عكرمة: فلا تـجعلوا لله أندادا أي تقولوا: لولا كلبنا لدخـل علـينا اللصّ الدار, لولا كلبنا صاح فـي الدار ونـحو ذلك.
فنهاهم الله تعالـى أن يشركوا به شيئا, وأن يعبدوا غيره, أو يتـخذوا له ندا وعدلاً فـي الطاعة, فقال: كما لا شريك لـي فـي خـلقكم وفـي رزقكم الذي أرزقكم, وملكي إياكم, ونعمتـي التـي أنعمتها علـيكم, فكذلك فأفردوا لـي الطاعة, وأخـلصوا لـي العبـادة, ولا تـجعلوا لـي شريكا وندّا من خـلقـي, فإنكم تعلـمون أن كل نعمة علـيكم منّـي.
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: وأنْتُـمْ تَعْلَـمُونَ.
اختلف أهل التأويـل فـي الذين عُنوا بهذه الآية, فقال بعضهم: عنـي بها جميع الـمشركين, من مشركي العرب وأهل الكتاب. وقال بعضهم: عنـي بذلك أهل الكتابـين: التوراة, والإنـجيـل.
ذكر من قال: عنـي بها جميع عبدة الأوثان من العرب وكفـار أهل الكتابـين:
288ـ حدثنا مـحمد بن حميد, قال: حدثنا سلـمة بن الفضل, عن مـحمد بن إسحاق, عن مـحمد بن أبـي مـحمد مولـى زيد بن ثابت, عن عكرمة, أو عن سعيد بن جبـير, عن ابن عبـاس, قال: نزل ذلك فـي الفريقـين جميعا من الكفـار والـمنافقـين. وإنـما عَنَى بقوله: فَلاَ تَـجْعَلُوا لِلّهِ أنْدَادا وأنْتُـمْ تَعْلَـمُونَ أي لا تشركوا بـالله غيره من الأنداد التـي لا تنفع ولا تضرّ, وأنتـم تعلـمون أنه لا رب لكم يرزقكم غيره, وقد علـمتـم أن الذي يدعوكم إلـيه الرسول من توحيده هو الـحقّ لا شك فـيه.
289ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد عن سعيد, عن قتادة فـي قوله: وأنْتُـمْ تَعْلَـمُونَ أي تعلـمون أن الله خـلقكم وخـلق السموات والأرض, ثم تـجعلون له أندادا.
ذكر من قال: عَنَى بذلك أهْلَ الكتابـين:
290ـ حدثنا أبو كريب, قال: حدثنا وكيع, عن سفـيان, عن رجل, عن مـجاهد: فَلا تَـجْعَلُوا لِلّهِ أنْدَادا وأنْتُـمْ تَعْلَـمُونَ أنه إله واحد فـي التوراة والإنـجيـل.
وحدثنـي الـمثنى بن إبراهيـم, قال: حدثنا قبـيصة, قال: حدثنا سفـيان عن مـجاهد مثله.
وحدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا أبو حذيفة, قال: حدثنا شبل عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد: وأنْتُـمْ تَعْلَـمُونَ يقول: وأنتـم تعلـمون أنه لا ندّ له فـي التوراة والإنـجيـل.
قال أبو جعفر: وأحسب أن الذي دعا مـجاهدا إلـى هذا التأويـل, وإضافة ذلك إلـى أنه خطاب لأهل التوراة والإنـجيـل دون غيرهم, الظنّ منه بـالعرب أنها لـم تكن تعلـم أن الله خالقها ورازقها بجحودها وحدانـية ربها, وإشراكها معه فـي العبـادة غيره. وإن ذلك لقولٌ ولكن الله جل ثناؤه قد أخبر فـي كتابه عنها أنها كانت تقرّ بوحدانـية, غير أنها كانت تشرك فـي عبـادته ما كانت تشرك فـيها, فقال جل ثناؤه: وَلِئِنْ سألْتَهُمْ مَنْ خَـلَقَهُمْ لَـيَقُولُنّ اللّهُ, وقال: قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السّمَاءِ والأرْضِ أمْ مَنْ يَـمْلِكُ السّمْعَ وَالأبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الـحَيّ مِنَ الـمَيّتِ ويُخْرِجُ الـمَيّتَ مِنَ الـحَيّ وَمَنْ يُدَبّرُ الأمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللّهُ فَقُلْ أفَلا تَتّقُونَ.
