تفسير السعدي تفسير الصفحة 425 من المصحف


تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكَ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَلا يَحْزَنَّ وَيَرْضَيْنَ بِمَا آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَلِيمًا ( 51 ) .
وهذا أيضًا من توسعة اللّه على رسوله ورحمته به، أن أباح له ترك القسم بين زوجاته، على وجه الوجوب، وأنه إن فعل ذلك، فهو تبرع منه، ومع ذلك، فقد كان صلى اللّه عليه وسلم يجتهد في القسم بينهن في كل شيء، ويقول « اللهم هذا قسمي فيما أملك، فلا تلمني فيما لا أملك » .
فقال هنا: ( تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ ) [ أي: تؤخر من أردت من زوجاتك فلا تؤويها إليك، ولا تبيت عندها ] ( وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ ) أي: تضمها وتبيت عندها.
( و ) مع ذلك لا يتعين هذا الأمر ( مَنِ ابْتَغَيْتَ ) أي: أن تؤويها ( فَلا جُنَاحَ عَلَيْكَ ) والمعنى أن الخيرة بيدك في ذلك كله [ وقال كثير من المفسرين: إن هذا خاص بالواهبات، له أن يرجي من يشاء، ويؤوي من يشاء، أي: إن شاء قبل من وهبت نفسها له، وإن شاء لم يقبلها، واللّه أعلم ] .
ثم بين الحكمة في ذلك فقال: ( ذَلِكَ ) أي: التوسعة عليك، وكون الأمر راجعًا إليك وبيدك، وكون ما جاء منك إليهن تبرعًا منك ( أَدْنَى أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَلا يَحْزَنَّ وَيَرْضَيْنَ بِمَا آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ ) لعلمهن أنك لم تترك واجبًا، ولم تفرط في حق لازم.
( وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي قُلُوبِكُمْ ) أي: ما يعرض لها عند أداء الحقوق الواجبة والمستحبة، وعند المزاحمة في الحقوق، فلذلك شرع لك التوسعة يا رسول اللّه، لتطمئن قلوب زوجاتك.
( وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَلِيمًا ) أي: واسع العلم، كثير الحلم. ومن علمه، أن شرع لكم ما هو أصلح لأموركم، وأكثر لأجوركم. ومن حلمه، أن لم يعاقبكم بما صدر منكم، وما أصرت عليه قلوبكم من الشر.
لا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ إِلا مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ رَقِيبًا ( 52 ) .
وهذا شكر من اللّه، الذي لم يزل شكورًا، لزوجات رسوله، رضي اللّه عنهن، حيث اخترن اللّه ورسوله، والدار الآخرة، أن رحمهن، وقصر رسوله عليهن فقال: ( لا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ ) زوجاتك الموجودات ( وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ ) أي: ولا تطلق بعضهن، فتأخذ بدلها.
فحصل بهذا، أمنهن من الضرائر، ومن الطلاق، لأن اللّه قضى أنهن زوجاته في الدنيا والآخرة، لا يكون بينه وبينهن فرقة.
( وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ ) أي: حسن غيرهن، فلا يحللن لك ( إِلا مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ ) أي: السراري، فذلك جائز لك، لأن المملوكات، في كراهة الزوجات، لسن بمنزلة الزوجات، في الإضرار للزوجات. ( وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ رَقِيبًا ) أي: مراقبًا للأمور، وعالمًا بما إليه تؤول، وقائمًا بتدبيرها على أكمل نظام، وأحسن إحكام.
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَاللَّهُ لا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَدًا إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمًا ( 53 ) إِنْ تُبْدُوا شَيْئًا أَوْ تُخْفُوهُ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا ( 54 ) .
يأمر تعالى عباده المؤمنين، بالتأدب مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، في دخول بيوته فقال: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ ) أي: لا تدخلوها بغير إذن للدخول فيها، لأجل الطعام. وأيضًا لا تكونوا ( نَاظِرِينَ إِنَاهُ ) أي: منتظرين ومتأنين لانتظار نضجه، أو سعة صدر بعد الفراغ منه. والمعنى: أنكم لا تدخلوا بيوت النبي إلا بشرطين:
الإذن لكم بالدخول، وأن يكون جلوسكم بمقدار الحاجة، ولهذا قال: ( وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ ) أي: قبل الطعام وبعده.
ثم بين حكمة النهي وفائدته فقال: ( إِنَّ ذَلِكُمْ ) أي: انتظاركم الزائد على الحاجة، ( كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ ) أي: يتكلف منه ويشق عليه حبسكم إياه عن شئون بيته، واشتغاله فيه ( فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ ) أن يقول لكم: « اخرجوا » كما هو جاري العادة، أن الناس - وخصوصًا أهل الكرم منهم- يستحيون أن يخرجوا الناس من مساكنهم، ( و ) لكن ( اللَّهُ لا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ )
فالأمر الشرعي، ولو كان يتوهم أن في تركه أدبا وحياء، فإن الحزم كل الحزم، اتباع الأمر الشرعي، وأن يجزم أن ما خالفه، ليس من الأدب في شيء. واللّه تعالى لا يستحي أن يأمركم، بما فيه الخير لكم، والرفق لرسوله كائنًا ما كان.
فهذا أدبهم في الدخول في بيوته، وأما أدبهم معه في خطاب زوجاته، فإنه، إما أن يحتاج إلى ذلك، أو لا يحتاج إليه، فإن لم يحتج إليه، فلا حاجة إليه، والأدب تركه، وإن احتيج إليه، كأن يسألن متاعًا، أو غيره من أواني البيت أو نحوها، فإنهن يسألن ( مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ) أي: يكون بينكم وبينهن ستر، يستر عن النظر، لعدم الحاجة إليه.
فصار النظر إليهن ممنوعًا بكل حال، وكلامهن فيه التفصيل، الذي ذكره اللّه، ثم ذكر حكمة ذلك بقوله: ( ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ ) لأنه أبعد عن الريبة، وكلما بعد الإنسان عن الأسباب الداعية إلى الشر، فإنه أسلم له، وأطهر لقلبه.
فلهذا، من الأمور الشرعية التي بين اللّه كثيرًا من تفاصيلها، أن جميع وسائل الشر وأسبابه ومقدماته، ممنوعة، وأنه مشروع، البعد عنها، بكل طريق.
ثم قال كلمة جامعة وقاعدة عامة: ( وَمَا كَانَ لَكُمْ ) يا معشر المؤمنين، أي: غير لائق ولا مستحسن منكم، بل هو أقبح شيء ( أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ ) أي: أذية قولية أو فعلية، بجميع ما يتعلق به، ( وَلا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَدًا ) هذا من جملة ما يؤذيه، فإنه صلى اللّه عليه وسلم، له مقام التعظيم، والرفعة والإكرام، وتزوج زوجاته [ بعده ] مخل بهذا المقام.
وأيضا، فإنهن زوجاته في الدنيا والآخرة، والزوجية باقية بعد موته، فلذلك لا يحل نكاح زوجاته بعده، لأحد من أمته. ( إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمًا ) وقد امتثلت هذه الأمة، هذا الأمر، واجتنبت ما نهى اللّه عنه منه، وللّه الحمد والشكر.
ثم قال تعالى: ( إِنْ تُبْدُوا شَيْئًا ) أي تظهروه ( أَوْ تُخْفُوهُ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا ) يعلم ما في قلوبكم، وما أظهرتموه، فيجازيكم عليه.