تفسير الشوكاني تفسير الصفحة 118 من المصحف



فتح القدير - صفحة القرآن رقم 118

117

قوله: 59- "قل يا أهل الكتاب هل تنقمون منا" يقال: نقمت على الرجل بالكسر فأنا ناقم: إذا عبت عليه. قال الكسائي: نقمت بالكسر لغة، ونقمت الأمر أيضاً ونقمت: إذا كرهته، وانتقم الله منه: أي عاقبه، والاسم منه النقمة، والجمع نقمات، مثل كلمة وكلمات، وإن شئت سكنت القاف ونقلت حركتها إلى النون، والجمع نقم مثل نعمة ونعم، وقيل المعنى يسخطون، وقيل ينكرون. قال عبد الله بن قيس الرقيات: ما نقموا من بني أميـــة إلا أنهم يحملون إن غضبـــوا وقال الله سبحانه: "وما نقموا منهم" والمعنى في الآية: هل تعيبون أو تسخطون أو تنكرون أو تكرهون منا إلا إيماننا بالله وبكتبه المنزلة، وقد علمتم بأنا على الحق "وأن أكثركم فاسقون" بترككم للإيمان والخروج عن امتثال أوامر الله. وقوله: "وأن أكثركم فاسقون" معطوف على أن آمنا: أي ما تنقمون منا إلا الجمع بين إيماننا وبين تمردكم وخروجكم عن الإيمان. وفيه أن المؤمنين لم يجمعوا بين الأمرين المذكورين، فإن الإيمان من جهتهم والتمرد والخروج من جهة الناقمين، وقيل هو على تقدير محذوف: أي واعتقادنا أن أكثركم فاسقون، وقيل إن قوله: " أن آمنا " هو منصوب على أنه مفعول له والمفعول محذوف، فيكون "وأن أكثركم فاسقون" معطوفاً عليه عطف العلة على العلة، والتقدير: وما تنقمون منا إلا لأن آمنا، ولأن أكثركم فاسقون، وقيل معطوف على علة محذوفة، أي لقلة إنصافكم، ولأن أكثركم فاسقون، وقيل الواو في قوله: "وأن أكثركم فاسقون" هي التي بمعنى مع: أي ما تنقمون منا إلا الإيمان مع أن أكثركم فاسقون، وقيل هو منصوب بفعل محذوف يدل عليه هل تنقمون: أي ولا تنقمون أن أكثركم فاسقون، وقيل هو مرفوع على الابتداء والخبر محذوف: أي وفسقكم معلوم فتكون الجملة حالية، وقرئ بكسر إن من قوله: " وأن أكثركم فاسقون " فتكون جملة مستأنفة.
قوله: 60- "قل هل أنبئكم بشر من ذلك" بين الله سبحانه لرسوله أن فيهم من العيب ما هو أولى بالعيب، وهو ما هم عليه من الكفر الموجب للعن الله وغضبه ومسخه، والمعنى: هل أنبئكم بشر من نقمكم علينا أو بشر مما تريدون لنا من المكروه أو بشر من أهل الكتاب أو بشر من دينهم. وقوله: "مثوبة" أي جزاء ثابتاً، وهي مختصة بالخير كما أن العقوبة مختصة بالشر. ووضعت هنا موضع العقوبة على طريقة "فبشرهم بعذاب أليم" وهي منصوبة على التمييز من بشر. وقوله: " من لعنه الله " خبر لمبتدأ محذوف مع تقدير مضاف محذوف: أي هو لعن من لعنه الله أو هو دين من لعنه الله، ويجوز أن يكون في محل جر بدلاً من شر. قوله: "وجعل منهم القردة والخنازير" أي مسخ بعضهم قردة وبعضهم خنازير وهم اليهود، فإن الله مسخ أصحاب السبت قردة وكفار مائدة عيسى منهم خنازير. قوله: "وعبد الطاغوت" قرأ حمزة بضم الباء من عبد وكسر التاء من "الطاغوت" أي جعل منهم عبد الطاغوت بإضافة عبد إلى الطاغوت. والمعنى: وجعل منهم من يبالغ في عبادة الطاغوت، لأن فعل من صيغ المبالغة، كحذر وفطن للتبليغ في الحذر والفطنة. وقرأ الباقون بفتح الباء من "عبد" وفتح التاء من "الطاغوت" على أنه فعل ماض معطوف على فعل ماض وهو غضب ولعن، كأنه قيل: ومن عبد الطاغوت، أو معطوف على القردة والخنازير: أي جعل منهم القردة والخنازير وجعل منهم عبد الطاغوت حملاً على لفظ من. وقرأ أبي وابن مسعود " وعبد الطاغوت " حملاً على معناها. وقرأ ابن عباس "وعبد" بضم العين والباء كأنه جمع عبد، كما يقال: سقف وسقف. ويجوز أن يكون جمع عبيد كرغيف ورغف، أو جمع عابد كبازل وبزل. وقرأ أبو واقد وعباد جمع عابد للمبالغة، كعامل وعمال. وقرأ البصريون وعباد جمع عابد أيضاً، كقائم وقيام، ويجوز أن يكون جمع عبد. وقرأ أبو جعفر الرقاشي وعبد الطاغوت على البناء للمفعول، والتقدير وعبد الطاغوت فيهم. وقرأ عون العقيلي وابن بريدة وعابد الطاغوت على التوحيد. وروي عن ابن مسعود وأبي أنهما قرآ (وعبدة الطاغوت) وقرأ عبيد بن عمير (وأعبد الطغوت) مثل كلب وأكلب. وقرئ "وعبد الطاغوت" عطفاً على الموصول بناء على تقدير مضاف محذوف، وهي قراءة ضعيفة جداً، والطاغوت: الشيطان أو الكهنة أو غيرهما مما قد تقدم مستوفى. قوله: "أولئك شر مكاناً" الإشارة إلى الموصوفين بالصفات المتقدمة، وجعلت الشرارة للمكان، وهي لأهله للمبالغة، ويجوز أن يكون الإسناد مجازياً. قوله: "وأضل عن سواء السبيل" معطوف على شر، أي هم أضل من غيرهم عن الطريق المستقيم، والتفضيل في الموضعين للزيادة مطلقاً أو لكونهم أشر وأضل مما يشاركهم في أصل الشرارة والضلال.
