تفسير ابن كثير تفسير الصفحة 501 من المصحف



تفسير ابن كثير - صفحة القرآن رقم 501

501 : تفسير الصفحة رقم 501 من القرآن الكريم

** وَقَالُواْ مَا هِيَ إِلاّ حَيَاتُنَا الدّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَآ إِلاّ الدّهْرُ وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلاّ يَظُنّونَ * وَإِذَا تُتْلَىَ عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيّنَاتٍ مّا كَانَ حُجّتَهُمْ إِلاّ أَن قَالُواْ ائْتُواْ بِآبَآئِنَآ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ * قُلِ اللّهُ يُحْيِيكُمْ ثُمّ يُمِيتُكُمْ ثُمّ يَجْمَعُكُمْ إِلَىَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ لاَ رَيْبَ فِيهِ وَلَـَكِنّ أَكْثَرَ النّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ
يخبر تعالى عن قول الدهرية من الكفار ومن وافقهم من مشركي العرب في إنكار المعاد {وقالوا ما هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحي} أي ما ثم إلا هذه الدار, يموت قوم ويعيش آخرون, وما ثم معاد ولا قيامة, وهذا يقوله مشركو العرب المنكرون المعاد, وتقوله الفلاسفة الإلهيون منهم, وهم ينكرون البداءة والرجعة, وتقوله الفلاسفة الدهرية الدرية المنكرون للصانع, المعتقدون أن في كل ستة وثلاثين ألف سنة يعود كل شيء إلى ما كان عليه, وزعموا أن هذا قد تكرر مرات لا تتناهى, فكابروا المعقول وكذبوا المنقول ولهذا قالوا {وما يهلكنا إلا الدهر} قال الله تعالى: {وما لهم بذلك من علم إن هم إلا يظنون} أي يتوهمون ويتخيلون فأما الحديث الذي أخرجه صاحبا الصحيح وأبو داود والنسائي من رواية سفيان بن عيينة عن الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يقول تعالى يؤذيني ابن آدم, يسب الدهر وأنا الدهر, بيدي الأمر أقلب ليله ونهاره» وفي رواية «لا تسبوا الدهر فإن الله هو الدهر» وقد أورده ابن جرير بسياق غريب جداً فقال: حدثنا أبو كريب, حدثنا سفيان بن عيينة عن الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «كان أهل الجاهلية يقولون إنما يهلكنا الليل والنهاروهو الذي يهلكنا يميتنا ويحيينا فقال الله تعالى في كتابه: {وقالوا ما هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما يهلكنا إلا الدهر} ويسبون الدهر فقال الله عز وجل: يؤذيني ابن آدم, يسب الدهر وأنا الدهر, بيدي الأمر أقلب الليل والنهار, وكذا رواه ابن أبي حاتم عن أحمد بن منصور عن شريح بن النعمان عن ابن عيينة مثله. ثم روى عن يونس عن ابن وهب عن الزهري عن أبي سلمة عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «قال الله تعالى: يسب ابن آدم الدهر وأنا الدهر بيدي الليل والنهار» وأخرجه صاحبا الصحيح والنسائي من حديث يونس بن يزيد به. وقال محمد بن إسحاق عن العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: قال «يقول الله تعالى: استقرضت عبدي فلم يعطني وسبني عبدي, يقول وادهراه وأنا الدهر» قال الشافعي وأبو عبيدة وغيرهما من الأئمة في تفسير قوله صلى الله عليه وسلم «لا تسبوا الدهر فإن الله هو الدهر» كانت العرب في جاهليتهم إذا أصابهم شدة أو بلاء أو نكبة قالوا يا خيبة الدهر, فينسبون تلك الأفعال إلى الدهر ويسبونه, وإنما فاعلها هو الله تعالى فكأنهم إنما سبوا الله عز وجل, لأنه فاعل ذلك في الحقيقة, فلهذا نهى عن سب الدهر بهذا الاعتبار, لأن الله تعالى هو الدهر الذي يعنونه ويسندون إليه تلك الأفعال, هذا أحسن ما قيل في تفسيره وهو المراد, والله أعلم, وقد غلط ابن حزم ومن نحا نحوه من الظاهرية في عدهم الدهر من الأسماء الحسنى أخذاً من هذا الحديث.
وقوله تعالى: {وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات} أي إذا استدل عليهم وبين لهم الحق, وأن الله تعالى قادر على إعادة الأبدان بعد فنائها وتفرقها {ما كان حجتهم إلا أن قالوا ائتوا بآبائنا إن كنتم صادقين} أي أحيوهم إن كان ما تقولونه حقاً. قال الله تعالى: {قل الله يحييكم ثم يميتكم} أي كما تشاهدون ذلك يخرجكم من العدم إلى الوجود {كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتاً فأحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم ؟} أي الذي قدر على البداءة قادر على الإعادة بطريق الأولى والأحرى {وهو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده وهو أهون عليه} {ثم يجمعكم إلى يوم القيامة لا ريب فيه} أي إنما يجمعكم إلى يوم القيامة لا يعيدكم في الدنيا حتى تقولوا {ائتوا بآبائنا إن كنتم صادقين} {يوم يجمعكم ليوم الجمع} {لأي يوم أجلت ليوم الفصل} {وما نؤخره إلا لأجل معدود} وقال ههنا {ثم يجمعكم إلى يوم القيامة لا ريب فيه} أي لا شك فيه {ولكن أكثر الناس لا يعلمون} أي فلهذا ينكرون المعاد ويستبعدون قيام الأجساد قال الله تعالى: {إنهم يرونه بعيداً ونراه قريب} أي يرون وقوعه بعيداً والمؤمنون يرون ذلك سهلاً قريباً.

