تفسير الطبري تفسير الصفحة 118 من المصحف

 تفسير الطبري - صفحة القرآن رقم 118
119
117
 الآية : 58
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {يَـَأَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتّخِذُواْ الّذِينَ اتّخَذُواْ دِينَكُمْ هُزُواً وَلَعِباً مّنَ الّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَالْكُفّارَ أَوْلِيَآءَ وَاتّقُواْ اللّهَ إِن كُنتُم مّؤْمِنِينَ }..
يقول تعالـى ذكره للـمؤمنـين به وبرسوله مـحمد صلى الله عليه وسلم: يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا: أي صدّقوا الله ورسوله, لا تَتّـخِذُوا الّذِينَ اتّـخَذُوا دِينَكُمْ هُزُوا وَلَعِبـا مِنَ الّذِينَ أُوتُوا الكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ يعنـي الـيهود والنصارى الذين جاءتهم الرسل والأنبـياء, وأنزلت علـيهم الكتب من قبل بعث نبـينا صلى الله عليه وسلم ومن قبل نزول كتابنا أولـياء. يقول: لا تتـخذوهم أيها الـمؤمنون أنصارا وإخوانا وحلفـاء, فإنهم لا يألونكم خبـالاً وإن أظهروا لكم مودّة وصداقة. وكان اتـخاذ هؤلاء الـيهود الذين أخبر الله عنهم الـمؤمنـين أنهم اتـخذوا دينهم هزوا ولعبـا الدين علـى ما وصفهم به ربنا تعالـى ذكره, أن أحدهم كان يظهر للـمؤمنـين الإيـمان وهو علـى كفره مقـيـم, ثم يراجع الكفر بعد يسيء من الـمدّة بإظهار ذلك بلسانه قولاً بعد أن كان يبدي بلسانه الإيـمان قولاً وهو للكفر مستبطن, تلعبـا بـالدين واستهزاء به, كما أخبر تعالـى ذكره عن فعل بعضهم ذلك بقوله: وَإذَا لَقُوا الّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنّا وَإذَا خَـلَوْا إلـى شيَاطِينِهمْ قَالُوا إنّا مَعَكُمْ إنّـمَا نَـحْنُ مُسْتَهْزِءُونَ اللّهُ يَسْتَهْزِىءُ بِهِمْ ويَـمُدّهُمْ فِـي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ. وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك حاء الـخبر عن ابن عبـاس.
9606ـ حدثنا هناد بن السريّ وأبو كريب, قالا: حدثنا يونس بن بكير, قال: ثنـي ابن إسحاق, قال: ثنـي مـحمد بن أبـي مـحمد مولـى زيد بن ثابت, قال: ثنـي سعيد بن جبـير أو عكرمة, عن ابن عبـاس, قال: كان رفـاعة بن زيد بن التابوت وسويد بن الـحارث قد أظهرا الإسلام, ثم نافقا, وكان رجال من الـمسلـمين يوادّونهما, فأنزل الله فـيهما: يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا لا تَتّـخِذُوا الّذِينَ اتّـخَذُوا دِينَكُمْ هُزُوا وَلَعِبـا مِنَ الّذِينَ أُوتُوا الكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ والكُفّـارَ أوْلِـياءَ... إلـى قوله: وَاللّهُ أعلَـمُ بِـمَا كانُوا يَكْتُـمُونَ.
فقد أبـان هذا الـخبر عن صحة ما قلنا من أن اتـخاذ من اتـخذ دين الله هزوا ولعبـا من أهل الكتاب الذين ذكرهم الله فـي هذه الاَية, إنـما كان بـالنفـاق منهم وإظهارهم للـمؤمنـين الإيـمان واستبطانهم الكفر وقـيـلهم لشياطينهم من الـيهود إذا خـلو بهم: إنا معكم. فنهى الله عن موادّتهم ومـحالفتهم, والتـمسك بحلفهم والاعتداء بهم أولـياء, وأعلـمهم أنهم لا يألونهم خبـالاً, وفـي دينهم طعنا وعلـيه إزراء. وأما الكفـار الذين ذكرهم الله تعالـى ذكره فـي قوله: مِنَ الّذِينَ أُوتُوا الكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ والكُفّـارَ أوْلِـياءَ فإنهم الـمشركون من عبدة الأوثان نهى الله الـمؤمنـين أن يتـخذوا من أهل الكتاب ومن عبدة الأوثان وسائر أهل الكفر أولـياء دون الـمؤمنـين.
وكان ابن مسعود فـيـما:
9607ـ حدثنـي به أحمد بن يوسف, قال: حدثنا القاسم بن سلام, قال: حدثنا حجاج, عن هارون, عن ابن مسعود, يقرأ: «مِنَ الّذِينَ أُتُوا الكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الّذِين أشْرَكُوا».
ففـي هذا بـيان صحة التأويـل الذي تأوّلناه فـي ذلك.
واختلفت القرّاء فـي قراءة ذلك, فقرأته جماعة من أهل الـحجاز والبصرة والكوفة: «والكُفّـارِ أوْلِـياءَ» بخفض «الكفـار», بـمعنى: يا أيها الذين آمنوا لا تتـخذوا الذين اتـخذوا دينكم هزوا ولعبـا من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم, ومن الكفـار أولـياء. وكذلك ذلك فـي قراءة أبـيّ بن كعب فـيـما بلغنا: «من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ومن الكفـارِ أولـياء». وقرأ ذلك عامة قرّاء أهل الـمدينة والكوفة: والكُفّـارَ أوْلِـياءَ بـالنصب, بـمعنى: يا أيها الذين آمنوا لا تتـخذوا الذين اتـخذوا دينكم هزوا ولعبـا والكفـارَ, عطفـا بـالكفـار علـى الذين اتـخذوا.
والصواب من القول فـي ذلك أن يقال: إنهما قراءتان متفقتا الـمعنى صحيحتا الـمخرَج, قد قرأ بكل واحدة منهما علـماء من القرّاء, فبأيّ ذلك قرأ القارىء فقد أصاب لأن النهي عن اتـخاذ ولـيّ من الكفـار نهي عن اتـخاذ جميعهم أولـياء, والنهي عن اتـخاذ جميعهم أولـياء نهي عن اتـخاذ بعضهم ولـيا. وذلك أنه غير مشكل علـى أحد من أهل الإسلام أن الله تعالـى ذكره إذا حرّم اتـخاذ ولـيّ من الـمشركين علـى الـمؤمنـين, أنه لـم يبح لهم اتـخاذ جميعهم أولـياء, ولا إذا حرم اتـخاذ جميعهم أولـياء أنه لـم يخصص إبـاحة اتـخاذ بعضهم ولـيا, فـيجب من أجل إشكال ذلك علـيهم طلب الدلـيـل علـى أولـى القراءتـين فـي ذلك بـالصواب. وإذ كان ذلك كذلك, فسواء قرأ القارىء بـالـخفض أو بـالنصب لـما ذكرنا من العلة.
وأما قوله: وَاتّقُوا اللّهَ إنْ كُنْتُـمْ مُؤْمِنِـينَ فإنه يعنـي: وخافوا الله أيها الـمؤمنون فـي هؤلاء الذين اتـخذوا دينكم هزوا ولعبـا من الذين أوتوا الكتاب ومن الكفـار أن تتـخذوهم أولـياء ونصراء, وارهبوا عقوبته فـي فعل ذلك إن فعلتـموه بعد تقدّمه إلـيكم بـالنهي عنه إن كنتـم تؤمنون بـالله وتصدّقونه علـى وعيده علـى معصيته.
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصّلاَةِ اتّخَذُوهَا هُزُواً وَلَعِباً ذَلِكَ بِأَنّهُمْ قَوْمٌ لاّ يَعْقِلُونَ }..
