تفسير الشوكاني تفسير الصفحة 409 من المصحف



فتح القدير - صفحة القرآن رقم 409

408

42- "قل سيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة الذين من قبل" لما بين سبحانه ظهور الفساد بما كسبت أيدي المشركين والعصاة بين لهم ضلال أمثالهم من أهل الزمن الأول، وأمرهم بأن يسيروا لينظروا آثارهم ويشاهدوا كيف كانت عاقبتهم، فإن منازلهم خاوية وأراضيهم مقفرة موحشة كعاد وثمود ونحوهم من طوائف الكفار، وجملة "كان أكثرهم مشركين" مستأنفة لبيان الحالة التي كانوا عليها، وإيضاح السبب الذي صارت عاقبتهم به إلى ما صارت إليه.
43- "فأقم وجهك للدين القيم من قبل أن يأتي يوم لا مرد له" هذا خطاب لرسول الله صلى الله علهي وسلم وأمته أسوته فيه، كأن المعنى إذا قد ظهر الفساد بالسبب المتقدم فأقم وجهك يا محمد إلخ. قال الزجاج: اجعل جهتك اتباع الدين القيم، وهو الإسلام المستقيم من قبل أن يأتي يوم يعني يوم القيامة لا مرد له لا يقدر أحد على رده، والمرد مصدر رد، وقيل المعنى: أوضح الحق وبالغ في الأعذار، و "من الله" يتعلق بيأتي، أو بمحذوف يدل عليه المصدر: أي لا يرده من الله أحد، وقيل يجوز أن يكون المعنى لا يرده الله لتعلق إرادته القديمة بمجيئه، وفيه من الضعف وسوء الأدب مع الله ما لا يخفى "يومئذ يصدعون" أصله يتصدعون، والتصدع التفرق، يقال: تصدع القوم إذا تفرقوا، ومنه قول الشاعر: ‌وكنا كندماني جذيمة برهة من الدهر حتى قيل لن يتصدعا والمراد بتفرقهم ها هنا أن أهل الجنة يصيرون إلى الجنة، وأهل النار يصيرون إلى النار.
44- "من كفر فعليه كفره" أي جزاء كفره، وهو النار "ومن عمل صالحاً فلأنفسهم يمهدون" أي يوطئون لأنفسهم منازل في الجنة بالعمل الصالح، والمهاد الفراش، وقد مهدت الفراش مهداً: إذا بسطته ووطأته، فجعل الأعمال الصالحة التي هي سبب لدخول الجنة كبناء المنازل في الجنة وفرشها. وقيل المعنى: فعلى أنفسهم يشفقون، من قولهم في المشفق: أم فرشت فأنامت، وتقديم الظرف في الموضعين للدلالة على الاختصاص. وقال مجاهد فلأنفسهم يمهدون في القبر.
واللام في 45- "ليجزي الذين آمنوا" متعلقة بيصدعون، أو يمهدون: أي يتفرقون ليجزي الله المؤمنين بما يستحقونه "من فضله" أو يمهدون لأنفسهم بالأعمال الصالحة ليجزيهم، وقيل يتعلق بمحذوف. قال ابن عطية: تقديره ذلك ليجزي، وتكون الإشارة إلى ما تقدم من قوله: من عمل ومن كفر. وجعل أبو حيان قسيم قوله الذين آمنوا وعملوا الصالحات محذوفاً لدلالة قوله: "إنه لا يحب الكافرين" عليه، لأنه كناية عن بغضه لهم الموجب لغضبه سبحانه، وغضبه يستتبع عقوبته.
46- "ومن آياته أن يرسل الرياح مبشرات" أي ومن دلالات بديع قدرته إرسال الرياح مبشرات بالمطر لأنها تتقدمه كما في قوله سبحانه: "بشراً بين يدي رحمته" قرأ الجمهور الرياح وقرأ الأعمش الريح بالإفراد على قصد الجنس لأجل قوله مبشرات واللام في قوله: "وليذيقكم من رحمته" متعلقة بيرسل: أي يرسل الرياح مبشرات ويرسلها ليذيقكم من رحمته: يعني الغيث والخصب، وقيل هو متعلق بمحذوف: أي وليذيقكم أرسلها، وقيل الواو مزيدة على رأي من يجوز ذلك، فتتعلق اللام بيرسل "ولتجري الفلك بأمره" معطوف على ليذيقكم من رحمته: أي يرسل الرياح لتجري الفلك في البحر عند هبوبها، ولما أسند الجري إلى الفلك عقبه بقوله بأمره "ولتبتغوا من فضله" أي تبتغوا الرزق بالتجارة التي تحملها السفن "ولعلكم تشكرون" هذه النعم فتفردون الله بالعبادة وتستكثرون من الطاعة. وقد أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: "وما آتيتم من ربا" الآية قال: الربا ربوان: ربا لا بأس به وربا لا يصلح. فأما الربا الذي لا بأس به فهدية الرجل إلى الرجل يريد فضلها وأضعافها. وأخرج البيهقي عنه قال: هذا هو الربا الحلال أن يهدي يريد أكثر منه وليس له أجر ولا وزر، ونهى النبي صلى الله عليه وسلم خاصة فقال: "ولا تمنن تستكثر". وأخرج عبد الرزاق وابن جرير وابن أبي حاتم عنه أيضاً "وما آتيتم من زكاة" قال: هي الصدقة. وأخرج ابن أبي حاتم عنه أيضاً في قوله: "ظهر الفساد في البر والبحر" قال: البر البرية التي ليس عندها نهر، والبحر ما كان من المدائن والقرى على شط نهر. وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عنه أيضاً في الآية قال: نقصان البركة بأعمال العباد كي يتوبوا. وأخرج ابن المنذر عنه أيضاً "لعلهم يرجعون" قال: من الذنوب. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه أيضاً "يصدعون" قال: يتفرقون.
