تفسير ابن كثير تفسير الصفحة 110 من المصحف



تفسير ابن كثير - صفحة القرآن رقم 110

110 : تفسير الصفحة رقم 110 من القرآن الكريم

** يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَآءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيّنُ لَكُمْ كَثِيراً مّمّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُواْ عَن كَثِيرٍ قَدْ جَآءَكُمْ مّنَ اللّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مّبِينٌ * يَهْدِي بِهِ اللّهُ مَنِ اتّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السّلاَمِ وَيُخْرِجُهُمْ مّنِ الظّلُمَاتِ إِلَى النّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَىَ صِرَاطٍ مّسْتَقِيمٍ
يقول تعالى مخبراً عن نفسه الكريمة أنه قد أرسل رسوله محمداً صلى الله عليه وسلم بالهدى ودين الحق إلى جميع أهل الأرض: عربهم وعجمهم, أميهم وكتابيهم, وأنه بعثه بالبينات والفرق بين الحق والباطل, فقال تعالى: {يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبين لكم كثيراً مما كنتم تخفون من الكتاب ويعفو عن كثير} أي يبين ما بدلوه وحرفوه وأولوه, وافتروا على الله فيه, ويسكت عن كثير مما غيروه ولا فائدة في بيانه. وقد روى الحاكم في مستدركه من حديث الحسين بن واقد عن يزيد النحوي, عن عكرمة, عن ابن عباس رضي الله عنه, قال: من كفر بالرجم فقد كفر بالقرآن من حيث لا يحتسب قوله {يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبين لكم كثيراً مما كنتم تخفون من الكتاب} فكان الرجم مما أخفوه, ثم قال: صحيح الإسناد, ولم يخرجاه. ثم أخبر تعالى عن القرآن العظيم الذي أنزله على نبيه الكريم فقال {قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام} أي طرق النجاة والسلامة ومناهج الاستقامة, {ويخرجهم من الظلمات إلى النور بإذنه ويهديهم إلى صراط مستقيم} أي ينجيهم من المهالك, ويوضح لهم أبين المسالك فيصرف عنهم المحذور, ويحصل لهم أحب الأمور, وينفي عنهم الضلالة, ويرشدهم إلى أقوم حالة.