يقول تعالـى ذكره: وإذا أذّن مؤذّنكم أيها الـمؤمنون بـالصلاة, سخر من دعوتكم إلـيها هؤلاء الكفـار من الـيهود والنصارى والـمشركين, ولعبوا من ذلك, ذَلِكَ بأنّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ يعنـي تعالـى ذكره بقوله: «ذلك» فعلهم الذي يفعلونه, وهو هزؤهم ولعبهم من الدعاء إلـى الصلاة, إنـما يفعلونه بجهلهم بربهم, وأنهم لا يعقلون ما لهم فـي إجابتهم إن أجابوا إلـى الصلاة وما علـيهم فـي استهزائهم ولعبهم بـالدعوة إلـيها, ولو عقلوا ما لـمن فعل ذلك منهم عند الله من العقاب ما فعلوه. وقد ذكر عن السديّ فـي تأويـله ما:
9608ـ حدثنـي مـحمد بن الـحسين, قال: حدثنا أحمد بن الـمفضل, قال: حدثنا أسبـاط, عن السديّ: وَإذَا نادَيْتُـمْ إلـى الصّلاةِ اتّـخَذُوها هُزُوا ولَعِبـا كان رجل من النصارى بـالـمدينة إذا سمع الـمنادي ينادي: أشهد أن مـحمدا رسول الله, قال: حُرّق الكاذب فدخـلت خادمه ذات لـيـلة من اللـيالـي بنار وهو نائم وأهله نـيام, فسقطت شرارة, فأحرقت البـيت, فـاحترق هو وأهله.
الآية : 59
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {قُلْ يَـَأَهْلَ الْكِتَابِ هَلْ تَنقِمُونَ مِنّآ إِلاّ أَنْ آمَنّا بِاللّهِ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَآ أُنزِلَ مِن قَبْلُ وَأَنّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ }..
يقول تعالـى ذكره لنبـيه صلى الله عليه وسلم: قل يا مـحمد لأهل الكتاب من الـيهود والنصارى: يا أهل الكتاب, هل تكرهون منا أو تـجدون علـينا حتـى تستهزءوا بديننا إذا أنتـم إذا نادينا إلـى الصلاة اتـخذتـم نداءنا ذلك هزوا ولعبـا, إلاّ أنْ آمَنّا بـالله يقول: إلاّ أن صدقنا وأقررنا بـالله فوحّدناه, وبـما أنزل إلـينا من عند الله من الكتاب, وما أنزل إلـى أنبـياء الله من الكتب من قبل كتابنا. وأنّ أكْثَرَكُمْ فـاسِقُونَ يقول: إلاّ أن أكثركم مخالفون أمر الله, خارجون عن طاعته, تكذبون علـيه. والعرب تقول: نَقَمْتُ علـيك كذا أنْقِمُ وبه قرأ القرّاء من أهل الـحجاز والعراق وغيرهم ونَقِمْتُ أنقَم لغتان, ولا نعلـم قارئا قرأ بها بـمعنى وجدت وكرهت, ومنه قول عبد الله بن قـيس الرقـيات:
ما نَقِمُوا مِنْ بَنِـي أُمَيّةَ إلاّأنّهُمْ يَحْلُـمُونَ إنْ غَضِبُوا
وقد ذكر أن هذه الاَية نزلت بسبب قوم من الـيهود. ذكر من قال ذلك:
9609ـ حدثنا هناد بن السريّ, قال: حدثنا يونس بن بكير, قال: حدثنا مـحمد بن إسحاق, قال: ثنـي مـحمد بن أبـي مـحمد, مولـى زيد بن ثابت, قال: ثنـي سعيد بن جبـير أو عكرمة, عن ابن عبـاس, قال: أتـى رسول الله صلى الله عليه وسلم نفرٌ من الـيهود فـيهم أبو ياسر بن أخطب, ورافع بن أبـي رافع, وعازَر, وزيد وخالد, وأزار بن أبـي أزار, وأشيع, فسألوه عمن يؤمن به من الرسل؟ قال: «أُوْمِنُ بـاللّهِ وَما أُنْزِلَ إلَـيْنا, وَما أُنْزِلَ إلـى إبْرَاهِيـمَ وإسْماعِيـلَ وإسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأسْبـاطِ, وَما أُوتِـيَ مُوسَى وَعِيسَى, وَما أُوتِـيَ النّبِـيّونَ مِنْ رَبّهِمْ, لا نُفَرّق بـينَ أحَدٍ مِنْهُمْ ونَـحْنُ لَهُ مُسْلِـمُونَ». فلـما ذكر عيسى جحدوا نبوّته وقالوا: لا نؤمن بـمن آمن به فأنزل الله فـيهم: قُلْ يا أهْلَ الكِتابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنّا إلاّ أنْ آمَنّا بـاللّهِ وَما أُنْزِلَ إلَـيْنا وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ وأنّ أكْثَرَكُمْ فـاسِقُونَ.
عطفـا بها علـى «أنْ» التـي فـي قوله: إلاّ أنْ آمَنّا بـاللّهِ لأن معنى الكلام: هل تنقمون منا إلاّ إيـماننا بـالله وفسقكم.
الآية : 60
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {قُلْ هَلْ أُنَبّئُكُمْ بِشَرّ مّن ذَلِكَ مَثُوبَةً عِندَ اللّهِ مَن لّعَنَهُ اللّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطّاغُوتَ أُوْلَـَئِكَ شَرّ مّكَاناً وَأَضَلّ عَن سَوَآءِ السّبِيلِ }..
يقول تعالـى ذكره لنبـيه مـحمد صلى الله عليه وسلم: قل يا مـحمد لهؤلاء الذين اتـخذوا دينكم هزوا ولعبـا من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم والكفـار: هل أنبئكم يا معشر أهل الكتاب بشرّ من ثواب ما تنقمون منا من إيـماننا بـالله, وما أنزل إلـينا من كتاب الله, وما أنزل من قبلنا من كتبه؟ غير أن العين لـما سكنت, نقلت حركتها إلـى الفـاء, وهي الثاء من «مثوبة», فخرجت مخرج مقولة, ومـحورة, ومضوفة, كما قال الشاعر:
وكُنْتُ إذَا جارِي دَعا لِـمَضُوفَةٍأُشَمّرُ حتـى يَنْصُفَ السّاقَ مِئْزَرِي
وبنـحو ما قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل: ذكر من قال ذلك:
9610ـ حدثنا مـحمد بن الـحسين, قال: حدثنا أحمد بن مفضل, قال: حدثنا أسبـاط, عن السديّ: قُلْ هَلْ أُنَبّئُكُمْ بِشَرَ مِنْ ذَلِكَ مَتُوبَةً عِنْدَ اللّهِ يقول: ثوابـا عند الله.
9611ـ حدثنـي يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد فـي قوله: هَلْ أُنَبّئُكُمْ بَشَرَ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللّهِ قال: الـمثوبة: الثواب, مثوبة, مثوبة الـخير ومثوبة الشرّ, وقرأ: «شَرّ ثَوَابـا».
وأما «مَن» فـي قوله: مَنْ لَعَنَهُ اللّهُ فإنه فـي موضع خفض ردّا علـى قوله: بِشَرّ مِنْ ذَلِكَ .
فكأن تأويـل الكلام إذ كان ذلك كذلك: قل هل أنبئكم بشرّ من ذلك مثوبة عند الله بـمن لعنه الله. ولو قـيـل هو فـي موضع رفع لكان صوابـا علـى الاستئناف, بـمعنى: ذلك من لعنه الله, أو هو من لعنه الله. ولو قـيـل هو فـي موضع نصب لـم يكن فـاسدا, بـمعنى: قل هل أنبئكم من لعنه الله, فـيجعل «أنبئكم» علـى ما فـي من واقعا علـيه. وأما معنى قوله: مَنْ لَعَنَهُ اللّهُ فإنه يعنـي: من أبعده الله وأسحقه من رحمته وغضب علـيه. وَجَعَلَ مِنْهُمُ القِرَدَةَ والـخَنازِيرَ يقول: وغضب علـيه, وجعل منهم الـمسوخ القردة والـخنازير, غضبـا منه علـيهم وسخطا, فعجّل لهم الـخزي والنكال فـي الدنـيا. وأما سبب مسخ الله من مسخ منهم قردة فقد ذكرنا بعضه فـيـما مضى من كتابنا هذا, وسنذكر بقـيته إن شاء الله فـي مكان غير هذا.