قوله: 47- "ولقد أرسلنا من قبلك رسلاً إلى قومهم" كما أرسلناك إلى قومك " فجاؤوهم بالبينات " أي بالمعجزات والحجج النيرات فانتقمنا منهم: أي فكفروا "فانتقمنا من الذين أجرموا" أي فعلوا الإجرام، وهي الآثام "وكان حقاً علينا نصر المؤمنين" هذا إخبار من الله سبحانه بأن نصره لعباده المؤمنين حق عليه وهو صادق الوعد لا يخلف الميعاد، وفيه تشريف للمؤمنين ومزيد تكرمة لعباده الصالحين، ووقف بعض القراء على حقاً وجعل اسم كان ضميراً فيها وخبرها حقاً: أي وكان الانتقام حقاً. قال ابن عطية: وهذا ضعيف، والصحيح أن نصر المؤمنين اسمها وحقاً خبرها وعلينا متعلق بحقاً، أو بمحذوف هو صفة له.
28- "الله الذي يرسل الرياح" قرأ حمزة والكسائي وابن كثير وابن محيصن يرسل "الريح" بالإفراد. وقرأ الباقون "الرياح" قال أبو عمرو: كل من كان بمعنى الرحمة فهو جمع، وما كان بمعنى العذاب فهو موحد، وهذه الجملة مستأنفة مسوقة لبيان ما سبق من أحوال الرياح، فتكون على هذا جملة ولقد أرسلنا إلى قوله وكان حقاً علينا نصر المؤمنين معترض "فتثير سحاباً" أي تزعجه من حيث هو "فيبسطه في السماء كيف يشاء" تارة سائراً وتارة واقفاً، وتارة مطبقاً، وتارة غير مطبق، وتارة إلى مسافة بعيدة، وتارة إلى مسافة قريبة، وقد تقدم تفسير هذه الآية في سورة البقرة وفي سورة النور "ويجعله كسفاً" تارة أخرى، أو يجعله بعد بسطه قطعاً متفرقة، والكسف جمع كسفة، والكسفة القطعة من السحاب. وقد تقدم تفسير واختلاف القراءة فيه "فترى الودق يخرج من خلاله" الودق المطر، ومن خلاله من وسطه. وقرأ أبو العالية والضحاك يخرج من خلله "فإذا أصاب به" أي بالمطر "من يشاء من عباده" أي بلادهم وأرضهم "إذا هم يستبشرون" إذا هي الفجائية: أي فاجئوا الاستبشار بمجيء المطر، والاستبشار الفرح.
49- "وإن كانوا من قبل أن ينزل عليهم" أي من قبل أن ينزل عليهم المطر، وإن هي المخففة وفيها ضمير شأن مقدر هو اسمها: أي وإن الشأن كانوا من قبل أن ينزل عليهم، وقوله: "من قبله" تكرير للتأكيد، قاله الأخفش وأكثر النحويين كما حكاه عنهم النحاس.. وقال قطرب: إن الضمير في قبله راجع إلى المطر: أي وإن كانوا من قبل التنزيل من قبل المطر. وقيل المعنى: من قبل تنزيل الغيث عليهم من قبل الزرع والمطر، وقيل من قبل أن ينزل عليهم من قبل السحاب: أي من قبل رؤيته، واختار هذا النحاس. وقيل الضمير عائد إلى الكسف، وقيل إلى الإرسال، وقيل إلى الاستبشار. والراجح الوجه الأول، وما بعده من هذه الوجوه كلها ففي غاية التكلف والتعسف، وخبر كان "لمبلسين" أي آيسين أو بائسين. وقد تقدم تحقيق الكلام في هذا.
50- " فانظر إلى آثار رحمة الله " الناشئة عن إنزال المطر من النبات والثمار والزرائع التي بها يكون الخصب ورخاء العيش: أي انظر نظر اعتبار واستبصار لتستدل بذلك على توحيد الله وتفرده بهذا الصنع العجيب. قرأ الجمهور "أثر" بالتوحيد. وقرأ ابن عامر وحفص وحمزة والكسائي "آثار" بالجمع "كيف يحيي الأرض بعد موتها" فاعل الإحياء ضمير يعود إلى الله سبحانه، وقيل ضمير يعود إلى الأثر، وهذه الجملة في محل نصب بانظر: أي انظر إلى كيفية هذا الإحياء البديع للأرض. وقرأ الجحدري وأبو حيوة تحيي بالفوقية على أن فاعله ضمير يعود إلى الرحمة أو إلى الآثار على قراءة من قرأ بالجمع، والإشارة بقوله: "إن ذلك" إلى الله سبحانه: أي إن الله العظيم الشأن المخترع لهذه الأشياء المذكورة "لمحيي الموتى" أي لقادر على إحيائهم في الآخرة وبعثهم ومجازاتهم كما أحيا الأرض الميتة بالمطر "وهو على كل شيء قدير" أي عظيم القدرة كثيرها.