تفسير ابن كثير تفسير الصفحة 425 من المصحف



تفسير ابن كثير - صفحة القرآن رقم 425

425 : تفسير الصفحة رقم 425 من القرآن الكريم

** تُرْجِي مَن تَشَآءُ مِنْهُنّ وَتُؤْوِيَ إِلَيْكَ مَن تَشَآءُ وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمّنْ عَزَلْتَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكَ ذَلِكَ أَدْنَىَ أَن تَقَرّ أَعْيُنُهُنّ وَلاَ يَحْزَنّ وَيَرْضَيْنَ بِمَآ آتَيْتَهُنّ كُلّهُنّ وَاللّهُ يَعْلَمُ مَا فِي قلُوبِكُمْ وَكَانَ اللّهُ عَلِيماً حَلِيماً
قال الإمام أحمد: حدثنا محمد بن بشر, حدثنا هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها أنها كانت تغير من النساء اللاتي وهبن أنفسهن لرسول الله صلى الله عليه وسلم, قالت: ألا تستحي المرأة أن تعرض نفسها بغير صداق ؟ فأنزل الله عز وجل {ترجي من تشاء منهن وتؤوي إليك من تشاء} الاَية, قالت: إني أرى ربك يسارع لك في هواك. وقد تقدم أن البخاري رواه من حديث أبي أسامة عن هشام بن عروة, فدل هذا على أن المراد بقوله: {ترجي} أي تؤخر {من تشاء منهن} أي من الواهبات {وتؤوي إليك من تشاء} أي من شئت قبلتها ومن شئت رددتها, ومن رددتها فأنت فيها أيضاً بالخيار بعد ذلك إن شئت عدت فيها فآويتها, ولهذا قال: {ومن ابتغيت ممن عزلت فلا جناح عليك}.
قال عامر الشعبي في قوله تعالى: {ترجي من تشاء منهن} الاَية, كن نساء وهبن أنفسهن للنبي صلى الله عليه وسلم, فدخل ببعضهن وأرجأ بعضهن لم ينكحن بعده, منهن أم شريك وقال آخرون: بل المراد بقوله {ترجي من تشاء منهن} الاَية, أي من أزواجك لا حرج عليك أن تترك القسم لهن, فتقدم من شئت وتؤخر من شئت, وتجامع من شئت وتترك من شئت, هكذا يروى عن ابن عباس ومجاهد والحسن وقتادة وأبي رزين وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم وغيرهم, ومع هذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يقسم لهن, ولهذا ذهب طائفة من الفقهاء من الشافعية وغيرهم إلى أنه لم يكن القسم واجباً عليه صلى الله عليه وسلم, واحتجوا بهذه الاَية الكريمة.
وقال البخاري: حدثنا حبان بن موسى, حدثنا عبد الله هو ابن المبارك, وأخبرنا عاصم الأحول عن معاذ عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: كان يستأذن في اليوم المرأة منا بعد أن أنزلت هذه الاَية {ترجي من تشاء منهن وتؤوي إليك من تشاء ومن ابتغيت ممن عزلت فلا جناح عليك} فقلت لها: ما كنت تقولين ؟ فقالت: كنت أقول إن كان ذلك إلي فإني لا أريد يا رسول الله أن أوثر عليك أحداً, فهذا الحديث عنها يدل على أن المراد من ذلك عدم وجود القسم, وحديثها الأول يقتضي أن الاَية نزلت في الواهبات, ومن ههنا اختار ابن جرير أن الاَية عامة في الواهبات وفي النساء, اللاتي عنده أنه مخير فيهن إن شاء قسم وإن شاء لم يقسم, وهذا الذي اختاره حسن جيد قوي, وفيه جمع بين الأحاديث, ولهذا قال تعالى: {ذلك أدنى أن تقر أعينهن ولا يحزن ويرضين بما آتيتهن كلهن} أي إذا علمن أن الله قد وضع عنك الحرج في القسم, فإن شئت قسمت وإن شئت لم تقسم, لا جناح عليك في أي ذلك فعلت, ثم مع هذا أن تقسم لهن اختياراً منك, لا أنه على سبيل الوجوب, فرحن بذلك واستبشرن به, وحملن جميلك في ذلك, واعترفن بمنتك عليهن في قسمتك لهن وتسويتك بينهن وإنصافك لهن وعدلك فيهن.
