تفسير الطبري تفسير الصفحة 425 من المصحف

 تفسير الطبري - صفحة القرآن رقم 425
426
424
 الآية : 51
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {تُرْجِي مَن تَشَآءُ مِنْهُنّ وَتُؤْوِيَ إِلَيْكَ مَن تَشَآءُ وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمّنْ عَزَلْتَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكَ ذَلِكَ أَدْنَىَ أَن تَقَرّ أَعْيُنُهُنّ وَلاَ يَحْزَنّ وَيَرْضَيْنَ بِمَآ آتَيْتَهُنّ كُلّهُنّ وَاللّهُ يَعْلَمُ مَا فِي قلُوبِكُمْ وَكَانَ اللّهُ عَلِيماً حَلِيماً }.
اختلف أهل التأويـل فـي تأويـل قوله: تُرْجِي مَنْ تَشاءُ مِنْهُنّ وَتُؤْوي إلَـيْكَ مَنْ تَشاءُ فقال بعضهم: عنى بقوله: ترجي: تؤخّر, وبقوله: تؤْوي: تضمّ. ذكر من قال ذلك:
21790ـ حدثنـي علـيّ, قال: حدثنا أبو صالـح, قال: ثنـي معاوية, عن علـيّ, عن ابن عبـاس, قوله: تُرْجِي مَنْ تَشاءُ مِنْهُنّ يقول: تؤخر.
21791ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى وحدثنـي الـحارث, قال: حدثنا الـحسن, قال: حدثنا ورقاء, جميعا عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد, قوله: تُرْجي مَنْ تَشاءُ مِنْهُنّ قال: تعزل بغير طلاق من أزواجك من تشاء وَتُؤْوِي إلَـيْكَ مَنْ تَشاءُ قال: تردّها إلـيك.
21792ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, قوله: تُرْجِي مَنْ تَشاءُ مِنْهُنّ وَتُؤْوِي إلَـيْكَ مَنْ تَشاءُ قال: فجعله الله فـي حلّ من ذلك أن يدع من يشاء منهنّ, ويأتـي من يشاء منهنّ بغير قسم, وكان نبـيّ الله يقسم.
21793ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا حكام, قال: حدثنا عمرو, عن منصور, عن أبـي رزين تُرْجِي مَنْ تَشاءُ مِنْهُنّ وَتُؤْوِي إلَـيْكَ مَنْ تَشاءُ قال: لـما أشفقن أن يطلقهنّ, قلن: يا نبـيّ الله, اجعل لنا من مالك ونفسك ما شئت فكان مـمن أرجأ منهنّ سودة بنت زمعة, وجُوَيرية, وصفـية, وأمّ حبـيبة, وميـمونة وكان مـمن آوى إلـيه: عائشة, وأمّ سلـمة, وحفصة, وزينب.
21794ـ حُدثت عن الـحسين, قال: سمعت أبـا معاذ يقول: أخبرنا عبـيد, قال: سمعت الضحاك يقول, فـي قوله: تُرْجِي مَنْ تَشاءُ مِنْهُنّ وَتُؤْوِي إلَـيْكَ مَنْ تَشاءُ فما شاء صنع فـي القسمة بـين النساء, أحل الله له ذلك.
حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا جرير عن منصور, عن أبـي رزين, فـي قوله: تُرْجِي مَنْ تَشاءُ مِنْهُنّ وَتُؤْوِي إلَـيْكَ مَنْ تَشاءُ وكان مـمن آوى علـيه الصلاة والسلام: عائشة, وحفصة, وزينب, وأمّ سلـمة, فكان قسمه من نفسه لهنّ سويّ قسمه وكان مـمن أرجى: سودة, وجُوَيرية, وصفـية, وأمّ حبـيبة, وميـمونة, فكان يقسم لهنّ ما شاء, وكان أراد أن يفـارقهنّ, فقلن: اقسم لنا من نفسك ما شئت, ودعنا نكون علـى حالنا.
وقال آخرون: معنى ذلك: تطلق وتـخـلـي سبـيـل من شئت من نسائك, وتـمسك من شئت منهنّ فلا تطلق. ذكر من قال ذلك:
21795ـ حدثنـي مـحمد بن سعد, قال: ثنـي أبـي, قال: ثنـي عمي, قال: ثنـي أبـي, عن أبـيه, عن ابن عبـاس قوله: تُرْجِي مَنْ تَشاءُ مِنْهُنّ أمها الـمؤمنـين وَتُؤْوي إلَـيْكَ مَنْ تَشاءُ يعنـي: نساء النبـيّ صلى الله عليه وسلم, ويعنـي بـالإرجاء: يقول: من شئت خـلـيت سبـيـله منهنّ, ويعنـي بـالإيواء: يقول: من أحببت: أمسكت منهنّ.
وقال آخرون: بل معنى ذلك: تترك نكاح من شئت, وتنكح من شئت من نساء أمتك. ذكر من قال ذلك:
21796ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, قال: قال الـحسن فـي قوله: تُرْجِي مَنْ تَشاءُ مِنْهُنّ وَتُؤْوِي إلَـيْكَ مَنْ تَشاءُ قال: كان نبـيّ الله صلى الله عليه وسلم إذا خطب امرأة لـم يكن لرجل أن يخطبها حتـى يتزوّجها أو يتركها.
وقـيـل: إن ذلك إنـما جعل الله لنبـيه حين غار بعضهنّ علـى النبـيّ صلى الله عليه وسلم, وطلب بعضهنّ من النفقة زيادة علـى الذي كان يعطيها, فأمره الله أن يخيرهنّ بـين الدار الدنـيا والاَخرة, وأن يخـلـي سبـيـل من اختار الـحياة الدنـيا وزينتها, ويـمسك من اختار الله ورسوله فلـما اخترن الله ورسوله قـيـل لهنّ: اقررن الاَن علـى الرضا بـالله وبرسوله, قَسَم لكنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم, أو لـم يقسم, أو قسم لبعضكنّ, ولـم يقسم لبعضكنّ, وفضل بعضكنّ علـى بعض فـي النفقة, أو لـم يفضل, سوّى بـينكنّ, أو لـم يسوّ, فإن الأمر فـي ذلك إلـى رسول الله صلى الله عليه وسلم, لـيس لكم من ذلك شيء. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم فـيـما ذُكر مع ما جعل الله له من ذلك, يسوّي بـينهنّ فـي القَسم, إلا امرأة منهنّ أراد طلاقها, فرضيت بترك القسم لها. وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:
21797ـ حدثنا مـحمد بن بشار, قال: حدثنا أبو أحمد, قال: حدثنا سيفـيان, عن منصور, عن أبـي رزين, قال: لـما أراد النبـيّ صلى الله عليه وسلم أن يطلق أزواجه, قلن له: افرض لنا من نفسك ومالك ما شئت, فأمره الله فآوى أربعا, وأرجى خمسا.
21798ـ حدثنا سفـيان بن وكيع, قال: حدثنا عبـيدة بن سلـيـمان, عن هشام بن عروة, عن أبـيه, عن عائشة أنها قالت: أما تستـحيـي الـمرأة أن تهب نفسها للرجل حتـى أنزل الله. تُرْجِي مَنْ تَشاءُ مِنْهُنّ وَتُؤْوِي إلَـيْكَ مَنْ تَشاءُ فقلت: إن ربك لـيسارع فـي هواك.
حدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا مـحمد بن بشر, يعنـي العبدي, عن هشام بن عروة, عن أبـيه, عن عائشة, أنها كانت تعير النساء اللاتـي وهبن أنفسهنّ لرسول الله صلى الله عليه وسلم وقالت: أما تستـحيـي امرأة أن تعرض نفسها بغير صداق, فنزلت, أو فأنزل الله: تُرْجِي مَنْ تَشاءُ مِنْهُنّ وَتُؤْوِي إلَـيْكَ مَنْ تَشاءُ وَمَنْ ابْتَغَيْتَ مِـمّنْ عَزَلْتَ فقلت: إنـي لأرى ربك يُسارع لك فـي هواك.
21799ـ حدثنـي يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, فـي قول الله: تُرْجِي مَنْ تَشاءُ مِنْهُنّ وَتُؤْوِي إلَـيْكَ مَنْ تَشاءُ... الاَية. قال: كان أزواجه قد تغايرن علـى النبـيّ صلى الله عليه وسلم, فهجرهن شهرا, ثم نزل التـخيـير من الله له فـيهنّ, فقرأ حتـى بلغ: وَلا تَبرّجْنَ تَبرّجَ الـجاهِلِـيّةِ الأُولـى فخيرهنّ بـين أن يخترن أن يخـلـي سبـيـلهنّ ويسرّحهنّ وبـين أن يقمن إن أردن الله ورسوله علـى أنهنّ أمهات الـمؤمنـين, لا ينكحن أبدا, وعلـى أنه يؤوي إلـيه من يشاء منهنّ مـمن وهبت نفسها له حتـى يكون هو يرفع رأسه إلـيها, ويرجي من يشاء, حتـى يكون هو يرفع رأسه إلـيها, ومن ابتغى مـمن هي عنده وعزل فلا جناح علـيه, ذلك أدنى أن تقرّ أعينهنّ ولا يحزنّ, ويرضين إذا علـمن أنه من قضائي علـيهنّ إيثار بعضهنّ علـى بعض ذلكَ أدْنَى أنْ يرضين, قال: وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مـمن عزلت: من ابتغى أصابه, ومن عزل لـم يصبه, فخيرهنّ بـين أن يرضين بهذا, أو يفـارقهنّ, فـاخترن الله ورسوله, إلا امرأة واحدة بدوية ذهبت. وكان علـى ذلك صلوات الله علـيه, وقد شرط الله له هذا الشرط, ما زال يعدل بـينهنّ حتـى لقـي الله.
وأولـى الأقوال فـي ذلك عندي بـالصواب أن يقال: إن الله تعالـى ذكره جعل لنبـيه أن يرجي من النساء اللواتـي أحلهنّ له من يشاء, ويُؤوي إلـيه منهنّ من يشاء, وذلك أنه لـم يحصر معنى الإرجاء والإيواء علـى الـمنكوحات اللواتـي كنّ فـي حبـاله, عندما نزلت هذه الاَية دون غيرهنّ مـمن يستـحدث إيواؤها أو إرجاؤها منهنّ. وإذا كان ذلك كذلك, فمعنى الكلام: تؤخر من تشاء مـمن وهبت نفسها لك, وأحللت لك نكاحها, فلا تقبلها ولا تنكحها, أو مـمن هنّ فـي حبـالك, فلا تقربها, وتضمّ إلـيك من تشاء مـمن وهبت نفسها لك, أو أردت من النساء التـي أحللت لك نكاحهنّ, فتقبلها أو تنكحها, ومـمن هي فـي حبـالك فتـجامعها إذا شئت, وتتركها إذا شئت بغير قَسْم.
وقوله: وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مـمّنْ عَزَلْتَ فَلا جُناحَ عَلَـيْكَ اختلف أهل التأويـل فـي تأويـل ذلك, فقال بعضهم: معنى ذلك: ومن نكحت من نسائك فجامعت مـمن لـم تنكح, فعزلته عن الـجماع, فلا جناح علـيك. ذكر من قال ذلك:
21800ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, فـي قوله: وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مـمّنْ عَزَلْتَ فَلا جُناحَ عَلَـيْكَ قال: جميعا هذه فـي نسائه, إن شاء أتـى من شاء منهنّ, ولا جناح علـيه.
21801ـ حدثنـي يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, فـي قوله: وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مـمّنْ عَزَلْتَ قال: ومن ابتغى أصابه, ومن عزل لـم يصبه.
وقال آخرون: معنى ذلك: ومن استبدلت مـمن أرجيت, فخـلـيت سبـيـله من نسائك, أو مـمن مات منهنّ مـمن أحللت لك فلا جناح علـيك. ذكر من قال ذلك:
21802ـ حدثنـي مـحمد بن سعد, قال: ثنـي أبـي, قال: ثنـي عمي, قال: ثنـي أبـي, عن أبـيه, عن ابن عبـاس, قوله: وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مـمّنْ عَزَلْتَ فَلا جُناحَ عَلَـيْكَ ذَلكَ أدْنَى أنْ تَقَرّ أعْيُنُهُنّ وَلا يَحْزَنّ وَيَرْضَيْنَ بـما آتَـيْتَهُنّ كُلّهُنّ يعنـي بذلك: النساء اللاتـي أحلّ الله له من بنات العمّ والعمة والـخال والـخالة واللاّتِـي هاجَرْنَ مَعَكَ يقول: إن مات من نسائك اللاتـي عندك أحد, أو خـلـيت سبـيـله, فقد أحللت لك أن تستبدل من اللاتـي أحللت لك مكان من مات من نسائك اللاتـي هنّ عندك, أو خـلـيت سبـيـله منهنّ, ولا يصلـح لك أن تزداد علـى عدّة نسائك اللاتـي عندك شيئا.
وأولـى التأويـلـين بـالصواب فـي ذلك, تأويـل من قال: معنى ذلك: ومن ابتغيت إصابته من نسائك مـمّنْ عَزَلْتَ عن ذلك منهنّ فَلا جُناحَ عَلَـيْكَ لدلالة قوله: ذَلكَ أدْنَى أنْ تَقَرّ أعْيُنُهُنّ علـى صحة ذلك, لأنه لا معنى لأن تقرّ أعينهنّ إذا هو صلى الله عليه وسلم استبدل بـالـميتة أو الـمطلقة منهنّ, إلا أن يعنـي بذلك: ذلك أدنى أن تقرّ أعين الـمنكوحة منهنّ, وذلك مـما يدلّ علـيه ظاهر التنزيـل بعيد.
وقوله: ذَلكَ أدْنَى أنْ تَقَرّ أعْيُنُهُنّ وَلا يَحْزَنّ يقول: هذا الذي جعلت لك يا مـحمد من إذنـي لك أن ترجي من تشاء من النساء اللواتـي جعلت لك إرجاءهنّ, وتؤوي من تشاء منهنّ, ووضعي عنك الـحرج فـي ابتغائك إصابة من ابتغيت إصابته من نسائك, وعزلك عن ذلك من عزلت منهنّ, أقرب لنسائك أن تقرّ أعينهنّ به ولا يَحْزَنّ ويرضين بـما آتـيتهنّ كلهنّ من تفضيـل من فضلت من قسم, أو نفقة وإيثار من آثرت منهم بذلك علـى غيره من نسائك, إذا هنّ علـمن أنه من رضاي منك بذلك, وإذنـي لك به, وإطلاق منـي لا من قِبَلك. وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:
21803ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة ذَلكَ أدْنَى أنْ تَقَرّ أعْيُنُهُنّ وَلا يَحْزَنّ وَيَرْضَيْنَ بِـمَا آتَـيْتَهُنّ كُلّهُنّ إذا علـمن أن هذا جاء من الله لرخصة, كان أطيب لأنفسهنّ, وأقلّ لـحزنهنّ.
21804ـ حدثنـي يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, فـي قوله ذلك, نـحوه.
والصواب من القراءة فـي قوله: بِـمَا آتَـيْتَهُنّ كُلّهُنّ الرفع غير جائز غيره عندنا, وذلك أن كلهنّ لـيس بنعت للهاء فـي قوله آتَـيْتَهُنّ, وإنـما معنى الكلام: ويرضين كلهنّ, فإنـما هو توكيد لـما فـي يرضين من ذكر النساء وإذا جعل توكيدا للهاء التـي فـي آتـيتهنّ لـم يكن له معنى, والقراءة بنصبه غير جائزة لذلك, ولإجماع الـحجة من القرّاء علـى تـخطئة قارئه كذلك.
وقوله: وَاللّهُ يَعْلَـمُ ما فِـي قُلُوبِكُمْ يقول: والله يعلـم ما فـي قلوب الرجال من ميـلها إلـى بعض من عنده من النساء دون بعض بـالهوى والـمـحبة يقول: فلذلك وضع عنك الـحرج يا مـحمد فـيـما وُضع عنك من ابتغاء من ابتغيت منهنّ, مـمن عزلت تفضلاً منه علـيك بذلك وتكرمة وكانَ اللّهُ عَلِـيـما يقول: وكان الله ذا علـم بأعمال عبـاده, وغير ذلك من الأشياء كلها حَلِـيـما يقول: ذا حلـم علـى عبـاده, أن يعاجل أهل الذنوب منهم بـالعقوبة, ولكنه ذو حلـم وأناة عنهم, لـيتوب من تاب منهم, وينـيب من ذنوبه من أناب منهم.
