تفسير السعدي تفسير الصفحة 501 من المصحف


أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلا تَذَكَّرُونَ ( 23 ) وَقَالُوا مَا هِيَ إِلا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلا الدَّهْرُ وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلا يَظُنُّونَ ( 24 ) وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ مَا كَانَ حُجَّتَهُمْ إِلا أَنْ قَالُوا ائْتُوا بِآبَائِنَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ( 25 ) قُلِ اللَّهُ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ ( 26 ) .
يقول تعالى: ( أَفَرَأَيْتَ ) الرجل الضال الذي ( اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ ) فما هويه سلكه سواء كان يرضي الله أو يسخطه. ( وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ ) من الله تعالى أنه لا تليق به الهداية ولا يزكو عليها. ( وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ ) فلا يسمع ما ينفعه، ( وَقَلْبِهِ ) فلا يعي الخير ( وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً ) تمنعه من نظر الحق، ( فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ ) أي: لا أحد يهديه وقد سد الله عليه أبواب الهداية وفتح له أبواب الغواية، وما ظلمه الله ولكن هو الذي ظلم نفسه وتسبب لمنع رحمة الله عليه ( أَفَلا تَذَكَّرُونَ ) ما ينفعكم فتسلكونه وما يضركم فتجتنبونه.
( وَقَالُوا ) أي: منكرو البعث ( مَا هِيَ إِلا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلا الدَّهْرُ ) أي: إن هي إلا عادات وجري على رسوم الليل والنهار يموت أناس ويحيا أناس وما مات فليس براجع إلى الله ولا مجازى بعمله.
وقولهم هذا صادر عن غير علم ( إِنْ هُمْ إِلا يَظُنُّونَ ) فأنكروا المعاد وكذبوا الرسل الصادقين من غير دليل دلهم على ذلك ولا برهان.
إن هي إلا ظنون واستبعادات خالية عن الحقيقة ولهذا قال تعالى: ( وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ مَا كَانَ حُجَّتَهُمْ إِلا أَنْ قَالُوا ائْتُوا بِآبَائِنَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ) وهذا جراءة منهم على الله، حيث اقترحوا هذا الاقتراح وزعموا أن صدق رسل الله متوقف على الإتيان بآبائهم، وأنهم لو جاءوهم بكل آية لم يؤمنوا إلا إن تبعتهم الرسل على ما قالوا، وهم كذبة فيما قالوا وإنما قصدهم دفع دعوة الرسل لا بيان الحق، قال تعالى: ( قُلِ اللَّهُ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ ) وإلا فلو وصل العلم باليوم الآخر إلى قلوبهم، لعملوا له أعمالا وتهيئوا له.
وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَخْسَرُ الْمُبْطِلُونَ ( 27 ) وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ( 28 ) هَذَا كِتَابُنَا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ( 29 ) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ فِي رَحْمَتِهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ ( 30 ) وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا أَفَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاسْتَكْبَرْتُمْ وَكُنْتُمْ قَوْمًا مُجْرِمِينَ ( 31 ) وَإِذَا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَالسَّاعَةُ لا رَيْبَ فِيهَا قُلْتُمْ مَا نَدْرِي مَا السَّاعَةُ إِنْ نَظُنُّ إِلا ظَنًّا وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ ( 32 ) .
يخبر تعالى عن سعة ملكه وانفراده بالتصرف والتدبير في جميع الأوقات وأنه ( يوم تَقُومُ السَّاعَةُ ) ويجمع الخلائق لموقف القيامة يحصل الخسار على المبطلين الذين أتوا بالباطل ليدحضوا به الحق، وكانت أعمالهم باطلة لأنها متعلقه بالباطل فبطلت في يوم القيامة، اليوم الذي تستبين به الحقائق، واضمحلت عنهم وفاتهم الثواب وحصلوا على أليم العقاب.
ثم وصف تعالى شدة يوم القيامة وهوله ليحذره العباد ويستعد له العباد
فقال: ( وَتَرَى ) أيها الرائي لذلك اليوم ( كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً ) على ركبها خوفا وذعرا وانتظارا لحكم الملك الرحمن.
( كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا ) أي: إلى شريعة نبيهم الذي جاءهم من عند الله، وهل قاموا بها فيحصل لهم الثواب والنجاة؟ أم ضيعوها فيحصل لهم الخسران؟ فأمة موسى يدعون إلى شريعة موسى وأمة عيسى كذلك وأمة محمد كذلك، وهكذا غيرهم كل أمة تدعى إلى شرعها الذي كلفت به، هذا أحد الاحتمالات في الآية وهو معنى صحيح في نفسه غير مشكوك فيه، ويحتمل أن المراد بقوله: ( كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا ) أي: إلى كتاب أعمالها وما سطر عليها من خير وشر وأن كل أحد يجازى بما عمله بنفسه كقوله تعالى: مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا
ويحتمل أن المعنيين كليهما مراد من الآية ويدل على هذا قوله: ( هَذَا كِتَابُنَا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ ) أي: هذا كتابنا الذي أنزلنا عليكم، يفصل بينكم بالحق الذي هو العدل، ( إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ) فهذا كتاب الأعمال.
ولهذا فصل ما يفعل الله بالفريقين فقال: ( فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ) إيمانا صحيحا وصدقوا إيمانهم بالأعمال الصالحة من واجبات ومستحبات ( فَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ فِي رَحْمَتِهِ ) التي محلها الجنة وما فيها من النعيم المقيم والعيش السليم، ( ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ ) أي: المفاز والنجاة والربح والفلاح الواضح البين الذي إذا حصل للعبد حصل له كل خير واندفع عنه كل شر.
( وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا ) بالله فيقال لهم توبيخا وتقريعا: ( أَفَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ ) وقد دلتكم على ما فيه صلاحكم ونهتكم عما فيه ضرركم وهي أكبر نعمة وصلت إليكم لو وفقتم لها، ولكن استكبرتم عنها وأعرضتم وكفرتم بها فجنيتم أكبر جناية وأجرمتم أشد الجرم فاليوم تجزون ما كنتم تعملون.
ويوبخون أيضا بقوله: ( وَإِذَا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَالسَّاعَةُ لا رَيْبَ فِيهَا قُلْتُمْ ) منكرين لذلك: ( مَا نَدْرِي مَا السَّاعَةُ إِنْ نَظُنُّ إِلا ظَنًّا وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ )
فهذه حالهم في الدنيا وحال البعث الإنكار له ورد قول من جاء به قال تعالى: