تفسير الشوكاني تفسير الصفحة 110 من المصحف



فتح القدير - صفحة القرآن رقم 110

109

قوله: 14- "ومن الذين قالوا إنا نصارى أخذنا ميثاقهم" أي في التوحيد والإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم وبما جاء به. قال الأخفش: هو كقولك أخذت من زيد ثوبه ودرهم، فرتبة الذين بعد أخذنا. وقال الكوفيون بخلافه، وقيل إن الضمير في قوله: "ميثاقهم" راجع إلى بني إسرائيل: أي أخذنا من النصارى مثل ميثاق المذكورين قبلهم من بني إسرائيل، وقال: "من الذين قالوا إنا نصارى" ولم يقل ومن النصارى للإيذان بأنهم كاذبون في دعوى النصرانية وأنهم أنصار الله. قوله: "فنسوا حظاً مما ذكروا به" أي نسوا من الميثاق المأخوذ عليهم نصيباً وافراً عقب أخذه عليهم "فأغرينا بينهم العداوة والبغضاء" أي ألصقنا ذلك بهم، مأخوذ من الغراء: وهو ما يلصق الشيء بالشيء كالصمغ وشبهه يقال غرى بالشيء يغري غرياً بفتح الغين مقصوراً، وغراء بكسرها ممدوداً: أي أولع به حتى كأنه صار ملتصقاً به، ومثل الإغراء التحرش، وأغريت الكلب: أي أولعته بالصيد، والمراد بقوله: "بينهم" اليهود والنصارى لتقدم ذكرهم جميعاً، وقيل بين النصارى خاصة، لأنهم أقرب مذكور، وذلك لأنهم افترقوا إلى اليعقوبية والنسطورية والملكانية، وكفر بعضهم بعضاً، وتظاهروا بالعداوة في ذات بينهم. قال النحاس: وما أحسن ما قيل في معنى "أغرينا بينهم العداوة والبغضاء" إن الله عز وجل أمر بعداوة الكفار وإبغاضهم، فكل فرقة مأمورة بعداوة صاحبتها وإبغاضها. قوله: "وسوف ينبئهم الله بما كانوا يصنعون" تهديد لهم: أي سيلقون جزاء نقض الميثاق. وقد أخرج ابن جرير عن أبي العالية في قوله: "ولقد أخذ الله ميثاق بني إسرائيل" قال: أخذ مواثيقهم بأن يخلصوا له ولا يعبدوا غيره "وبعثنا منهم اثني عشر نقيباً" أي كفيلاً كفلوا عليهم بالوفاء لله بما واثقوه عليه من العهود فيما أمرهم به وفيما نهاهم عنه. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عن مجاهد في قوله: "اثني عشر نقيباً" قال: من كل سبط من بني إسرائيل رجال أرسلهم موسى إلى الجبارين فوجدوهم يدخل في كم أحدهم اثنان منهم، ولا يحمل عنقود عنبهم إلا خمسة أنفس منهم في خشبة، ويدخل في شطر الرمانة إذا نزع حبها خمسة أنفس أو أربعة، فرجع النقباء كلهم ينهى سبطه عن قتالهم إلا يوشع بن نون وكالب بن يافنة، فإنهما أمرا الأسباط بقتال الجبارين ومجاهدتهم فعصوهما وأطاعوا الآخرين، فهما الرجلان اللذان أنعم الله عليهما، فتاهت بنو إسرائيل أربعين سنة يصبحون حيث أمسوا ويمسون حيث أصبحوا في تيههم ذلك، فضرب موسى الحجر لكل سبط عيناً حجراً لهم يحملونه معهم، فقال لهم موسى: اشربوا يا حمير، فنهاه الله عن سبهم. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: "اثني عشر نقيباً" قال: هم من بين إسرائيل بعثهم موسى لينظروا إلى المدينة فجاءوا بحبة من فاكهتهم وقر رجل، فقال: اقدروا قوة قوم وبأسهم وهذه فاكهتهم، فعند ذلك فتنوا فقالوا: لا نستطيع القتال "فاذهب أنت وربك فقاتلا" وقد ذكر ابن إسحاق أسماء هؤلاء الأسباط، وأسماؤهم مذكورة في السفر الرابع من التوراة، وفيه مخالفة لما ذكره ابن إسحاق. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: "وعزرتموهم" قال: أعنتموهم. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عن مجاهد في قوله: "وعزرتموهم" قال: نصرتموهم. وأخرج ابن جرير عن ابن عباس في قوله: "فبما نقضهم ميثاقهم" قال: هو ميثاق أخذه الله على أهل التوراة فنقضوه. وأخرج ابن جرير عنه في قوله: "يحرفون الكلم عن مواضعه" يعني حدود الله، يقولون إن أمركم محمد بما أنتم عليه فاقبلوه، وإن خالفكم فاحذروا، وأخرج ابن أبي حاتم عنه أيضاً في قوله: "ونسوا حظاً مما ذكروا به" قال: نسوا الكتاب. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عن مجاهد في قوله: "ولا تزال تطلع على خائنة منهم" قال: هم يهود مثل الذي هموا به من النبي صلى الله عليه وسلم يوم دخل عليهم حائطهم. وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عن قتادة في قوله: "ولا تزال تطلع على خائنة منهم" قال: كذب وفجور، وفي قوله: "فاعف عنهم واصفح" قال: لم يؤمر يومئذ بقتالهم، فأمره الله أن يعفو عنهم ويصفح ثم نسخ ذلك في براءة فقال: "قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر" الآية. وأخرج أبو عبيد وابن جرير وابن المنذر عن إبراهيم النخعي في قوله: "فأغرينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة" قال: أغرى بعضهم ببعض بالخصومات والجدال في الدين.
