تفسير الطبري تفسير الصفحة 501 من المصحف

 تفسير الطبري - صفحة القرآن رقم 501
502
500
 الآية : 23
القول في تأويل قوله تعالى: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتّخَذَ إِلَـَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلّهُ اللّهُ عَلَىَ عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَىَ سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَىَ بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَن يَهْدِيهِ مِن بَعْدِ اللّهِ أَفَلاَ تَذَكّرُونَ }.
اختلف أهل التأويل في تأويل قوله: أفَرأيْتَ مَنِ اتّخَذَ إلَهَهُ هَوَاهُ فقال بعضهم: معنى ذلك: أفرأيت من اتخذ دينه بهواه, فلا يهوى شيئا إلا ركبه, لأنه لا يؤمن بالله, ولا يحرّم ما حَرّمَ, ولا يحلل ما حَلّلَ, إنما دينه ما هويته نفسه يعمل به. ذكر من قال ذلك:
24125ـ حدثني عليّ, قال: حدثنا أبو صالح, قال: ثني معاوية, عن عليّ, عن ابن عباس, في قوله: أفَرأيْتَ مَنِ اتّخَذَ إلَهَهُ هَوَاهُ قال: ذلك الكافر اتخذ دينه بغير هدىً من الله ولا برهان.
24126ـ حدثنا ابن عبد الأعلى, قال: حدثنا ابن ثور, عن معمر, عن قتادة, في قوله: أفَرأيْتَ مَنِ اتّخَذَ إلَهَهُ هَوَاهُ قال: لا يهوي شيئا إلا ركبه لا يخاف الله.
وقال آخرون: بل معنى ذلك: أفرأيت من اتخذ معبوده ما هويت عبادته نفسه من شيء. ذكر من قال ذلك:
24127ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا يعقوب, عن جعفر, عن سعيد, قال: كانت قريش تعبد العُزّى, وهو حجر أبيض, حينا من الدهر, فإذا وجدوا ما هو أحسن منه طرحوا الأوّل وعبدوا الاَخر, فأنزل الله أفَرَأيْتَ مَنِ اتّخَذَ إلَهَهُ هَوَاهُ.
وأولى التأويلين في ذلك بالصواب قول من قال: معنى ذلك: أفرأيت يا محمد من اتخذ معبوده هواه, فيعبد ما هوي من شيء دون إله الحقّ الذي له الألوهة من كلّ شيء, لأن ذلك هو الظاهر من معناه دون غيره.
وقوله: وأضَلّهُ اللّهُ على عِلْمٍ يقول تعالى ذكره: وخذله عن محجة الطريق, وسبيل الرشاد في سابق علمه على علم منه بأنه لا يهتدي, ولو جاءته كل آية. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:
24128ـ حدثني عليّ, قال: حدثنا أبو صالح, قال: ثني معاوية, عن عليّ, عن ابن عباس وأضَلّهُ اللّهُ على عِلْمٍ يقول: أضله لله في سابق علمه.
وقوله: وَخَتَمَ على سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ يقول تعالى ذكره: وطَبَعَ على سمعه أن يسمع مواعظ الله وآي كتابه, فيعتبر بها ويتدبرها, ويتفكر فيها, فيعقل ما فيها من النور والبيان والهُدى.
وقوله: وَقَلْبِهِ يقول: وطبع أيضا على قلبه, فلا يعقل به شيئا, ولا يعي به حقا.
وقوله: وَجَعَلَ على بَصَرِهِ غَشاوَةً يقول: وجعل على بصره غشاوة أن يبصر به حجج الله, فيستدلّ بها على وحدانيته, ويعلم بها أن لا إله غيره.
واختلفت القرّاء في قراءة قوله: وَجَعَلَ على بَصَرِهِ غِشاوَةً فقرأته عامة قرّاء المدينة والبصرة وبعض قرّاء الكوفة غِشاوَةً بكسر الغين وإثبات الألف فيها على أنها اسم, وقرأ ذلك عامة قرّاء الكوفة «غَشْوَةً» بمعنى: أنه غشاه شيئا في دفعة واحدة, ومرّة واحدة, بفتح الغين بغير ألف, وهما عندي قراءتان صحيحتان فبأيتهما قرأ القارىء فمصيب.