وقوله تعالى: {والله يعلم ما في قلوبكم} أي من الميل إلى بعضهن دون بعض مما لا يمكن دفعه, كما قال الإمام أحمد: حدثنا يزيد, حدثنا حماد بن سلمة عن أيوب عن أبي قلابة عن عبد الله بن يزيد عن عائشة قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقسم بين نسائه فيعدل, ثم يقول: «اللهم هذا فعلي فيما أملك, فلا تلمني فيما تملك ولا أملك» ورواه أهل السنن الأربعة من حديث حماد بن سلمة, وزاد أبو داود بعد قوله «فلا تلمني فيما تملك ولا أملك» يعني القلب. وإسناده صحيح, ورجاله كلهم ثقات, ولهذا عقب ذلك بقوله تعالى: {وكان الله عليم} أي بضمائر السرائر {حليم} أي يحلم ويغفر.

** لاّ يَحِلّ لَكَ النّسَآءُ مِن بَعْدُ وَلاَ أَن تَبَدّلَ بِهِنّ مِنْ أَزْوَاجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنّ إِلاّ مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ وَكَانَ اللّهُ عَلَىَ كُلّ شَيْءٍ رّقِيباً
ذكر غير واحد من العلماء كابن عباس ومجاهد والضحاك وقتادة وابن زيد وابن جرير وغيرهم, أن هذه الاَية نزلت مجازاة لأزواج النبي صلى الله عليه وسلم ورضاً عنهن على حسن صنيعهن في اختيارهن الله ورسوله والدار الاَخرة لما خيرهن رسول لله صلى الله عليه وسلم كما تقدم في الاَية, فلما اخترن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان جزاؤهن أن الله تعالى قصره عليهن, وحرم عليه أن يتزوج بغيرهن أو يستبدل بهن أزواجاً غيرهن, ولو أعجبه حسنهن إلا الإماء والسراري فلا حرج عليه فيهن, ثم إنه تعالى رفع عنه الحرج في ذلك ونسخ حكم هذه الاَية, وأباح له التزوج, ولكن لم يقع منه بعد ذلك تزوج لتكون المنة لرسول الله صلى الله عليه وسلم عليهن.
قال الإمام أحمد: حدثنا سفيان عن عمرو عن عطاء عن عائشة رضي الله عنها قالت: ما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أحل الله له النساء, ورواه أيضاً من حديث ابن جريج عن عطاء عن عبيد بن عمير عن عائشة, ورواه الترمذي والنسائي في سننيهما, وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو زرعة, حدثنا عبد الرحمن بن عبد الملك بن شيبة, حدثني عمر بن أبي بكر, حدثني المغيرة بن عبد الرحمن الخزاعي عن أبي النضر مولى عمر بن عبيد الله عن عبد الله بن وهب بن زمعة عن أم سلمة أنها قالت: لم يمت رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أحل الله له أن يتزوج من النساء ما شاء إلا ذات محرم, وذلك قول الله تعالى: {ترجي من تشاء منهن} الاَية فجعلت هذه ناسخة للتي بعدها في التلاوة كآيتي عدة الوفاة في البقرة, الأولى ناسخة للتي بعدها, والله أعلم.
