تفسير السعدي تفسير الصفحة 409 من المصحف


قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ ( 42 ) .
والأمر بالسير في الأرض يدخل فيه السير بالأبدان والسير في القلوب للنظر والتأمل بعواقب المتقدمين.
( كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ ) تجدون عاقبتهم شر العواقب ومآلهم شر مآل، عذاب استأصلهم وذم ولعن من خلق اللّه يتبعهم وخزي متواصل، فاحذروا أن تفعلوا فعالهم يُحْذَى بكم حذوهم فإن عدل اللّه وحكمته في كل زمان ومكان.
فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ ( 43 ) مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ ( 44 ) لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ ( 45 ) .
أي: أقبل بقلبك وتوجه بوجهك واسع ببدنك لإقامة الدين القيم المستقيم، فنفذ أوامره ونواهيه بجد واجتهاد وقم بوظائفه الظاهرة والباطنة. وبادر زمانك وحياتك وشبابك، ( مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ ) وهو يوم القيامة الذي إذا جاء لا يمكن رده ولا يرجأ العاملون أن يستأنفوا العمل بل فرغ من الأعمال لم يبق إلا جزاء العمال. ( يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ ) أي: يتفرقون عن ذلك اليوم ويصدرون أشتاتا متفاوتين لِيُرَوْا أعمالهم.
( مَنْ كَفَرَ ) منهم ( فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ ) ويعاقب هو بنفسه لا تزر وازرة وزر أخرى، ( وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا ) من الحقوق التي للّه أو التي للعباد الواجبة والمستحبة، ( فَلأنْفُسِهِمْ ) لا لغيرهم ( يَمْهَدُونَ ) أي: يهيئون ولأنفسهم يعمرون آخرتهم ويستعدون للفوز بمنازلها وغرفاتها، ومع ذلك جزاؤهم ليس مقصورا على أعمالهم بل يجزيهم اللّه من فضله الممدود وكرمه غير المحدود ما لا تبلغه أعمالهم. وذلك لأنه أحبهم وإذا أحب اللّه عبدا صب عليه الإحسان صبا، وأجزل له العطايا الفاخرة وأنعم عليه بالنعم الظاهرة والباطنة.
وهذا بخلاف الكافرين فإن اللّه لما أبغضهم ومقتهم عاقبهم وعذبهم ولم يزدهم كما زاد من قبلهم فلهذا قال: ( إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ )
وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّيَاحَ مُبَشِّرَاتٍ وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ( 46 ) .
أي: ومن الأدلة الدالة على رحمته وبعثه الموتى وأنه الإله المعبود والملك المحمود، ( أَنْ يُرْسِلَ الرِّيَاحَ ) أمام المطر ( مُبَشِّرَاتٍ ) بإثارتها للسحاب ثم جمعها فتبشر بذلك النفوس قبل نزوله.
( وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ ) فينزل عليكم من رحمته مطرا تحيا به البلاد والعباد، وتذوقون من رحمته ما تعرفون أن رحمته هي المنقذة للعباد والجالبة لأرزاقهم، فتشتاقون إلى الإكثار من الأعمال الصالحة الفاتحة لخزائن الرحمة.
( وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ ) في البحر ( بِأَمْرِهِ ) القدري ( وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ ) بالتصرف في معايشكم ومصالحكم.
( وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ) من سخر لكم الأسباب وسير لكم الأمور. فهذا المقصود من النعم أن تقابل بشكر اللّه تعالى ليزيدكم اللّه منها ويبقيها عليكم.
وأما مقابلة النعم بالكفر والمعاصي فهذه حال من بدَّل نعمة اللّه كفرا ونعمته محنة وهو معرض لها للزوال والانتقال منه إلى غيره.
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلا إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَاءُوهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَانْتَقَمْنَا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ ( 47 ) .
أي: ( وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ ) في الأمم السابقين ( رُسُلا إِلَى قَوْمِهِمْ ) حين جحدوا توحيد اللّه وكذبوا بالحق فجاءتهم رسلهم يدعونهم إلى التوحيد والإخلاص والتصديق بالحق وبطلان ما هم عليه من الكفر والضلال، وجاءوهم بالبينات والأدلة على ذلك فلم يؤمنوا ولم يزولوا عن غيهم، ( فَانْتَقَمْنَا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا ) ونصرنا المؤمنين أتباع الرسل. ( وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ ) أي: أوجبنا ذلك على أنفسنا وجعلناه من جملة الحقوق المتعينة ووعدناهم به فلا بد من وقوعه.
فأنتم أيها المكذبون لمحمد صلى اللّه عليه وسلم إن بقيتم على تكذيبكم حلَّت بكم العقوبة ونصرناه عليكم.
اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَيَبْسُطُهُ فِي السَّمَاءِ كَيْفَ يَشَاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ فَإِذَا أَصَابَ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ ( 48 ) وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ ( 49 ) فَانْظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَتِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِي الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِي الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ( 50 ) .
يخبر تعالى عن كمال قدرته وتمام نعمته أنه ( يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا ) من الأرض، ( فَيَبْسُطُهُ فِي السَّمَاءِ ) أي: يمده ويوسعه ( كَيْفَ يَشَاءُ ) أي: على أي حالة أرادها من ذلك ثم ( يَجْعَلُهُ ) أي: ذلك السحاب الواسع ( كِسَفًا ) أي: سحابا ثخينا قد طبق بعضه فوق بعض.
( فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ ) أي: السحاب نقطا صغارا متفرقة، لا تنزل جميعا فتفسد ما أتت عليه.
( فَإِذَا أَصَابَ بِهِ ) بذلك المطر ( مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ ) يبشر بعضهم بعضا بنزوله وذلك لشدة حاجتهم وضرورتهم إليه فلهذا قال: ( وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنزلَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ ) أي: آيسين قانطين لتأخر وقت مجيئه، أي: فلما نزل في تلك الحال صار له موقع عظيم [ عندهم ] وفرح واستبشار.
( فَانْظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَةِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِي الأرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا ) فاهتزت وربت وأنبتت من كل زوج كريم.
( إِنَّ ذَلِكَ ) الذي أحيا الأرض بعد موتها ( لَمُحْيِي الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ) فقدرته تعالى لا يتعاصى عليها شيء وإن تعاصى على قدر خلقه ودق عن أفهامهم وحارت فيه عقولهم.