وقوله: فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللّهِ يقول تعالى ذكره: فمن يوفّقه لإصابة الحقّ, وإبصار محجة الرشد بعد إضلال الله إياه أفَلا تَذَكّرُونَ أيها الناس, فتعلموا أن من فعل الله به ما وصفنا, فلن يهتدي أبدا, ولن يجد لنفسه وليا مرشدا.
الآية : 24
القول في تأويل قوله تعالى: {وَقَالُواْ مَا هِيَ إِلاّ حَيَاتُنَا الدّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَآ إِلاّ الدّهْرُ وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلاّ يَظُنّونَ }.
يقول تعالى ذكره: وقال هؤلاء المشركون الذين تقدّم خبره عنهم: ما حياة إلا حياتنا الدنيا التي نحن فيها لا حياة سواها تكذيبا منهم بالبعث بعد الممات. كما:
24129ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة وَقالُوا ما هِيَ إلاّ حَياتُنا الدّنيْا: أي لعمري هذا قول مشركي العرب.
وقوله: نَمُوتُ وَنحيْا نموت نحن وتحيا أبناؤنا بعدنا, فجعلوا حياة أبنائهم بعدهم حياة لهم, لأنهم منهم وبعضهم, فكأنهم بحياتهم أحياء, وذلك نظير قول الناس: ما مات من خلف ابنا مثل فلان, لأنه بحياة ذكره به, كأنه حيّ غير ميت, وقد يحتمل وجها آخر, وهو أن يكون معناه: نحيا ونموت على وجه تقديم الحياة قبل الممات, كما يقال: قمت وقعدت, بمعنى: قعدت وقمت والعرب تفعل ذلك في الواو خاصة إذا أرادوا الخبر عن شيئين أنهما كانا أو يكونان, ولم تقصد الخبر عن كون أحدهما قبل الاَخر, تقدم المتأخر حدوثا على المتقدم حدوثه منهما أحيانا, فهذا من ذلك, لأنه لم يقصد فيه إلى الخبر عن كون الحياة قبل الممات, فقدّم ذكر الممات قبل ذكر الحياة, إذ كان القصد إلى الخبر عن أنهم يكونون مرّة أحياءً وأخرى أمواتا.
وقوله: وَما يُهْلِكُنا إلاّ الدّهْرُ يقول تعالى ذكره مخبرا عن هؤلاء المشركين أنهم قالوا: وما يهلكنا فيفنينا إلا مرّ الليالي والأيام وطول العمر, إنكارا منهم أن يكون لهم ربّ يفنيهم ويهلكهم.
وقد ذكر أنها في قراءة عبد الله «وَما يُهْلِكُنا إلاّ دَهْرٌ يَمُرّ». وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:
24130ـ حدثني محمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى وحدثني الحارث, قال: حدثنا الحسن, قال: حدثنا ورقاء جميعا, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد وَما يُهْلِكُنا إلاّ الدّهْرُ قال: الزمان.
24131ـ حدثنا ابن عبد الأعلى, قال: حدثنا ابن ثور, عن معمر, عن قتادة, في قوله: وَما يُهْلِكُنا إلاّ الدّهْرُ قال ذلك مشركو قريش ما يُهْلِكُنا إلاّ الدّهْرُ: إلا العمر.