** وَلِلّهِ مُلْكُ السّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَيَوْمَ تَقُومُ السّاَعةُ يَوْمَئِذٍ يَخْسَرُ الْمُبْطِلُونَ * وَتَرَىَ كُلّ أُمّةٍ جَاثِيَةً كُلّ أمّةٍ تُدْعَىَ إِلَىَ كِتَابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ * هَـَذَا كِتَابُنَا يَنطِقُ عَلَيْكُم بِالْحَقّ إِنّ كُنّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ
يخبر تعالى أنه مالك السموات والأرض والحاكم فيهما في الدنيا والاَخرة, ولهذا قال عز وجل: {ويوم تقوم الساعة} أي يوم القيامة {يخسر المبطلون} وهم الكافرون بالله الجاحدون بما أنزله على رسله من الاَيات البينات والدلائل الواضحات.
وقال ابن أبي حاتم: قدم سفيان الثوري المدينة فسمع المعافري يتكلم ببعض ما يضحك به الناس, فقال له: يا شيخ أما علمت أن لله تعالى يوماً يخسر فيه المبطلون ؟ قال: فما زالت تعرف في المعافري حتى لحق بالله تعالى, ذكره ابن أبي حاتم ثم قال تعالى: {وترى كل أمة جاثية} أي على ركبها من الشدة والعظمة, ويقال إن هذا إذا جيء بجهنم فإنها تزفر زفرة, لا يبقى أحد إلا جثا لركبتيه, حتى إبراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام ويقول: نفسي نفسي نفسي! لا أسألك اليوم إلا نفسي. وحتى إن عيسى عليه الصلاة والسلام ليقول: لا أسألك إلا نفسي لا أسألك مريم التي ولدتني! قال مجاهد وكعب الأحبار والحسن البصري {كل أمة جاثية} أي على الركب. وقال عكرمة: جاثية متميزة على ناحيتها وليس على الركب, والأول أولى. قال ابن أبي حاتم: حدثنا محمد بن عبد الله بن يزيد المقرى, حدثنا سفيان بن عيينة عن عمرو عن عبد الله بن باباه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «كأني أراكم جاثين بالكوم دون جهنم» وقال إسماعيل بن أبي رافع المدني عن محمد بن كعب عن أبي هريرة رضي الله عنه, مرفوعاً في حديث الصور: فيتميز الناس وتجثو الأمم, وهي التي يقول الله تعالى: {وترى كل أمة جاثية كل أمةٍ تدعى إلى كتابه} وهذا فيه جمع بين القولين ولا منافاة, والله أعلم.
وقوله عز وجل: {كل أمة تدعى إلى كتابه} يعني كتاب أعمالها كقوله جل جلاله: {ووضع الكتاب وجيء بالنبيين والشهداء} ولهذا قال سبحانه وتعالى: {اليوم تجزون ما كنتم تعملون} أي تجازون بأعمالكم خيرها وشرها كقوله عز وجل: {ينبأ الإنسان يومئذ بما قدم وأخر * بل الإنسان على نفسه بصيرة * ولوألقى معاذيره} ولهذا قال جلت عظمته: {هذا كتابنا ينطق عليكم بالحق} أي يستحضر جميع أعمالكم من غير زيادة ولا نقص كقوله جل جلاله: {ووضع الكتاب فترى المجرمين مشفقين مما فيه, ويقولون يا ويلتنا ما لهذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها, ووجدوا ما عملوا حاضراً ولا يظلم ربك أحد} وقوله عز وجل: {إنا كنا نستنسخ ما كنتم تعملون} أي إنا كنا نأمر الحفظة أن تكتب أعمالكم عليكم. قال ابن عباس رضي الله عنهما وغيره: تكتب الملائكة أعمال العباد ثم تصعد بها إلى السماء, فيقابلون الملائكة في ديوان الأعمال على ما بأيدي الكتبة, مما قد أبرز لهم من اللوح المحفوظ في كل ليلة قدر, مما كتبه الله في القدم على العباد قبل أن يخلقهم فلا يزيد حرفاً ولا ينقص حرفاً ثم قرأ {إنا كنا نستنسخ ما كنتم تعملون}.