الآية : 52
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {لاّ يَحِلّ لَكَ النّسَآءُ مِن بَعْدُ وَلاَ أَن تَبَدّلَ بِهِنّ مِنْ أَزْوَاجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنّ إِلاّ مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ وَكَانَ اللّهُ عَلَىَ كُلّ شَيْءٍ رّقِيباً }.
اختلف أهل التأويـل فـي تأويـل قوله تعالـى: لا يَحِلّ لَكَ النّساءُ مِنْ بَعْدُ فقال بعضهم: معنى ذلك: لا يحلّ لك النساء من بعد نسائك اللاتـي خيرتهنّ, فـاخترن الله ورسوله والدار الاَخرة. ذكر من قال ذلك:
21805ـ حدثنـي مـحمد بن سعد, قال: ثنـي أبـي, قال: ثنـي عمي, قال: ثنـي أبـي, عن أبـيه, عن ابن عبـاس, قوله: لا يَحِلّ لَكَ النّساءُ مِنْ بَعْدُ... الاَية إلـى رَقـيبـا قال: نُهيَ رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يتزوّج بعد نسائه الأُوَل شيئا.
21806ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, قوله لا يَحِلّ لَكَ النّساءُ مِنْ بَعْدُ... إلـى قوله: إلاّ ما مَلَكَتْ يَـمِينُكَ قال: لـما خيرهنّ, فـاخترن الله ورسوله والدار الاَخرة قصره علـيهنّ, فقال: لا يَحِلّ لَكَ النّساءُ مِنْ بَعْدُ وَلاَ أنْ تَبَدّلَ بِهِنّ مِنْ أزْوَاجٍ وهنّ التسع التـي اخترن الله ورسوله.
وقال آخرون: إنـما معنى ذلك: لا يحلّ لك النساء بعد التـي أحللنا لك بقولنا يا أيهَا النبّـيّ إنّا أحْلَلْنا لَكَ أزْوَاجَكَ... إلـى قوله اللاّتِـي هاجَرْنَ مَعَكَ وَامْرأةً مُؤْمِنَةً إنْ وَهَبَتْ نَفْسَها للنّبِـيّ. وكأنّ قائلـي هذه الـمقالة وجهوا الكلام إلـى أن معناه: لا يحلّ لك من النساء إلا التـي أحللناها لك. ذكر من قال ذلك:
21807ـ حدثنا مـحمد بن الـمثنى, قال: حدثنا عبد الوهاب, قال: حدثنا داود, عن مـحمد بن أبـي موسى, عن زياد, قالا لأبـيّ بن كعب: هل كان للنبـيّ صلى الله عليه وسلم لو مات أزواجه أن يتزوّج؟ قال: ما كان يحرم علـيه ذلك فقرأت علـيه هذه الاَية: يا أيّها النّبِـيّ إنّا أحْلَلْنا لَكَ أزْوَاجَكَ قال: فقال: أحلّ له ضربـا من النساء, وحرّم علـيه ما سواهنّ أحلّ له كل امرأة آتـى أجرها, وما ملكت يـمينه مـما أفـاء الله علـيه, وبنات عمه وبنات عماته, وبنات خاله وبنات خالاته, وكل امرأة وهبت نفسها له إن أراد أن يستنكحها خالصة له من دون الـمؤمنـين.
حدثنا ابن الـمثنى, قال: حدثنا عبد الأعلـى, قال: حدثنا داود, عن مـحمد بن أبـي موسى, عن زياد الأنصاريّ قال: قلت لأُبـيّ بن كعب: أرأيت لو مات نساء النبـيّ صلى الله عليه وسلم, أكان يحلّ له أن يتزوّج؟ قال: وما يحرّم ذلك علـيه, قال: قلت قوله: لا يَحِلّ لَكَ النّساءُ مِنْ بَعْدُ قال: إنـما أحلّ الله له ضربـا من النساء.
حدثنـي يعقوب, قال: حدثنا ابن علـية, عن داود بن أبـي هند, قال: ثنـي مـحمد بن أبـي موسى, عن زياد, رجل من الأنصار, قال: قلت لأبـيّ بن كعب: أرأيت لو أن أزواج النبـيّ صلى الله عليه وسلم توفّـينَ, أما كان له أن يتزوّج؟ فقال: وما يـمنعه من ذلك؟ وربـما قال داود: وما يحرّم علـيه ذلك؟ قلت: قوله: لا يَحِلّ لَكَ النّساءُ مِنْ بَعْدُ فقال: إنـما أحلّ الله له ضربـا من النساء, فقال: يا أيها النّبـي إنّا أحْلَلْنا لَكَ أزْوَاجَكَ... إلـى قوله: إنْ وَهَبَتْ نَفْسَها للنّبـيّ ثم قـيـل له: لا يَحِلّ لَكَ النّساءُ مِنْ بَعْدُ.
21808ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا حكام بن سلـم, عن عنبسة, عمن ذكره, عن أبـي صالـح لا يَحِلّ لَكَ النّساءُ مِنْ بَعْدُ قال: أمر أن لا يتزوّج أعرابـية ولا غريبة, ويتزوّج بعد من نساء تهامة, ومن شاء من بنات العمّ والعمة, والـخال والـخالة إن شاء ثلاث مئة.
21809ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, عن عكرمة لا يَحِلّ لَكَ النّساءُ مِنْ بَعْدُ هؤلاء التـي سمى الله إلا بَنات عَمّكَ... الاَية.
21810ـ حُدثت عن الـحسين, قال: سمعت أبـا معاذ يقول: أخبرنا عبـيد, قال: سمعت الضحاك يقول فـي قوله: لا يَحِلّ لَكَ النّساءُ مِنْ بَعْدُ يعنـي: من بعد التسمية, يقول: لا يحلّ لك امرأة إلا ابنة عمّ أو ابنة عمة, أو ابنة خال أو ابنة خالة, أو امرأة وهبت نفسها لك, من كان منهنّ هاجر مع نبـيّ الله صلى الله عليه وسلم. وفـي حرف ابن مسعود: «وَاللاّتـي هاجَرْنَ مَعَكَ» يعنـي بذلك: كل شيء هاجر معه لـيس من بنات العم والعمة, ولا من بنات الـخال والـخالة.
وقال آخرون: بل معنى ذلك: لا يحلّ لك النساء من غير الـمسلـمات فأما الـيهوديات والنصرانـيات والـمشركات فحرام علـيك. ذكر من قال ذلك:
21811ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى وحدثنـي الـحارث, قال: حدثنا الـحسن, قال: حدثنا ورقاء, جميعا عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد, قوله: لا يَحِلّ لَكَ النّساءُ مِنْ بَعْدُ لا يهودية, ولا نصرانـية, ولا كافرة.
وأولـى الأقوال عندي بـالصحة قول من قال: معنى ذلك: لا يحلّ لك النساء من بعد بعد اللواتـي أحللتهن لك بقولـي: إنّا أحْلَلْنا لَكَ أزْوَاجَكَ اللاّتـي آتَـيْتَ أُجُورَهُنّ.... إلـى قوله: وَامْرأةً مُؤْمنَةً إنْ وَهَبَتْ نَفْسَها للنّبـيّ.