وذُكر أن هذه الاَية نزلت من أجل أن أهل الشرك كانوا يقولون: الذي يهلكنا ويفنينا الدهر والزمان, ثم يسبون ما يفنيهم ويهلكهم, وهم يرون أنهم يسبون بذلك الدهر والزمان, فقال الله عزّ وجلّ لهم: أنا الذي أفنيكم وأهلككم, لا الدهر والزمان, ولا علم لكم بذلك. ذكر الرواية بذلك عمن قاله:
24132ـ حدثنا أبو كُرَيب, قال: حدثنا ابن عيينة, عن الزهريّ, عن سعيد بن المسيب, عن أبي هريرة, عن النبيّ صلى الله عليه وسلم: «كانَ أهْلُ الجاهِليّةِ يَقُولُونَ»: إنّمَا يُهْلِكُنا اللّيْلُ وَالنّهارُ, وَهُوَ الّذِي يُهْلِكُنا ويُمِيتُنا ويُحْيينا, فقال الله في كتابه: وَقالُوا ما هِيَ إلاّ حَياتُنا الدّنيْا نَمُوتُ وَنحْيا, وَما يُهْلِكُنا إلاّ الدّهْرُ قال: «فَيَسَبّونَ الدّهْرَ», فَقالَ اللّهُ تَبارَكَ وَتعَالى: «يُؤْذِينِي ابْنُ آدَمَ يَسُبّ الدّهْرَ وأنا الدّهْرُ, بيَدِي الأمْرُ, أُقَلّبُ اللّيْلَ والنّهارَ».
حدثنا عمران بن بكار الكُلاعي, قال: حدثنا أبو روح, قال: حدثنا سفيان بن عيينة, عن الزهريّ, عن سعيد بن المسيب, عن أبي هريرة, عن النبيّ صلى الله عليه وسلم, نحوه.
24133ـ حدثني يونس بن عبد الأعلى, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: ثني يونس بن يزيد, عن ابن شهاب, قال: أخبرني أبو سلمة بن عبد الرحمن, قال قال أبو هريرة, سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «قالَ اللّهُ تَعالى: يَسُبّ ابْنُ آدَمَ الدّهْرَ, وأنا الدّهْرُ, بِيَدِي اللّيْلُ والنّهارُ».
24134ـ حدثنا ابن حُمَيد, قال: حدثنا سلمة, عن ابن إسحاق, عن العلاء بن عبد الرحمن, عن أبيه عن أبي هريرة أن النبيّ صلى الله عليه وسلم: «يَقُولُ اللّهُ اسْتَقْرَضْتُ عَبْدِي فَلَمْ يُعْطِني, وَسَبّنِي عَبْدِي يَقُولُ: وَادَهْراهُ, وأنا الدّهْرُ».
24135ـ حدثنا ابن عبد الأعلى, قال: حدثنا ابن ثور, عن معمر, عن قتادة, عن الزهريّ, عن أبي هريرة, عن النبيّ صلى الله عليه وسلم: «إنّ اللّهَ قالَ: لا يَقُولَنّ أحَدُكُمْ: يا خَيْبَةَ الدّهْرِ, فإنّي أنا الدّهْرُ, أُقَلّبُ لَيْلَهُ وَنهارَهُ, وَإذَا شِئْتُ قَبَضْتُهُما».
حدثني يعقوب, قال: حدثنا ابن علية, عن هشام, عن أبي هريرة قال: «لا تَسُبّوا الدّهْرَ, فإنّ اللّهَ هُوَ الدّهْرُ».
وَما لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْم إنْ هُمْ إلاّ يَظُنّونَ يقول تعالى ذكره: وما لهؤلاء المشركين القائلين: ما هي إلاّ حياتنا الدنيا نموت ونحيا, وما يهلكنا إلا الدهر, بما يقولون من ذلك من علم: يعني من يقين علم, لأنهم يقولون ذلك تخرّصا بغير خبر أتاهم من الله, ولا برهان عندهم بحقيقته إنْ هُمْ إلاّ يَظُنّونَ يقول جلّ ثناؤه: ما هم إلا في ظنّ من ذلك, وشكّ يخبر عنهم أنهم في حيرة من اعتقادهم حقيقة ما ينطقون من ذلك بألسنتهم.
الآية : 25
القول في تأويل قوله تعالى: {وَإِذَا تُتْلَىَ عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيّنَاتٍ مّا كَانَ حُجّتَهُمْ إِلاّ أَن قَالُواْ ائْتُواْ بِآبَآئِنَآ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ }.
يقول تعالى ذكره: وإذا تُتلى على هؤلاء المشركين المكذّبين بالبعث آياتنا, بأن الله باعث خلقه من بعد مماتهم, فجامعهم يوم القيامة عنده للثواب والعقاب بَيّناتٍ يعني: واضحات جليات, تنفي الشكّ عن قلب أهل التصديق بالله في ذلك ما كانَ حُجّتَهُمْ إلاّ أنْ قالُوا ائْتُوا بآبائِنا إنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ.
يقول جلّ ثناؤه: لم يكن لهم حجة على رسولنا الذي يتلو ذلك عليهم إلا قولهم له: ائتنا بآبائنا الذين قد هلكوا أحياء, وانشرهم لنا إن كنت صادقا فيما تتلو علينا وتخبرنا, حتى نصدّق بحقيقة ما تقول بأن الله باعثنا من بعد مماتنا, ومحيينا من بعد فنائنا.
الآية : 26
القول في تأويل قوله تعالى: {قُلِ اللّهُ يُحْيِيكُمْ ثُمّ يُمِيتُكُمْ ثُمّ يَجْمَعُكُمْ إِلَىَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ لاَ رَيْبَ فِيهِ وَلَـَكِنّ أَكْثَرَ النّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ }.
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم قل يا محمد لهؤلاء المشركين المكذّبين بالبعث, القائلين لك ائتنا بآبائنا إن كنت صادقا: الله أيها المشركون يحييكم ما شاء أن يحييكم في الدنيا, ثم يميتكم فيها إذا شاء, ثم يجمعكم إلى يوم القيامة, يعني أنه يجمعكم جميعا أوّلكم وآخركم, وصغيركم وكبيركم إلى يوم القيامة يقول: ليوم القيامة, يعني أنه يجمعكم جميعا أحياء ليوم القيامة لا رَيْبَ فِيهِ يقول: لا شكّ فيه, يقول: فلا تشكوا في ذلك, فإن الأمر كما وصفت لكم وَلَكِنّ أكْثَرَ النّاسَ لا يَعْلَمُونَ يقول: ولكن أكثر الناس الذين هم أهل تكذيب بالبعث, لا يعلمون حقيقة ذلك, وأن الله محييهم من بعد مماتكم.
الآية : 27
القول في تأويل قوله تعالى: {وَلِلّهِ مُلْكُ السّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَيَوْمَ تَقُومُ السّاَعةُ يَوْمَئِذٍ يَخْسَرُ الْمُبْطِلُونَ }.
يقول تعالى ذكره: ولله سلطان السموات السبع والأرض, دون ما تدعونه له شريكا, وتعبدونه من دونه, والذي تدعونه من دونه من الاَلهة والأنداد في مُلكه وسلطانه, جارٍ عليه حكمه, فكيف يكون ما كان كذلك له شريكا, أم كيف تعبدونه, وتتركون عبادة مالككم, ومالك ما تعبدونه من دونه وَيَوْمَ تَقُومُ السّاعَةُ يقول تعالى ذكره: ويوم تجيء الساعة التي يُنْشِر الله فيها الموتى من قبورهم, ويجمعهم لموقف العرض, يَخْسَرُ المُبْطِلُونَ: يقول: يغبن فيها الذين أبطلوا في الدنيا في أقوالهم ودعواهم لله شريكا, وعبادتهم آلهة دونه بأن يفوز بمنازله من الجنة المحقون, ويبدّلوا بها منازل من النار كانت للمحقين, فجعلت لهم بمنازلهم من الجنة, ذلك هو الخسران المبين.
الآية : 28
القول في تأويل قوله تعالى: {وَتَرَىَ كُلّ أُمّةٍ جَاثِيَةً كُلّ أمّةٍ تُدْعَىَ إِلَىَ كِتَابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ }.