وقال آخرون: بل معنى الاَية {لا يحل لك النساء من بعد} أي من بعد ما ذكرنا لك من صفة النساء اللاتي أحللنا لك من نسائك, اللاتي آتيت أجورهن وما ملكت يمينك وبنات العم والعمات والخال والخالات والواهبة وما سوى ذلك من أصناف النساء فلا يحل لك, وهذا ما روي عن أبي بن كعب ومجاهد في رواية عنه, وعكرمة والضحاك في رواية, وأبي رزين في رواية عنه, وأبي صالح والحسن وقتادة في رواية, والسدي وغيرهم, قال ابن جرير: حدثنا يعقوب, حدثنا ابن علية عن داود بن أبي هند, حدثني محمد بن أبي موسى عن زياد عن رجل من الأنصار قال: قلت لأبي بن كعب: أرأيت لو أن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم توفين أما كان له أن يتزوج ؟ فقال: وما يمنعه من ذلك ؟ قال: قلت قول الله تعالى: {لا يحل لك النساء من بعد} فقال: إنما أحل الله له ضرباً من النساء, فقال تعالى: {يا أيها النبي إنا أحللنا لك أزواجك ـ إلى قوله تعالى ـ إن وهبت نفسها للنبي} ثم قيل له: {لا يحل لك النساء من بعد} ورواه عبد الله بن أحمد من طرق عن داود به.
وروى الترمذي عن ابن عباس قال: نهي رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أصناف النساء إلا ما كان من المؤمنات المهاجرات بقوله تعالى: {لا يحل لك النساء من بعد ولا أن تبدل بهن من أزواج ولو أعجبك حسنهن إلا ما ملكت يمينك} فأحل الله فتياتكم المؤمنات, وامرأة مؤمنة إن وهبت نفسها للنبي وحرم كل ذات دين غير الإسلام, ثم قال: {ومن يكفر بالإيمان فقد حبط عمله} الاَية.
وقال تعالى: {يا أيها النبي إنا أحللنا لك أزواجك اللاتي آتيت أجورهن ـ إلى قوله تعالى ـ خالصة لك من دون الؤمنين} وحرم ما سوى ذلك من أصناف النساء, وقال مجاهد {لا يحل لك النساء من بعد} أي من بعد ما سمي لك من مسلمة ولا يهودية ولا نصرانية ولا كافرة وقال أبو صالح {لا يحل لك النساء من بعد} أمر أن لا يتزوج أعرابية ولا عربية, ويتزوج بعد من نساء تهامة وما شاء من بنات العم والعمة والخال والخالة إن شاء ثلاثمائة. وقال عكرمة {لا يحل لك النساء من بعد} أي التي سمى الله.
واختار ابن جرير رحمه الله: أن الاَية عامة فيمن ذكر من أصناف النساء, وفي النساء اللواتي في عصمته وكن تسعاً, وهذا الذي قاله جيد, ولعله مراد كثير ممن حكينا عنه من السلف, فإن كثيراً منهم روى عنه هذا وهذا ولا منافاة, والله أعلم. ثم أورد ابن جرير على نفسه ما روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم طلق حفصة ثم راجعها! وعزم على فراق سودة حتى وهبت يومها لعائشة, ثم أجاب بأن هذا كان قبل نزول قوله تعالى: {لا يحل لك من النساء من بعد ولا أن تبدل بهن من أزواج} الاَية, وهذا الذي قاله من أن هذا كان قبل نزول الاَية صحيح, ولكن لا يحتاج إلى ذلك, فإن الاَية إنما دلت على أنه لا يتزوج بمن عدا اللواتي في عصمته وأنه لا يستبدل بهن غيرهن, ولا يدل ذلك على أنه لا يطلق واحدة منهن من غير استبدال, فالله أعلم, فأما قضية سودة ففي الصحيح عن عائشة رضي الله تبارك وتعالى عنها وهي سبب نزول قوله تعالى: {وإن امرأة خافت من بعلها نشوزاً أو إعراضاً فلا جناح عليهما أن يصلحا بينهما صلح} الاَية.) وأما قضية حفصة فروى أبو داود والنسائي وابن ماجه وابن حبان في صحيحه من طرق عن يحيى بن زكريا بن أبي زائدة, عن صالح بن صالح بن حيي عن سلمة بن كهيل عن سعيد بن جبير, عن ابن عباس عن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم طلق حفصة ثم راجعها, وهذا إسناد قوي. وقال الحافظ أبو يعلى: حدثنا أبو كريب, حدثنا يونس بن بكير عن الأعمش عن أبي صالح عن ابن عمر قال: دخل عمر على حفصة وهي تبكي, فقال: ما يبكيك ؟ لعل رسول الله صلى الله عليه وسلم طلقك, إنه قد كان طلقك مرة ثم راجعك من أجلي, والله لئن كان طلقك مرة أخرى لا أكلمك أبداً, ورجاله على شرط الصحيحين.
وقوله تعالى: {ولا أن تبدل بهن من أزواج ولو أعجبك حسنهن} فنهاه عن الزيادة إن طلق واحدة منهن, واستبدال غيرها بها, إلا ما ملكت يمينه, وقد روى الحافظ أبو بكر البزار حديثاً مناسباً ذكره ههنا, فقال: حدثنا إبراهيم بن نصر, حدثنا مالك بن إسماعيل, حدثنا عبد السلام بن حرب عن إسحاق بن عبد الله القرشي, عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن أبي هريرة قال: كان البدل في الجاهلية أن يقول الرجل للرجل: بادلني امرأتك: وأبادلك بامراتي, أي تنزل لي عن امرأتك وأنزل لك عن امرأتي, فأنزل الله {ولا أن تبدل بهن من أزواج ولو أعجبك حسنهن} قال فدخل عيينة بن حصن الفزاري على النبي صلى الله عليه وسلم وعنده عائشة, فدخل بغير إذن, فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم فأين الاستئذان ؟» فقال: يارسول الله ما استأذنت على رجل من مضر منذ أدركت, ثم قال: من هذه الحميراء إلى جنبك ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «هذه عائشة أم المؤمنين» قال: أفلا أنزل لك عن أحسن الخلق ؟ قال «يا عيينة إن الله قد حرم ذلك» فلما أن خرج قالت عائشة: من هذا ؟ قال «هذا أحمق مطاع, وإنه على ما ترين لسيد قومه» ثم قال البزار: إسحاق بن عبد الله لين الحديث جداً, وإنما ذكرناه لأنا لم نحفظه إلا من هذا الوجه وبينا العلة فيه.

** يَأَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَدْخُلُواْ بُيُوتَ النّبِيّ إِلاّ أَن يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَىَ طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ وَلَـكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُواْ فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُواْ وَلاَ مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النّبِيّ فَيَسْتَحْيِي مِنكُمْ وَاللّهُ لاَ يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقّ وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنّ مَتَاعاً فَاسْأَلُوهُنّ مِن وَرَآءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنّ وَمَا كَانَ لَكُمْ أَن تؤْذُواْ رَسُولَ اللّهِ وَلاَ أَن تَنكِحُوَاْ أَزْوَاجَهُ مِن بَعْدِهِ أَبَداً إِنّ ذَلِكُمْ كَانَ عِندَ اللّهِ عَظِيماً * إِن تُبْدُواْ شَيْئاً أَوْ تُخْفُوهُ فَإِنّ اللّهَ كَانَ بِكُلّ شَيْءٍ عَلِيماً
هذه آية الحجاب وفيها أحكام وآداب شرعية, وهي مما وافق تنزيلها قول عمر بن الخطاب رضي الله عنه, كما ثبت ذلك في الصحيحين عنه أنه قال: وافقت ربي عز وجل في ثلاث, قلت: يا رسول الله لو اتخذت من مقام إبراهيم مصلى, فأنزل الله تعالى: {واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى} وقلت: يا رسول الله إن نساءك يدخل عليهن البر والفاجر فلو حجبتهن, فأنزل الله آية الحجاب, وقلت لأزاوج النبي صلى الله عليه وسلم لما تمالأن عليه في الغيرة {عسى ربه إن طلقكن أن يبدله أزواجاً خيراً منكن} فنزلت كذلك, وفي رواية لمسلم ذكر أسارى بدر وهي قضية رابعة.