وأما سبب مسخ الله من مُسِخ منهم خنازير, فإنه كان فـيـما:
9612ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا سلـمة بن الفضل, عن ابن إسحاق, عن عمرو بن كثـير بن أفلـح مولـى أبـي أيوب الأنصاري, قال: حدثت أن الـمسخ فـي بنـي إسرائيـل من الـخنازير كان أن امرأة من بنـي إسرائيـل كانت فـي قرية من قرى بنـي إسرائيـل, وكان فـيها ملك بنـي إسرائيـل, وكانوا قد استـجمعوا علـى الهلكة, إلاّ أن تلك الـمرأة كانت علـى بقـية من الإسلام متـمسكة به, فجعلت تدعو إلـى الله حتـى إذا اجتـمع إلـيها ناس فتابعوها علـى أمرها, قالت لهم: إنه لا بدّ لكم من أن تـجاهدوا عن دين الله وأن تنادوا قومكم بذلك, فـاخرجوا فإنـي خارجة فخرجت وخرج إلـيها ذلك الـملك فـي الناس, فقتل أصحابها جميعا, وانفلتت من بـينهم. قال: ودعت إلـى الله حتـى تـجمّع الناس إلـيها, حتـى إذا رضيت منهم أمرتهم بـالـخروج, فخرجوا وخرجت معهم, وأصيبوا جميعا وانفلتت من بـينهم. ثم دعت إلـى الله, حتـى إذا اجتـمع إلـيها رجال استـجابوا لها, أمرتهم بـالـخروح, فخرجوا وخرجت, فأصيبوا جميعا, وانفلتت من بـينهم. فرجعت وقد أيست, وهي تقول: سبحان الله لو كان لهذا الدين ولـيّ وناصر لقد أظهره بعد قال: فبـاتت مـحزونة, وأصبح أهل القرية يسعون فـي نواحيها خنازير وقد مسخهم الله فـي لـيـلتهم تلك, فقالت حين أصبحت ورأت ما رأت: الـيوم أعلـم أن الله قد أعزّ دينه وأمر دينه قال: فما كان مسخ الـخنازير فـي بنـي إسرائيـل إلاّ علـى يدي تلك الـمرأة.
9613ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد فـي قوله: وَجَعَلَ مِنْهُمُ القِرَدَةَ وَالـخَنازِيرَ قال: مسخت من يهود.
حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا أبو حذيفة, قال: حدثنا شبل, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد, مثله.
وللـمسخ سبب فـيـما ذكر غير الذي ذكرناه سنذكره فـي موضعه إن شاء الله.
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: وَعَبَدَ الطّاغُوتَ أُولَئِكَ شَرّ مَكانا وأضَلّ عَنْ سَوَاءِ السّبِـيـلِ.
اختلفت القرّاء فـي قراءة ذلك, فقرأته قرّاء الـحجاز والشام والبصرة وبعض الكوفـيـين: وَعَبَدَ الطّاغُوتَ بـمعنى: وجعل منهم القردة والـخنازير ومن عبد الطاغوت, بـمعنى: عابد, فجعل «عبد» فعلاً ماضيا من صلة الـمضمر, ونصب «الطاغوت» بوقوع عبد علـيه. وقرأ ذلك جماعة من الكوفـيـين: «وَعَبُدَ ماضيا من صلة الـمضمر, ونصب «الطاغوت» بوقوع عبد علـيه. وقرأ ذلك جماعة من الكوفـيـين: «وَعَبُدَ الطاغوتِ» بفتـح العين من عبد وضمّ بـائها وخفض «الطاغوت» بإضافة «عبد» إلـيه, وعنوا بذلك: وخدم الطاغوت.
9614ـ حدثنـي بذلك الـمثنى, قال: حدثنا إسحاق, قال: حدثنا عبد الرحمن بن أبـي حماد, قال: ثنـي حمزة, عن الأعمش, عن يحيى بن وثاب أنه قرأ: «وَعَبُدَ الطّاغُوتِ» يقول: خدم. قال عبد الرحمن: وكان حمزة كذلك يقرؤها.
9615ـ حدثنـي ابن وكيع وابن حميد, قالا: حدثنا جرير, عن الأعمش أنه كان يقرؤها كذلك.
وكان الفرّاء يقول: إن يكن فـيه لغة مثل حذِرٍ وحذُر, وعجِلٍ وعجُلٍ, فهو وجه والله أعلـم. وإلا فإن أراد قول الشاعر:
أبَنِـي لُبَـيْنَـي إنّ أُمّكُمُأمَةٌ وإنّ أبـاكُمُ عَبُدُ
فإن هذا من ضرورة الشعر. وهذا يجوز فـي الشعر لضرورة القوافـي, وأما فـي القراءة فلا. وقرأ ذلك آخرون وَعُبُدَ الطّاغُوتِ ذكر ذلك عن الأعمش, وكأن من قرأ ذلك كذلك أراد جمع الـجمع من العبد, كأنه جمع العبد عبـيدا, ثم جمع العبـيد عُبُدا, مثل ثمار وثُمُر. وذكر عن أبـي جعفر القارىء أنه يقرؤه: وَعُبِدَ الطّاغُوتُ.
9616ـ حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا إسحاق, قال: حدثنا عبد الرحمن, قال: كان أبو جعفر النـحوي يقرؤها: وعُبِدَ الطّاغُوتُ كما يقول: ضُرِبَ عبد الله.
قال أبو جعفر: وهذه قراءة لا معنى لها, لأن الله تعالـى إنـما ابتدأ الـخبر بذمّ أقوام, فكان فـيـما ذمهم به عبـادتهم الطاغوت. وأما الـخبر عن أن الطاغوت قد عُبِد, فلـيس من نوع الـخبر الذي ابتدأ به الاَية, ولا من جنس ما ختـمها به, فـيكون له وجه يوجه إلـيه من الصحة. وذكر أن بريدة الأسلـمي كان يقرؤه: «وعابِدَ الطاغوتِ».
9617ـ حدثنـي بذلك الـمثنى, قال: حدثنا إسحاق, قال: حدثنا عبد الرحمن, قال: حدثنا شيخ بصري: أن بريدة كان يقرؤه كذلك.
ولو قرىء ذلك: «وعَبَدَ الطاغوتِ», بـالكسر كان له مخرج فـي العربـية صحيح, وإن لـم أستـجز الـيوم القراءة بها, إذ كانت قراءة الـحجة من القرّاء بخلافها ووجه جوازها فـي العربـية أن يكون مرادا بها وعَبَدة الطاغوت, ثم حذفت الهاء من العبدة للإضافة, كما قال الراجز:
(قامَ وُلاها فَسَقوْهخ صَرْخَدَا )
يريد: قام ولاتها, فحذف التاء من ولاتها للإضافة.
وأما قراءة القرّاء فبأحد الوجهين اللذين بدأت بذكرهما, وهو: «وَعَبدَ الطّاغُوتَ» بنصب الطاغوت وإعمال «عَبَدَ» فـيه, وتوجيه «عبد» إلـى أنه فعل ماض من العبـادة. والاَخر: «عَبُدَ الطّاغُوتِ» علـى مثال فَعُل, وخفض «الطاغوت» بإضافة «عبُد» إلـيه. فإذا كانت قراءة القرّاء بأحد هذين الوجهين دون غيرهما من الأوجه التـي هي أصحّ مخرجا فـي العربـية منهما, فأولاهما بـالصواب من القراءة قراءة من قرأ ذلك: وعَبَدَ الطّاغُوتَ بـمعنى: وجعل منهم القردة والـخنازير, ومن عبد الطاغوت لأنه ذكر أن ذلك فـي قراءة أبـيّ بن كعب وابن مسعود: «وَجَعَلَ مِنْهُمْ القِردَةَ والـخنازيرَ وَعَبَدُ والطّاغُوتَ» بـمعنى: والذين عبدوا الطاغوت. ففـي ذلك دلـيـل واضح علـى صحة الـمعنى الذي ذكرنا من أنه مراد به: ومن عبد الطاغوت, وأن النصب بـالطاغوت أولـى علـى ما وصفت فـي القراءة لإعمال «عبد» فـيه, إذ كان الوجه الاَخر غير مستفـيض فـي العرب ولا معروف فـي كلامها علـى أن أهل العربـية يستنكرون إعمال شيء فـي «مَنْ» و«الذي الـمضمرين مع «مِنْ» و«فـي» إذا كفت «مِنْ» أو «فـي» منهما, ويستقبحونه, حتـى كان بعضهم يحيـل ذلك ولا يجيزه. وكان الذي يحيـل ذلك يقرؤه: «وعَبُدَ الطاغوتِ», فهو علـى قوله خطأ ولـحن غير جائز. وكان آخرون منهم يستـجيزونه علـى قبح, فـالواجب علـى قولهم أن تكون القراءة بذلك قبـيحة وهم مع استقبـاحهم ذلك فـي الكلام قد اختاروا القراءة بها, وإعمال وجعل فـي «مَنْ» وهي مـحذوفة مع «مِن» ولو كنا نستـجيز مخالفة الـجماعة فـي شيء مـما جاءت به مـجمعة علـيه, لاخترنا القراءة بغير هاتـين القراءتـين, غير أن ما جاء به الـمسلـمون مستفـيضا, فهم لا يتناكرونه, فلا نستـجيز الـخروج منه إلـى غيره فلذلك لـم نستـجز القراءة بخلاف إحدى القراءتـين اللتـين ذكرنا أنهم لـم يعدوهما.