يقول تعالى ذكره: وترى يا محمد يوم تقوم الساعة أهل كل ملة ودين جاثية: يقول: مجتمعة مستوفزة على ركبها من هول ذلك اليوم. كما:
24136ـ حدثني محمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى وحدثني الحارث, قال: حدثنا الحسن, قال: حدثنا ورقاء جميعا, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد في قوله: وَتَرَى كُلّ أُمّةٍ جاثِيَةً قال على الركب مستوفِزِين.
24137ـ حدثني يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال قال ابن زيد, في قوله: وَتَرَى كُلّ أُمّةٍ جاثِيَةً قال: هذا يوم القيامة جاثية على ركبهم.
24138ـ حُدثت عن الحسين, قال: سمعت أبا معاذ, يقول: حدثنا عبيد, قال: سمعت الضحاك يقول, في قوله: وَتَرَى كُلّ أمّةٍ جاثِيَةً يقول: على الركب عند الحساب.
وقوله: كُلّ أُمّةٍ تُدْعَى إلى كِتابِها يقول: كل أهل ملة ودين تُدعى إلى كتابها الذي أملت على حفظتها. كما:
24139ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, قوله: كُلُ أُمّةٍ تُدْعَى إلى كِتابِها يعلمون أنه ستدعى أُمة قبل أُمة, وقوم قبل قوم, ورجل قبل رجل. ذُكر لنا أن نبيّ الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: «يُمَثّلُ لِكُلّ أُمّةٍ يَوْمَ القِيامَةِ ما كانَتْ تَعْبُدُ مِنْ حَجَرٍ, أوْ وَثَنٍ أوْ خَشَبَةٍ, أوْ دَابّةٍ, ثُمّ يُقالُ: مَنْ كانَ يَعْبُدُ شَيْئا فَلْيَتْبَعْهُ, فَتَكُونُ, أوْ تُجْعَلُ تِلْكَ الأوْثانُ قادَةً إلى النّارِ حتى تَقْذِفَهُمْ فِيها, فَتَبْقَى أُمّةُ مُحَمّدٍ صَلى اللّهُ عَليهِ وَسلّمَ وأهْلُ الكِتاب, فَيَقُولُ للْيَهُودِ: ما كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ؟ فَيَقُولُونَ: كُنّا نَعْبُدُ اللّهَ وَعُزَيْرا إلاّ قَلِيلاً مِنْهُمْ, فَيُقالُ لَهَا: أمّا عُزَيْرٌ فَلَيْسَ مِنْكُمْ وَلَسْتُمْ مِنْهُ, فَيُؤْخَذُ بِهِمْ ذَاتَ الشّمالِ, فَيَنْطَلِقُونَ وَلا يسْتَطِيعُونَ مُكُوثا, ثُمّ يُدْعَى بالنّصَارَى, فَيُقالُ لَهُمْ: ما كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ؟ فَيَقُولُونَ: كُنّا نَعْبُدُ اللّهَ وَالمَسِيحَ إلاّ قَلِيلاً مِنْهُمْ فَيُقالُ: أمّا عِيسَى فلَيسَ مِنْكُمْ وَلَسْتُمْ مِنْهُ, فَيُؤْخَذُ بِهِمْ ذَاتَ الشمّالِ, فَيَنْطَلِقُونَ وَلا يسْتَطِيعُونَ مُكُوثا, وَتَبْقَى أُمّةُ مُحَمّدٍ صَلى اللّهُ عليهِ وسلّمَ, فَيُقالُ لَهُمْ: ما كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ؟ فَيَقُولُونَ: كُنّا نَعْبُدُ اللّهَ وَحْدَهُ, وإنّمَا فارَقْنا هَؤُلاءِ فِي الدّنيْا مَخافَةَ يَوْمِنا هَذَا, فَيُؤْذَنُ للْمُؤْمِنِينَ فِي السّجُودِ, فَيَسْجُدُ المُؤْمِنُونَ, وَبينَ كُلّ مُؤْمِنٍ مُنافِقٌ, فَيْقْسُو ظَهْرُ المُنافِقِ عَنِ السّجُودِ, وَيجْعَلُ اللّهُ سُجُودَ المُؤْمِنِينَ عَلَيْهِ تَوْبِيخا وَصَغارا وَحَسْرَةً وَنَدَامَةً».
