تفسير الطبري تفسير الصفحة 110 من المصحف

 تفسير الطبري - صفحة القرآن رقم 110
111
109
 الآية : 14
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَمِنَ الّذِينَ قَالُواْ إِنّا نَصَارَىَ أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُواْ حَظّاً مّمّا ذُكِرُواْ بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَآءَ إِلَىَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَسَوْفَ يُنَبّئُهُمُ اللّهُ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ }..
يقول عزّ ذكره: وأخذنا من النصارى الـميثاق علـى طاعتـي وأداء فرائضي واتبـاع رسلـي والتصديق بهم, فسلكوا فـي ميثاقـي الذي أخذته علـيهم منهاج الأمة الضالة من الـيهود, فبدّلوا كذلك دينهم ونقضوا نقضهم وتركوا حظهم من ميثاقـي الذي أخذته علـيهم بـالوفـاء بعهدي وضيعوا أمري. كما:
9129ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة: وَمِنَ الّذِينَ قالُوا إنّا نَصَارَى أخَذْنا مِيثاقَهُمْ فَنَسُوا حَظّا مِـمّا ذُكّرُوا بِهِ: نسوا كتاب الله بـين أظهرهم, وعهد الله الذي عهده إلـيه, وأمر الله الذي أمرهم به.
9130ـ حدثنا مـحمد بن الـحسين, قال: حدثنا أحمد بن مفضل, قال: حدثنا أسبـاط, عن السديّ, قال: قالت النصارى مثل ما قالت الـيهود, ونسوا حظّا مـما ذكّروا به.
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: فَأغْرَيْنا بَـيْنَهُمُ العَدَاوَةَ وَالبَغْضَاءَ إلـى يَوْمِ القِـيامَةِ.
يعنـي تعالـى ذكره بقوله: فَأغْرَيْنا بَـيْنَهُمْ: حرشنا بـينهم وألقـينا, كما نُغزي الشيءَ بـالشيء. يقول جلّ ثناؤه: لـما ترك هؤلاء النصارى الذين أخذت ميثاقهم بـالوفـاء بعهدي حظهم, مـما عهدت إلـيهم من أمري ونهيـي, أغريت بـينهم العداوة والبغضاء.
ثم اختلف أهل التأويـل فـي صفة إغراء الله بـينهم العداوة والبغضاء, فقال بعضهم: كان إغراؤه بـينهم بـالأهواء التـي حدثت بـينهم. ذكر من قال ذلك:
9131ـ حدثنـي يعقوب بن إبراهيـم, قال: حدثنا هشيـم, قال: أخبرنا العوّام بن حوشب, عن إبراهيـم النـخعي فـي قوله: فَأغْرَيْنا بَـيْنَهُمُ العَدَاوَةَ والبَغْضَاءَ قال: هذه الأهواء الـمختلفة, والتبـاغض فهو الإغراء.
حدثنا سفـيان بن وكيع, قال: حدثنا يزيد بن هارون, عن العوّام بن حوشب, قال: سمعت النـخعي يقول: فَأغْرَيْنا بَـيْنَهُمُ العَدَاوَةَ وَالبَغْضَاءَ قال: أغرى بعضهم ببعض بخصومات بـالـجدال فـي الدين.
9132ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي هشيـم, قال: أخبرنا العوّام بن حوشب, عن إبراهيـم النـخعي والتـيـمي, قوله: فَأغْرَيْنا بَـيْنَهُمْ العَدَاوَةَ وَالبَغْضَاءَ قال: ما أرى الإغراء فـي هذه الاَية إلا الأهواء الـمختلفة. وقال معاوية بن قرة: الـخصومات فـي الدين تـحبط الأعمال.
وقال آخرون: بل ذلك هو العداوة التـي بـينهم والبغضاء. ذكر من قال ذلك:
9133ـ حدثنا بشر بن معاذ, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة: فَأغْرَيْنا بَـيْنَهُمْ العَدَاوَةَ وَالبَغْضَاءَ إلـى يَوْمِ القِـيامَةِ... الاَية. إن القوم لـما تركوا كتاب الله, وعَصَوا رسله, وضيعوا فرائضه, وعطلوا حدوده, ألقـى بـينهم العداوة والبغضاء إلـى يوم القـيامة بأعمالهم أعمال السوء, ولو أخذ القوم كتاب الله وأمره, ما افترقوا ولا تبـاغضوا.
