تفسير السعدي تفسير الصفحة 450 من المصحف

 فَلَمَّا أَسْلَمَا أي: إبراهيم وابنه إسماعيل، جازما بقتل ابنه وثمرة فؤاده، امتثالا لأمر ربه، وخوفا من عقابه، والابن قد وطَّن نفسه على الصبر، وهانت عليه في طاعة ربه، ورضا والده، وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ أي: تل إبراهيم إسماعيل على جبينه، ليضجعه فيذبحه، وقد انكب لوجهه، لئلا ينظر وقت الذبح إلى وجهه.
وَنَادَيْنَاهُ في تلك الحال المزعجة، والأمر المدهش: أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ * قَدْ صَدَّقْتَ أي: قد فعلت ما أمرت به، فإنك وطَّنت نفسك على ذلك، وفعلت كل سبب، ولم يبق إلا إمرار السكين على حلقه إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ في عبادتنا، المقدمين رضانا على شهوات أنفسهم.
إِنَّ هَذَا الذي امتحنا به إبراهيم عليه السلام لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ أي: الواضح، الذي تبين به صفاء إبراهيم، وكمال محبته لربه وخلته، فإن إسماعيل عليه السلام لما وهبه اللّه لإبراهيم، أحبه حبا شديدا، وهو خليل الرحمن، والخلة أعلى أنواع المحبة، وهو منصب لا يقبل المشاركة ويقتضي أن تكون جميع أجزاء القلب متعلقة بالمحبوب، فلما تعلقت شعبة من شعب قلبه بابنه إسماعيل، أراد تعالى أن يصفي وُدَّه ويختبر خلته، فأمره أن يذبح من زاحم حبه حب ربه، فلما قدّم حب اللّه، وآثره على هواه، وعزم على ذبحه، وزال ما في القلب من المزاحم، بقي الذبح لا فائدة فيه، فلهذا قال: إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ * وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ أي: صار بدله ذبح من الغنم عظيم، ذبحه إبراهيم، فكان عظيما من جهة أنه كان فداء لإسماعيل، ومن جهة أنه من جملة العبادات الجليلة، ومن جهة أنه كان قربانا وسنة إلى يوم القيامة.
وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الآخِرِينَ * سَلامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ أي: وأبقينا عليه ثناء صادقا في الآخرين، كما كان في الأولين، فكل وقت بعد إبراهيم عليه السلام، فإنه [ فيه ] محبوب معظم مثني عليه.
سَلامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ أي: تحيته عليه كقوله: قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى
إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ في عبادة اللّه، ومعاملة خلقه، أن نفرج عنهم الشدائد، ونجعل لهم العاقبة، والثناء الحسن.
إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ بما أمر اللّه بالإيمان به، الذين بلغ بهم الإيمان إلى درجة اليقين، كما قال تعالى: وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ
وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ هذه البشارة الثانية بإسحاق، الذي من ورائه يعقوب، فبشر بوجوده وبقائه، ووجود ذريته، وكونه نبيا من الصالحين، فهي بشارات متعددة.
وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ وَعَلَى إِسْحَاقَ أي: أنزلنا عليهما البركة، التي هي النمو والزيادة في علمهما وعملهما وذريتهما، فنشر اللّه من ذريتهما ثلاث أمم عظيمة: أمة العرب من ذرية إسماعيل، وأمة بني إسرائيل، وأمة الروم من ذرية إسحاق. وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ وَظَالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ أي: منهم الصالح والطالح، والعادل والظالم الذي تبين ظلمه، بكفره وشركه، ولعل هذا من باب دفع الإيهام، فإنه لما قال: وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ وَعَلَى إِسْحَاقَ اقتضى ذلك البركة في ذريتهما، وأن من تمام البركة، أن تكون الذرية كلهم محسنين، فأخبر اللّه تعالى أن منهم محسنا وظالما، واللّه أعلم.
وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ ( 114 - 122 ) إلى آخر القصة.
يذكر تعالى مِنَّتهُ على عبديه ورسوليه، موسى، وهارون ابني عمران، بالنبوة والرسالة، والدعوة إلى اللّه تعالى، ونجاتهما وقومهما من عدوهما فرعون، ونصرهما عليه، حتى أغرقه اللّه وهم ينظرون، وإنزال اللّه عليهما الكتاب المستبين، وهو التوراة التي فيها الأحكام والمواعظ وتفصيل كل شيء، وأن اللّه هداهما الصراط المستقيم، بأن شرع لهما دينا ذا أحكام وشرائع مستقيمة موصلة إلى اللّه، ومَنَّ عليهما بسلوكه.
وَتَرَكْنَا عَلَيْهِمَا فِي الآخِرِينَ * سَلامٌ عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ أي: أبقى عليهما ثناء حسنا، وتحية في الآخرين، ومن باب أولى وأحرى في الأولين إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * إِنَّهُمَا مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ
وَإِنَّ إِلْيَاسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ ( 123 ) إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَلا تَتَّقُونَ ( 124 ) أَتَدْعُونَ بَعْلا وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخَالِقِينَ ( 125 ) اللَّهَ رَبَّكُمْ وَرَبَّ آبَائِكُمُ الأَوَّلِينَ ( 126 ) .
يمدح تعالى عبده ورسوله، إلياس عليه الصلاة والسلام، بالنبوة والرسالة، والدعوة إلى اللّه، وأنه أمر قومه بالتقوى، وعبادة اللّه وحده، ونهاهم عن عبادتهم، صنما لهم يقال له « بعل » وتركهم عبادة اللّه، الذي خلق الخلق، وأحسن خلقهم، ورباهم فأحسن تربيتهم، وأدرَّ عليهم النعم الظاهرة والباطنة، وأنكم كيف تركتم عبادة من هذا شأنه، إلى عبادة صنم، لا يضر، ولا ينفع، ولا يخلق، ولا يرزق، بل لا يأكل ولا يتكلم؟ « وهل هذا إلا من أعظم الضلال والسفه والغي؟ »