وإنـما قلت ذلك أولـى بتأويـل الاَية, لأن قوله: لا يَحِلّ لَكَ النّساءُ عَقـيب قوله: إنّا أحْلَلْنا لَكَ أزْوَاجَكَ وغير جائز أن يقول: قد أحللت لك هؤلاء, ولا يحللن لك إلا بنسخ أحدهما صاحبه, وعلـى أن يكون وقت فرض إحدى الاَيتـين, فَعَلَ الأخرى منهما. فإذ كان ذلك كذلك ولا برهان ولا دلالة علـى نسخ حكم إحدى الاَيتـين حكم الأخرى, ولا تقدّم تنزيـل إحداهما قبل صاحبتها, وكان غير مستـحيـل مخرجهما علـى الصحة, لـم يجز أن يقال: إحداهما ناسخة الأخرى. وإذا كان ذلك كذلك, ولـم يكن لقول من قال: معنى ذلك: لا يحلّ من بعد الـمسلـمات يهودية ولا نصرانـية ولا كافرة, معنى مفهوم, إذ كان قوله مِنْ بَعْدُ إنـما معناه: من بعد الـمسميات الـمتقدم ذكرهنّ فـي الاَية قبل هذه الاَية, ولـم يكن فـي الاَية الـمتقدم فـيها ذكر الـمسميات بـالتـحلـيـل لرسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر إبـاحة الـمسلـمات كلهنّ, بل كان فـيها ذكر أزواجه وملك يـمينه الذي يفـيء الله علـيه, وبنات عمه وبنات عماته, وبنات خاله وبنات خالاته, اللاتـي هاجرن معه, وامرأة مؤمنة إن وهبت نفسها للنبـيّ, فتكون الكوافر مخصوصات بـالتـحريـم, صحّ ما قلنا فـي ذلك, دون قول من خالف قولنا فـيه.
واختلفت القراء فـي قراءة قوله لا يَحِلّ لَكَ النّساءُ فقرأ ذلك عامة قرّاء الـمدينة والكوفة يحِلّ بـالـياء, بـمعنى: لا يحلّ لك شيء من النساء بعد. وقرأ ذلك بعض قرّاء أهل البصرة: «لا تَـحِلّ لَكَ النّساءُ» بـالتاء, توجيها منه إلـى أنه فعل للنساء, والنساء جمع للكثـير منهن.
وأولـى القراءتـين بـالصواب فـي ذلك قراءة من قرأه بـالـياء للعلة التـي ذكرت لهم, ولإجماع الـحجة من القرّاء علـى القراءة بها, وشذوذ من خالفهم فـي ذلك.
وقوله: وَلا أنْ تَبَدّلَ بِهِنّ مِنْ أزْوَاجٍ وَلَوْ أعْجَبَكَ حُسْنُهُنّ اختلف أهل التأويـل فـي تأويـل ذلك, فقال بعضهم: معنى ذلك: لا يحلّ لك النساء من بعد الـمسلـمات, لا يهودية ولا نصرانـية ولا كافرة, ولا أن تبدّل بـالـمسلـمات غيرهنّ من الكوافر. ذكر من قال ذلك:
21812ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى وحدثنـي الـحارث, قال: حدثنا الـحسن, قال: حدثنا ورقاء, جميعا عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد وَلا أنْ تَبَدّلَ بِهِنّ مِنْ أزْوَاجٍ ولا أن تبدّل بـالـمسلـمات غيرهنّ من النصارى والـيهود والـمشركين وَلَوْ أعْجَبَكَ حُسْنُهُنّ إلاّ ما مَلَكَتْ يَـمينُكَ.
21813ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا جرير, عن منصور, عن أبـي رزين, فـي قوله: لا يَحِلّ لَكَ النّساءُ مِنْ بَعْدُ وَلا أنْ تَبَدّلَ بِهِنّ مِنْ أزْوَاجٍ وَلَوْ أعْجَبَكَ حُسْنُهُنّ إلاّ ما مَلَكَتْ يَـمِينُكَ قال: لا يحلّ لك أن تتزوّج من الـمشركات إلا من سبـيت فملكته يـمينك منهنّ.
وقال آخرون: بل معنى ذلك: ولا أن تبدّل بأزواجك اللواتـي هنّ فـي حبـالك أزواجا غيرهنّ, بأن تطلقهنّ, وتنكح غيرهنّ. ذكر من قال ذلك:
21814ـ حُدثت عن الـحسين, قال: سمعت أبـا معاذ يقول: حدثنا عبـيد, قال: سمعت الضحاك يقول فـي قوله: وَلا أنْ تَبَدّلَ بِهِنّ مِنْ أزْوَاجٍ وَلَوْ أعْجَبَكَ حُسْنُهُنّ يقول: لا يصلـح لك أن تطلق شيئا من أزواجك لـيس يعجبك, فلـم يكن يصلـح ذلك له.
وقال آخرون: بل معنى ذلك: ولا أن تبـادل من أزواجك غيرك, بأن تعطيه زوجتك وتأخذ زوجته. ذكر من قال ذلك:
21815ـ حدثنـي يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, فـي قوله: وَلا أنْ تَبَدّلَ بِهِنّ مِنْ أزْوَاجٍ وَلَوْ أعْجَبَكَ حُسْنُهُنّ قال: كانت العرب فـي الـجاهلـية يتبـادلون بأزواجهم. يعطي هذا امرأته هذا ويأخذ امرأته, فقال: لا يَحِلّ لَكَ النّساءُ مِنْ بَعْدُ وَلا أنْ تَبَدّلَ بِهِنّ مِنْ أزْوَاجٍ وَلَوْ أعْجَبَكَ حُسْنُهُنّ إلاّ ما مَلَكَتْ يَـمِينكَ لا بأس أن تبـادل بجاريتك ما شئت أن تبـادل, فأما الـحرائر فلا قال: وكان ذلك من أعمالهم فـي الـجاهلـية.
وأولـى الأقوال فـي ذلك بـالصواب, قول من قال: معنى ذلك: ولا أن تطلق أزواجك فتستبدل بهنّ غيرهنّ أزواجا.
وأنـما قلنا ذلك أولـى بـالصواب, لـما قد بـيننا قبل من أن قول الذي قال معنى قوله: لا يَحِلّ لَكَ النّساءُ مِنْ بَعْدُ لا يحلّ لك الـيهودية أو النصرانـية والكافرة, قول لا وجه له.
فإذ كان ذلك كذلك فكذلك قوله: وَلا أنْ تَبَدّلَ بِهِنّ كافرة لا معنى له, إذ كان من الـمسلـمات من قد حرم علـيه بقوله لا يَحِلّ لَكَ النّساءُ مِنْ بَعْدُ الذي دللنا علـيه قبل. وأما الذي قاله ابن زيد فـي ذلك أيضا, فقول لا معنى له, لأنه لو كان بـمعنى الـمبـادلة, لكانت القراءة والتنزيـل: ولا أن تبـادل بهنّ من أزواج, أو: ولا أن تُبدّل بهنّ بضمّ التاء ولكن القراءة الـمـجمع علـيها. ولا أن تبدّل بهنّ, بفتـح التاء, بـمعنى: ولا أن تستبدل بهنّ, مع أنّ الذي ذكر ابن زيد من فعل الـجاهلـية غير معروف فـي أمة نعلـمه من الأمـم: أن يُبـادل الرجل آخر بـامرأته الـحرّة, فـيقال: كان ذلك من فعلهم, فنهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن فعل مثله.
فإن قال قائل: أفلـم يكن لرسول الله صلى الله عليه وسلم أن يتزوّج امرأة علـى نسائه اللواتـي كنّ عنده, فـيكون موجها تأويـل قوله: وَلا أنْ تَبَدّلَ بِهِنّ مِنْ أزْوَاجٍ إلـى ما تأوّلت, أو قال: وأين ذكر أزواجه اللواتـي كنّ عنده فـي هذا الـموضع, فتكون الهاء من قوله: وَلا أنْ تَبَدّلَ بِهِنّ من ذكرهن وتوهم أن الهاء فـي ذلك عائدة علـى النساء, فـي قوله: لا يَحِلّ لَكَ النّساءُ مِنْ بَعْدُ؟ قـيـل: قد كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم أن يتزوّج من شاء من النساء اللواتـي كان الله أحلهنّ له علـى نسائه اللاتـي كن عنده يوم نزلت هذه الاَية, وإنـما نُهي صلى الله عليه وسلم بهذه الاَية أن يفـارق من كان عنده بطلاق أراد به استبدال غيرها بها, لإعجاب حسن الـمستبدلة له بها إياه إذ كان الله قد جعلهنّ أمّهات الـمؤمنـين وخيرهن بـين الـحياة الدنـيا والدار الاَخرة, والرضا بـالله ورسوله, فـاخترن الله ورسوله والدار الاَخرة, فحرمن علـى غيره بذلك, ومنع من فراقهنّ بطلاق فأما نكاح غيرهنّ فلـم يـمنع منه, بل أحلّ الله له ذلك علـى ما بـين فـي كتابه. وقد رُوي عن عائشة أن النبـيّ صلى الله عليه وسلم لـم يقبض حتـى أحلّ الله له نساء أهل الأرض.