وأولـى التأويـلـين فـي ذلك عندنا بـالـحقّ, تأويـل من قال: أغرى بـينهم بـالأهواء التـي حدثت بـينهم, كما قال إبراهيـم النـخعي لأن عداوة النصارى بـينهم, إنـما هي بـاختلافهم فـي قولهم فـي الـمسيح, وذلك أهواء لا وحي من الله.
واختلف أهل التأويـل فـي الـمعنىّ بـالهاء والـميـم اللتـين فـي قوله: فَأغْرَيْنا بَـيْنَهُمُ فقال بعضهم: عنـي بذلك: الـيهود والنصارى. فمعنى الكلام علـى قولهم وتأويـلهم: فأغرينا بـين الـيهود والنصارى, لنسيانهم حظّا مـما ذكّروا به. ذكر من قال ذلك:
9134ـ حدثنا مـحمد بن الـحسين, قال: حدثنا أحمد بن مفضل, وقال: حدثنا أسبـاط, عن السديّ: قال فـي النصارى أيضا: فنسوا حظّا مـما ذكّروا به, فلـما فعلوا ذلك أغرى الله عزّ وجلّ بـينهم وبـين الـيهود العداوة والبغضاء إلـى يوم القـيامة.
9135ـ حدثنـي يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد فـي قوله: فَأغْرَيْنا بَـيْنَهُمُ العَدَاوَةَ والبَغْضَاءَ إلـى يَوْمه القـيامَةِ قال: هم الـيهود والنصارى. قال ابن زيد: كما تغري بـين اثنـين من البهائم.
9136ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, ال: حدثنا عيسى, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد فـي قول الله: فَأغْرَيْنَا بَـيْنَهُمُ العَدَاوَةَ وَالبَغْضَاءَ قال: الـيهود والنصارى.
حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا أبو حذيفة, قال: حدثنا شبل, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد, مثله.
9137ـ حدثنـي القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: حدثنا أبو سفـيان, عن معمر, عن قتادة, قال: هم الـيهود والنصارى, أغرى الله بـينهم العداوة والبغضاء إلـى يوم القـيامة.
وقال آخرون: بل عنى الله بذلك: النصارى وحدها. وقالوا: معنى ذلك: فأغرينا بـين النصارى عقوبة لها بنـيسانها حظا مـما ذكرت به. قالوا: وعلـيها عادت الهاء والـميـم فـي بـينهم دون الـيهود. ذكر من قال ذلك:
9138ـ حدثنـي الـمثنى بن إبراهيـم, قال: حدثنا إسحاق, قال: حدثنا عبد الله بن أبـي جعفر, عن أبـيه, عن الربـيع قال: إن الله عزّ ذكره تقدّم إلـى بنـي إسرائيـل أن لا تشتروا بآيات الله ثمنا قلـيلاً, وعلّـموا الـحكمة ولا تأخذوا علـيها أجرا. فلـم يفعل ذلك إلا قلـيـل منهم, فأخذوا الرشوة فـي الـحكم وجاوزوا الـحدود, فقال فـي الـيهود حيث حكموا بغير ما أمر الله: وألْقَـيْنا بَـيْنَهُمُ العَدَاوَةَ وَالبَغْضَاءَ إلـى يَوْمه القِـيامَةِ وقال فـي النصارى: فَنَسُوا حَظّا مِـمّا ذُكّرُوا بِهِ فأغْرَيْنا بَـيْنَهُمْ العَدَاوَةَ وَالبَغْضَاءَ إلـى يَوْمَ القِـيامةِ.
وأولـى التأويـلـين بـالاَية عندي ما قاله الربـيع بن أنس, وهو أن الـمعنىّ بـالإغراء بـينهم: النصارى فـي هذه الاَية خاصة, وأن الهاء والـميـم عائدتان علـى النصارى دون الـيهود, لأن ذكر الإغراء فـي خبر الله عن النصارى بعد تقضي خبره عن الـيهود, وبعد ابتدائه خبره عن النصارى, فأن لا يكون ذلك معنـيا به إلا النصارى خاصة أولـى من أن يكون معنـيا به الـحزبـان جميعا لـما ذكرنا.
