تفسير الشوكاني تفسير الصفحة 493 من المصحف



فتح القدير - صفحة القرآن رقم 493

492

48- "وما نريهم من آية إلا هي أكبر من أختها" أي كل واحدة من آيات موسى أكبر مما قبلها، وأعظم قدراً مع كون التي قبلها عظيمة في نفسها، وقيل المعنى: إن الأولى تقتضي علماً والثانية تقتضي علماً، فإذا ضمت الثانية إلى الأولى ازداد الوضوح، ومعنى الأخوة بين الآيات: أنها متشاكلة متناسبة في دلالتها على صحة نبوة موسى كما يقال هذه صاحبة هذه: أي هما قرينتان في المعنى، وجملة "إلا هي أكبر من أختها" في محل جر صفة لآية، وقيل المعنى: أن كل واحدة من الآيات إذا انفردت ظن الظان أنها أكبر من سائر الآيات، ومثل هذا قول القائل: من تلق منهم تقل لاقيت سيدهم مثل النجوم التي يسري بها الساري "وأخذناهم بالعذاب لعلهم يرجعون" أي بسبب تكذيبهم بتلك الآيات، والعذاب هو المذكور في قوله: "ولقد أخذنا آل فرعون بالسنين ونقص من الثمرات" الآية، وبين سبحانه أن العلة في أخذه لهم بالعذاب هو رجاء رجوعهم.
ولما عاينوا ما جاءهم به من الآيات البينات والدلالات الواضحات ظنوا أن ذلك من قبيل السحر 49- "وقالوا يا أيها الساحر" وكانوا يسمون العلماء سحرة ويوقرون السحرة ويعظمونهم ولم يكن السحر صفة ذم عندهم. قال الزجاج: خاطبوه بما تقدم له عندهم من التسمية بالساحر "ادع لنا ربك بما عهد عندك" أي بما أخبرتنا من عهده إليك إنا إذا آمنا كشف عنا العذاب، وقيل المراد بالعهد النبوة، وقيل استجابة الدعوة على العموم "إننا لمهتدون" أي إذا كشف عنا العذاب الذي نزل بنا فنحن مهتدون فيما يستقبل من الزمان، ومؤمنون بما جئت به.
50- "فلما كشفنا عنهم العذاب إذا هم ينكثون" في الكلام حذف، والتقدير: فدعا موسى ربه فكشفنا عنهم العذاب إذا هم ينكثون في الكلام حذف، والتقدير: فدعا موسى ربه فكشف عنهم العذاب فلما كشف عنهم العذاب فاجئوا وقت نكثهم للعهد الذي جعلوه على أنفسهم من الاهتداء، والنكث: النقض.
51- "ونادى فرعون في قومه" قيل لما رأى تلك الآيات خاف ميل القوم إلى موسى، فجمعهم ونادى بصوته فيما بينهم أو أمر منادياً ينادي بقوله: "يا قوم أليس لي ملك مصر" لا ينازعني فيه أحد ولا يخالفني مخالف "وهذه الأنهار تجري من تحتي" أي من تحت قصري، والمراد أنها النيل. وقال قتادة: المعنى تجري بين يدي. وقال الحسن تجري بأمري: أي تجري تحت أمري. وقال الضحاك: أراد بالأنهار القواد والرؤساء والجبابرة وأنهم يسيرون تحت لوائه. وقيل أراد بالأنهار الأموال، والأول أولى. والواو في هذه عاطفة على ملك مصر، وتجري في محل نصب على الحال أو هي واو الحال، واسم الإشارة مبتدأ، والأنهار صفة له، وتجري خبره، والجملة في محل نصب "أفلا تبصرون" ذلك وتستدلون به على قوة ملكي وعظيم قدري وضعف موسى عن مقاومتي.
52- "أم أنا خير من هذا الذي هو مهين" أم هي المنقطعة المقدرة ببل التي للإضطراب دون الهمزة التي للإنكار: أي بل أنا خير قال أبو عبيدة: أم بمعنى بل، والمعنى: قال فرعون لقومه: بل أنا خير. وقال الفراء: إن شئت جعلتها من الاستفهام الذي جعل بأم لاتصاله بكلام قبله، وقيل هي زائدة، وحكى أبو زيد عن العرب أنهم يجعلون أم زائدة، والمعنى: أنا خير من هذا. وقال الأخفش: في الكلام حذف، والمعنى: أفلا تبصرون أم تبصرون؟ ثم ابتدأ فقال "أنا خير" وروي عن الخليل وسيبويه نحو قول الأخفش، ويؤيد هذا أن عيسى الثقفي ويعقوب الحضرمي وقفا على أم على تقدير أم تبصرون، فحذف لدلالة الأول عليه، وعلى هذا فتكون أم متصلة لا منقطعة والأول أولى. ومثله قول الشاعر الذي أنشده الفراء: بدت مثل قرن الشمس في رونق الضحى وصورتها أم أنت في العين أملح أي بل أنت. وحكى الفراء أن بعض القراء قرأ أما أنا خير أي ألست خيراً من هذا الذي هو مهين: أي ضعيف حقير ممتهن في نفسه لا عز له "ولا يكاد يبين" الكلام لما في لسانه من العقدة، وقد تقدم بيانه في سورة طه.
