تفسير ابن كثير تفسير الصفحة 409 من المصحف



تفسير ابن كثير - صفحة القرآن رقم 409

409 : تفسير الصفحة رقم 409 من القرآن الكريم

** فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدّينَ الْقِيّمِ مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لاّ مَرَدّ لَهُ مِنَ اللّهِ يَوْمَئِذٍ يَصّدّعُونَ * مَن كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَمَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلأنفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ * لِيَجْزِيَ الّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصّالِحَاتِ مِن فَضْلِهِ إِنّهُ لاَ يُحِبّ الْكَافِرِينَ
يقول تعالى آمراً عباده بالمبادرة إلى الإستقامة في طاعته والمبادرة إلى الخيرات {فأقم وجهك للدين القيم من قبل أن يأتي يوم لا مرد له من الله} أي يوم القيامة إذا أراد كونه فلا راد له {يومئذ يصدعون} أي يتفرقون, ففريق في الجنة وفريق في السعير, ولهذا قال تعالى: {من كفر فعليه كفره ومن عمل صالحاً فلأنفسهم يمهدون * ليجزي الذين آمنوا وعملوا الصالحات من فضله} أي يجازيهم مجازاة الفضل, الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف إلى ما يشاء الله {إنه لا يحب الكافرين} ومع هذا هو العادل فيهم الذي لا يجور.

** وَمِنْ آيَاتِهِ أَن يُرْسِلَ الرّيَاحَ مُبَشّرَاتٍ وَلِيُذِيقَكُمْ مّن رّحْمَتِهِ وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ وَلَعَلّكُمْ تَشْكُرُونَ * وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ رُسُلاً إِلَىَ قَوْمِهِمْ فَجَآءُوهُم بِالْبَيّنَاتِ فَانتَقَمْنَا مِنَ الّذِينَ أَجْرَمُواْ وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنينَ
يذكر تعالى نعمه على خلقه في إرسال الرياح مبشرات بين يدي رحمته بمجيء الغيث عقبها, ولهذا قال تعالى: {وليذيقكم من رحمته} أي المطر الذي ينزله فيحيي به العباد والبلاد {ولتجري الفلك بأمره} أي في البحر وإنما سيرها بالريح {ولتبتغوا من فضله} أي في التجارات والمعايش والسير من إقليم إلى إقليم, وقطر إلى قطر {ولعلكم تشكرون} أي تشكرون الله على ما أنعم به عليكم من النعم الظاهرة والباطنة التي لا تعد ولا تحصى. ثم قال تعالى: {ولقد أرسلنا من قبلك رسلاً إلى قومهم فجاؤوهم بالبينات فانتقمنا من الذين أجرمو} هذه تسلية من الله تعالى لعبده ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم بأنه وإن كذبه كثير من قومه ومن الناس, فقد كذبت الرسل المتقدمون مع ما جاؤوا أممهم به من الدلائل الواضحات. ولكن انتقم الله ممن كذبهم وخالفهم وأنجى المؤمنين بهم {وكان حقاً علينا نصر المؤمنين} أي هو حق أوجبه على نفسه الكريمة تكرماً وتفضلاً, كقوله تعالى: {كتب ربكم على نفسه الرحمة} وروى ابن أبي حاتم: حدثنا أبي, حدثنا ابن نفيل, حدثنا موسى بن أعين عن ليث عن شهر بن حوشب عن أم الدرداء عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول «ما من امرىء مسلم يرد عن عرض أخيه إلا كان حقاً على الله أن يرد عنه نار جهنم يوم القيامة» ثم تلا هذه الاَية {وكان حقاً علينا نصر المؤمنين}.