24140ـ حدثنا ابن عبد الأعلى, قال: حدثنا ابن ثور, عن معمر, عن قتادة, عن الزهريّ, عن عطاء بن يزيدالليثي, عن أبي هريرة, قال: «قَالَ الناسُ: يا رسُولَ اللّهِ هَلْ نَرَى ربّنَا يومَ القيامَةِ؟ قال: «هَلْ تُضَامّونَ فِي الشّمْسِ لَيْسَ دُونَها سَحَابٌ, قالُوا: لاَ يَا رسُولَ اللّهِ, قال: «هَلْ تُضَارّونَ فِي القَمَرِ لَيْلَةَ البَدْرِ لَيْسَ دُونَهُ سَحَابٌ؟» قالوا: لا يا رسُول الله, قَالَ: فإنّكُمْ تَرَوْنَهُ يَوْمَ القِيامَةِ كَذَلكَ. يَجْمَعُ اللّهُ النّاسَ فَيَقُولُ: مَنْ كانَ يَعْبُدُ شَيْئا فَلْيَتْبَعْهُ, فَيَتْبَعُ مَنْ كانَ يَعْبُدُ القَمَرَ القَمَرَ, وَمَنْ كانَ يَعْبُدُ الشّمْسَ الشّمْسَ, وَيَتْبَع مَنْ كانَ يَعْبُدُ الطّوَاغِيتَ الطّوَاغِيتَ, وَتَبْقَى هَذِهِ الأُمّةُ فِيها مُنافِقُوها, فيَأتِيهِمْ رَبّهُمْ فِي صورَةٍ, وَيُضْرَبُ جِسْرٌ على جَهَنّمَ قال النبيّ صلى الله عليه وسلم: «فَأكُونُ أوّلَ مَنْ يُجِيزَ, وَدَعْوَةُ الرّسُلِ يَوْمَئِذٍ: اللّهُمّ سَلّمْ, اللّهُمّ سَلّمْ وَبها كَلالِيبُ كَشَوْكِ السّعْدانِ هَلْ رَأيْتُمْ شَوْكَ السّعْدانِ؟ قالوا: نعم يا رسول الله قال: فإنّها مِثْلُ شَوْكِ السّعْدانِ غَيرَ أنّهُ لا يَعْلَمُ أحَدٌ قَدْرَ عِظَمِها إلاّ اللّهُ ويُخْطَفُ النّاسُ بأعمالِهِمْ, فَمِنْهُمْ المُوبَقُ بعَمَلِهِ, وَمِنْهُمُ المُخَرْدَلُ ثُمّ يَنْجُو, ثُمّ ذَكَرَ الحدِيثَ بِطُولِه».
وقوله: اليَوْمَ تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ يقول تعالى ذكره: كلّ أُمة تُدعى إلى كتابها, يقال لها: اليوم تجزون: أي تثابون وتعطون أجور ما كنتم في الدنيا من جزاء الأعمال تعملون بالإحسان الإحسانَ, وبالإساءة جزاءها.
الآية : 29-30
القول في تأويل قوله تعالى: {هَـَذَا كِتَابُنَا يَنطِقُ عَلَيْكُم بِالْحَقّ إِنّ كُنّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ * فَأَمّا الّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصّالِحَاتِ فَيُدْخِلُهُمْ رَبّهُمْ فِي رَحْمَتِهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ }.