فـالذي هو أولـى بتأويـل قوله: وأنْتُـمْ تَعْلَـمُونَ إذ كان ما كان عند العرب من العلـم بوحدانـية الله, وأنه مبدع الـخـلق وخالقهم ورازقهم, نظير الذي كان من ذلك عند أهل الكتابـين. ولـم يكن فـي الآية دلالة علـى أن الله جل ثناؤه عنى بقوله: وأنْتُـمْ تَعْلَـمُونَ أحد الـحزبـين, بل مخرج الـخطاب بذلك عام للناس كافة لهم, لأنه تـحدّى الناس كلهم بقوله: يا أيّها النّاسُ اعْبُدُوا رَبّكُمْ أن يكون تأويـله ما قاله ابن عبـاس وقتادة, من أنه يعنـي بذلك كل مكلف عالـم بوحدانـية الله, وأنه لا شريك له فـي خـلقه يشرك معه فـي عبـادته غيره, كائنا من كان من الناس, عربـيا كان أو أعجميا, كاتبـا أو أميا, وإن كان الـخطاب لكفـار أهل الكتاب الذين كانوا حوالـي دار هجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم, وأهل النفـاق منهم ومـمن بـين ظهرانـيهم مـمن كان مشركا فـانتقل إلـى النفـاق بـمقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم.
الآية : 23
القول فـي تأويـل قوله تعالـى:
{وَإِن كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مّمّا نَزّلْنَا عَلَىَ عَبْدِنَا فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مّن مّثْلِهِ وَادْعُواْ شُهَدَآءَكُم مّن دُونِ اللّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ }
قال أبو جعفر: وهذا من الله عزّ وجلّ احتـجاج لنبـيه مـحمد صلى الله عليه وسلم علـى مشركي قومه من العرب ومنافقـيهم وكفـار أهل الكتاب وضلالهم الذين افتتـح بقصصهم قوله جل ثناؤه: إنّ الّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَـيْهِمْ أأنْذَرْتَهُمْ أمْ لَـمْ تُنْذِرْهُمْ وإياهم يخاطب بهذه الاَيات, وضُربـاءَهم يعنـي بها, قال الله جل ثناؤه: وإن كنتـم أيها الـمشركون من العرب والكفـار من أهل الكتابـين فـي شكّ وهو الريب مـما نزّلنا علـى عبدنا مـحمد صلى الله عليه وسلم من النور والبرهان وآيات الفرقان أنه من عندي, وأنـي الذي أنزلته إلـيه, فلـم تؤمنوا به ولـم تصدّقوه فـيـما يقول, فأتوا بحجة تدفع حجته لأنكم تعلـمون أن حجة كل ذي نبوّة علـى صدقه فـي دعواه النبوّة أن يأتـي ببرهان يعجز عن أن يأتـي بـمثله جميع الـخـلق, ومن حجة مـحمد صلى الله عليه وسلم علـى صدقه وبرهانه علـى نبوّته, وأن ما جاء به من عندي, عَجْزُ جميعكم وجميع من تستعينون به من أعوانكم وأنصاركم عن أن تأتوا بسورة من مثله. وإذا عجزتـم عن ذلك, وأنتـم أهل البراعة فـي الفصاحة والبلاغة والدراية, فقد علـمتـم أن غيركم عما عجزتـم عنه من ذلك أعجز. كما كان برهان من سلف من رسلـي وأنبـيائي علـى صدقه وحجته علـى نبوّته من الاَيات ما يعجز عن الإتـيان بـمثله جميع خـلقـي. فـيتقرّر حينئذ عندكم أن مـحمدا لـم يتقوّله ولـم يختلقه, لأن ذلك لو كان منه اختلافـا وتقوّلاً لـم يعجزوا وجميع خـلقه عن الإتـيان بـمثله, لأن مـحمدا صلى الله عليه وسلم لـم يَعُدْ أن يكون بشرا مثلكم, وفـي مثل حالكم فـي الـجسم وبسطة الـخـلق وذرابة اللسان, فـيـمكن أن يظن به اقتدار علـى ما عجزتـم عنه, أو يتوهم منكم عجز عما اقتدر علـيه.