وقد قال البخاري: حدثنا مسدد عن يحيى عن حميد عن أنس بن مالك قال: قال عمر بن الخطاب: يا رسول الله يدخل عليك البر والفاجر, فلو أمرت أمهات المؤمنين بالحجاب, فأنزل الله آية الحجاب, وكان وقت نزولها في صبيحة عرس رسول الله صلى الله عليه وسلم بزينب بنت جحش الأسدية التي تولى الله تعالى تزويجها بنفسه, وكان ذلك في ذي القعدة من السنة الخامسة في قول قتادة والواقدي وغيرهما, وزعم أبو عبيدة معمر بن المثنى وخليفة بن خياط أن ذلك كان في سنة ثلاث, فالله أعلم.
قال البخاري: حدثنا محمد بن عبد الله الرقاشي, حدثنا معتمر بن سليمان, سمعت أبي, حدثنا أبو مجلز عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال لما تزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم زينب بنت جحش, دعا القوم فطعموا, ثم جلسوا يتحدثون, فإذا هو يتهيأ للقيام فلم يقوموا, فلما رأى ذلك قام, فلما قام, قام من قام وقعد ثلاثة نفر, فجاء النبي صلى الله عليه وسلم ليدخل, فإذا القوم جلوس, ثم إنهم قاموا فانطلقوا, فجئت فأخبرت النبي صلى الله عليه وسلم أنهم قد انطلقوا فجاء حتى دخل, فذهبت أدخل فألقى الحجاب بيني وبينه فأنزل الله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوت النبي إلا أن يؤذن لكم إلى طعام غير ناظرين إناه ولكن إذا دعيتم فادخلوا فإذا طعمتم فانتشرو} الاَية, وقد رواه أيضا في موضع آخر, ومسلم والنسائي من طرق عن معتمر بن سليمان به.
ثم رواه البخاري منفرداً به من حديث أيوب عن أبي قلابة, عن أنس بن مالك رضي الله عنه بنحوه, ثم قال: حدثنا أبو معمر, حدثنا عبد الوارث, حدثنا عبد العزيز بن صهيب عن أنس بن مالك قال: بنى النبي صلى الله عليه وسلم زينت بنت جحش بخبز ولحم, فأرسلت على الطعام داعياً, فيجيء قوم فيأكلون ويخرجون, ثم يجيء قوم فيأكلون ويخرجون, فدعوت حتى ما أجد أحداً أدعوه, فقلت: يارسول الله ما أجد أحداً أدعوه, قال «ارفعوا طعامكم». وبقي ثلاثة رهط يتحدثون في البيت فخرج النبي صلى الله عليه وسلم , فانطلق إلى حجرة عائشة رضي الله عنها فقال: «السلام عليكم أهل البيت ورحمة الله وبركاته» قالت: وعليك السلام ورحمة الله, كيف وجدت أهلك يا رسول الله ؟ بارك الله لك ؟ فتقرى حجر نسائه كلهن يقول لهن كما يقول لعائشة, ويقلن له كما قالت عائشة, ثم رجع النبي صلى الله عليه وسلم فإذا ثلاثة رهط في البيت يتحدثون, وكان النبي صلى الله عليه وسلم شديد الحياء, فخرج منطلقاً نحو حجرة عائشة, فما أدري أخبرته أم أخبر أن القوم خرجوا, فرجع حتى إذا وضع رجله في أسكفة الباب داخله والأخرى خارجة, أرخى الستر بيني وبينه, وأنزل آية الحجاب. انفرد به البخاري من بين أصحاب الكتب الستة سوى النسائي في اليوم والليلة من حديث عبد الوارث, ثم رواه عن إسحاق هو ابن منصور عن عبد الله بن بكر السهمي عن حميد عن أنس بنحو ذلك, وقال رجلان: انفرد به من هذا الوجه, وقد تقدم في أفراد مسلم من حديث سليمان بن المغيرة عن ثابت عن أنس.