فإن قال قائل: وما العداوة التـي بـين النصارى, فتكون مخصوصة بـمعنى ذلك؟ قـيـل: ذلك عداوة النّسطورية والـيعقوبـية والـملكية النسطورية والـيعقوبـية, ولـيس الذي قاله من قال معنى بذلك: إغراء الله بـين الـيهود والنصارى ببعيد, غير أن هذا أقرب عندي وأشبه بتأويـل الاَية لـما ذكرنا.
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: وَسَوْفَ يُنَبّئُهُمُ اللّهُ بِـمعا كانُوا يَصْنَعُونَ.
يقول جلّ ثناؤه لنبـيه مـحمد صلى الله عليه وسلم: اعف عن هؤلاء الذين هموا ببسط أيديهم إلـيك وإلـى أصحابك, واصفح فإن الله من وراء الانتقام منهم, وسينبئهم الله عند ورودهم الله علـيه فـي معادهم بـما كانوا فـي الدنـيا يصنعون من نقضهم ميثاقه, ونكثهم عهده, وتبديـلهم كتابه, وتـحريفهم أمره ونهيه, فـيعاقبهم علـى ذلك حسب استـحقاقهم.
الآية : 15
القول فـي تأويـل قوله تعالـى:
{يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَآءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيّنُ لَكُمْ كَثِيراً مّمّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُواْ عَن كَثِيرٍ قَدْ جَآءَكُمْ مّنَ اللّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مّبِينٌ }..
يقول عزّ ذكره لـجماعة أهل الكتاب من الـيهود والنصارى الذين كانوا فـي عصر رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا أهل الكتاب من الـيهود والنصارى, قد جاءكم رسولنا, يعنـي مـحمدا صلى الله عليه وسلم., كما:
9139ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة: يا أهْلَ الكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا وهو مـحمد صلى الله عليه وسلم.
وقوله: يُبَـيّنُ لَكُمْ كَثِـيرا مِـمّا كُنْتُـمْ تُـخْفُونَ مِنَ الكِتابِ يقول: يبـين لكم مـحمد رسولنا كثـيرا مـما كنتـم تكتـمونه الناس ولا تبـينونه لهم مـما فـي كتابكم. وكان مـما يخفونه من كتابهم فبـينه رسول الله صلى الله عليه وسلم للناس: رجم الزانـين الـمـحصنـين. وقـيـل: إن هذه الاَية نزلت فـي تبـيـين رسول الله صلى الله عليه وسلم للناس من إخفـائهم ذلك من كتابهم. ذكر من قال ذلك:
9140ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا يحيى بن واضح, قال: حدثنا الـحسين بن واقد, عن يزيد النـحوي, عن عكرمة, عن ابن عبـاس, قال: من كفر بـالرجم فقد كفر بـالقرآن من حيث لا يحتسب, قوله: يا أهْلَ الكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَـيّنُ لَكُمْ كَثِـيرا مِـمّا تُـخْفُونَ مِنَ الكِتابِ فكان الرجم مـما أخَفَوْا.
حدثنا عبد الله بن أحمد بن شَبّويَهْ, أخبرنا علـيّ بن الـحسين, قال: حدثنا الـحسين, قال: حدثنا يزيد, عن عكرمة, عن ابن عبـاس, مثله.