ثم اختلف أهل التأويـل فـي تأويـل قوله: فأتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ.
291ـ حدثنا بشر بن معاذ, قال: حدثنا يزيد, عن سعيد, عن قتادة: فأتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ يعنـي من مثل هذا القرآن حقّا وصدقا لا بـاطل فـيه ولا كذب.
292ـ وحدثنا الـحسن بن يحيى, قال: أنبأنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا معمر, عن قتادة فـي قوله: فأتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ يقول: بسورة مثل هذا القرآن.
293ـ وحدثنـي مـحمد بن عمرو البـاهلـي, قال: حدثنا أبو عاصم, عن عيسى بن ميـمون, عن عبد الله بن أبـي نـجيح, عن مـجاهد: فأتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ مثل القرآن.
وحدثنا الـمثنى, قال: حدثنا أبو حذيفة, قال: حدثنا شبل عن ابن أبـي نـجيح عن مـجاهد مثله.
وحدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: حدثنـي حجاج, عن ابن جريج, عن مـجاهد: فأتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ قال: مثله, مثل القرآن.
فمعنى قول مـجاهد وقتادة اللذين ذكرنا عنهما, أن الله جل ذكره قال لـمن حاجّه فـي نبـيه صلى الله عليه وسلم من الكفـار: فأتوا بسورة من مثل هذا القرآن من كلامكم أيتها العرب, كما أتـى به مـحمد بلغاتكم ومعانـي منطقكم.
وقد قال قوم آخرون: إن معنى قوله: فأتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ: من مثل مـحمد من البشر, لأنه مـحمدا بشر مثلكم.
قال أبو جعفر: والتأويـل الأوّل الذي قاله مـجاهد وقتادة هو التأويـل الصحيح لأن الله جل ثناؤه قال فـي سورة أخرى: أمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ فأتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ. ومعلوم أن السورة لـيست لـمـحمد بنظير ولا شبـيه, فـيجوز أن يقال: فأتوا بسورة مثل مـحمد.
فإن قال قائل: إنك ذكرت أن الله عنى بقوله: فأتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ من مثل هذا القرآن, فهل للقرآن من مثل فـيقال: ائتوا بسورة من مثله؟ قـيـل: إنه لـم يعن به: ائتوا بسورة من مثله فـي التألـيف والـمعانـي التـي بـاين بها سائر الكلام غيره, وإنـما عنى: ائتوا بسورة من مثله فـي البـيان لأن القرآن أنزله الله بلسان عربـي, فكلام العرب لا شكّ له مثل فـي معنى العربـية فأما فـي الـمعنى الذي بـاين به القرآن سائر كلام الـمخـلوقـين, فلا مثل له من ذلك الوجه ولا نظير ولا شبـيه. وإنـما احتـجّ الله جل ثناؤه علـيهم لنبـيه صلى الله عليه وسلم بـما احتـجّ به له علـيهم من القرآن, إذ ظهر القوم عن أن يأتوا بسورة من مثله فـي البـيان, إذ كان القرآن بـيانا مثل بـيانهم, وكلاما نزل بلسانهم, فقال لهم جل ثناؤه: وإن كنتـم فـي ريب من أنّ ما أنزلت علـى عبدي من القرآن من عندي, فأتوا بسورة من كلامكم الذي هو مثله فـي العربـية, إذْ كنتـم عربـا, وهو بـيان نظير بـيانكم, وكلام شبـيه كلامكم. فلـم يكلفهم جل ثناؤه أن يأتوا بسورة من غير اللسان الذي هو نظير اللسان الذي نزل به القرآن, فـيقدروا أن يقولوا: كلفتنا ما لو أحسنّاه أتـينا به, وإنا لا نقدر علـى الإتـيان به, لأنا لسنا من أهل اللسان الذي كلفتنا الإتـيان به, فلـيس لك علـينا حجة بهذا لأنا وإن عجزنا عن أن نأتـي بـمثله من غير ألسنتنا لأنا لسنا بأهله, ففـي الناس خـلق كثـير من غير أهل لساننا يقدر علـى أن يأتـي بـمثله من اللسان الذي كلفتنا الإتـيان به. ولكنه جل ثناؤه قال لهم: ائتوا بسورة مثله, لأن مثله من الألسن ألسنتكم, وأنتـم إن كان مـحمد اختلقه وافتراه, إذا اجتـمعتـم وتظاهرتـم علـى الإتـيان بـمثل سورة منه من لسانكم وبـيانكم أقدر علـى اختلاقه ووضعه وتألـيفه من مـحمد صلى الله عليه وسلم, وإن لـم تكونوا أقدر علـيه منه فلن تعجزوا وأنتـم جميع عما قدر علـيه مـحمد من ذلك وهو وحده, إن كنتـم صادقـين فـي دعواكم وزعمكم أن مـحمدا افتراه واختلقه وأنه من عند غيري.