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي حدثنا أبو المظفر, حدثنا جعفر بن سليمان عن الجعد أبي عثمان اليشكري عن أنس بن مالك قال: أعرس رسول الله صلى الله عليه وسلم ببعض نسائه, فصنعت أم سليم حيساً ثم جعلته في تور فقالت: اذهب بهذا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأقرئه مني السلام وأخبره أن هذا منا له قليل, قال أنس: والناس يومئذ في جهد, فجئت به فقلت: يارسول الله بعثت بهذا أم سليم إليك, وهي تقرئك السلام وتقول: أخبره أن هذا منا له قليل, فنظر إليه ثم قال «ضعه» فوضعته في ناحية البيت ثم قال: «اذهب فادع لي فلاناً وفلاناً» فسمى رجالاً كثيراً وقال «ومن لقيت من المسلمين» فدعوت من قال لي ومن لقيت من المسلمين, فجئت والبيت والصفة والحجرة ملأى من الناس, فقلت: يا أبا عثمان كم كانوا ؟ فقال: كانوا زهاء ثلاثمائة. قال أنس: فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم «جىء به» فجئت به إليه فوضع يده عليه ودعا وقال «ما شاء الله» ثم قال«ليتحلق عشرة عشرة, وليسموا, وليأكل كل إنسان مما يليه» فجعلوا يسمون ويأكلون حتى أكلوا كلهم, فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم «ارفعه» قال: فجئت فأخذت التور, فنظرت فيه فما أدري أهو حين وضعت أكثر أم حين أخذت ؟ قال: وتخلف رجال يتحدثون في بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم التي دخل بها معهم مولية وجهها إلى الحائط, فأطالوا الحديث, فشقوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان أشد الناس حياء, ولو أعلموا كان ذلك عليهم عزيزاً, فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم, فخرج فسلم على حجره وعلى نسائه, فلما رأوه قد جاء ظنوا أنهم قد ثقلوا عليه, ابتدروا الباب فخرجوا, وجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أرخى الستر ودخل البيت وأنا في الحجرة, فمكث رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيته يسيراً وأنزل الله عليه القرآن, فخرج وهو يتلو هذا الاَية {يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوت النبي} الاَيات, قال أنس: فقرأهن علي قبل الناس, فأنا أحدث الناس بهن عهداً, وقد رواه مسلم والترمذي والنسائي جميعاً عن قتيبة عن جعفر بن سليمان به, وقال الترمذي: حسن صحيح, وعلقه البخاري في كتاب النكاح, فقال: وقال إبراهيم بن طهمان عن الجعد أبي عثمان عن أنس فذكر نحوه. ورواه مسلم أيضاً عن محمد بن رافع عن عبد الرزاق عن معمر عن الجعد به, وقد روى هذا الحديث عبد الله بن المبارك عن شريك عن بيان بن بشر عن أنس بنحوه, ورواه البخاري والترمذي من طريقين آخرين عن بيان بن بشر الأحمسي الكوفي عن أنس بنحوه, ورواه ابن أبي حاتم أيضاً من حديث أبي نضرة العبدي عن أنس بن مالك بنحو ذلك, ولم يخرجوه, ورواه ابن جرير من حديث عمرو بن سعيد ومن حديث الزهري عن أنس بنحو ذلك.
وقال الإمام أحمد: حدثنا بهز وهاشم بن القاسم قالا: حدثنا سليمان بن المغيرة عن ثابت عن أنس قال: لما انقضت عدة زينب قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لزيد: «اذهب فاذكرها علي» قال: فانطلق زيد حتى أتاهاـ قال ـ وهي تخمر عجينها, فلما رأيتها عظمت في صدري, وذكر تمام الحديث كما قدمناه عند قوله تعالى: {فلما قضى زيد منها وطر} وزاد في آخره بعد قوله: ووعظ القوم بما وعظوا به. قال هاشم في حديثه {لا تدخلوا بيوت النبي إلا أن يؤذن لكم} الاَية. وقد أخرجه مسلم والنسائي من حديث سليمان بن المغيرة.