21816ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, عن ابن جُرَيج, عن عطاء, عن عائشة قالت: ما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم حتـى أحلّ له النساء تعنـي أهل الأرض.
حدثنـي عبـيد بن إسماعيـل الهبـاري, قال: حدثنا سفـيان, عن عمرو, عن عطاء, عن عائشة, قالت: ما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم حتـى أحلّ له النساء.
حدثنا العبـاس بن أبـي طالب, قال: حدثنا معلـى, قال: حدثنا وهيب, عن ابن جريج, عن عطاء, عن عبـيد بن عمير اللـيثـي, عن عائشة قالت: ما توفـي رسول الله صلى الله عليه وسلم حتـى أحلّ له أن يتزوّج من النساء ما شاء.
حدثنـي أبو زيد عمر بن شبة, قال: حدثنا أبو عاصم, عن ابن جُرَيج, عن عطاء, قال: أحسب عبـيد بن عمير, حدثنـي, قال أبو زيد, وقال أبو عاصم مرّة, عن عائشة, قالت: ما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم حتـى أحلّ الله له النساء. قال: وقال أبو الزبـير: شهدت رجلاً يحدّثه عطاء.
حدثنا أحمد بن منصور, قال: حدثنا موسى بن إسماعيـل قال: حدثنا همام, عن ابن جُرَيج, عن عطاء عن عبـيد بن عمير, عن عائشة, قالت: ما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم حتـى أحلّ له النساء.
فإن قال قائل: فإن كان الأمر علـى ما وصفت من أن الله حرّم علـى نبـيه بهذه الاَية طلاق نسائه اللواتـي خيرهنّ فـاخترنه, فما وجه الـخبر الذي رُوي عنه أنه طلق حفصة ثم راجعها, وأنه أراد طلاق سودة حتـى صالـحته علـى ترك طلاقه إياها, ووهبت يومها لعائشة؟ قـيـل: كان ذلك قبل نزول هذه الاَية.
والدلـيـل علـى صحة ما قلنا, من أن ذلك كان قبل تـحريـم الله علـى نبـيه طلاقهن, الرواية الواردة أن عمر دخـل علـى حفصة معاقبَها حين اعتزل رسول الله صلى الله عليه وسلم نساءه, كان من قـيـله لها: قد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم طلقك, فكلـمته فراجعك, فوالله لئن طلّقك, أو لو كان طلّقك لا كلّـمته فـيك وذلك لا شك قبل نزول آية التـخيـير, لأن آية التـخيـير إنـما نزلت حين انقضى وقت يـمين رسول الله صلى الله عليه وسلم علـى اعتزالهنّ.
وأما أمر الدلالة علـى أن أمر سَوْدة كان قبل نزول هذه الاَية, أن الله إنـما أمر نبـيه بتـخيـير نسائه بـين فراقه والـمُقام معه علـى الرضا بأن لا قَسْم لهن, وأنه يُرْجِي من يشاء منهنّ, ويُؤْوي منهنّ من يشاء, ويُؤْثر من شاء منهنّ علـى من شاء, ولذلك قال له تعالـى ذكره: وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِـمّنْ عَزَلْتَ فَلا جُناحَ عَلَـيْكَ ذلكَ أدْنَى أنْ تَقَرّ أعْيُنُهُنّ وَلا يَحْزَنّ وَيَرْضَيْنَ بِـمَا آتَـيْتَهُنّ كُلّهُنّ, ومن الـمـحال أن يكون الصلـح بـينها وبـين رسول الله صلى الله عليه وسلم جرى علـى تركها يومها لعائشة فـي حالِ لا يومَ لها منه.
وغير جائز أن يكون كان ذلك منها إلا فـي حالِ كان لها منه يومٌ هوَ لها حقّ كان واجبـا علـى رسول الله صلى الله عليه وسلم أداؤه إلـيها, ولـم يكن ذلك لهنّ بعد التـخيـير لـما قد وصفت قبل فـيـما مضى من كتابنا هذا.
فتأويـل الكلام: لا يحلّ لك يا مـحمد النساء من بعد اللواتـي أحللتهنّ لك فـي الاَية قبلُ, ولا أن تُطَلق نساءك اللواتـي اخترن الله ورسوله والدار الاَخرة, فتبدّل بهنّ من أزواج ولو أعجبك حسن من أردت أن تبدّل به منهنّ, إلا ما ملكت يـمينك. وأن فـي قوله أنْ تَبَدّلَ بِهِنّ رفع, لأن معناها: لا يحلّ لك النساء من بعد, ولا الاستبدال بأزواجك, وإلا فـي قوله: إلاّ ما مَلَكَتْ يَـمِينُكَ استثناء من النساء. ومعنى ذلك: لا يحلّ لك النساء من بعد اللواتـي أحللتهنّ لك, إلا ما ملكت يـمينك من الإماء, فإن لك أن تَـمْلك من أيّ أجناس الناس شئت من الإماء.
وقوله: وكان اللّهُ علـى كُلّ شَيْءٍ رَقِـيبـا يقول: وكان الله علـى كل شيء ما أحلّ لك, وحرّم علـيك, وغير ذلك من الأشياء كلها, حفـيظا لا يعزُب عنه علـم شيء من ذلك, ولا يؤوده حفظ ذلك كله.
21817ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة وكانَ اللّهُ علـى كُلّ شَيْءٍ رَقِـيبـا: أي حفـيظا, فـي قول الـحسن وقَتادة.
الآية : 53
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {يَأَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَدْخُلُواْ بُيُوتَ النّبِيّ إِلاّ أَن يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَىَ طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ وَلَـكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُواْ فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُواْ وَلاَ مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النّبِيّ فَيَسْتَحْيِي مِنكُمْ وَاللّهُ لاَ يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقّ وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنّ مَتَاعاً فَاسْأَلُوهُنّ مِن وَرَآءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنّ وَمَا كَانَ لَكُمْ أَن تؤْذُواْ رَسُولَ اللّهِ وَلاَ أَن تَنكِحُوَاْ أَزْوَاجَهُ مِن بَعْدِهِ أَبَداً إِنّ ذَلِكُمْ كَانَ عِندَ اللّهِ عَظِيماً }.
يقول تعالـى ذكره لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا أيها الذين أمنوا بـالله ورسوله, لا تدخـلوا بـيوت نبـيّ الله إلا أن تُدْعَوا إلـى طعام تطعمونه غَيرَ ناظِرِينَ إناهُ يعنـي: غير منتظرين إدراكه وبلوغه وهو مصدر من قولهم: قد أنى هذا الشيء يَأنِـي إنىً وأنْـيا وإنَاءً قال الـحُطَيئة:
وآنَـيْتُ العَشاءَ إلـى سُهَيْـلٍأوِ الشّعْرَى فَطالَ بـيَ الأَناءُ
وفـيه لغة أخرى, يقال: قد إن لك: أي تبـين لك إينا, ونال لك, وأنال لك ومنه قول رُؤبة بن العَجاج:
هاجَتْ وَمِثْلِـي نَوْلُه أنْ يَرْبَعاحَمامَةٌ ناخَتْ حَماما سُجّعا
وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:
21818ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى وحدثنـي الـحارث, قال: حدثنا الـحسن, قال: حدثنا ورقاء, جميعا عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد, فـي قول الله: إلـى طَعامٍ غيرَ ناظِرِينَ إناهُ قال: مُتَـحَيّنـين نُضْجَه.
21819ـ حدثنـي مـحمد بن سعد, قال: ثنـي أبـي, قال: ثنـي عمي, قال: ثنـي أبـي, عن أبـيه, عن ابن عبـاس, غيرَ ناظِرِينَ إناهُ يقول: غير ناظرين الطعامَ أن يُصْنَع.
21820ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة غيرَ ناظِرِينَ إناهُ قال: غير متـحينـين طعامه.