واختلف أهل التأويـل فـي تأويـل قوله: وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللّهِ إنْ كُنْتُـمْ صَادِقِـينَ فقال ابن عبـاس بـما:
294ـ حدثنا به مـحمد بن حميد, قال: حدثنا سلـمة, عن ابن إسحاق, عن مـحمد بن أبـي مـحمد مولـى زيد بن ثابت, عن عكرمة, أو عن سعيد, عن ابن عبـاس: وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللّهِ يعنـي أعوانكم علـى ما أنتـم علـيه, إنْ كُنْتُـمْ صَادِقِـينَ.
295ـ وحدثنـي مـحمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, عن عيسى, عن ابن نـجيح, عن مـجاهد: وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ ناس يشهدون.
وحدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا أبو حذيفة, قال: حدثنا شبل عن ابن أبـي نـجيح عن مـجاهد مثله.
وحدثنا أبو كريب, قال: حدثنا وكيع عن سفـيان, عن رجل, عن مـجاهد, قال: قوم يشهدون لكم.
وحدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: حدثنـي حجاح, عن ابن جريج, عن مـجاهد: وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ قال: ناس يشهدون. قال ابن جريج: شهداءكم علـيها إذا أتـيتـم بها أنها مثله مثل القرآن.
وذلك قول الله لـمن شك من الكفـار فـيـما جاء به مـحمد صلى الله عليه وسلم. وقوله: فـادْعُوا يعنـي استنصروا واستعينوا, كما قال الشاعر:
فَلَـمّا الْتَقَتْ فُرْسانُنا وَرِجَالُهُمْدَعَوْا يا لَكَعْبٍ واعْتَزَيْنا لِعامِرِ
يعنـي بقوله: دعوا يالكعب: استنصروا كعبـا واستعانوا بهم.
وأما الشهداء فإنها جمع شهيد, كالشركاء جمع شريك, والـخطبـاء جمع خطيب. والشهيد يسمى به الشاهد علـى الشيء لغيره بـما يحقق دعواه, وقد يسمى به الـمشاهد للشيء كما يقال فلان جلـيس فلان, يعنـي به مـجالسه, ونديـمه يعنـي به منادمه, وكذلك يقال: شهيده يعنـي به مشاهده. فإذا كانت الشهداء مـحتـملة أن تكون جمع الشهيد الذي هو منصرف للـمعنـيـين اللذين وصفت, فأولـى وجهيه بتأويـل الآية ما قاله ابن عبـاس, وهو أن يكون معناه: واستنصروا علـى أن تأتوا بسورة من مثله أعوانَكم وشهداءَكم الذين يشاهدونكم ويعاونونكم علـى تكذيبكم الله ورسوله ويظاهرونكم علـى كفركم ونفـاقكم إن كنتـم مـحقـين فـي جحودكم أن ما جاءكم به مـحمد صلى الله عليه وسلم اختلاق وافتراء, لتـمتـحنوا أنفسكم وغيركم: هل تقدرون علـى أن تأتوا بسورة من مثله, فـيقدر مـحمد علـى أن يأتـي بجميعه من قبل نفسه اختلاقا؟