وقال ابن جرير: حدثني أحمد بن عبد الرحمن بن أخي ابن وهب, حدثني عمي عبد الله بن وهب, حدثني يونس عن الزهري عن عروة عن عائشة قالت: إن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم كن يخرجن بالليل إذا تبرزن إلى المناصع ـ وهو صعيد أفيح ـ وكان عمر يقول لرسول الله صلى الله عليه وسلم: احجب نساءك, فلم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم ليفعل, فخرجت سودة بنت زمعة زوج رسول الله صلى الله عليه وسلم, وكانت امرأة طويلة, فناداها عمر بصوته الأعلى: قد عرفناك ياسودة حرصاً على أن ينزل الحجاب, قالت: فأنزل الله الحجاب, هكذا وقع في هذه الرواية, والمشهور أن هذا كان بعد نزول الحجاب.
كما رواه الإمام أحمد والبخاري ومسلم من حديث هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها قالت: خرجت سودة بعدما ضرب الحجاب لحاجتها, وكانت امرأة جسيمة, لا تخفى على من يعرفها, فرآها عمر بن الخطاب فقال: ياسودة أما والله ما تخفين علينا, فانظري كيف تخرجين ؟ قالت: فانكفأت راجعة ورسول الله صلى الله عليه وسلم في بيتي وإنه ليتعشى وفي يده عرق, فدخلت فقالت: يارسول الله إني خرجت لبعض حاجتي, فقال لي عمر: كذا وكذا, قالت: فأوحى الله إليه, ثم رفع عنه وإن العرق في يده ما وضعه, فقال «إنه قد أذن لكن أن تخرجن لحاجتكن» لفظ البخاري, فقوله تعالى: {لا تدخلوا بيوت النبي} حظر على المؤمنين أن يدخلوا منازل رسول الله صلى الله عليه وسلم بغير إذن كما كانوا قبل ذلك يصنعون في بيوتهم في الجاهلية وابتداء الإسلام, حتى غار الله لهذه الأمة فأمرهم بذلك, وذلك من إكرامه تعالى هذه الأمة ولهذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إياكم والدخول على النساء» الحديث, ثم استثنى من ذلك فقال تعالى:{إلا أن يؤذن لكم إلى طعام غير ناظرين إناه} قال مجاهد وقتادة وغيرهما: أي غير متحينين نضجه واستواءه, أي لا ترقبوا الطعام إذا طبخ حتى إذا قارب الاستواء تعرضتم للدخول, فإن هذا مما يكرهه الله ويذمه, وهذا دليل على تحريم التطفيل وهو الذي تسميه العرب الضيفن, وقد صنف الخطيب البغدادي في ذلك كتاباً في ذم الطفيليين, وذكر من أخبارهم أشياء يطول إيرادها.
ثم قال تعالى: {ولكن إذا دعيتم فادخلوا فإذا طعمتم فانتشرو} وفي صحيح مسلم عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إذا دعا أحدكم أخاه فليجب عرساً كان أو غيره» وأصله في الصحيحين, وفي الصحيح أيضاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم «لو دعيت إلى ذراع لأجبت ولو أهدي إلى كراع لقبلت, فإذا فرغتم من الذي دعيتم إليه فخففوا عن أهل المنزل وانتشروا في الأرض» ولهذا قال تعالى: «ولا مستأنسين لحديث} أي كما وقع لأولئك النفر الثلاثة الذين استرسل بهم الحديث, ونسوا أنفسهم حتى شق ذلك على رسول الله صلى الله عليه وسلم, كما قال تعالى: {إن ذلكم كان يؤذي النبي فيستحيي منكم} وقيل المراد إن دخولكم منزله بغير إذنه كان يشق عليه ويتأذى به, ولكن كان يكره أن ينهاهم عن ذلك من شدة حيائه عليه السلام حتى أنزل الله عليه النهي عن ذلك, ولهذا قال تعالى: {والله لا يستحيي من الحق} أي ولهذا نهاكم عن ذلك وزجركم عنه.