وإذ كانت القراءة عندنا ما ذكرنا, فتأويـل الاَية: قل هل أنبئكم بشرّ من ذلك مثوبة عند الله: من لعنه, وغضب علـيه, وجعل منهم القردة والـخنازير, ومن عبد الطاغوت. وقد بـينا معنى الطاغوت فـيـما مضى بشواهده من الروايات وغيرها, فأغنى ذلك عن إعادته ههنا.
وأما قوله: أُولَئِكَ شَر مَكانا وأضَلّ عَنْ سَوَاءِ السّبِـيـلِ فإه يعنـي بقوله: «أولئك»: هؤلاء الذين ذكرهم تعالـى ذكره, وهم الذين وصف صفتهم, فقال: من لعنه الله, وغضب علـيه, وجعل منهم القردة والـخنازير, وعبد الطاغوت وكل ذلك صفتهم, فقال: من لعنه الله, وغضب علـيه, وجعل منهم القردة والـخنازير, وعبد الطاغوت وكل ذلك من صفة الـيهود من بنـي إسرائيـل. يقول تعالـى ذكره: هؤلاء الذين هذه صفتهم شرّ مكانا فـي عاجل الدنـيا والاَخرة عند الله مـمن نقمتـم علـيهم يا معشر الـيهود إيـمانهم بـالله وبـما أنزل إلـيهم من عند الله من الكتاب وبـما أنزل إلـى من قبلهم من الأنبـياء, وأَضَلّ عَنْ سَوَاء السّبِـيـل يقول تعالـى ذكره: وأنتـم مع ذلك أيها الـيهود, أشدّ أخذا علـى غير الطريق القويـم, وأجور عن سبـيـل الرشد والقصد منهم. وهذا من لَـحْنِ الكلام, وذلك أن الله تعالـى ذكره إنـما قصد بهذا الـخبر إخبـار الـيهود الذين وصف صفتهم فـي الاَيات قبل هذه بقبـيح فعالهم وذميـم أخلاقهم واستـيجابهم سخطه بكثرة ذنوبهم ومعاصيهم, حتـى مُسِخ بعضهم قردة وبعضهم خنازير, خطابـا منه لهم بذلك تعريضا بـالـجميـل من الـخطاب, ولَـحَنَ لهم بـما عرفوا معناه من الكلام بأحسن اللّـحن, وعلّـم نبـيه صلى الله عليه وسلم من الأدب أحسنه, فقال له: قل لهم يا مـحمد, أهؤلاء الـمؤمنون بـالله وبكتبه الذين تستهزءون منهم شرّ أم من لعنه الله؟ وهو يعنـي الـمقول ذلك لهم.
الآية : 61
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَإِذَا جَآءُوكُمْ قَالُوَاْ آمَنّا وَقَدْ دّخَلُواْ بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُواْ بِهِ وَاللّهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُواْ يَكْتُمُونَ }..
يقول تعالـى ذكره: وإذا جاءكم أيها الـمؤمنون هؤلاء الـمنافقون من الـيهود, قالوا لكم: «آمنا»: أي صدّقنا بـما جاء به نبـيكم مـحمد صلى الله عليه وسلم, واتبعناه علـى دينه, وهم مقـيـمون علـى كفرهم وضلالتهم, قد دخـلوا علـيكم بكفرهم الذي يعتقدونه بقلوبهم ويضمرونه فـي صدورهم, وهم يبدون كذبـا التصديق لكم بألسنتهم. وقَدْ خَرَجُوا به يقول: وقد خرجوا بـالكفر من عندكم كما دخـلوا به علـيكم لـم يرجعوا بـمـجيئهم إلـيكم عن كفرهم وضلالتهم, يظنون أن ذلك من فعلهم يخفـي علـى الله جهلاً منهم بـالله. وَاللّهُ أعْلَـمُ بِـمَا كانُوا يَكْتُـمُونَ يقول: والله أعلـم بـما كانوا عند قولهم لكم بألسنتهم: آمنا بـالله وبـمـحمد وصدّقنا بـما جاءبه, يكتـمون منهم بـما يضمرونه من الكفر بأنفسهم.
وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:
9618ـ حدثنا بشر بن معاذ, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, قوله: وَإذَا جاءَكَمْ قالُوا آمَنّا... الاَية: أنا من الـيهود كانوا يدخـلون علـى النبـيّ صلى الله عليه وسلم, فـيخبرونه أنهم مؤمنون راضون بـالذي جاء به, وهم متـمسكون بضلالتهم والكفر, وكانوا يدخـلون بذلك ويخرجون به من عند نبـيّ الله صلى الله عليه وسلم.
9619ـ حدثنـي مـحمد بن الـحسين, قال: حدثنا أحمد بن مفضل, قال: حدثنا أسبـاط, عن السديّ: وَإذَا جاءُكمْ قالُوا آمَنّا, وَقَدْ دَخَـلُوا بـالكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ قال: هؤلاء ناس من الـمنافقـين كانوا يهود. يقول: دخـلوا كفـارا وخرجوا كفـارا.
9620ـ حدثنـي مـحمد بن سعد, قال: ثنـي أبـي, قال: ثنـي عمي, قال: ثنـي أبـي, عن أبـيه, عن ابن عبـاس قوله: وَإذَا جاءُكُمْ قالُوا آمَنّا وَقَدْ دَخَـلُوا بـالكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ وإنهم دخـلوا وهم يتكلـمون بـالـحقّ وتُسِرّ قلوبهم الكفر, فقال: دخـلوا بـالكفر وهم قد خرجوا به.
9621ـ حدثنـي يونس بن عبد الأعلـى, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد فـي قوله: وَإذَا جاءُكمْ قالُوا آمَنّا وَقَدْ دَخَـلُوا بـالكُفْرِ وَهُمْ خَرَجُوا بِهِ وَقالَتْ طائِفَةٌ مِنْ أهْلِ الكِتابِ آمِنُوا بـالّذِي أُنْزِلَ علـى الّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النّارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلّهُمْ يَرْجِعُونَ فإذا رجعوا إلـى كفـارهم من أهل الكتاب وشياطينهم, رجعوا بكفرهم. وهؤلاء أهل الكتاب من يهود.
9622ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج, عن ابن جريج, عن عبد الله بن كثـير: وَقَدْ دَخَـلُوا بـالكُفْرِ وَهُمْ قَدح خَرَجُوا بِهِ: أي إنه من عندهم.
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَتَرَىَ كَثِيراً مّنْهُمْ يُسَارِعُونَ فِي الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَأَكْلِهِمُ السّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ }..
يقول تعالـى ذكره لنبـيه مـحمد صلى الله عليه وسلم: وترى يا مـحمد كثـيرا من هؤلاء الـيهود الذين قصصت علـيك نبأهم من بنـي إسرائيـل يُسَارِعُونَ فِـي الإثْمِ والعُدْوَانِ يقول: يعجلون بـمواقعة الإثم. وقـيـل: إن الإثم فـي هذا الـموضع معنىّ به الكفر.
9623ـ حدثنـي مـحمد بن الـحسين, قال: حدثنا أحمد بن مفضل, قال: حدثنا أسبـاط, عن السديّ فـي قوله: وَتَرَى كَثِـيرا مِنْهُمْ يُسارِعُونَ فِـي الإثْمِ وَالعُدوَانِ قال: الإثم: الكفر.
9624ـ حدثنا بشر بن معاذ, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, قوله: وَتَرى كَثِـيرا مِنْهُمْ يُسارِعُونَ فِـي الإثْمِ وَالعُدْوَانِ وكان هذا فـي حُكّام الـيهود بـين أيديكم.