وأما ما قاله مـجاهد وابن جريج فـي تأويـل ذلك فلا وجه له لأن القوم كانوا علـى عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أصنافـا ثلاثة: أهل إيـمان صحيح, وأهل كفر صحيح, وأهل نفـاق بـين ذلك. فأهل الإيـمان كانوا بـالله وبرسوله مؤمنـين, فكان من الـمـحال أن يدّعي الكفـار أن لهم شهداء علـى حقـيقة ما كانوا يأتون به لو أتوا بـاختلاق من الرسالة, ثم ادعوا أنه للقرآن نظير من الـمؤمنـين. فأما أهل النفـاق والكفر فلا شك أنهم لو دُعوا إلـى تـحقـيق البـاطل وإبطال الـحق لسارعوا إلـيه مع كفرهم وضلالهم, فمن أيّ الفريقـين كانت تكون شهداءكم لو ادّعوا أنهم قد أتوا بسورة من مثل القرآن؟ ولكن ذلك كما قال جل ثناؤه: قُلْ لَئِنْ اجْتَـمَعَتِ الإنْسُ والـجِنّ علـى أنْ يأتُوا بِـمِثْلِ هَذَا القُرْآنِ لا يأتُونَ بِـمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرا فأخبر جل ثناؤه فـي هذه الآية أن مثل القرآن لا يأتـي به الـجن والإنس ولو تظاهروا وتعاونوا علـى الإتـيان به وتـحدّاهم بـمعنى التوبـيخ لهم فـي سورة البقرة, فقال تعالـى: وَإنْ كُنْتُـمْ فـي رَيْبٍ مِـمّا نَزّلْنَا علـى عَبْدِنَا فأتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللّهِ إنْ كُنْتُـمْ صَادِقِـين يعنـي بذلك: إن كنتـم فـي شك فـي صدق مـحمد فـيـما جاءكم به من عندي أنه من عندي, فأتوا بسورة من مثله, ولـيستنصر بعضكم بعضا علـى ذلك إن كنتـم صادقـين فـي زعمكم حتـى تعلـموا أنكم إذا عجزتـم عن ذلك أنه لا يقدر علـى أن يأتـي به مـحمد صلى الله عليه وسلم ولا من البِشر أحد, ويصح عندكم أنه تنزيـلـي ووحيـي إلـى عبدي.
الآية : 24
القول فـي تأويـل قوله تعالـى:
{فَإِن لّمْ تَفْعَلُواْ وَلَن تَفْعَلُواْ فَاتّقُواْ النّارَ الّتِي وَقُودُهَا النّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدّتْ لِلْكَافِرِينَ }
قال أبو جعفر: يعنـي تعالـى بقوله: فإنْ لَـمْ تَفْعَلُوا: إن لـم تأتوا بسورة من مثله, وقد تظاهرتـم أنتـم وشركاؤكم علـيه وأعوانكم. فتبـين لكم بـامتـحانكم واختبـاركم عجزكم وعجز جميع خـلقـي عنه, وعلـمتـم أنه من عندي, ثم أقمتـم علـى التكذيب به. وقوله: وَلَنْ تَفْعَلُوا أي لن تأتوا بسورة من مثله أبدا. كما:
296ـ حدثنا بشر بن معاذ, قال: حدثنا يزيد, عن سعيد, عن قتادة: فإنْ لَـمْ تَفْعَلُوا ولَنْ تَفْعَلُوا أي لا تقدرون علـى ذلك ولا تطيقونه.
297ـ وحدثنا ابن حميد, قال: حدثنا سلـمة, عن ابن إسحاق, عن مـحمد بن أبـي مـحمد, عن عكرمة, أو عن سعيد بن جبـير, عن ابن عبـاس: فإنْ لَـمْ تَفْعَلُوا ولَنْ تَفْعَلُوا فقد بـين لكم الـحقّ.
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: فـاتقُوا النّارَ الّتِـي وَقُودُها النّاسِ وَالْـحِجَارَةُ.