53- " فلولا ألقي عليه أسورة من ذهب " أي فهلا حلي بأساورة الذهب إن كان عظيماً، وكان الرجل فيهم إذا سودوه سوروه بسوار من ذهب، وطوقوه بطوق من ذهب. قرأ الجمهور " أسورة " جمع أسورة جمع سوار. وقال أبو عمرو بن العلاء: واحد الأساورة والأساور والأساوير أسوار، وهي لغة في سوار. وقرأ حفص أسورة جمع سوار، وقرأ أبي: أساور، وابن مسعود أساوير. قال مجاهد: كانوا إذا سودوا رجلاً سوروه بسوارين وطوقوه بطوق ذهب علامة لسيادته "أو جاء معه الملائكة مقترنين" معطوف على ألقي، والمعنى: هلا جاء معه الملائكة متتابعين متقارنين إن كان صادقاً يعينونه على أمره ويشهدون له بالنبوة، فأوهم اللعين قومه أن الرسل لا بد أن يكونوا على هيئة الجبابرة ومحفوفين بالملائكة.
54- "فاستخف قومه فأطاعوه" أي حملهم على خفة الجهل والسفه بقوله وكيده وغروره، فأطاعوه فيما أمرهم به، وقبلوا وكذبوا موسى "إنهم كانوا قوماً فاسقين" أي خارجين عن طاعة الله. قال ابن الأعرابي: المعنى فاستجهل قومه فأطاعوه بخفة أحلامهم وقلة عقولهم، يقال استخفه الفرح: أي أزعجه، واستخفه: أي حمله، ومنه "ولا يستخفنك الذين لا يوقنون" وقيل استخف قومه: أي وجدهم خفاف العقول وقد استخف بقومه وقهرهم حتى اتبعوه.
55- "فلما آسفونا انتقمنا منهم" قال المفسرون: أغضبونا، والأسف الغضب، وقيل أشد الغضب، وقيل السخط، وقيل المعنى: أغضبوا رسلنا. ثم بين العذاب الذي وقع به الانتقام فقال: "فأغرقناهم أجمعين" في البحر.
56- "فجعلناهم سلفاً" أي قدوة لمن عمل بعملهم من الكفار في استحقاق العذاب. قرأ الجمهور "سلفاً" بفتح السين واللام جمع سالف كخدم وخادم، ورصد وراصد، وحرس وحارس، يقال سلف يسلف: إذا تقدم ومضى. قال الفراء والزجاج: جعلناهم متقدمين ليتعظ بهم الآخرون، وقرأ حمزة والكسائي: "سلفاً" بضم السين واللام. قال الفراء: هو جمع سليف، نحو سرر وسرير. وقال أبو حاتم هو جمع سلف نحو خشب وخشب. وقرأ علي وابن مسعود وعلقمة وأبو وائل والنخعي وحميد بن قيس بضم السين وفتح اللام جمع سلفة وهي الفرقة المتقدمة نحو غرف وغرفة، كذا قال النضر بن شميل "ومثلاً للآخرين" أي عبرة وموعظة لمن يأتي بعدهم، أو قصة عجيبة تجري مجرى الأمثال. وقد أخرج ابن المنذر عن ابن عباس في قوله: "ولا يكاد يبين" قال: كانت بموسى لثغة في لسانه. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عنه "فلما آسفونا" قال: أسخطونا. وأخرجا عنه أيضاً آسفونا قال: أغضبونا، وفي قوله: "سلفاً" قال: أهواء مختلفة. وأخرج أحمد والطبراني والبيهقي في الشعب وابن أبي حاتم عن عقبة بن عامر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إذا رأيت الله يعطي العبد ما شاء وهو مقيم على معاصيه فإنما ذلك استدراج منه له، وقرأ "فلما آسفونا انتقمنا منهم فأغرقناهم أجمعين"". وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن طارق بن شهاب قال: كنت عند عبد الله فذكر عنده موت الفجأة فقال: تخفيف على المؤمن وحسرة على الكافر، "فلما آسفونا انتقمنا منهم".