9625ـ حدثنـي يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد فـي قوله: يُسارِعُونَ فِـي الإثْمِ والعُدْوَانِ قال: هؤلاء الـيهود لَبِئْسَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ لَوْلا يَنْهاهُمْ الرّبّـانِـيّونَ... إلـى قوله: لَبِئْسَ ما كانُوا يَصْنَعُونَ قال: يصنعون ويعملون واحد. قال: لهؤلاء حين لـم يُنْهُوا, كما قال لهؤلاء حين عملوا.
قال: وهذا القول الذي ذكرناه عن السديّ وإن كان قولاً غير مدفوع جواز صحته, فإن الذي هو أولـى بتأويـل الكلام أن يكون القوم موصوفـين بأنهم يسارعون فـي جميع معاصي الله لا يتـحاشَوْن من شيء منها لا من كفر ولا من غيره لأن الله تعالـى ذكره عمّ فـي وصفهم بـما وصفهم به من أنهم يسارعون فـي الإثم والعدوان من غير أن يخصّ بذلك إثما دون إثم. وأما العدوان, فإنه مـجاوزة الـحدّ الذي حدّه الله لهم فـي كلّ ما حدّه لهم. وتأويـل ذلك أن هؤلاء الـيهود الذين وصفهم فـي هذه الاَيات بـما وصفهم به تعالـى ذكره, يسارع كثـير منهم فـي معاصي الله وخلاف أمره, ويتعدّون حدوده التـي حدّ لهم فـيـما أحلّ لهم وحرّم علـيهم فـي أكلهم السّحْت, وذلك الرشوة التـي يأخذونها من الناس علـى الـحكم بخلاف حكم الله فـيهم. يقول الله تعالـى ذكره: لَبِئْسَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ يقول: أقسم لبئس العمل ما كان هؤلاء الـيهود يعملون فـي مسارعتهم فـي الإثم والعدوان وأكلهم السحت.
الآية : 62
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَإِذَا جَآءُوكُمْ قَالُوَاْ آمَنّا وَقَدْ دّخَلُواْ بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُواْ بِهِ وَاللّهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُواْ يَكْتُمُونَ }..
يقول تعالـى ذكره: وإذا جاءكم أيها الـمؤمنون هؤلاء الـمنافقون من الـيهود, قالوا لكم: «آمنا»: أي صدّقنا بـما جاء به نبـيكم مـحمد صلى الله عليه وسلم, واتبعناه علـى دينه, وهم مقـيـمون علـى كفرهم وضلالتهم, قد دخـلوا علـيكم بكفرهم الذي يعتقدونه بقلوبهم ويضمرونه فـي صدورهم, وهم يبدون كذبـا التصديق لكم بألسنتهم. وقَدْ خَرَجُوا به يقول: وقد خرجوا بـالكفر من عندكم كما دخـلوا به علـيكم لـم يرجعوا بـمـجيئهم إلـيكم عن كفرهم وضلالتهم, يظنون أن ذلك من فعلهم يخفـي علـى الله جهلاً منهم بـالله. وَاللّهُ أعْلَـمُ بِـمَا كانُوا يَكْتُـمُونَ يقول: والله أعلـم بـما كانوا عند قولهم لكم بألسنتهم: آمنا بـالله وبـمـحمد وصدّقنا بـما جاءبه, يكتـمون منهم بـما يضمرونه من الكفر بأنفسهم.
وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:
9618ـ حدثنا بشر بن معاذ, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, قوله: وَإذَا جاءَكَمْ قالُوا آمَنّا... الاَية: أنا من الـيهود كانوا يدخـلون علـى النبـيّ صلى الله عليه وسلم, فـيخبرونه أنهم مؤمنون راضون بـالذي جاء به, وهم متـمسكون بضلالتهم والكفر, وكانوا يدخـلون بذلك ويخرجون به من عند نبـيّ الله صلى الله عليه وسلم.
9619ـ حدثنـي مـحمد بن الـحسين, قال: حدثنا أحمد بن مفضل, قال: حدثنا أسبـاط, عن السديّ: وَإذَا جاءُكمْ قالُوا آمَنّا, وَقَدْ دَخَـلُوا بـالكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ قال: هؤلاء ناس من الـمنافقـين كانوا يهود. يقول: دخـلوا كفـارا وخرجوا كفـارا.
9620ـ حدثنـي مـحمد بن سعد, قال: ثنـي أبـي, قال: ثنـي عمي, قال: ثنـي أبـي, عن أبـيه, عن ابن عبـاس قوله: وَإذَا جاءُكُمْ قالُوا آمَنّا وَقَدْ دَخَـلُوا بـالكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ وإنهم دخـلوا وهم يتكلـمون بـالـحقّ وتُسِرّ قلوبهم الكفر, فقال: دخـلوا بـالكفر وهم قد خرجوا به.
9621ـ حدثنـي يونس بن عبد الأعلـى, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد فـي قوله: وَإذَا جاءُكمْ قالُوا آمَنّا وَقَدْ دَخَـلُوا بـالكُفْرِ وَهُمْ خَرَجُوا بِهِ وَقالَتْ طائِفَةٌ مِنْ أهْلِ الكِتابِ آمِنُوا بـالّذِي أُنْزِلَ علـى الّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النّارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلّهُمْ يَرْجِعُونَ فإذا رجعوا إلـى كفـارهم من أهل الكتاب وشياطينهم, رجعوا بكفرهم. وهؤلاء أهل الكتاب من يهود.
9622ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج, عن ابن جريج, عن عبد الله بن كثـير: وَقَدْ دَخَـلُوا بـالكُفْرِ وَهُمْ قَدح خَرَجُوا بِهِ: أي إنه من عندهم.
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَتَرَىَ كَثِيراً مّنْهُمْ يُسَارِعُونَ فِي الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَأَكْلِهِمُ السّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ }..
يقول تعالـى ذكره لنبـيه مـحمد صلى الله عليه وسلم: وترى يا مـحمد كثـيرا من هؤلاء الـيهود الذين قصصت علـيك نبأهم من بنـي إسرائيـل يُسَارِعُونَ فِـي الإثْمِ والعُدْوَانِ يقول: يعجلون بـمواقعة الإثم. وقـيـل: إن الإثم فـي هذا الـموضع معنىّ به الكفر.
9623ـ حدثنـي مـحمد بن الـحسين, قال: حدثنا أحمد بن مفضل, قال: حدثنا أسبـاط, عن السديّ فـي قوله: وَتَرَى كَثِـيرا مِنْهُمْ يُسارِعُونَ فِـي الإثْمِ وَالعُدوَانِ قال: الإثم: الكفر.
9624ـ حدثنا بشر بن معاذ, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, قوله: وَتَرى كَثِـيرا مِنْهُمْ يُسارِعُونَ فِـي الإثْمِ وَالعُدْوَانِ وكان هذا فـي حُكّام الـيهود بـين أيديكم.
9625ـ حدثنـي يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد فـي قوله: يُسارِعُونَ فِـي الإثْمِ والعُدْوَانِ قال: هؤلاء الـيهود لَبِئْسَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ لَوْلا يَنْهاهُمْ الرّبّـانِـيّونَ... إلـى قوله: لَبِئْسَ ما كانُوا يَصْنَعُونَ قال: يصنعون ويعملون واحد. قال: لهؤلاء حين لـم يُنْهُوا, كما قال لهؤلاء حين عملوا.
قال: وهذا القول الذي ذكرناه عن السديّ وإن كان قولاً غير مدفوع جواز صحته, فإن الذي هو أولـى بتأويـل الكلام أن يكون القوم موصوفـين بأنهم يسارعون فـي جميع معاصي الله لا يتـحاشَوْن من شيء منها لا من كفر ولا من غيره لأن الله تعالـى ذكره عمّ فـي وصفهم بـما وصفهم به من أنهم يسارعون فـي الإثم والعدوان من غير أن يخصّ بذلك إثما دون إثم. وأما العدوان, فإنه مـجاوزة الـحدّ الذي حدّه الله لهم فـي كلّ ما حدّه لهم. وتأويـل ذلك أن هؤلاء الـيهود الذين وصفهم فـي هذه الاَيات بـما وصفهم به تعالـى ذكره, يسارع كثـير منهم فـي معاصي الله وخلاف أمره, ويتعدّون حدوده التـي حدّ لهم فـيـما أحلّ لهم وحرّم علـيهم فـي أكلهم السّحْت, وذلك الرشوة التـي يأخذونها من الناس علـى الـحكم بخلاف حكم الله فـيهم. يقول الله تعالـى ذكره: لَبِئْسَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ يقول: أقسم لبئس العمل ما كان هؤلاء الـيهود يعملون فـي مسارعتهم فـي الإثم والعدوان وأكلهم السحت.