قال أبو جعفر: يعنـي جل ثناؤه بقوله: فـاتّقُوا النّارَ يقول: فـاتقوا أن تَصْلَوا النار بتكذيبكم رسولـي بـما جاءكم به من عندي أنه من وحيـي وتنزيـلـي, بعد تبـينكم أنه كتابـي ومن عندي, وقـيام الـحجة علـيكم بأنه كلامي ووحيـي, بعجزكم وعجز جميع خـلقـي عن أن يأتوا بـمثله. ثم وصف جل ثناؤه النار التـي حذرهم صِلِـيّها, فأخبرهم أن الناس وقودها, وأن الـحجارة وقودها, فقال: الّتِـي وَقُودُهَا النّاسُ والـحِجارَةُ يعنـي بقوله وقودها: حطبها, والعرب تـجعله مصدرا, وهو اسم إذا فتـحت الواو بـمنزلة الـحطب, فإذا ضمت الواو من الوقود كان مصدرا من قول القائل: وقدت النار فهي تقد وُقودا وقِدَةً وَوَقَدَانا ووَقْدا, يراد بذلك أنها التهبت.
فإن قال قائل: وكيف خُصّت الـحجارة فقرنت بـالناس حتـى جعلت لنار جهنـم حطبـا؟ قـيـل: إنها حجارة الكبريت, وهي أشدّ الـحجارة فـيـما بلغنا حرّا إذا أحميت. كما:
298ـ حدثنا أبو كريب, قال: حدثنا أبو معاوية, عن مسعر, عن عبد الـملك بن ميسرة الزراد, عن عبد الرحمن بن سابط, عن عمرو بن ميـمون, عن عبد الله فـي قوله: وَقُودُهَا النّاسُ وَالـحجارَةُ قال: هي حجارة من كبريت خـلقها الله يوم خـلق السموات والأرض فـي السماء الدنـيا يعدّها للكافرين.
299ـ وحدثنا الـحسن بن يحيى, قال: أنبأنا عبد الرزاق, قال: أنبأنا ابن عيـينة, عن مسعر عن عبد الـملك الزرّاد عن عمرو بن ميـمون, عن ابن مسعود فـي قوله: وَقُودُها النّاسُ والـحجارَةُ قال: حجارة الكبريت جعلها الله كما شاء.
300ـ وحدثنـي موسى بن هارون, قال: حدثنا عمرو بن حماد, قال: حدثنا أسبـاط عن السدي فـي خبر ذكره عن أبـي مالك, وعن أبـي صالـح, عن ابن عبـاس, وعن مرة, عن ابن مسعود, وعن ناس من أصحاب النبـي صلى الله عليه وسلم: اتّقُوا النّارَ الّتِـي وَقُودُها النّاسُ وَالـحِجَارَةِ أما الـحجارة فهي حجارة فـي النار من كبريت أسود يعذّبون به مع النار.
301ـ وحدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: حدثنـي حجاج, عن ابن جريج فـي قوله: وَقُودُها النّاسُ والـحجارَةُ قال: حجارة من كبريت أسود فـي النار. قال: وقال لـي عمرو بن دينار: حجارة أصلب من هذه وأعظم.
حدثنا سفـيان بن وكيع, قال: حدثنا أبـي عن مسعر, عن عبد الـملك بن ميسرة, عن عبد الرحمن بن سابط, عن عمرو بن ميـمون عن عبد الله بن مسعود, قال: حجارة من الكبريت خـلقها الله عنده كيف وشاء وكما شاء.
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: أُعِدّتْ للكافِرِينَ.
قد دللنا فـيـما مضى من كتابنا هذا علـى أن الكافر فـي كلام العرب هو الساتر شيئا بغطاء, وأن الله جل ثناؤه إنـما سمى الكافر كافرا لـجحوده آلاءه عنده, وتغطيته نعماءه قبله فمعنى قوله إذا: أُعِدّتْ لِلْكَافِرِينَ: أعدّت النار للـجاحدين أن الله ربهم الـمتوحد بخـلقهم وخَـلْق الذين من قبلهم, الذي جعل لهم الأرض فراشا, والسماء بناءً, وأنزل من السماء ماءً, فأخرج به من الثمرات رزقا لهم, الـمشركين معه فـي عبـادته الأنداد والاَلهة, وهو الـمتفرّد لهم بـالإنشاء والـمتوحد بـالأقوات والأرزاق. كما:
302ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا سلـمة, عن مـحمد بن إسحاق, عن مـحمد بن أبـي مـحمد مولـى زيد بن ثابت, عن عكرمة, أو عن سعيد, عن ابن عبـاس: أُعِدّتْ للْكافِرِينَ أي لـمن كان علـى مثل ما أنتـم علـيه من الكفر