لما قال سبحانه: "واسأل من أرسلنا من قبلك من رسلنا أجعلنا من دون الرحمن آلهة يعبدون" تعلق المشركون بأمر عيسى وقالوا: ما يريد محمد إلا أن نتخذه إلهاً كما اتخذت النصارى عيسى ابن مريم، فأنزل الله 57- "ولما ضرب ابن مريم مثلاً" كذا قال قتادة ومجاهد. وقال الواحدي: أكثر المفسرين على أن هذه الآية نزلت في مجادلة ابن الزعبري مع النبي صلى الله عليه وسلم لما نزل قوله تعالى: "إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم" فقال ابن الزعبري: خصمتك ورب الكعبة، أليست النصارى يعبدون المسيح واليهود عزيراً وبنو مليح الملائكة؟ ففرح بذلك من قوله، فأنزل الله: "إن الذين سبقت لهم منا الحسنى أولئك عنها مبعدون" ونزلت هذه الآية المذكورة هنا، وقد مضى هذا في سورة الأنبياء. ولا يخفاك أن ما قاله ابن الزبعري مندفع من أصله وباطل برمته، فإن الله سبحانه قال: "إنكم وما تعبدون" ولم يقل ومن تعبدون حتى يدخل في ذلك العقلاء كالمسيح وعزير والملائكة "إذا قومك منه يصدون" أي إذا قومك يا محمد من ذلك المثل المضروب يصدون: أي يضجون ويصيحون فرحاً بذلك المثل المضروب، والمراد بقومه هنا كفار قريش. قرأ الجمهور "يصدون" بكسر الصاد، وقرأ نافع وابن عامر والكسائي بضمها. قال الكسائي والفراء والزجاج والأخفش: هما لغتان ومعناهما: يضجون قال الجوهري: صد يصد صديداً: أي ضج. وقيل إنها بالضم: الإعراضن وبالكسر من الضجيج، قاله قطرب. قال أبو عبيد: لو كانت من الصدود عن الحق لقال: إذا قومك عنه يصدون. وقال الفراء: هما سواء منه وعنه. وقال أبو عبيدة: من ضم فمعناه يعدلون، ومن كسر فمعناه يضجون.
58- " وقالوا أآلهتنا خير أم هو " أي ءآلهتنا خير أم المسيح؟ قال السدي وابن زيد: خاصموه وقالوا: إن كان كل من عبد غير الله في النار فنحن نرضى أن تكون آلهتنا مع عيسى وعزير والملائكة. وقال قتادة يعنون محمداً: أي ءآلهتنا خير أم محمد؟ ويقوي هذا قراءة ابن مسعود: ءآلهتنا خير أم هذا. قرأ الجمهور بتسهيل الهمزة الثانية بين بين، وقرأ الكوفيون ويعقوب بتحقيقها " ما ضربوه لك إلا جدلا " أي ما ضربوا لك هذا المثل في عيسى إلا ليجادلوك، على أن جدلاً منتصب على العلة، أو مجادلين على أنه مصدر في موضع الحال، وقرأ ابن مقسم جدالاً " بل هم قوم خصمون " أي شديدو الخصومة كثيرو اللدد عظيموا الجدل.
ثم بين سبحانه أن عيسى ليس برب وإنما هو عبد من عباده اختصه بنبوته فقال: 59- "إن هو إلا عبد أنعمنا عليه" بما أكرمناه به "وجعلناه مثلاً لبني إسرائيل" أي آية وعبرة لهم يعرفون به قدرة الله سبحانه، فإنه كان من غير أب، وكان يحيي الموتى، ويبرئ الأكمه والأبرص، وكل مريض.
60- "ولو نشاء لجعلنا منكم ملائكة في الأرض يخلفون" أي لو نشاء أهلكناكم وجعلنا بدلاً منكم ملائكة في الأرض يخلفون: أي يخلفونكم فيها. قال الأزهري: ومن قد تكون للبدل كقوله: "لجعلنا منكم" يريد بدلاً منكم. وقيل المعنى: لو نشاء لجعلنا من بني آدم ملائكة. والأول أولى. ومقصود الآية: أنا لو نشاء لأسكنا الملائكة الأرض وليس في إسكاننا إياهم السماء شرف حتى يعبدوا. وقيل معنى يخلفون يخلف بعضهم بعضاً.