يقول تعالى ذكره: لكلّ أمة دعيت في القيامة إلى كتابها الذي أملت على حفظتها في الدنيا اليَوْمَ تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ فلا تجزعوا من ثوابناكم على ذلك, فإنكم ينطق عليكم إن أنكرتموه بالحقّ فاقرأوه إنّا كُنّا نَسْتَنْسِخُ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ يقول: إنا كنا نستكتب حفظتنا أعمالكم, فتثبتها في الكتب وتكتبها. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:
24141ـ حدثنا أبو كُرَيب, قال: حدثنا طلق بن غنام, عن زائدة, عن عطاء بن مقسم, عن ابن عباس هَذا كِتابُنا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بالحَقّ قال: هو أمّ الكتاب فيه أعمال بني آدم إنّا كُنّا نَسْتَنْسِخُ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ قال: نعم, الملائكة يستنسخون أعمال بني آدم.
24142ـ حدثنا ابن حُميد, قال: حدثنا يعقوب القمي, قال: ثني أخي عيسى بن عبد الله بن ثابت الثّمالي, عن ابن عباس, قال: «إن الله خلق النون وهي الدواة, وخلق القلم, فقال: اكتب, قال: ما أكتب, قال: اكتب ما هو كائن إلى يوم القيامة من عمل معمول, برّ أو فجور, أو رزق مقسوم, حلال أو حرام, ثم ألزم كلّ شيء من ذلك شأنه دخوله في الدنيا, ومقامه فيها كم, وخروجه منه كيف, ثم جعل على العباد حفظة, وعلى الكتاب خزانا, فالحفظة ينسخون كلّ يوم من الخزان عمل ذلك اليوم, فإذا فني الرزق وانقطع الأثر, وانقضى الأجل, أتت الحفظة الخزنة يطلبون عمل ذلك اليوم, فتقول لهم الخزنة: ما نجد لصاحبكم عندنا شيئا, فترجع الحفظة, فيجدونهم قد ماتوا, قال: فقال ابن عباس: ألستم قوما عربا تسمعون الحفظة يقولون: إنّا كُنّا نَسْتَنْسِخُ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ وهل يكون الاستنساخ إلاّ من أصل».
حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا حكام, عن عمرو, عن عطاء, عن الحكم, عن مقسم, عن ابن عباس هَذَا كِتابُنا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بالحَقّ قال: الكتاب: الذكر إنّا كُنّا نَسْتَنْسِخُ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ قال: نستنسخ الأعمال.
وقال آخرون في ذلك ما:
24143ـ حدثنا الحسن بن عرفة, قال: حدثنا النضر بن إسماعيل, عن أبي سنان الشيبانيّ, عن عطاء بن أبي رباح, عن أبي عبد الرحمن السلميّ, عن عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال: إن لله ملائكة ينزلون في كل يوم بشيء يكتبون فيه أعمال بني آدم.
وقوله: فأمّا الّذِينَ آمَنُوا وعَمِلُوا الصّالِحاتِ, فَيُدْخِلُهُم رَبّهُمْ فِي رَحْمَتِهِ يقول تعالى ذكره: فأما الذين آمنوا بالله في الدنيا فوحدوه, ولم يشركوا به شيئا, وعملوا الصالحات: يقول: وعملوا بما أمرهم الله به, وانتهوا عما نهاهم الله عنه فَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَتِهِ يعني في جنته برحمته.
وقوله: ذلكَ هُوَ الفَوْزُ المُبِينُ يقول: دخولهم في رحمة الله يومئذٍ هو الظفر بما كانوا يطلبونه, وإدراك ما كانوا يسعون في الدنيا له, المبين غايتهم فيها, أنه هو الفوز.
الآية : 31
القول في تأويل قوله تعالى: {وَأَمّا الّذِينَ كَفَرُوَاْ أَفَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَىَ عَلَيْكُمْ فَاسْتَكْبَرْتُمْ وَكُنتُمْ قَوْماً مّجْرِمِينَ }.
يقول تعالى ذكره: وأما الذين جحدوا وحدانية الله, وأبوا إفراده في الدنيا بالألوهة, فيقال لهم: ألم تكن آياتي في الدنيا تُتلى عليكم.
