تفسير الشوكاني تفسير الصفحة 501 من المصحف



فتح القدير - صفحة القرآن رقم 501

500

23- فقال: "أفرأيت من اتخذ إلهه هواه" قال الحسن وقتادة: ذلك الكافر اتخذ دينه ما يهواه فلا يهوى شيئاً إلا ركبه، وقال عكرمة: يعبد ما يهواه أو يستحسنه، فإذا استحسن شيئاً وهواه اتخذه إلاهاً. قال سعيد بن جبير: كان أحدهم يعبد الحجر، فإذا رأى ما هو أحسن منه رمى به وعبد الآخر "وأضله الله على علم" أي على علم قد علمه، وقيل المعنى: أضله عن الثواب على علم منه بأنه لا يستحقه وقال مقاتل: على علم منه أنه ضال لأنه يعلم أن الصنم لا ينفع ولا يضر. قال الزجاج: على سوء في علمه أنه ضال قبل أن يخلقه، ومحل على علم النصب على الحال من الفاعل أو المفعول "وختم على سمعه وقلبه" أي طبع على سمعه حتى لا يسمع الوعظ، وطبع على قلبه حتى لا يفقه الهدى " وجعل على بصره غشاوة " أي غطاء حتى لا يبصر الرشد. قرأ الجمهور "غشاوةً" بالألف مع كسر الغين. وقرأ حمزة والكسائي " غشاوة " بغير ألف مع فتح الغين، ومنه قول الشاعر: لئن كنت ألبستني غشوة لقد كنت أصغيتك الود حينا وقرأ ابن مسعود والأعمش كقراءة الجمهور مع فتح الغين وهي لغة ربيعة. وقرأ الحسن وعكرمة بعضهما وهي لغة عكل "فمن يهديه من بعد الله" أي من بعد إضلال الله له "أفلا تذكرون" تذكر اعتبار حتى تعلموا حقيقة الحال.
ثم بين سبحانه بعض جهالاتهم وضلالالتهم فقال: 24- "وقالوا ما هي إلا حياتنا الدنيا" أي ما الحياة إلا الحياة التي نحن فيها "نموت ونحيا" أي يصيبنا الموت والحياة فيها، وليس وراء ذلك حياة، وقيل نموت نحن ويحيا فيها أولادنا، وقيل نكون نطفاً ميتة ثم نصير أحياء. وقيل في الآية تقديم وتأخير: أي نحيا ونموت وكذا قرأ ابن مسعود، وعلى كل تقدير فمرادهم بهذه المقالة إنكار البعث وتكذيب الآخرة "وما يهلكنا إلا الدهر" أي إلا مرور الأيام والليالي قال مجاهد: يعني السنين والأيام. وقال قتادة: إلا العمر، والمعنى واحد. وقال قطرب: المعنى وما يهلكنا إلا الموت. وقال عكرمة: وما يهلكنا إلا الله "وما لهم بذلك من علم" أي ما قالوا هذه المقالة إلا شاكين غير عالمين بالحقيقة. ثم بين كون ذلك صادراً منهم لا عن علم فقال: "إن هم إلا يظنون" أي ما هم إلا قوم غاية ما عندهم الظن فما يتكلمون إلا به. ولا يستندون إلا إليه.
25- "وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات" أي إذا تليت آيات القرآن على المشركين حال كونها بينات واضحات ظاهرة المعنى والدلالة على البعث "ما كان حجتهم إلا أن قالوا ائتوا بآبائنا إن كنتم صادقين" أنا نبعث بعد الموت: أي ما كان لهم حجة ولا متمسك إلا هذا القول الباطل الذي ليس من الحجة في شيء، وإنما سماه حجة تهكماً بهم. قرأ الجمهور بنصب حجتهم على أنه خبر كان، واسمهما "إلا أن قالوا" وقرأ زيد بن علي وعمرو بن عبيد وعبيد بن عمر برفع "حجتهم" على أنها اسم كان.