** لّقَدْ كَفَرَ الّذِينَ قَآلُوَاْ إِنّ اللّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ قُلْ فَمَن يَمْلِكُ مِنَ اللّهِ شَيْئاً إِنْ أَرَادَ أَن يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمّهُ وَمَن فِي الأرْضِ جَمِيعاً وَللّهِ مُلْكُ السّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ وَاللّهُ عَلَىَ كُلّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنّصَارَىَ نَحْنُ أَبْنَاءُ اللّهِ وَأَحِبّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذّبُكُم بِذُنُوبِكُم بَلْ أَنتُمْ بَشَرٌ مِمّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَن يَشَآءُ وَيُعَذّبُ مَن يَشَآءُ وَللّهِ مُلْكُ السّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ
يقول تعالى مخبراً وحاكياً بكفر النصارى في ادعائهم في المسيح ابن مريم, وهو عبد من عباد الله, وخلق من خلقه أنه هو الله, تعالى الله عن قولهم علواً كبيراً, ثم قال مخبراً عن قدرته على الأشياء وكونها تحت قهره وسلطانه {قل فمن يملك من الله شيئاً إن أراد أن يهلك المسيح ابن مريم وأمه ومن في الأرض جميع} أي لو أراد ذلك, فمن ذا الذي كان يمنعه منه أو من ذا الذي يقدر على صرفه عن ذلك, ثم قال {ولله ملك السموات والأرض وما بينهما يخلق ما يشاء} أي جميع الموجودات ملكه وخلقه, وهو القادر على ما يشاء, لا يسأل عما يفعل بقدرته وسلطانه وعدله وعظمته, وهذا رد على النصارى عليهم لعائن الله المتتابعة إلى يوم القيامة.
ثم قال تعالى راداً على اليهود والنصارى في كذبهم وافترائهم {وقالت اليهود والنصارى نحن أبناء الله وأحباؤه} أي نحن منتسبون إلى أنبيائه وهم بنوه, وله بهم عناية, وهو يحبنا, ونقلوا عن كتابهم أن الله تعالى قال لعبده إسرائيل: أنت ابني بكري, فحملوا هذا على غير تأويله وحرفوه, وقد رد عليهم غير واحد ممن أسلم من عقلائهم وقالوا: هذا يطلق عندهم على التشريف والإكرام, كما نقل النصارى عن كتابهم أن عيسى قال لهم: إني ذاهب إلى أبي وأبيكم, يعني ربي وربكم, ومعلوم أنهم لم يدعوا لأنفسهم من النبوة ما ادعوها في عيسى عليه السلام وإنما أرادوا من ذلك معزتهم لديه وحظوتهم عنده, ولهذا قالوا: نحن أبناء الله وأحباؤه, قال الله تعالى راداً عليهم {قل فلم يعذبكم بذنوبكم} أي لو كنتم كما تدعون أبناءه وأحباءه, فلم أعد لكم نار جهنم على كفركم وكذبكم وافترائكم ؟
وقد قال بعض شيوخ الصوفية لبعض الفقهاء: أين تجد في القرآن أن الحبيب لا يعذب حبيبه, فلم يرد عليه, فتلا عليه الصوفي هذه الاَية {قل فلم يعذبكم بذنوبكم} وهذا الذي قاله حسن, وله شاهد في المسند للإمام أحمد حيث قال: حدثنا ابن أبي عدي عن حميد, عن أنس, قال: مر النبي صلى الله عليه وسلم في نفر من أصحابه, وصبي في الطريق, فلما رأت أمه القوم خشيت على ولدها أن يوطأ, فأقبلت تسعى وتقول: ابني ابني, وسعت فأخذته فقال القوم: يا رسول الله, ما كانت هذه لتلقي ولدها في النار. قال: فحفظهم النبي صلى الله عليه وسلم فقال «لا والله ما يلقي حبيبه في النار» تفرد به أحمد, {بل أنتم بشر ممن خلق} أي لكم أسوة أمثالكم من بني آدم, وهو سبحانه الحاكم في جميع عباده {يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء} أي هو فعال لما يريد, لا معقب لحكمه, وهو سريع الحساب, {ولله ملك السموات والأرض وما بينهم} أي الجميع ملكه وتحت قهره وسلطانه, {وإليه المصير} أي المرجع والمآب إليه, فيحكم في عباده بما يشاء, وهو العادل الذي لا يجور.
وروى محمد بن إسحاق عن محمد بن أبي محمد عن عكرمة أو سعيد بن جبير, عن ابن عباس قال: وأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم نعمان بن آصا وبحري بن عمرو وشاس بن عدي فكلموه, وكلمهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ودعاهم إلى الله, وحذرهم نقمته, فقالوا: ما تخوفنا يا محمد, نحن والله أبناء الله وأحباؤه, كقول النصارى, فأنزل الله فيهم {وقالت اليهود والنصارى نحن أبناء الله وأحباؤه} إلى آخر الاَية, رواه ابن أبي حاتم وابن جرير, ورويا أيضاً من طريق أسباط عن السدي في قول الله {وقالت اليهود والنصارى نحن أبناء الله وأحباؤه} أما قولهم: {نحن أبناء الله},. فإنهم قالوا: إن الله أوحى إلى إسرائيل أن ولدك بكري من الولد, فيدخلهم النار, فيكونون فيها أربعين ليلة حتى تطهرهم وتأكل خطاياهم, ثم ينادي مناد: أن أخرجوا كل مختون من ولد إسرائيل, فأخرجوهم فذلك قولهم لن تمسنا النار إلا أياماً معدودات.