الآية : 63
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {لَوْلاَ يَنْهَاهُمُ الرّبّانِيّونَ وَالأحْبَارُ عَن قَوْلِهِمُ الإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ }..
يقول تعالـى ذكره: هلا ينهى هؤلاء الذين يسارعون فـي الإثم والعدوان وأكل الرشا فـي الـحكم من الـيهود من بنـي إسرائيـل ربـانـيوهم, وهم أئمتهم الـمؤمنون, وساستهم العلـماء بسياستهم وأحبـارهم, وهم علـماؤهم وقوّادهم عَنْ قَوْلِهِمُ الإثْمَ يعنـي: عن قول الكذب والزور وذلك أنهم كانوا يحكمون فـيهم بغير حكم الله, ويكتبون كتبـا بأيديهم ثم يقولون: هذا من حكم الله, وهذا من كتبه. يقول الله: فَوَيْـلٌ لَهُمْ مِـمّا كَتَبَتْ أيْدِيهِمْ وَوَيْـلٌ لَهُمْ مِـمّا يَكْسِبُونَ.
وأما قوله: وأكْلِهِمْ السّحْتُ فإنه يعنـي به الرشوة التـي كانوا يأخذونها علـى حكمهم بغير كتاب الله لـمن حكموا له به. وقد بـينا معنى الربـانـيـين والأحبـار ومعنى السحت بشواهد ذلك فـيـما مضى بـما أغنى عن إعادته فـي هذا الـموضع. لَبِئْسَ ما كانُوا يَصْنَعُونَ وهذا قسم من الله أقسم به, يقول تعالـى ذكره: أقسمُ لبئس الصنـيع كان يصنع هؤلاء الربـانـيون والأحبـار فـي تركهم نهى الذين يسارعون منهم فـي الإثم والعدوان وأكل السحت عما كانوا يفعلون من ذلك. وكان العلـماء يقولون: ما فـي القرآن آية أشدّ توبـيخا للعلـماء من هذه الاَية ولا أخوف علـيهم منها.
9626ـ حدثنا مـحمد بن بشار, قال: حدثنا عبد الله بن داود, قال: حدثنا سلـمة بن نُبَـيط, عن الضحاك بن مزاحم فـي قوله: لَوْلا يَنْهاهُمُ الرّبّـانِـيّونَ والأحْبـارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الإثْمَ قال: ما فـي القرآن آية أخوف عندي منها أنّا لا ننهى.
9627ـ حدثنا أبو كريب, قال: حدثنا ابن عطية, قال: حدثنا قـيس, عن العلاء بن الـمسيب, عن خالد بن دينار, عن ابن عبـاس, قال: ما فـي القرآن آية أشدّ توبـيخا من هذه الاَية: لَوْلا يَنْهاهُمُ الرّبّـانِـيّونَ والأحبْـارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الإثْمَ وأكْلِهِمُ السّحْتَ لَبِئْسَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ قال: كذا قرأ.
وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:
9628ـ حدثنا هناد, قال: حدثنا وكيع, وحدثنا ابن وكيع قال: حدثنا أبـي, عن سلـمة بن نبـيط, عن الضحاك: لَوْلا يَنْهاهُمُ الرّبّـانِـيّونَ والأحْبـارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الإثْمَ وأكْلِهِمُ السّحْتُ لَبِئْسَ ما كانُوا يَصْنَعُونَ.
9629ـ حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا عبد الله بن صالـح, قال: ثنـي معاوية بن صالـح, عن علـيّ بن أبـي طلـحة, عن ابن عبـاس قوله: لَوْلا يَنْاهُمُ الرّبّـانِـيّونَ والأحْبـارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الإثْمَ وأكْلِهِمُ السّحْتَ لَبِئْسَ ما كانُوا يَصْنَعُونَ يعنـي الربـانـيـين أنهم لبئس ما كانوا يصنعون
الآية : 64
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللّهِ مَغْلُولَةٌ غُلّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُواْ بِمَا قَالُواْ بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَآءُ وَلَيَزِيدَنّ كَثِيراً مّنْهُم مّآ أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رّبّكَ طُغْيَاناً وَكُفْراً وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَآءَ إِلَىَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ كُلّمَآ أَوْقَدُواْ نَاراً لّلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأرْضِ فَسَاداً وَاللّهُ لاَ يُحِبّ الْمُفْسِدِينَ }..
وهذا خبر من الله تعالـى ذكره عن جراءة الـيهود علـى ربهم ووصفهم إياه بـما لـيس من صفته, توبـيخا لهم بذلك وتعريفـا منه نبـيه صلى الله عليه وسلم قديـمَ جهلهم واغترارهم به وإنكارهم جميع جميـل أياديه له نبـيّ مبعوث ورسول مرسل أن كانت هذه الأنبـاء التـي أنبأهم بها كانت من خفـيّ علومهم ومكنونها التـي لا يعلـمها إلا أحبـارهم وعلـماؤهم دون غيرهم من الـيهود فضلاً عن الأمة الأمية من العرب الذين لـم يقرءوا كتابـا ولا وَعَوْا من علوم أهل الكتاب علـما فأطلع الله علـى ذلك نبـيه مـحمدا صلى الله عليه وسلم وسلـم لـيقرّر عندهم صدقه ويقطع بذلك حجتهم. يقول تعالـى ذكره: وَقالَتِ الـيَهُودُ من بـين إسرائيـل يَدُ اللّهِ مَغْلُولَةٌ يعنون: أن خير الله مـمسك, وعطاءه مـحبوس عن الاتساع علـيهم, كما قال تعالـى ذكره فـي تأديب نبـيه صلى الله عليه وسلم: وَلا تَـجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إلـى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْها كُلّ البَسْطِ. وإنـما وصف تعالـى ذكره الـيد بذلك, والـمعنى: العطاء, لأن عطاء الناس وبذل معروفهم الغالب بأيديهم, فجرى استعمال الناس فـي وصف بعضهم بعضا إذا وصفوه بجود وكرم أو ببخـل وشحّ وضيق, بإضافة ما كان من ذلك من صفة الـموصوف إلـى يديه, كما قال الأعشى فـي مدح رجل:
يَدَاكَ يَدَا مَـجْدٍ فَكَفّ مُفِـيدَةٌوكَفّ إذا ماضُنّ بـالزّادِ تُنْفِقُ
فأضاف ما كان صفة صاحب الـيد من إنفـاق وإفـادة إلـى الـيد ومثل ذلك من كلام العرب فـي أشعارها وأمثالها أكثر من أن يحصى. فخاطبهم الله بـما يتعارفونه, ويتـحاورونه بـينهم فـي كلامهم, فقال: وَقَالتِ الـيَهُودُ يَدُ اللّهِ مَغْلُولَةٌ يعنـي بذلك أنهم قالوا: إن الله يبخـل علـينا ويـمنعنا فضله فلا يفضل, كالـمغلولة يده الذي لا يقدر أن يبسطها بعطاء ولا بذل معروف. تعالـى الله عما قال أعداء الله فقال الله مكذّبهم ومخبرهم بسخطه علـيهم: غُلّتْ أيْدِيهِمْ يقول: أُمْسكت أيديهم عن الـخيرات, وقُبِضت عن الانبساط بـالعطيات, ولُعِنوا بـما قالوا, وأُبْعِدوا من رحمة الله وفضله بـالذي قالوا من الكفر وافتروا علـى الله ووصفوه به من الكذب, والإفك. بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يقول: بل يداه مبسوطتان بـالبذل والإعطاء وأرزاق عبـاده وأقوات خـلقه, غير مغلولتـين ولا مقبوضتـين. يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ يقول: يعطى هذا ويـمنع هذا فـيقتر علـيه.