فإن قال قائل: أو ليست أمّا تجاب بالفاء, فأين هي؟ فإن الجواب أن يقال: هي الفاء التي في قوله أفَلَمْ. وإنما وجه الكلام في العربية لو نطق به على بيانه, وأصله أن يقال: وأما الذين كفروا, فألم تكن آياتي تتلى عليكم, لأن معنى الكلام: وأما الذين كفروا فيقال لهم ألم, فموضع الفاء في ابتداء المحذوف الذي هو مطلوب في الكلام, فلما حُذفت يقال: وجاءت ألف استفهام, حكمها أن تكون مبتدأة بها, ابتدىء بها, وجعلت الفاء بعدها, وقد تُسقط العرب الفاء التي هي جواب «أما» في مثل هذا الموضع أحيانا إذا أسقطوا الفعل الذي هو في محل جواب أمّا كما قال جلّ ثناؤه فأمّا الّذِينَ اسْوَدّتْ وُجُوهُهُمْ أكَفَرْتُمْ بَعْدَ إيمانِكُمْ فحذفت الفاء, إذ كان الفعل الذي هو في جواب أمّا محذوفا, وهو فيقال, وذلك أن معنى الكلام: فأما الذين اسودّت وجوههم فيقال لهم: أكفرتم, فلما أسقطت, يقال الذي به تتصل الفاء سقطت الفاء التي هي جواب أمّا.
وقوله: فاسْتَكْبَرْتُمْ يقول: فاستكبرتم عن استماعها والإيمان بها وكُنْتُمْ قَوْما مُجْرِمِينَ يقول: وكنتم قوما تكسبون الاَثام والكفر بالله, لا تصدّقون بمعاد, ولا تؤمنون بثواب ولا عقاب.
الآية : 32
القول في تأويل قوله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ إِنّ وعْدَ اللّهِ حَقّ وَالسّاعَةُ لاَ رَيْبَ فِيهَا قُلْتُم مّا نَدْرِي مَا السّاعَةُ إِن نّظُنّ إِلاّ ظَنّاً وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ }.
يقول تعالى ذكره: ويقال لهم حينئذٍ: وَإذَا قِيلَ لكم إنّ وَعْدَ اللّهِ الذي وعد عباده, أنه محييهم من بعد مماتهم, وباعثهم من قبورهم حَقّ, وَالسّاعَةُ التي أخبرهم أنه يقيمها لحشرهم, وجمعهم للحساب والثواب على الطاعة, والعقاب على المعصية, آتية لا رَيْبَ فِيها يقول: لا شكّ فيها, يعني في الساعة, والهاء في قوله: فِيها من ذكر الساعة. ومعنى الكلام: والساعة لا ريب في قيامها, فاتقوا الله وآمنوا بالله ورسوله, واعملوا لما ينجيكم من عقاب الله فيها قُلْتُم ما نَدْرِي ما السّاعَةُ تكذيبا منكم بوعد الله جلّ ثناؤه, وردّا لخبره, وإنكارا لقُدرته على إحيائكم من بعد مماتكم.
وقوله: إنْ نَظُنّ إلاّ ظَنا يقول: وقلتم ما نظنّ أن الساعة آتية إلاّ ظنا وَما نحْنُ بِمُسْتَيْقِنينَ أنها جائية, ولا أنها كائنة.
واختلفت القرّاء في قراءة قوله: والسّاعَةُ لا رَيْبَ فِيها فقرأت ذلك عامة قرّاء المدينة والبصرة وبعض قرّاء الكوفة و السّاعَةُ رفعا على الابتداء. وقرأته عامة قرّاء الكوفة «والسّاعَةَ» نصبا عطفا بها على قوله: إنّ وَعْدَ اللّهِ حَقّ.
والصواب من القول في ذلك عندنا, أنهما قراءتان مستفيضتان في قرأة الأمصار صحيحتا المخرج في العربية متقاربتا المعنى, فبأيتهما قرأ القارىء فمصيب