ثم أمر الله سبحانه رسوله صلى الله عليه وسلم أن يرد عليهم فقال: 26- "قل الله يحييكم" أي في الدنيا "ثم يميتكم" عند انقضاء آجالكم "ثم يجمعكم إلى يوم القيامة" بالبعث والنشور "لا ريب فيه" أي في جمعكم، لأن من قدر على ابتداء الخلق قدر على إعادته "ولكن أكثر الناس لا يعلمون" بذلك، فلهذا حصل معهم الشك في البعث، وجاءوا في دفعه بما هو أوهن من بيت العنكبوت، ولو نظروا حق النظر لحصلوا على العلم اليقين، واندفع عنهم الريب وأراحوا أنفسهم من ورطة الشك والحيرة. وقد أخرج ابن جرير عن ابن عباس في قوله: "ثم جعلناك على شريعة من الأمر" يقول: على هدى من أمر دينه. وأخرج ابن جرير عن مجاهد في قوله: "سواء محياهم ومماتهم" قال: المؤمن في الدنيا والآخرة مؤمن، والكافر في الدنيا والآخرة كافر. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في الأسماء والصفات عن ابن عباس في قوله: "أفرأيت من اتخذ إلهه هواه" قال: ذاك الكافر اتخذ دينه بغير هدى من الله ولا برهان "وأضله الله على علم" يقول: أضله في سابق علمه. وأخرج النسائي وابن جرير وابن المنذر والحاكم وصححه وابن مردويه عنه قال: كان الرجل من العرب يعبد الحجر، فإذا وجد أحسن منه أخذه وألقى الآخر، فأنزل الله: "أفرأيت من اتخذ إلهه هواه". وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وابن مردويه عن أبي هريرة قال:" كان أهل الجاهلية يقولون إنما يهلكنا الليل والنهار، فقال الله في كتابه: "وقالوا ما هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما يهلكنا إلا الدهر" قال الله: يؤذيني ابن آدم [يسب] الدهر وأنا الدهر، بيدي الأمر أقلب الليل والنهار". وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما من حديث أبي هريرة" سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:قال الله عز وجل: يؤذيني ابن آدم يسب الدهر وأنا الدهر، بيدي الأمر أقلب الليل والنهار".
لما ذكر سبحانه ما احتج به المشركون وما أجاب به عليهم ذكر اختصاصه بالملك فقال: 27- "ولله ملك السموات والأرض" أي هو المتصرف فيهما وحده لا يشاركه أحد من عباده. ثم توعد أهل الباطل فقال: "ويوم تقوم الساعة يومئذ يخسر المبطلون" أي المكذبون الكافرون المتعلقون بالأبطال يظهر في ذلك اليوم خسرانهم لأنهم يصيرون إلى النار، والعامل في يوم هو يخسر، ويومئذ بدل منه، والتنوين للعوض عن المضاف إليه المدلول عليه بما أضيف إليه المبدل منه، فيكون التقدير: ويوم تقوم الساعة، فيكون بدلاً توكيدياً، والأولى أن يكون العامل في يوم هو ملك: أي ولله ملك يوم تقوم الساعة، ويكون يومئذ معمولاً ليخسر.
28- "وترى كل أمة جاثية" الخطاب لكل من يصلح له، أو للنبي صلى الله عليه وسلم، والأمة الملة، ومعنى جاثية: مستوفزة، والمستوفز، الذي لا يصيب الأرض منه إلا ركبتاه وأطراف أنامله، وذلك عند الحساب. وقيل معنى جاثية: مجتمعة قال الفراء: المعنى وترى أهل كل ذي دين مجتمعين. وقال عكرمة: متميزة عن غيرها. وقال مؤرج: معناه بلغة قريش: خاضعة. وقال الحسن: باركة على الركب والجثو الجلوس على الركب، تقول جثا يجثو ويجثي جثواً وجثياً: إذا جلس على ركبتيه، والأول أولى. ولا ينافيه ورود هذا اللفظ لمعنى آخر في لسان العرب. وقد ورد إطلاق الجثوة على الجماعة من كل شيء في لغة العرب، ومنه قول طرفة يصف قبرين: ترى جثوتين من تراب عليهما صفائح صم من صفائح منضد وظاهر الآية أن هذه الصفة تكون لكل أمة من الأمم من غير فرق بين أهل الأديان المتبعين للرسل وغيرهم من أهل الشرك. وقال يحيى بن سلام: هو خاص بالكفار، والأول أولى. ويؤيده قوله: "كل أمة تدعى إلى كتابها" ولقوله فيما سيأتي: "فأما الذين آمنوا"، ومعنى إلى كتابها: إلى الكتاب المنزل عليها، وقيل إلى صحيفة أعمالها، وقيل إلى حسابها، وقيل اللوح المحفوظ، والأول أولى. قرأ الجمهور "كل أمة" بالرفع على الابتداء، وخبره: تدعى. وقرأ يعقوب الحضرمي بالنصب على البدل من كل أمة "اليوم تجزون ما كنتم تعملون" أي يقال لهم اليوم تجزون ما كنتم تعملون من خير وشر.