** اللّهُ الّذِي يُرْسِلُ الرّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَاباً فَيَبْسُطُهُ فِي السّمَآءِ كَيْفَ يَشَآءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفاً فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلاَلِهِ فَإِذَآ أَصَابَ بِهِ مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ * وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلِ أَن يُنَزّلَ عَلَيْهِمْ مّن قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ * فَانظُرْ إِلَىَ آثَارِ رَحْمَةِ اللّهِ كَيْفَ يُحْيِيِ الأرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَآ إِنّ ذَلِكَ لَمُحْييِ الْمَوْتَىَ وَهُوَ عَلَىَ كُلّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * وَلَئِنْ أَرْسَلْنَا رِيحاً فَرَأَوْهُ مُصْفَرّاً لّظَلّواْ مِن بَعْدِهِ يَكْفُرُونَ
يبين تعالى كيف يخلق السحاب الذي ينزل منه الماء, فقال تعالى: {الله الذي يرسل الرياح فتثير سحابً} إما من البحر كما ذكره غير واحد, أو مما يشاء الله عز وجل {فيبسطه في السماء كيف يشاء} أي يمده فيكثره وينميه, ويجعل من القليل كثير, ينشىء سحابة ترى في رأي العين مثل الترس, ثم يبسطها حتى تملأ أرجاءالأفق, وتارة يأتي السحاب من نحو البحر ثقالاً مملوءة, كما قال تعالى: {وهو الذي يرسل الرياح بشراً بين يدي رحمته حتى إذا أقلت سحاباً ثقالاً سقناه لبلد ميت ـ إلى قوله ـ كذلك نخرج الموتى لعلكم تذكرون} وكذلك قال ههنا {الله الذي يرسل الرياح فتثير سحاباً فيبسطه في السماء كيف يشاء ويجعله كسف} قال مجاهد وأبو عمرو بن العلاء ومطر الوراق وقتادة: يعني قطعاً. وقال غيره: متراكماً, كما قاله الضحاك. وقال غيره: أسود من كثرة الماء, تراه مدلهماً ثقيلاً قريباً من الأرض.
وقوله تعالى: {فترى الودق يخرج من خلاله} أي فترى المطر وهو القطر, يخرج من بين ذلك السحاب {فإذا أصاب به من يشاء من عباده إذا هم يستبشرون} أي إليه يفرحون لحاجتهم بنزوله عليهم ووصوله إليهم. وقوله تعالى: {وإن كانوا من قبل أن ينزل عليهم من قبله لمبلسين} معنى الكلام أن هؤلاء القوم الذين أصابهم هذا المطر, كانوا قنطين أزلين من نزول المطر إليهم قبل ذلك, فلما جاءهم جاءهم على فاقة, فوقع منهم موقعاً عظيماً, وقد اختلف النحاة في قوله {من قبل أن ينزل عليهم من قبله لمبلسين} فقال ابن جرير: هو تأكيد, وحكاه عن بعض أهل العربية. وقال آخرون: من قبل أن ينزل عليهم المطر من قبله, أي الإنزال لمبلسين, ويحتمل أن يكون ذلك من دلالة التأسيس, ويكون معنى الكلام أنهم كانوا محتاجين إليه قبل نزوله, ومن قبله أيضاً قد فات عندهم نزوله وقتاً بعد وقت, فترقبوه في إبانه, فتأخر, ثم مضت مدة فترقبوه فتأخر, ثم جاءهم بغتة بعد الإياس منه والقنوط, فبعدما كانت أرضهم مقشعرة هامدة أصبحت وقد اهتزت وربت وأنبتت من كل زوج بهيج, ولهذا قال تعالى: {فانظر إلى آثار رحمة الله} يعني المطر {كيف يحيي الأرض بعد موته} ثم نبه بذلك على إحياء الأجساد بعد موتها وتفرقها وتمزقها فقال تعالى: {إن ذلك لمحيي الموتى} أي إن الذي فعل ذلك لقادر على إحياء الأموات {إنه على كل شيء قدير} ثم قال تعالى: {ولئن أرسلنا ريحاً فرأوه مصفرً لظلوا من بعده يكفرون} يقول تعالى: {ولئن أرسلنا ريح} يابسة على الزرع الذي زرعوه ونبت وشب واستوى على سوقه, فرأوه مصفراً, أي قد أصفر وشرع في الفساد لظلوا من بعده, أي بعد هذا الحال, يكفرون, أي يجحدون ما تقدم إليهم من النعم. كقوله تعالى: {أفرأيتم ما تحرثون ـ إلى قوله ـ بل نحن محرومون}.
فال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي, حدثنا محمد بن عيسى بن الطباع, حدثنا هشيم عن يعلى بن عطاء عن أبيه عن عبد الله بن عمرو قال: الرياح ثمانية: أربعة منها رحمة, وأربعة عذاب, فأما الرحمة: فالناشرات والمبشرات والمرسلات والذاريات, وأما العذاب: فالعقيم والصرصر وهما في البر, والعاصف والقاصف وهما في البحر.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو عبيد الله بن أخي بن وهب, حدثنا عمي, حدثنا عبد الله بن عياش, حدثني عبد الله بن سليمان عن دراج عن عيسى بن هلال الصدفي عن عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «الريح مسخرة من الثانية ـ يعني الأرض الثانية ـ فلما أراد أن يهلك عاداً أمر خازن الريح أن يرسل عليهم ريحاً تهلك عاداً, فقال: يا رب أرسل عليهم من الريح قدر منخر الثور, قال له الجبار تبارك وتعالى: لا إذاً تكفأ الأرض وما عليها, ولكن أرسل عليهم بقدر خاتم, فهي التي قال الله في كتابه {ما تذر من شيء أتت عليه إلا جعلته كالرميم} هذا حديث غريب, ورفعه منكر, والأظهر أنه من كلام عبد الله بن عمرو رضي الله تعالى عنه.