تفسير السعدي تفسير الصفحة 493 من المصحف

 ولهذا قال: وَمَا نُرِيهِمْ مِنْ آيَةٍ إِلا هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِهَا
أي: الآية المتأخرة أعظم من السابقة، وَأَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ كالجراد، والقمل، والضفادع، والدم، آيات مفصلات. لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ إلى الإسلام، ويذعنون له، ليزول شركهم وشرهم.
وَقَالُوا عندما نزل عليهم العذاب: يَا أَيُّهَا السَّاحِرُ يعنون موسى عليه السلام، وهذا، إما من باب التهكم به، وإما أن يكون هذا الخطاب عندهم مدحا، فتضرعوا إليه بأن خاطبوه بما يخاطبون به من يزعمون أنهم علماؤهم، وهم السحرة، فقالوا: يَا أَيُّهَا السَّاحِرُ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ أي: بما خصك اللّه به، وفضلك به، من الفضائل والمناقب، أن يكشف عنا العذاب إِنَّنَا لَمُهْتَدُونَ إن كشف اللّه عنا ذلك.
فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِذَا هُمْ يَنْكُثُونَ أي: لم يفوا بما قالوا، بل غدروا، واستمروا على كفرهم. وهذا كقوله تعالى: فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آيَاتٍ مُفَصَّلاتٍ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُجْرِمِينَ * وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ قَالُوا يَا مُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ * فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلَى أَجَلٍ هُمْ بَالِغُوهُ إِذَا هُمْ يَنْكُثُونَ
وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ مستعليا بباطله، قد غره ملكه، وأطغاه ماله وجنوده: يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ أي: ألست المالك لذلك، المتصرف فيه، وَهَذِهِ الأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أي: الأنهار المنسحبة من النيل، في وسط القصور والبساتين. أَفَلا تُبْصِرُونَ هذا الملك الطويل العريض، وهذا من جهله البليغ، حيث افتخر بأمر خارج عن ذاته، ولم يفخر بأوصاف حميدة، ولا أفعال سديدة.
أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ يعني - قبحه اللّه- بالمهين، موسى بن عمران، كليم الرحمن، الوجيه عند اللّه، أي: أنا العزيز، وهو الذليل المهان المحتقر، فأينا خير؟ ( و ) مع هذا فـ ( لا يَكَادُ يُبِينُ ) عما في ضميره بالكلام، لأنه ليس بفصيح اللسان، وهذا ليس من العيوب في شيء، إذا كان يبين ما في قلبه، ولو كان ثقيلا عليه الكلام.
ثم قال فرعون: فَلَوْلا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ أي: فهلا كان موسى بهذه الحالة، أن يكون مزينا مجملا بالحلي والأساور؟ أَوْ جَاءَ مَعَهُ الْمَلائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ يعاونونه على دعوته، ويؤيدونه على قوله.
فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ أي: استخف عقولهم بما أبدى لهم من هذه الشبه، التي لا تسمن ولا تغني من جوع، ولا حقيقة تحتها، وليست دليلا على حق ولا على باطل، ولا تروج إلا على ضعفاء العقول.
فأي دليل يدل على أن فرعون محق، لكون ملك مصر له، وأنهاره تجري من تحته؟
وأي دليل يدل على بطلان ما جاء به موسى لقلة أتباعه، وثقل لسانه، وعدم تحلية الله له، ولكنه لقي ملأ لا معقول عندهم، فمهما قال اتبعوه، من حق وباطل. إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ فبسبب فسقهم، قيض لهم فرعون، يزين لهم الشرك والشر.
فَلَمَّا آسَفُونَا أي: أغضبونا بأفعالهم انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ * فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفًا وَمَثَلا لِلآخِرِينَ ليعتبر بهم المعتبرون، ويتعظ بأحوالهم المتعظون.
وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلا إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ ( 57 ) وَقَالُوا أَآلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلا جَدَلا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ ( 58 ) إِنْ هُوَ إِلا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ وَجَعَلْنَاهُ مَثَلا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ ( 59 ) وَلَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَا مِنْكُمْ مَلائِكَةً فِي الأَرْضِ يَخْلُفُونَ ( 60 ) .
يقول تعالى: ( وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلا ) أي: نهي عن عبادته، وجعلت عبادته بمنزلة عبادة الأصنام والأنداد. ( إِذَا قَوْمُكَ ) المكذبون لك ( مِنْهُ ) أي: من أجل هذا المثل المضروب، ( يَصِدُّونَ ) أي: يستلجون في خصومتهم لك، ويصيحون، ويزعمون أنهم قد غلبوا في حجتهم، وأفلجوا.
( وَقَالُوا أَآلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ ) يعني: عيسى، حيث نهي عن عبادة الجميع، وشورك بينهم بالوعيد على من عبدهم، ونزل أيضا قوله تعالى: إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ
ووجه حجتهم الظالمة، أنهم قالوا: قد تقرر عندنا وعندك يا محمد، أن عيسى من عباد الله المقربين، الذين لهم العاقبة الحسنة، فلم سويت بينه وبينها في النهي عن عبادة الجميع؟ فلولا أن حجتك باطلة لم تتناقض.
ولم قلت: إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ وهذا اللفظ بزعمهم، يعم الأصنام، وعيسى، فهل هذا إلا تناقض؟ وتناقض الحجة دليل على بطلانها، هذا أنهى ما يقررون به هذه الشبهة [ الذي ] فرحوا بها واستبشروا، وجعلوا يصدون ويتباشرون.
وهي - وللّه الحمد- من أضعف الشبه وأبطلها، فإن تسوية الله بين النهي عن عبادة المسيح، وبين النهي عن عبادة الأصنام، لأن العبادة حق للّه تعالى، لا يستحقها أحد من الخلق، لا الملائكة المقربون، ولا الأنبياء المرسلون، ولا من سواهم من الخلق، فأي شبهة في تسوية النهي عن عبادة عيسى وغيره؟
وليس تفضيل عيسى عليه السلام، وكونه مقربا عند ربه ما يدل على الفرق بينه وبينها في هذا الموضع، وإنما هو كما قال تعالى: ( إِنْ هُوَ إِلا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ )
بالنبوة والحكمة والعلم والعمل، ( وَجَعَلْنَاهُ مَثَلا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ ) يعرفون به قدرة الله تعالى على إيجاده من دون أب.
وأما قوله تعالى: إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ فالجواب عنها من ثلاثة أوجه:
أحدها: أن قوله: إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أن ( ما ) اسم لما لا يعقل، لا يدخل فيه المسيح ونحوه.
الثاني: أن الخطاب للمشركين، الذين بمكة وما حولها، وهم إنما يعبدون أصناما وأوثانا ولا يعبدون المسيح.
الثالث: أن الله قال بعد هذه الآية: إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ فلا شك أن عيسى وغيره من الأنبياء والأولياء، داخلون في هذه الآية.
ثم قال تعالى: ( وَلَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَا مِنْكُمْ مَلائِكَةً فِي الأرْضِ يَخْلُفُونَ ) أي: لجعلنا بدلكم ملائكة يخلفونكم في الأرض، ويكونون في الأرض حتى نرسل إليهم ملائكة من جنسهم، وأما أنتم يا معشر البشر، فلا تطيقون أن ترسل إليكم الملائكة، فمن رحمة الله بكم، أن أرسل إليكم رسلا من جنسكم، تتمكنون من الأخذ عنهم.