حدثنا ابن عبد الأعلـى, قال: حدثنا ابن ثور, عن معمر, عن قتادة, مثله.
ونصب غيرَ فـي قوله: غَيرَ ناظِرِينَ إناهُ علـى الـحال من الكاف والـميـم فـي قوله: إلاّ أنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ لأن الكاف والـميـم معرفة وغير نكرة, وهي من صفة الكاف والـميـم. وكان بعض نـحويّـي البصرة يقول: لا يجوز فـي «غير» الـجرّ علـى الطعام, إلا أن تقول: أنتـم, ويقول: ألا ترى أنك لو قلت: أبدى لعبد الله علـيّ امرأة مبغضا لها, لـم يكن فـيه إلا النصب, إلا أن تقول: مبغض لها هو, لأنك إذا أجريت صفته علـيها, ولـم تظهر الضمير الذي يدلّ علـى أن الصفة له لـم يكن كلاما, لو قلت: هذا رجل مع امرأةٍ مُلازِمِها, كان لـحنا, حتـى ترفع, فتقول ملازمُها, أو تقول مُلازمِهَا هُو, فتـجرّ.
وكان بعض نـحويـي الكوفة يقول: لو جعلت «غير» فـي قوله: غَيرَ ناظِرِينَ إناهُ خفضا كان صوابـا, لأن قبلها الطعام وهو نكرة, فـيجعل فعلهم تابعا للطعام, لرجوع ذكر الطعام فـي إناه, كما تقول العرب: رأيت زيدا مع امرأةٍ مـحسنا إلـيها ومـحسنٍ إلـيها, فمن قال مـحسنا جعله من صفة زيد, ومن خفضه فكأنه قال: رأيته مع التـي يحسن إلـيها فإذا صارت الصلة للنكرة أتبعتها وإن كانت فعلاً لغير النكرة, كما قال الأعشى:
فَقُلْتُ لَهُ هَذِهِ هاتِهاإلَـيْنا بِأَدْماءَ مُقْتادِها
فجعل الـمقتاد تابعا لإعراب بأدماء, لأنه بـمنزلة قولك: بأدماء تقتادها, فخفضه, لأنه صلة لها, قال: ويُنْشَد: «بأدماءِ مقتادِها» بخفض الأدماء لإضافتها إلـى الـمقتاد, قال: ومعناه: هاتها علـى يدي من اقتادها. وأنشد أيضا:
وَإنّ امْرَأً أهْدَى إلَـيْكِ ودُونَهُمِن الأرْضِ مَوْماةٌ وَبَـيْداءُ فَـيْهَقُ
لَـمَـحْقُوقَةٌ أنْ تَسْتَـجِيبـي لِصَوْتِهِوأنْ تعْلَـمي أنّ الـمُعانَ مُوَفّقُ
وحُكِي عن بعض العرب سَمَاعا يُنْشِد:
أرأيْتِ إذْ أعْطَيْتُكِ الوُدّ كُلّهولـمْ يَكُ عِنْدي إنْ أَبَـيْتِ إبـاءُ
أمُسْلِـمَتِـي للْـمَوْتِ أنْتِ فَمَيّتٌوَهَلْ للنّفُوسِ الـمُسْلِـماتِ بَقاءُ
ولـم يقل: فميت أنا, وقال الكسائي: سمعت العرب تقول: يدك بـاسطها, يريدون أنت, وهو كثـير فـي الكلام, قال: فعلـى هذا يجوز خفض «غير».
والصواب من القول فـي ذلك عندنا, القول بأجازة جرّ «غير» فـي «غير ناظرين» فـي الكلام, لا فـي القراءة, لـما ذكرنا من الأبـيات التـي حكيناها فأما فـي القراءة فغير جائز فـي «غير» غير النصب, لإجماع الـحجة من القرّاء علـى نصبها.
وقوله: وَلَكِنْ إذا دُعِيتُـمْ فـادْخُـلُوا يقول: ولكن إذا دعاكم رسول الله صلى الله عليه وسلم فـادخـلوا البـيت الذي أذن لكم بدخوله فإذَا طَعِمْتُـمْ فـانْتَشِرُوا يقول: فإذا أكلتـم الطعام الذي دعيتـم لأكله فـانتشروا, يعنـي فتفرّقوا واخرجوا من منزله. وَلا مُسْتأْنِسِينَ لِـحَدِيثٍ فقوله: وَلا مُسْتأْنِسينَ لِـحَديثٍ فـي موضع خفض عطفـا به علـى ناظرين, كما يقال فـي الكلام: أنت غير ساكت ولا ناطق. وقد يحتـمل أن يقال: «مستأنسين» فـي موضع نصب عطفـا علـى معنى ناظرين, لأن معناه: إلا أن يؤذن لكم إلـى طعام لا ناظرين إناه, فـيكون قوله: وَلا مُسْتأْنِسِينَ نصبـا حينئذ, والعرب تفعل ذلك إذا حالت بـين الأوّل والثانـي, فتردّ أحيانا علـى لفظ الأوّل, وأحيانا علـى معناه, وقد ذكر الفراء أن أبـا القمقام أنشده:
أجِدّك لَسْتَ الدّهْرَ رَائيَ رَامَةٍوَلا عاقِلٍ إلاّ وأنْتَ جَنِـيبُ
وَلا مُصْعِدٍ فِـي الـمُصْعِدِينَ لَـمِنْعِجٍوَلا هابِطا ما عِشْتُ هَضْبَ شَطِيبِ
فردّ «مصعد» علـى أن «رائي» فـيه بـاء خافضة, إذ حال بـينه وبـين الـمصعد مـما حال بـينهما من الكلام.
ومعنى قوله: وَلا مُسْتأْنِسِينَ لِـحَدِيثٍ: ولا متـحدّثـين بعد فراغكم من أكل الطعام إيناسا من بعضكم لبعض به, كما:
21821ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى وحدثنـي الـحارث, قال: حدثنا الـحسن, قال: حدثنا ورقاء, جميعا عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد وَلا مُسْتأْنِسِينَ لِـحَدِيثٍ بعد أن تأكلوا.
واختلف أهل العلـم فـي السبب الذي نزلت هذه الاَية فـيه, فقال بعضهم: نزلت بسبب قوم طعموا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فـي ولـيـمة زينب بنت جحش, ثم جلسوا يتـحدّثون فـي منزل رسول الله صلى الله عليه وسلم, وبرسول الله صلى الله عليه وسلم إلـى أهله حاجة, فمنعه الـحياء من أمرهم بـالـخروج من منزله. ذكر من قال ذلك:
21822ـ حدثنـي عمران بن موسى القزاز, قال: حدثنا عبد الوارث, قال: حدثنا عبد العزيز بن صُهَيب, عن أنس بن مالك, قال: بنى رسول الله صلى الله عليه وسلم بزينب بنت جحش, فبعثت داعيا إلـى العطام, فدعوت, فـيجيء القوم يأكلون ويخرجون ثم يجيء القوم يأكلون ويخرجون, فقلت: يا نبـيّ الله قد دعوت حتـى ما أجد أحدا أدعوه, قال: «ارفعوا طعامكم», وإن زينب لـجالسة فـي ناحية البـيت, وكانت قد أعطيت جمالاً, وبقـي ثلاثة نفر يتـحدّثون فـي البـيت, وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم منطلقا نـحو حجرة عائشة, فقال: «السّلامُ عَلَـيْكُمْ أهْلَ البَـيْتِ» فقالوا: وعلـيك السلام يا رسول الله, كيف وجدت أهلك؟ قال: فأتـى حجر نسائه, فقالوا مثل ما قالت عائشة, فرجع النبـيّ صلى الله عليه وسلم, فإذا الثلاثة يتـحدّثون فـي البـيت, وكان النبـيّ صلى الله عليه وسلم شديد الـحياء, فخرج النبـيّ صلى الله عليه وسلم منطلقا نـحو حجرة عائشة, فلا أدري أَخبرَتْه, أو أُخبر أن الرهط قد خرجوا, فرجع حتـى وضع رجله فـي أُسكفّة داخـل البـيت, والأخرى خارجه, إذ أرخى الستر بـينـي وبـينه, وأُنزلت آية الـحجاب.