9141ـ حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا إسحاق, قال: حدثنا عبد الوهاب الثقـفـي, عن خالد الـحذّاء, عن عكرمة فـي قوله: يا أهْلَ الكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَـينُ لَكُمْ... إلـى قوله: صِرَاطٍ مُسْتَقِـيـمٍ قال: إن نبـيّ الله أتاه الـيهود يسألونه عن الرجم, واجتـمعوا فـي بـيت, قال: «أيّكم أَعْلَـمُ؟» فأشاروا إلـى ابن صُورِيا, فقال: «أنْتَ أعْلَـمُهُمْ؟» قال: سل عما شئت, قال: «أنْتَ أعْلَـمُهُمْ؟» قال: إنهم لـيزعمون ذلك. قال: فناشده بـالذي أنزل التوراة علـى موسى, والذي رفع الطور, وناشده بـالـمواثـيق التـي أُخذت علـيهم, حتـى أخذه أَفْكَل, فقال: إن نساءنا نساء حسان, فكثر فـينا القتل, فـاختصرنا أُخْصُورة, فجلدنا مِئة, وحلقنا الرءوس, وخالفنا بـين الرءوس إلـى الدّوابّ أحسبه قال: الإبل قال: فحُكِم علـيهم بـالرجْم, فأنزل الله فـيهم: يا أهْلَ الكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَـيّـينُ لَكُمْ... الاَية, وهذه الاَية: وَإذَا خَلا بَعْضُهُمْ إلـى بَعْضٍ قالُوا أُتَـحدّثُونَهُمْ بِـمَا فَتَـحَ اللّهُ عَلَـيْكُمْ لِـيُحاجّوكُمُ بِهِ عِنْدَ رَبّكُمْ.
قوله: وَيَعْفُو عَنْ كَثِـيرٍ يعنـي بقوله ويعفو: ويترك أخذكم بكثـير مـما كنتـم تـخفون من كتابكم الذي أنزله الله إلـيكم, وهو التوراة, فلا تعملون به حتـى يأمره الله بأخذكم به.
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: قَدْ جاءَكُمْ مِنَ اللْهِ نُورٌ وكِتابٌ مُبِـينٌ.
يقول جلّ ثناؤه لهؤلاء الذين خاطبهم من أهل الكتاب: قد جاءكم يا أهل التوراة والإنـجيـل من الله نور, يعنـي بـالنور مـحمدا صلى الله عليه وسلم, الذي أنار الله به الـحقّ, وأظهر به الإسلام, ومـحق به الشرك فهو نور لـمن استنار به يبـين الـحقّ, ومن إنارته الـحقّ تبـيـينه للـيهود كثـيرا مـما كانوا يخفون من الكتاب. وقوله: وكِتابٌ مُبِـينٌ يقول جلّ ثناؤه: قد جاءكم من الله تعالـى النور الذي أنار لكم به معالـم الـحقّ. وكِتَابٌ مُبِـينٌ يعنـي: كتابـا فـيه بـيان ما اختلفوا فـيه بـينهم من توحيد الله وحلاله وحرامه وشرائع دينه, وهو القرآن الذي أنزله علـى نبـينا مـحمد صلى الله عليه وسلم, يبـين للناس جميع ما بهم الـحاجة إلـيه من أمر دينهم ويوضحه لهم, حتـى يعرفوا حقه من بـاطله.
الآية : 16
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {يَهْدِي بِهِ اللّهُ مَنِ اتّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السّلاَمِ وَيُخْرِجُهُمْ مّنِ الظّلُمَاتِ إِلَى النّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَىَ صِرَاطٍ مّسْتَقِيمٍ }..
يعنـي عزّ ذكره: يهدي بهذا الكتاب الـمبـين الذي جاء من الله جلّ جلاله, ويَعْنِـي بقوله: يَهْدِي بِهِ اللّهُ يرشد به الله ويسدّد به. والهاء فـي قوله به عائدة علـى الكتاب. مَنِ اتّبَعَ رِضْوَانَهُ يقول: من اتبع رضا الله.
واختلف فـي معنى الرضا من الله جلّ وعزّ, فقال بعضهم: الرضا منه بـالشيء: القبول له والـمدح والثناء. قالوا: فهو قابل الإيـمان ومزكّ له, ومثن علـى الـمؤمن بـالإيـمان, وواصف الإيـمان بأنه نور وهدًى وفَصْل.
وقال آخرون: معنى الرضا من الله جلّ وعزّ معنى مفهوم, هو خلاف السّخْط, وهو صفة من صفـاته علـى ما يقعل من معانـي الرضا, الذي هو خلاف السخط, ولـيس ذلك بـالـمدح, لأن الـمدح والثناء قول, وإنـما يثنـي ويـمدح ما قدر رُضِي قالوا: فـالرضا معنى, والثناء والـمدح معنى لـيس به.