ثم قال تعالى: {وإذا سألتموهن متاعاً فاسألوهن من وراء حجاب} أي وكما نهيتكم عن الدخول عليهن كذلك لا تنظروا إليهن بالكلية, ولو كان لأحدكم حاجة يريد تناولها منهن, فلا ينظر إليهن ولا يسألهن حاجة إلا من وراء حجاب. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي, حدثنا ابن أبي عمر, حدثنا سفيان عن مسعر عن موسى بن أبي كثير عن مجاهد عن عائشة قالت: كنت آكل مع النبي صلى الله عليه وسلم حيساً في قعب, فمر عمر فدعاه فأكل, فأصابت إصبعه إصبعي, فقال حسن أو أوه لو أطاع فيكن ما رأتكن عين, فنزل الحجاب {ذلكم أطهر لقلوبكم وقلوبهن} أي هذا الذي أمرتكم به وشرعته لكم من الحجاب أطهر وأطيب.
وقوله تعالى: {وما كان لكم أن تؤذوا رسول الله ولا أن تنكحوا أزواجه من بعده أبداً إن ذلكم كان عند الله عظيم} قال بن أبي حاتم: حدثنا علي بن الحسين, حدثنا محمد بن أبي حماد, حدثنا مهران عن سفيان عن داود بن أبي هند عن عكرمة عن ابن عباس في قوله تعالى: {وما كان لكم أن تؤذوا رسول الله} قال: نزلت في رجل هم أن يتزوج بعض نساء النبي صلى الله عليه وسلم بعده, قال رجل لسفيان: أهي عائشة ؟ قال: قد ذكروا ذلك, وكذا قال مقاتل بن حيان وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم, وذكر بسنده عن السدي إن الذي عزم على ذلك طلحة بن عبيد الله رضي الله عنه, حتى نزل التنبيه على تحريم ذلك, ولهذا اجتمع العلماء قاطبة على أن من توفي عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم من أزواجه أنه يحرم على غيره تزوجها من بعده, لأنهن أزواجه في الدنيا والأخرة وأمهات المؤمنين كما تقدم, واختلفوا فيمن دخل بها ثم طلقها في حياته: هل يحل لغيره أن يتزوجها ؟ على قولين مأخذهما هل دخلت هذه في عموم قوله {من بعده} أم لا ؟ فأما من تزوجها ثم طلقها قبل أن يدخل بها, فما نعلم في حلها لغيره والحالة هذه نزاعاً, والله أعلم.
وقال ابن جرير: حدثني محمد بن المثنى, حدثنا عبد الوهاب, حدثنا داود عن عامر أن نبي الله صلى الله عليه وسلم مات وقد ملك قيلة ابنة الأشعث ـ يعني ابن قيس ـ فتزوجها عكرمة بن أبي جهل بعد ذلك, فشق ذلك على أبي بكر مشقة شديدة, فقال له عمر: ياخليفة رسول الله إنها ليست من نسائه, إنها لم يخيرها رسول الله ولم يحجبها, وقد برأها الله منه بالردة التي ارتدت مع قومها: قال: فاطمأن أبو بكر رضي الله عنه وسكن, وقد عظم الله تبارك وتعالى ذلك, وشدد فيه وتوعد عليه بقوله: {إن ذلكم كان عند الله عظيم} ثم قوله تعالى: {إن تبدوا شيئاً أو تخفوه فإن الله كان بكل شيء عليم} أي مهما تكنه ضمائركم وتنطوي عليه سرائركم, فإن الله يعلمه, فإنه لا تخفى عليه خافية {يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور}.