حدثنـي أبو معاوية بشر بن دحية, قال: حدثنا سفـيان, عن الزهريّ, عن أنس بن مالك, قال: سألنـي أبـيّ بن كعب عن الـحجاب, فقلت: أنا أعلـم الناس به, نزلت فـي شأن زينب أولـم النبـيّ صلى الله عليه وسلم علـيها بتـمر وسويق, فنزلت: يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُـلُوا بُـيُوتَ النّبِـيّ إلاّ أنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إلـى قوله: ذَلِكُمْ أطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنّ.
حدثنـي أحمد بن عبد الرحمن بن وهب, قال: ثنـي عمي, قال: أخبرنـي يونس, عن الزهريّ, قال: أخبرنـي أنس بن مالك أنه كان ابن عشر سنـين مقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلـى الـمدينة, فكنت أعلـم الناس بشأن الـحجاب حين أنزل فـي مبتنـي رسول الله صلى الله عليه وسلم بزينب بنت جحش أصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم بها عروسا, فدعا القوم فأصابوا من الطعام حتـى خرجوا, وبقـي منهم رهط عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فأطالوا الـمكث, فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم وخرج, وخرجت معه لكي يخرجوا, فمشى رسول الله صلى الله عليه وسلم ومشيت معه, حتـى جاء عتبة حجرة عائشة زوج النبـيّ صلى الله عليه وسلم, ثم ظنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أنهم قد خرجوا, فرجع ورجعت معه, حتـى دخـل علـى زينب, فإذا هم جلوس لـم يقوموا, فرجع رسول الله صلى الله عليه وسلم ورجعت معه, فإذا هم قد خرجوا, فضرب بـينـي وبـينه سترا, وأنزل الـحجاب.
حدثنا مـحمد بن بشار, قال: حدثنا ابن أبـي عديّ, عن حميد, عن أنس, قال: دعوت الـمسلـمين إلـى ولـيـمة رسول الله صلى الله عليه وسلم, صبـيحة بنى بزينب بنت جحش, فأوسعهم خبزا ولـحما, ثم رجع كما كان يصنع, فأتـى حجر نسائه فسلـم علـيهنّ, فدعون له, ورجع إلـى بـيته وأنا معه فلـما انتهينا إلـى البـاب إذا رجلان قد جرى بهما الـحديث فـي ناحية البـيت, فلـما أبصرهما ولـى راجعا فلـما رأيا النبـيّ صلى الله عليه وسلم ولّـى عن بـيته, ولّـيا مُسْرِعين, فلا أدري أنا أخبرته, أو أُخبر فرجع إلـى بـيته, فأرخى الستر بـينـي وبـينه, ونزلت آية الـحجاب.
21823ـ حدثنا ابن بشار, قال: حدثنا ابن أبـي عديّ, عن حميد, عن أنس بن مالك, قال: قال عمر بن الـخطاب: قلت لرسول الله صلى الله عليه وسلم: لو حجبت عن أمهات الـمؤمنـين, فإنه يدخـل علـيك البرّ والفـاجر, فنزلت آية الـحجاب.
حدثنـي القاسم بن بشر بن معروف, قال: حدثنا سلـيـمان بن حرب, قال: حدثنا حماد بن زيد, عن أيوب, عن أبـي قلابة, عن أنس بن مالك, قال: أنا أعلـم الناس بهذه الاَية, آية الـحجاب لـما أُهديت زينب إلـى رسول الله صلى الله عليه وسلم صنع طعاما, ودعا القوم, فجاؤوا فدخـلوا وزينب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فـي البـيت, وجعلوا يتـحدّثون, وجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يخرج ثم يدخـل وهم قعود, قال: فنزلت هذه الاَية: يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُـلُوا بُـيُوتَ النّبِـيّ.... إلـى: فـاسأَلُوهُنّ مِنْ وَرَاءِ حِجابٍ قال: فقام القوم وضرب الـحجاب.
حدثنـي عمر بن إسماعيـل بن مـجالد, قال: حدثنا أبـي, عن بـيان, عن أنس بن مالك, قال: بنى رسول الله صلى الله عليه وسلم بـامرأة من نسائه, فأرسلنـي, فدعوت قوما إلـى الطعام فلـما أكلوا وخرجوا, قام رسول الله صلى الله عليه وسلم منطلقا قِبَلَ بـيت عائشة, فرأى رجلـين جالسين, فـانصرف راجعا, فأنزل الله: يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُـلُوا بُـيُوتَ النّبِـيّ إلاّ أنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ.
21824ـ حدثنا عمرو بن علـيّ, قال: حدثنا أبو داود, قال: حدثنا الـمسعودي, قال: حدثنا ابن نهشل, عن أبـي وائل, عن عبد الله, قال: أمر عمر نساء النبـيّ صلى الله عليه وسلم بـالـحجاب, فقالت زينب: يا بن الـخطاب, إنك لتغار علـينا, والوحي ينزل فـي بـيوتنا, فأنزل الله: وَإذَا سألْتُـمُوهُنّ مَتاعا فـاسأَلُوهُنّ مِنْ وَرَاءِ حِجابٍ.
حدثنـي مـحمد بن مرزوق, قال: حدثنا أشهل بن حاتـم, قال: حدثنا ابن عون, عن عمرو بن سعد, عن أنس, قال: وكنت مع النبـيّ صلى الله عليه وسلم, وكان يـمرّ علـى نسائه, قال: فأتـى بـامرأة عروس, ثم جاء وعندها قوم, فـانطلق فقضى حاجته, واحتبس وعاد وقد خرجوا قال: فدخـل فأرخى بـينـي وبـينه سترا, قال: فحدثت أبـا طلـحة, فقال: إن كان كما تقول: لـينزلنّ فـي هذا شيء, قال: ونزلت آية الـحجاب.
وقال آخرون: كان ذلك فـي بـيت أمّ سلـمة. ذكر من قال ذلك:
21825ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة قوله: وَلَكِنْ إذَا دُعِيُتـمْ فـادْخُـلُوا فإذَا طَعِمْتُـمْ فـانْتَشِرُوا وَلا مُسْتَأْنِسينَ لِـحَدِيثٍ قال: كان هذا فـي بـيت أمّ سلـمة, قال: أكلوا, ثم أطالوا الـحديث, فجعل النبـيّ صلى الله عليه وسلم يدخـل ويخرج ويستـحي منهم, والله لا يستـحي من الـحق.
21826ـ قال: ثنا سعيد, عن قتادة: وَإذَا سألْتُـمُوهُنّ مَتاعا فـاسأَلُوهُنّ مِنْ وَرَاءِ حِجابٍ قال: بلغنا أنهنّ أُمرن بـالـحجاب عند ذلك.
وقوله: إنّ ذَلِكُمْ كانَ يُؤْذِي النّبِـيّ. يقول: إن دخولكم بـيوت النبـيّ من غير أن يؤذن لكم, وجلوسكم فـيها مستأنسين للـحديث بعد فراغكم من أكل الطعام الذي دعيتـم له, كان يؤذي النبـيّ, فـيستـحي منكم أن يخرجكم منها إذا قعدتـم فـيها للـحديث بعد الفراغ من الطعام, أو يـمنعكم من الدخول إذا دخـلتـم بغير إذن مع كراهيته لذلك منكم وَاللّهُ لا يَسْتـحْيِ مِنَ الـحَقّ أن يتبـين لكم, وإن استـحيا نبـيكم فلـم يبـين لكم كراهية ذلك حياء منكم وَإذَا سألْتَـمُوهُنّ مَتاعا فـاسأَلُوهُنّ مِنْ وَرَاءِ حِجابٍ يقول: وإذا سألتـم أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم ونساء الـمؤمنـين اللواتـي لسن لكم بأزواج متاعا فـاسأَلُوهُنّ مِنْ وَرَاءِ حِجاب يقول: من وراء ستر بـينكم وبـينهنّ, ولا تدخـلوا علـيهنّ بـيوتهنّ ذَلِكُمْ أطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنّ يقول تعالـى ذكره: سؤالكم إياهنّ الـمتاع إذا سألتـموهنّ ذلك من وراء حجاب أطهر لقلوبكم وقلوبهنّ من عوارض العين فـيها التـي تعرض فـي صدور الرجال من أمر النساء, وفـي صدور النساء من أمر الرجال, وأحرى من أن لا يكون للشيطان علـيكم وعلـيهنّ سبـيـل.
وقد قـيـل: إن سبب أمر الله النساء بـالـحجاب, إنـما كان من أجل أن رجلاً كان يأكل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وعائشة معهما, فأصابت يدها يد الرجل, فكره ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم. ذكر من قال ذلك:
21827ـ حدثنـي يعقوب, قال: حدثنا هشيـم, عن لـيث, عن مـجاهد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يطعم ومعه بعض أصحابه, فأصابت يد رجل منهم يد عائشة, فكره ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم, فنزلت آية الـحجاب.
وقـيـل: نزلت من أجل مسألة عمر رسول الله صلى الله عليه وسلم. ذكر من قال ذلك:
21828ـ حدثنا أبو كُرَيب ويعقوب, قالا: حدثنا هشيـم, قال: حدثنا حميد الطويـل, عن أنس, قال: قال عمر بن الـخطاب: قلت: يا رسول الله, إن نساءك يدخـل علـيهنّ البرّ والفـاجر, فلو أمرتهن أن يحتـجبن؟ قال: فنزلت آية الـحجاب.
حدثنـي يعقوب, قال: حدثنا ابن علـية, قال: حدثنا حميد, عن أنس, عن النبـيّ صلى الله عليه وسلم بنـحوه.
21829ـ حدثنـي أحمد بن عبد الرحمن, قال: ثنـي عمرو بن عبد الله بن وهب, قال: ثنـي يونس, عن الزهريّ, عن عروة, عن عائشة قالت: إن أزواج النبـيّ صلى الله عليه وسلم كنّ يخرجن بـاللـيـل إذا تبرّزن إلـى «الـمناصع» وهو صعيد أفـيح, وكان عمر يقول: يا رسول الله, احجب نساءك, فلـم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعل, فخرجت سودة بنت زمعة, زوج النبـيّ صلى الله عليه وسلم, وكانت امرأة طويـلة, فناداها عمر بصوته الأعلـى: قد عرفناك يا سودة, حرصا أن ينزل الـحجاب, قال: فأنزل الله الـحجاب.
21830ـ حدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا ابن نـمير, عن هشام بن عروة, عن أبـيه, عن عائشة, قالت: خرجت سودة لـحاجتها بعد ما ضرب علـينا الـحجاب, وكانت امرأة تفرع النساء طولاً, فأبصرها عمر, فناداها: يا سودة, إنك والله ما تـخفـين علـينا, فـانظري كيف تـخرجين, أو كيف تصنعين؟ فـانكفأت فرجعت إلـى رسول الله صلى الله عليه وسلم وإنه لـيتعشى, فأخبرته بـما كان, وما قال لها, وإن فـي يده لعَرْقا, فأوحي إلـيه, ثم رفع عنه, وإن العَرْق لفـي يده, فقال: «لقد أُذن لكنّ أن تـخرجن لـحاجتكنّ».
حدثنـي أحمد بن مـحمدالطوسي, قال: حدثنا عبد الصمد بن عبد الوارث, قال: حدثنا همام, قال: حدثنا عطاء بن السائب, عن أبـي وائل, عن ابن مسعود, قال: أمر عمر نساء النبـيّ صلى الله عليه وسلم بـالـحجاب فقالت زينب: يا ابن الـخطاب, إنك لتغار علـينا والوحي ينزل فـي بـيوتنا؟ فأنزل الله: وَإذَا سألْتُـمُوهُنّ مَتاعا فـاسأَلُوهُنّ مِنْ وَرَاءِ حِجابٍ.
حدثنـي أبو أيوب النهرانـي سلـيـمان بن عبد الـحميد, قال: حدثنا يزيد بن عبد ربه, قال: ثنـي ابن حرب, عن الزبـيدي, عن الزهري, عن عروة, عن عائشة أن أزواج النبـيّ صلى الله عليه وسلم, كنّ يخرجن بـاللـيـل إذا تبرّزن إلـى «الـمناصع» وهو صعيد أفـيح وكان عمر بن الـخطاب يقول لرسول الله صلى الله عليه وسلم: احجب نساءك, فلـم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعل, فخرجت سودة بنت زمعة زوج النبـيّ صلى الله عليه وسلم لـيـلة من اللـيالـي عشاء, وكانت امرأة طويـلة, فناداها عمر بصوته الأعلـى: قد عرفناك يا سودة, حرصا علـى أن ينزل الـحجاب, قالت عائشة: فأنزل الله الـحجاب, قال الله: يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُـلُوا... الاَية.
وقوله: وَما كانَ لَكُمْ أنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللّهِ يقول تعالـى ذكره: وما ينبغي لكم أن تؤذوا رسول الله, وما يصلـح ذلك لكم وَلا أنْ تَنْكِحُوا أزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أبَدا يقول: وما ينبغي لكم أن تنكحوا أزواجه من بعده أبدا لأنهنّ أمهاتكم, ولا يحلّ للرجل أن يتزوّج أمه.
وذُكر أن ذلك نزل فـي رجل كان يدخـل قبل الـحجاب, قال: لئن مات مـحمد لأتزوجنّ امرأة من نسائه سماها, فأنزل الله تبـارك وتعالـى فـي ذلك: وَما كانَ لَكُمْ أن تُؤْذُوا رَسُولَ اللّهِ وَلا أنْ تَنْكِحُوا أزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أبَدا. ذكر من قال ذلك:
21831ـ حدثنـي يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد فـي قوله: وَما كانَ لَكُمْ أنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللّهِ وَلا أنْ تَنْكِحُوا أزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أبَدا إنّ ذَلِكُمْ كانَ عِنْدَ اللّهِ عَظِيـما قال: ربـما بلغ النبـيّ صلى الله عليه وسلم أن الرجل يقول: لو أن النبـيّ صلى الله عليه وسلم توفـي تزوّجت فلانة من بعده, قال: فكان ذلك يؤذي النبـيّ صلى الله عليه وسلم, فنزل القرآن: وَما كانَ لَكُمْ أنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللّهِ.... الاَية.
21832ـ حدثنا مـحمد بن الـمثنى, قال: حدثنا عبد الوهاب, قال: حدثنا داود, عن عامر أن النبـيّ صلى الله عليه وسلم مات, وقد ملك قـيـلة بنت الأشعث, فتزوّجها عكرمة بن أبـي جهل بعد ذلك, فشقّ علـى أبـي بكر مشقة شديدة, فقال له عمر: يا خـلـيفة رسول الله إنها لـيست من نسائه إنها لـم يخيرّها رسول الله صلى الله عليه وسلم ولـم يحجبها, وقد برأها منه بـالردّة التـي ارتدّت مع قومها, فـاطمأنّ أبو بكر وسكن.
حدثنا ابن الـمثنى, قال: حدثنا عبد الأعلـى, قال: حدثنا داود, عن عامر, أن رسول الله صلى الله عليه وسلم توفـي وقد ملك بنت الأشعث بن قـيس, ولـم يجامعها, ذكر نـحوه.
وقوله: إنّ ذَلِكُمْ كانَ عِنْدَ اللّهِ عَظِيـما يقول: إن أذاكم رسول الله صلى الله عليه وسلم ونكاحكم أزواجه من بعده عند الله عظيـم من الإثم.
الآية : 54
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {إِن تُبْدُواْ شَيْئاً أَوْ تُخْفُوهُ فَإِنّ اللّهَ كَانَ بِكُلّ شَيْءٍ عَلِيماً }.
يقول تعالـى ذكره: إن تظهروا بألسنتكم شيئا أيها الناس من مراقبة النساء, أو غير ذلك مـما نهاكم عنه أو أذى لرسول الله صلى الله عليه وسلم بقول: لأتزوجنّ زوجته بعد وفـاته, أو تـخفوه يقول: أو تـخفوا ذلك فـي أنفسكم, فإن الله كان بكل شيء علـيـما, يقول: فإن الله بكل ذلك وبغيره من أموركم وأمور غيركم, علـيـم لا يخفـى علـيه شيء, وهو يجازيكم علـى جميع ذلك