ويعنـي بقوله: سُبُلَ السّلام: طرق السلام, والسلام هو الله عزّ ذكره.
9142ـ حدثنا مـحمد بن الـحسين, قال: حدثنا أحمد بن مفضل, قال: حدثنا أسبـاط, عن السديّ: مَنِ اتّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السّلامِ: سبـيـل الله الذي شرعه لعبـاده, ودعاهم إلـيه, وابتعث به رسله, وهو الإسلام الذي لا يَقبَل من أحد عملاً إلا به, لا الـيهودية, ولا النصرانـية, ولا الـمـجوسية.
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: ويُخْرِجُهُمْ مِنَ الظّلُـماتِ إلـى النّورِ بإذْنِهِ.
يقول عزّ ذكره: يهدي الله بهذا الكتاب الـمبـين من اتبع رضوان الله إلـى سبل السلام, وشرائع دينه. ويُخْرِجُهُمْ يقول: ومن يخرج من اتبع رضوانه, والهاء والـميـم فـي: ويخرجهم إلـى من ذكر من الظلـمات إلـى النور, يعنـي: من ظلـمات الكفر والشرك إلـى نور الإسلام وضيائه بإذنه, يعنـي: بإذن الله جلّ وعزّ. وإذنه فـي هذا الـموضع تـحبـيبه إياه الإيـمان برفع طابعَ الكفر عن قلبه, وخاتَـم الشرك عنه, وتوفـيقه لإبصار سبل السلام.
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: وَيهْدِيهِمْ إلـى صِرَاطٍ مُسْتَقِـيـمٍ.
يعنـي عزّ ذكره بقوله: وَيهْدِيهِمْ: ويرشدهم ويسدّدهم إلـى صِراطٍ مُسْتَقِـيـمٍ يقول: إلـى طريق مسقـيـم, وهو دين الله القويـم الذي لا اعوجاج فـيه.
الآية : 17
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {لّقَدْ كَفَرَ الّذِينَ قَآلُوَاْ إِنّ اللّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ قُلْ فَمَن يَمْلِكُ مِنَ اللّهِ شَيْئاً إِنْ أَرَادَ أَن يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمّهُ وَمَن فِي الأرْضِ جَمِيعاً وَللّهِ مُلْكُ السّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ وَاللّهُ عَلَىَ كُلّ شَيْءٍ قَدِيرٌ }..
هذه ذمّ من الله عزّ ذكره للنصارى والنصرانـية الذين ضلوا عن سبل السلام, واحتـجاج منه لنبـيه مـحمد صلى الله عليه وسلم فـي فريتهم علـيه بـادعائهم له ولدا, يقول جلّ ثناؤه: أقسم لقد كفر الذين قالوا: إن الله هو الـمسيح بن مريـم, وكفرهم فـي ذلك تغطيتهم الـحقّ فـي تركهم نفـي الولد عن الله جلّ وعزّ, وادّعائهم أن الـمسيح هو الله فرية وكذبـا علـيه. وقد بـينا معنى الـمسيح فـيـما مضى بـما أغنى عن إعادته فـي هذا الـموضع.
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: قُلْ فَمَنْ يَـمْلِكُ مِنَ اللّهِ شَيئْا إنْ أرَادَ أنْ يُهْلِكَ الـمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَـمَ وأُمّهُ وَمَنْ فِـي الأرْضِ جَمِيعا.