وبـمثل الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:
9630ـ حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا عبد الله بن صالـح, قال: ثنـي معاوية بن صالـح, عن علـيّ بن أبـي طلـحة, عن ابن عبـاس, قوله: وَقَالتِ الـيَهُودُ يَدُ اللّهِ مَغْلُولَةٌ غُلّتْ أيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِـمَا قالُوا. قال: لـيس يعنون بذلك أن يد الله موثقة, ولكنهم يقولون: إنه بخيـل أمسك ما عنده. تعالـى الله عما يقولون علوّا كبـيرا
9631ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد فـي قول الله: يَدُ اللّهِ مَغْلُولَةٌ قال: لقد يجهدنا الله يا بنـي إسرائيـل حتـى جعل الله يده إلـى نـحره. وكذبوا
حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا أبو حذيفة, قال: حدثنا شبل, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد: يَدُ اللّهِ مَغْلُولَةٌ قال: الـيهود تقول: لقد يجهدنا الله يا بنـي إسرائيـل ويا أهل الكتاب حتـى إن يده إلـى نـحره. بل يداه مبسوطتان, ينفق كيف يشاء.
9632ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, قوله: وَقَالتِ الـيَهُودُ يَدُ اللّهِ مَغْلُولَةٌ غُلّتْ أيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِـمَا قالُوا... إلـى: واللّهُ لا يُحِبّ الـمُفْسِدِينَ. أما قوله يَدُ اللّهِ مَغْلُولَةٌ قالوا: الله بخيـل غير جواد, قال الله: بلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ.
9633ـ حدثنا مـحمد بن الـحسين, قال: حدثنا أحمد بن مفضل, قال: حدثنا أسبـاط, عن السديّ: وَقَالتِ الـيَهُودُ يَدُ اللّهِ مَغْلُولَةٌ غُلّتْ أيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِـمَا قالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشاءُ قالوا: إن الله وضع يده علـى صدره فلا يبسطها حتـى يردّ علـينا ملكنا.
وأما قوله: يُنْفِقُ كَيْفَ يَشاءُ يقول: يرزق كيف يشاء.
9634ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج, عن ابن جريج, قال: قال عكرمة: وَقَالتِ الـيَهُودُ يَدُ اللّهِ مَغْلُولَةٌ... الاَية, نزلت فـي فنـحاص الـيهوديّ.
9635ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: حدثنا أبو تـميـلة, عن عبـيد بن سلـيـمان, عن الضحاك بن مزاحم, قوله: يَدُ اللّهِ مَغْلُولَةٌ يقولون: إنه بخيـل لـيس بجواد قال الله: غُلّت أيْدِيهِمْ: أمسكت أيديهم عن النفقة والـخير. ثم قال يعنـي نفسه: بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتان يُنْفِقُ كَيْفَ يَشاءُ وقال: لا تـجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةٌ يقول: لا تـمسك يدك عن النفقة.
واختلف أهل الـجدل فـي تأويـل قوله: بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتانِ فقال بعضهم: عُنـي بذلك نعمتاه, وقال: ذلك بـمعنى: يد الله علـى خـلقه, وذلك نعمه علـيهم وقال: إن العرب تقول: لك عندي يد, يعنون بذلك: نعمة.
وقال آخرون منهم: عنى بذلك القوّة, وقالوا: ذلك نظير قول الله تعالـى ذكره: وَاذْكُرْ عِبـادَنا إبْرَاهِيـمَ وإسْحاقَ وَيَعْقُوبَ أُولـى الأيْدِي.
وقال آخرون منهم: بل يده ملكه وقال: معنى قوله: وَقَالتِ الـيَهُودُ يَدُ اللّهِ مَغْلُولَةٌ: ملكه وخزائنه. قالوا: وذلك كقول العرب للـمـملوك: هو ملك يـمينه, وفلان بـيده عقدة نكاح فلانة: أي يـملك ذلك, وكقول الله تعالـى ذكره: فَقَدّمُوا بـينَ يَدَيْ نَـجْوَاكُمْ صَدَقَةً.
وقال آخرون منهم: بل يد الله صفة من صفـاته هي يد, غير أنها لـيست بجارحة كجوارح بنـي آدم. قالوا: وذلك أن الله تعالـى ذكره أخبر عن خصوصية آدم بـما خصه به من خـلقه إياه بـيده. قالوا: ولو كان لـخصوصية آدم بذلك وجه مفهوم, إذ كان جميع خـلقه مخـلوقـين بقدرته ومشيئته فـي خـلقه تعمه وهو لـجميعهم مالك. قالوا: وإذا كان تعالـى ذكره قد خصّ آدم بذكره خـلقه إياه بـيده دون غيره من عبـاده, كان معلوما إنه إنـما خصه بذلك لـمعنى به فـارق غيره من سائر الـخـلق. قالوا: وإذا كان ذلك كذلك, بطل قول من قال: معنى الـيد من الله القوّة والنعمة أو الـملك فـي هذا الـموضع. قالوا: وأحرى أن ذلك لو كان كما قال الزاعمون إن يد الله فـي قوله: وَقَالتِ الـيَهُودُ يَدُ اللّهِ مَغْلُولَةٌ هي نعمته, لقـيـل: بل يده مبسوطة, ولـم يقل: بل يداه, لأن نعمة الله لا تـحصى بكثرة وبذلك جاء التنزيـل, يقول الله تعالـى: وَإنْ تَعُدّوا نِعْمَةَ اللّهِ لا تُـحْصُوها قالوا: ولو كانت نعمتـين كانتا مـحصاتـين.
قالوا: فإن ظنّ ظانّ أن النعمتـين بـمعنى النعم الكثـيرة, فذلك منه خطأ وذلك أن العرب قد تـخرج الـجميع بلفظ الواحد لأداء الواحد عن جميع جنسه, وذلك كقول الله تعالـى ذكره: وَالعَصْرِ إنّ الإنْسانَ لَفِـي خُسْرٍ, وكقوله: لَقَدْ خَـلَقْنا الإنْسانَ, وقوله: وكانَ الكافِرُ علـى رَبّهِ ظَهِيرا. قال: فلـم يُرَدْ بـالإنسان والكافر فـي هذه الأماكن إنسان بعينه, ولا كافر مشار إلـيه حاضر, بل عُنـي به جميع الإنس وجميع الكفـار, ولكن الواحد أدّى عن جنسه كما تقول العرب: ما أكثر الدرهم فـي أيدي الناس, وكذلك قوله: وكانَ الكافِرُ معناه: وكان الذين كفروا. قالوا: فأما إذا ثنـي الاسم, فلا يؤدّي عن الـجنس, ولا يؤدّي إلا عن اثنـين بأعيانهما دون الـجميع ودون غيرهما. قالوا: وخطأ فـي كلام العرب أن يقال: ما أكثر الدرهمين فـي أيدي الناس بـمعنى: ما أكثر الدراهم فـي أيديهم. قالوا: وذلك أن الدرهم إذا ثنـي لا يؤدّي فـي كلامها إلا عن اثنـين بأعيانهما. قالوا: وغير مـحال: ما أكثر الدرهم فـي أيدي الناس وما أكثر الدراهم فـي أيديهم لأن الواحد يؤدّي عن الـجميع. قالوا: ففـي قول الله تعالـى: بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتانِ مع إعلامه عبـاده أن نعمه لا تـحصى, ومع ما وصفنا من أنه غير معقول فـي كلام العرب أن اثنـين يؤدّيان عن الـجميع, ما ينبىء عن خطأ قول من قال: معنى الـيد فـي هذا الـموضع: النعمة, وصحة قول من قال: إنّ يَدَ اللّهِ هي له صفة. قالوا: وبذلك تظاهرت الأخبـار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم, وقال به العلـماء وأهل التأويـل.
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: وَلَـيزِيدَنّ كَثِـيرا مِنْهُمْ ما أُنْزِلَ إلَـيْكَ مِنْ رَبّكَ طُغْيانا وكُفْرا.
يقول تعالـى ذكره لنبـيه مـحمد صلى الله عليه وسلم: إن هذا الذي أطلعناك علـيه من خفـيّ أمور هؤلاء الـيهود مـما لا يعلـمه إلا علـماؤهم وأحبـارهم, احتـجاحا علـيهم لصحة نبوّتك, وقطعا لعذر قائل منهم أن يقول: ما جاءنا من بشير ولا نذير, لـيزيدنّ كثـيرا منهم ما أنزل إلـيك من ربك طغيانا وكفرا, يعنـي بـالطغيان: الغلوّ فـي إنكار ما قد علـموا صحته من نبوّة مـحمد صلى الله عليه وسلم والتـمادي فـي ذلك. وكُفْرا يقول: ويزيدهم مع غلوهم فـي إنكار ذلك جحودهم عظمة الله ووصفهم إياه بغير صفته, بأن ينسبوه إلـى البخـل, ويقولوا: يَدُ اللّهِ مَغْلُولَةٌ. وإنـما أعلـم تعالـى ذكره نبـيه صلى الله عليه وسلم أنهم أهل عتوّ وتـمرّد علـى ربهم, وأنهم لا يذعنون لـحقّ وإن علـموا صحته, ولكنهم يعاندونه يسلـي بذلك نبـيه مـحمدا صلى الله عليه وسلم عن الـموجِدة بهم فـي ذهابهم عن الله وتكذيبهم إياه. وقد بـينت معنى الطغيان فـيـما مضى بشواهده بـما أغنى عن إعادته.
وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:
9636ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة: وَلَـيزِيدَنّ كَثِـيرا مِنْهُمْ ما أُنْزِلَ إلَـيْكَ مِنْ رَبّكَ طُغْيانا وكُفْرا حملهم حسد مـحمد صلى الله عليه وسلم والعرب علـى أن كفروا به, وهم يجدونه مكتوبـا عندهم.
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: وألْقَـيْنا بَـيْنَهُمُ العَدَاوَةَ والبَغْضَاءَ إلـى يَومْ القِـيامَةِ.
يعنـي تعالـى ذكره بقوله: وألْقَـيْنا بَـيْنَهُمُ العَدَاوَةَ والبَغْضَاءَ إلـى يَومْ القِـيامَةِ بـين الـيهود والنصارى. كما:
9637ـ حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا أبو حذيفة, قال: حدثنا شبل, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد: وألْقَـيْنا بَـيْنَهُمُ العَدَاوَةَ والبَغْضَاءَ إلـى يَومْ القِـيامَةِ الـيهود والنصارى.
فإن قال قائل: وكيف قـيـل: وألْقَـيْنا بَـيْنَهُمُ العَدَاوَةَ والبَغْضَاءَ جعلت الهاء والـميـم فـي قوله بَـيْنَهُمْ كناية عن الـيهود والنصارى, ولـم يجر للـيهود والنصارى ذكر؟ قـيـل: قد جرى لهم ذكر, وذلك قوله: لا تَتّـخِذُوا الـيَهُودَ والنّصَارَى أوْلِـياءَ بَعْضُهُمْ أوْلِـياءُ بَعْضٍ جرى الـخبر فـي بعض الاَي عن الفريقـين وفـي بعض عن أحدهما, إلـى أن انتهى إلـى قوله: وألْقَـيْنا بَـيْنَهُمُ العَدَاوَةَ والبَغْضَاءَ, ثم قصد بقوله: ألْقَـيْنا بَـيْنَهُمُ الـخبر عن القريقـين.
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: كُلّـما أوْقَدُوا نارا للـحَرْبِ أطْفَأها اللّهُ.
يقول تعالـى ذكره: كلـما جمع أمرهم علـى شيء فـاستقام واستوى فأرادوا مناهضة من ناوأهم, شتته الله علـيهم وأفسده, لسوء فعالهم وخبث نـياتهم. كالذي:
9638ـ حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا إسحاق, قال: حدثنا عبد الله بن أبـي جعفر, عن أبـيه, عن الربـيع, فـي قوله: لَتُفْسِدُنّ فِـي الأرْضِ مَرّتَـيْنِ وَلَتَعْلُنّ عُلُوّا كَبِـيرا فإذَا جاءَ وَعْدُ أُولاهُما بَعَثْنا عَلَـيْكُمْ عِبـادا لَنا أُولـى بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجاسُوا خِلالَ الدّيارِ وَكانَ وَعْدا مَفْعُولاً ثُمّ رَدَدْنا لَكُمُ الكَرّةَ عَلَـيْهِمْ. قال: كان الفساد الأوّل, فبعث الله علـيهم عدوّا, فـاستبـاحوا الديار واستنكحوا النساء واستعبدوا الولدان وخرّبوا الـمسجد. فَغَبروا زمانا, ثم بعث الله فـيهم نبـيّا, وعاد أمرهم إلـى أحسن ما كان. ثم كان الفساد الثانـي بقتلهم الأنبـياء, حتـى قتلوا يحيى بن زكريا, فبعث الله علـيهم بختنصر, قتل من قتل منهم وسَبى من سَبى وخرّب الـمسجد, فكان بختنصر للفساد الثانـي. قال: والفساد: الـمعصية. ثم قال: فإذَا جاءَ وَعْدُ الاَخِرَةِ لِـيَسُوؤُا وُجُوهَكُمْ وَلِـيَدْخُـلُوا الـمَسْجدَ كما دَخَـلُوهُ أوّلَ مَرّةٍ... إلـى قوله: وَإنْ عُدْتُـمْ عُدْنا فبعث الله لهم عُزَيزا, وقد كان علّـم التوراة وحفظها فـي صدره, وكتبها لهم. فقام بها ذلك القرن, ولبثوا ونسوا. ومات عُزَيرٌ, وكانت أحداث, ونسوا العهد, وبخّـلوا ربهم, وقالوا: يَدُ اللّهِ مَغْلُولَةٌ غُلّتْ أيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بـمَا قالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشاءُ وقالوا فـي عُزَيرٍ: إن الله اتـخذه ولدا. وكانوا يعيبون ذلك علـى النصارى فـي قولهم فـي الـمسيح, فخالفوا ما نَهَوْا عنه وعملوا بـما كانوا يُكَفّرون علـيه. فسبق من الله كلـمة عند ذلك أنهم لـم يظهروا علـى عدوّ آخر الدهر, فقال: كُلّـما أوْقَدُوا نارا للـحَرْبِ أطْفَأها اللّهُ وَيَسْعَوْنَ فِـي الأرْضِ فَسادا وَاللّهُ لا يُحِبّ الـمُفْسِدِينَ, فبعث الله علـيهم الـمـجوس الثلاثة أربـابـا, فلـم يزالوا كذلك والـمـجوس علـى رقابهم وهم يقولون: يا لـيتنا أدركنا هذا النبـيّ الذي نـجده مكتوبـا عندنا, عسى الله أن يفكنا به من الـمـجوس والعذاب الهون فبعث مـحمدا صلى الله عليه وسلم, واسمه مـحمد, واسمه فـي الإنـجيـل أحمد فَلَـمّا جَاءَهُمْ مَا عَرفُوا كَفَرُوا بِهِ, قال: فَلَعْنَةُ اللّهِ علـى الكافِرِينَ وقال: فَبـاءُوا بِغَضَبٍ علـى غَضَبٍ.
9639ـ حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا أبو حذيفة, قال: حدثنا شبل, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد: كُلّـما أوْقَدُوا نارا للـحَرْبِ أطْفَأها اللّهُ هم الـيهود.
9640ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة: كُلّـما أوْقَدُوا نارا للـحَرْبِ أطْفَأها اللّهُ وَيَسْعَوْنَ فِـي الأرْضِ فَسادا أولئك أعداء الله الـيهود, كلـما أوقدوا نارا للـحرب أطفأها الله, فلن تلقـى الـيهود ببلد إلا وجدتهم من أذلّ أهله, لقد جاء الإسلام حين جاء وهم تـحت أيدي الـمـجوس أبغضِ خـلقه إلـيه.
9641ـ حدثنـي مـحمد بن الـحسين, قال: حدثنا أحمد بن مفضل, قال: حدثنا أسبـاط, عن السديّ, قوله: كُلّـما أوْقَدُوا نارا للـحَرْبِ أطْفَأها اللّهُ قال: كلـما أجمعوا أمرهم علـى شيء فرّقه الله, وأطفأ حَدّهم ونارهم, وقذف فـي قلوبهم الرعب.
وقال مـجاهد بـما:
9642ـ حدثنـي القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج, عن ابن جريج, عن مـجاهد قوله: كُلّـما أوْقَدُوا نارا للـحَرْبِ أطْفَأها اللّهُ قال: حرب مـحمد صلى الله عليه وسلم.
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: وَيَسْعَوْنَ فِـي الأرْضِ فَسادا وَاللّهُ لا يُحِبّ الـمُفْسِدِينَ.
يقول تعالـى ذكره: ويعمل هؤلاء الـيهود والنصارى بـمعصية الله, فـيكفرون بإياته ويكذّبون رسله ويخالفون أمره ونهيه, وذلك سعيهم فـيها بـالفساد. وَاللّهُ لا يُحِبّ الـمُفْسِدِينَ يقول: والله لا يحبّ من كان عاملاً بـمعاصيه فـي أرضه