29- "هذا كتابنا ينطق عليكم بالحق" هذا من تمام ما يقال لهم، والقائل بهذا هم الملائكة وقيل هو من قول الله سبحانه: أي يشهد عليكم، وهو استعارة، يقال نطق الكتاب بكذا: أي بين، وقيل إنهم يقرأونه فيذكرون ما عملوا، فكأنه ينطق عليهم بالحق الذي لا زيادة فيه ولا نقصان، ومحل ينطق النصب على الحال، أو الرفع على أنه خبر آخر لاسم الإشارة، وجملة " إنا كنا نستنسخ ما كنتم تعملون " تعليل للنطق بالحق أي نأمر الملائكة بنسخ أعمالكم: أي بكتبها وتثبيتها عليكم. قال الواحدي: وأكثر المفسرين على أن هذا الاستنساخ من اللوح المحفوظ، فإن الملائكة تكتب منه كل عام ما يكون من أعمال بني آدم فيجدون ذلك موافقا لما يعملونه قالوا: لأن الاستنساخ لا يكون إلا من أصل. وقيل المعنى: نأمر الملائكة بنسخ ما كنتم تعملون. وقيل إن الملائكة تكتب كل يوم ما يعمله العبد، فإذا رجعوا إلى مكانهم نسخوا منه الحسنات والسيئات وتركوا المباحات. وقيل إن الملائكة إذا رفعت أعمال العباد إلى الله سبحانه أمر عز وجل أن يثبت عنده منها ما فيه ثواب وعقاب، ويسقط منها ما لا ثواب فيه ولا عقاب.
30- "فأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فيدخلهم ربهم في رحمته" أي الإدخال في رحمته "ذلك هو الفوز المبين" أي الظاهر الواضح.
31- "وأما الذين كفروا أفلم تكن آياتي تتلى عليكم" أي فيقال لهم ذلك، وهو استفهام توبيخ، لأن الرسل قد أتتهم وتلت عليهم آيات الله، فكذبوها ولم يعملوا بها "فاستكبرتم وكنتم قوماً مجرمين" أي تكبرتم عن قبولها وعن الإيمان بها، وكنتم من أهل الإحرام، وهي الآثام، والاجترام الاكتساب، يقال فلان جريمة أهله: إذا كان كاسبهم، فالمجرم من كسب الآثام بفعل المعاصي.
32- "وإذا قيل إن وعد الله حق" أي وعده بالبعث والحساب أو يجمع ما وعد به من الأمور المستقبلة واقع لا محالة "والساعة" أي القيامة "لا ريب فيه" أي في وقوعها. قرأ الجمهور "والساعة" بالرفع على الابتداء، أو العطف على موضع اسم إن، وقرأ حمزة بالنصب عطفاً على اسم إن "قلتم ما ندري ما الساعة" أي أي شيء هي؟ "إن نظن إلا ظناً" أي نحدس حدساً ونتوهم توهماً. قال المبرد: تقديره: إن نحن إلا نظن ظناً، وقيل التقدير: إن نظن إلا أنكم تظنون ظناً، وقيل إن نظن مضمن معنى نعتقد: أي ما نعتقد إلا ظناً لا علماً، وقيل إن ظناً له صفة مقدرة: أي إلا ظناً بيناً، وقيل إن الظن يكون بمعنى العلم والشك، فكأنهم قالوا: ما لنا اعتقاد إلا الشك "وما نحن بمستيقنين" أي لم يكن لنا يقين بذلك، ولم يكن معنا إلا مجرد الظن أن الساعة آتية.
33- "وبدا لهم سيئات ما عملوا" أي ظهر لهم سيئات أعمالهم على الصورة التي هي عليها "وحاق بهم ما كانوا به يستهزئون" أي أحاط بهم ونزل عليهم جزاء أعمالهم بدخولهم النار.