يقول جلّ ثناؤه لنبـيه مـحمد صلى الله عليه وسلم: قل يا مـحمد للنصارى الذين افتروا علـيّ, وضلوا عن سواء السبـيـل, بقـيـلهم: إن الله هو الـمسيح ابن مريـم مَنْ يَـمْلِكُ مِنَ اللّهِ شَيْئا يقول: من الـي يطيق أن يدفع من أمر الله جلّ وعزّ شيئا, فـيردّه إذا قضاه من قول القائل: ملكت علـى فلان أمره: إذا صار لا يقدرأن ينفذ أمرا إلا به. وقوله: إنْ أرادَ أنْ يُهْلِكَ الـمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَـمَ وأُمّهُ وَمَنْ فـي الأرْضِ جَمِيعا يقول: من ذا الذي يقدر أن يردّ من أمر الله شيئا إن شاء أن يهلك الـمسيح ابْن مريـم بإعدامه من الأرض وإعدام أمه مريـم, وإعدام جميع من فـي الأرض من الـخـلق جميعا. يقول جلّ ثناؤه لنبـيه مـحمد صلى الله عليه وسلم: قل لهؤلاء الـجهلة من النصارى لو كان الـمسيح كما يزعمون أنه هو الله, ولـيس كذلك لقدَر أن يردّ أمر الله إذا جاءه بـاهلاكه وإهلاك أمه, وقد أهلك أمه فلـم يقدر علـى دفع أمره فـيها إذ نزل ذلك, ففـي ذلك لكم معتبر إن اعتبرتـم, وحجة علـيكم إن عقلتـم فـي أن الـمسيح بشر كسائر بنـي آدم, وأن الله عزّ وجلّ هو الذي لا يغلب ولا يقهر ولا يردّ له أمر, بل هو الـحيّ الدائم القـيوم الذي يُحيى ويـميت, وينشيء ويفنـي, وهو حيّ لا يـموت.
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: ولِلّهِ مُلْكُ السّمَوَاتِ والأرْضِ وما بَـيْنَهُما يَخْـلُقُ ما يَشاءُ.
يعنـي تبـارك وتعالـى بذلك: والله له تصريف ما فـي السموات والأرض وما بـينهما, يعنـي: وما بـين السماء والأرض, يهلك من يشاء من ذلك, ويبقـى ما يشاء منه, ويوجد ما أراد, ويعدم ما أحبّ, لا يـمنعه من شيء أراد من ذلك مانع, ولا يدفعه عنه دافع ينفذ فـيهم حكمه, ويـمضي فـيهم قضاءه, لا الـمسيح الذي إن أراد إهلاكه ربه وإهلاك أمه, لـم يـملك دفع ما أراد به ربه من ذلك. يقول جلّ وعزّ: كيف يكون إلها يُعبد من كان عاجزا عن دفع ما أراد به غيره من السوء, وغير قادر علـى صرف ما نزل به من الهلاك؟ بل الإله الـمعبود الذي له ملك كلّ شيء, وبـيده تصريف كلّ من فـي السماء والأرض وما بـينهما. فقال جلّ ثناؤه: وَما بَـيْنَهُما, وقد ذكر السموات بلفظ الـجمع, ولـم يقل: وما بـينهنّ, لأن الـمعنى: وما بـين هذين النوعين من الأشياء, كما قال الراعي.
طَرَقا فَتِلكَ هَمَاهِمِي أقْرِيهِماقُلُصا لَوَاقِحَ كالقِسِيّ وحُولاً
فقال: طرقا, مخبرا عن شيئين, ثم قال: فتلك هما همي, فرجع إلـى معنى الكلام.
وقوله: يَخْـلُقُ ما يَشاءُ يقول: جلّ ثناؤه: وينشيء ما يشاء ويوجده, ويخرجه من حال العدم إلـى حال الوجود, ولن يقدر علـى ذلك غير الله الواحد القهار, وإنـما يعنـي بذلك أن له تدبـير السموات والأرض وما بـينهما, وتصريفه وإفناءه وإعدامه, وإيجاد ما يشاء مـما هو غير موجود ولا منشأ, يقول: فلـيس ذلك لأحد سواي, فكيف زعمتـم أيها الكذبة أن الـمسيح إلـيه, وهو لا يطيق شيئا من ذلك, بل لا يقدر علـى دفع الضرر عن نفسه, ولا عن أمه, ولا اجتلاب نفع إلـيها, إلا بإذنـي.
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: وَاللّهُ علـى كُلّ شَيءٍ قَدِيرٌ.
يقول عزّ ذكره: الله الـمعبود هو القادر علـى كلّ شيء, والـمالك كل شيء, الذي لا يعجزه شيء أراده, ولا يغلبه شيء طلبه, الـمقتدر علـى هلاك الـمسيح وأمه ومن فـي الأرض جميعا, لا العاجز الذي لا يقدر علـى منع نفسه من ضرّ نزل به من الله ولا منع أمه من الهلاك