الألف واللام في الكتاب للجنس والخطاب لليهود والنصارى 15- "قد جاءكم رسولنا" أي محمد صلى الله عليه وسلم حال كونه: "يبين لكم كثيراً مما كنتم تخفون من الكتاب" المنزل عليكم، وهو التوراة والإنجيل: كآية الرجم وقصة أصحاب السبت الممسوخين قردة " ويعفو عن كثير " مما تخفونه، فيترك بيانه لعدم اشتماله على ما يجب بيانه عليه من الأحكام الشرعية، فإن ما لم يكن كذلك لا فائدة تتعلق ببيانه إلا مجرد افتضاحكم، وقيل المعنى: إنه يعفو عن كثير فيتجاوزه ولا يخبركم به، وقيل: يعفو عن كثير منكم فلا يؤاخذكم بما يصدر منهم، والجملة في محل نصب عطفاً على الجملة الحالية: أعني قوله: "يبين لكم". قوله: "قد جاءكم من الله نور" جملة مستأنفة مشتملة على بيان أن محمداً صلى الله عليه وسلم قد تضمنت بعثته فوائد غير ما تقدم من مجرد البيان. قال الزجاج: النور محمد صلى الله عليه وسلم، وقيل الإسلام. والكتاب المبين: القرآن، فإنه المبين.
والضمير في قوله: 16- "يهدي به" راجع إلى الكتاب أو إليه وإلى النور لكونهما كالشيء الواحد "من اتبع رضوانه" أي ما رضيه الله، و "سبل السلام" طرق السلامة من العذاب الموصلة إلى السلام المنزهة عن كل آفة، وقيل المراد بالسلام: الإسلام "ويخرجهم من الظلمات" الكفرية "إلى النور" الإسلامي "ويهديهم إلى صراط مستقيم" إلى طريق يتوصلون بها إلى الحق لا عوج فيها ولا مخافة. وقد أخرج ابن جرير عن قتادة في قوله: "رسولنا" قال: هو محمد صلى الله عليه وسلم. وأخرج ابن جرير أيضاً عن عكرمة قال: "إن نبي الله صلى الله عليه وسلم أتاه اليهود يسألونه عن الرجم فقال: أيكم أعلم؟ فأشاروا إلى ابن صوريا، فناشده بالذي أنزل التوراة على موسى والذي رفع الطور بالمواثيق التي أخذت عليهم حتى أخذه أفكل، فقال: إنه لما كثير فينا جلدنا مائة جلدة وحالقنا الرؤوس، فحكم عليهم بالرجم، فنزلت هذه الآية". وأخرج ابن المنذر عن ابن جريج نحوه. وأخرج عبد بن حميد عن قتادة في قوله: " ويعفو عن كثير " يقول عن كثير من الذنوب. وأخرج ابن جرير عن السدي قال: "سبل السلام" هي سبيل الله الذي شرعه لعباده ودعاهم إليه وابتعث به رسله: وهو الإسلام.
ضمير الفصل في قوله: 17- "هو المسيح" يفيد الحصر، قيل وقد قال بذلك بعض طوائف النصارى، وقيل لم يقبل به أحد منهم، ولكن استلزم قولهم: "إن الله هو المسيح" لا غيره، وقد تقدم في آخر سورة النساء ما يكفي ويغني عن التكرار. قوله: "قل فمن يملك من الله شيئاً" الاستفهام للتوبيخ والتقريع، والملك، والملك: الضبط والحفظ والقدرة، من قولهم ملكت على فلان أمره: أي قدرت عليه: أي فمن يقدر أن يمنع "إن أراد أن يهلك المسيح ابن مريم وأمه ومن في الأرض جميعاً" وإذا لم يقدر أحد أن يمنع من ذلك فلا إله إلا الله ولا رب غيره ولا معبود بحق سواه، ولو كان المسيح إلهاً كما تزعم النصارى لكان له من الأمر شيء، ولقدر على أن يدفع عن نفسه أقل حال ولم يقدر على أن يدفع عن أمه الموت عند نزوله بها، وتخصيصها بالذكر مع دخولها في عموم من في الأرض لكون الدفع منه عنها أولى وأحق من غيرها، فهو إذا لم يقدر على الدفع عنها أعجز عن أن يدفع عن غيرها، وذكر من في الأرض للدلالة على شمول قدرته، وأنه إذا أراد شيئاً كان لا معارض له في أمره ولا مشارك له في قضائه "ولله ملك السموات والأرض وما بينهما" أي ما بين النوعين من المخلوقات. قوله: "يخلق ما يشاء" جملة مستأنفة مسوقة لبيان أنه سبحانه خالق الخلق بحسب مشيئته، وأنه يقدر على كل شيء لا يستصعب عليه شيء.