قوله: " وإذا جاؤوكم قالوا آمنا " أي إذا جاءوكم أظهروا الإسلام. قوله: "وقد دخلوا بالكفر وهم قد خرجوا به" جملتان حاليتان: أي جاءوكم حال كونهم قد دخلوا عندك متلبسين بالكفر وخرجوا من عندك متلبسين به لم يؤثر فيهم ما سمعوا منك، بل خرجوا كما دخلوا "والله أعلم بما كانوا يكتمون" عندك من الكفر، وفيه وعيد شديد، وهؤلاء هم المنافقون، وقيل هم اليهود الذين قالوا: "آمنوا بالذي أنزل على الذين آمنوا وجه النهار واكفروا آخره".
قوله: 62- "وترى كثيراً منهم يسارعون في الإثم" الخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم أو لكل من يصلح له، والضمير في "منهم" عائد إلى المنافقين أو اليهود أو إلى الطائفتين جميعاً " يسارعون في الإثم " في محل نصب على الحال على أن الرواية بصرية أو هو مفعول ثان لترى على أنها قلبية، والمسارعة: المبادرة، والإثم: الكذب أو الشرك أو الحرام، والعدوان: الظلم المتعدي إلى الغير أو مجاوزة الحد في الذنوب. والسحت: الحرام، فعلى قول من فسر الإثم بالحرام يكون تكريره للمبالغة، والربانيون علماء النصارى، والأحبار: علماء اليهود، وقيل الكل من اليهود لأن هذه الآيات فيهم، ثم وبخ علماءهم في تركهم لنهيهم فقال: "لبئس ما كانوا يصنعون" وهذا فيه زيادة على قوله: "لبئس ما كانوا يعملون" لأن العمل لا يبلغ درجة الصنع حتى يتدرب فيه صاحبه، ولهذا تقول العرب سيف صنيع إذا جود عامله عمله فالصنع هو العمل الجيد لا مطلق العلم، فوبخ سبحانه الخاصة، وهم العلماء التاركون للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بما هو أغلظ وأشد من توبيخ فاعل المعاصي، فليفتح العلماء لهذه الآية مسامعهم ويفرجوا لها عن قلوبهم، فإنها قد جاءت بما فيه البيان الشافي لهم بأن كفهم عن المعاصي مع ترك إنكارهم على أهلها لا يسمن ولا يغني من جوع، بل هم أشد حالاً وأعظم وبالاً من العصاة، فرحم الله عالماً قام بما أوجبه الله عليه من فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فهو أعظم ما افترضه الله عليه وأوجب ما أوجب عليه النهوض به. اللهم اجعلنا من عبادك الصالحين الآمرين بالمعروف الناهين عن المنكر الذين لا يخافون فيك لومة لائم، وأعنا على ذلك وقونا عليه ويسره لنا وانصرنا على من تعدى حدودك وظلم عبادك إنه لا ناصر لنا سواك ولا مستعان غيرك يا مالك يوم الدين إياك نعبد وإياك نستعين. وقد أخرج ابن إسحاق وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن ابن عباس قال: كان رفاعة بن زيد بن التابوت وسيد بن الحارث قد أظهرا الإسلام ونافقا، وكان رجال من المسلمين يوادونهما، فأنزل الله: " يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا الذين اتخذوا دينكم هزوا ولعبا " إلى قوله: "والله أعلم بما كانوا يكتمون". وأخرج البيهقي في الدلائل من طريق الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس في قوله: " وإذا ناديتم إلى الصلاة اتخذوها هزوا ولعبا " قال: كان منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا نادى بالصلاة فقام المسلمون إلى الصلاة، قالت اليهود والنصارى: قد قاموا لا قاموا، فإذا رأوهم ركعوا وسجدوا استهزأوا بهم وضحكوا منهم. قال: وكان رجل من اليهود تاجراً إذا سمع المنادي ينادي بالأذان قال: أحرق الله الكاذب، قال: فبينما هو كذلك إذ دخلت جاريته بشعلة من نار، فطارت شرارة منها في البيت فأحرقته. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن السدي قال: كان رجل من النصارى فذكر نحو قصة الرجل اليهودي. وأخرج ابن إسحاق وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن ابن عباس قال: "أتى النبي صلى الله عليه وسلم نفر من اليهود، فسألوه عمن يؤمن به من الرسل فقال: أؤمن بالله وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط، وما أوتي موسى وعيسى والنبيون من ربهم، لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون، فلما ذكر عيسى جحدوا نبوته، وقالوا: لا نؤمن بعيسى ولا نؤمن بمن آمن به، فأنزل الله فيهم "قل يا أهل الكتاب هل تنقمون منا" إلى قوله: "فاسقون"". وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن مجاهد في قوله: "وجعل منهم القردة والخنازير" قال: مسخت من يهود. وأخرج أبو الشيخ عن أبي مالك أنه قيل له: كانت القردة والخنازير قبل أن يمسخوا؟ قال: نعم، وكانوا مما خلق من الأمم. وأخرج مسلم وابن مردويه عن ابن مسعود قال: "سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن القردة والخنازير هما مما مسخ الله، فقال: إن الله لم يهلك قوماً، أو قال: لم يمسخ قوماً فيجعل لهم نسلاً ولا عاقبة، وإن القردة والخنازير كانت قبل ذلك". وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله: " وإذا جاؤوكم قالوا آمنا " الآية، قال أناس من اليهود: كانوا يدخلون على النبي صلى الله عليه وسلم فيخبرونه أنهم مؤمنون راضون بالذي جاء به، وهم متمسكون بضلالتهم وبالكفر، فكانوا يدخلون بذلك ويخرجون به من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم. وأخرج ابن جرير عن السدي في الآية قال: هؤلاء ناس من المنافقين كانوا يهوداً، يقول: دخلوا كفاراً وخرجوا كفاراً. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن أبي زيد في قوله: "وترى كثيراً منهم يسارعون في الإثم والعدوان" قال: هؤلاء اليهود "لبئس ما كانوا يعملون" إلى قوله: "لبئس ما كانوا يصنعون" قال: يصنعون ويعملون واحد، قال لهؤلاء حين لم ينتهوا كما قال لهؤلاء حين عملوا.
وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن ابن عباس في قوله: 63- "لولا ينهاهم الربانيون والأحبار" قال: فهل لا ينهاهم الربانيون والأحبار، وهم الفقهاء والعلماء. وأخرج ابن جرير وأبو الشيخ عن ابن عباس قال: ما في القرآن آية أشد توبيخاً من هذه الآية "لولا ينهاهم الربانيون والأحبار". وأخرجه ابن المبارك في الزهد وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عن الضحاك بن مزاحم نحوه، وقد وردت أحاديث كثيرة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا حاجة لنا في بسطها هنا.
قوله: 64- "يد الله مغلولة" اليد عند العرب تطلق على الجارحة، ومنه قوله تعالى: "وخذ بيدك ضغثاً" وعلى النعمة، يقولون كم يد لي عند فلان، وعلى القدرة، ومنه قوله تعالى: "قل إن الفضل بيد الله" أو على التأييد، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم: "يد الله مع القاضي حين يقضي" وتطلق على معان أخر. وهذه الآية هي على طريق التمثيل كقوله تعالى: "ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك" والعرب تطلق غل اليد على البخل وبسطها على الجود مجازاً، ولا يريدون الجارحة كما يصفون البخيل بأنه جعد الأنامل ومقبوض الكف، ومنه قول الشاعر: كانت خراسان أرضاً إذ يزيد بها وكل باب من الخيرات مفتوح فاستبدلت بعده جعـــــداً أناملـه كأنما وجهه بالخــــل منضــوح فمراد اليهود هنا عليهم لعائن الله أن الله بخيل، فأجاب سبحانه عليهم بقوله: "غلت أيديهم" دعاء عليهم بالبخل، فيكون الجواب عليهم مطابقاً لما أرادوه بقوله: "يد الله مغلولة" ويجوز أن يراد غل أيديهم حقيقة بالأسر في الدنيا أو بالعذاب في الآخرة، ويقوي المعنى الأول أن البخل قد لزم اليهود لزوم الظل للشمس فلا ترى يهودياً، وإن كان ماله في غاية الكثرة، إلا وهو من أبخل خلق الله، وأيضاً المجاز أوفق بالمقام لمطابقته لما قبله. قوله: "ولعنوا بما قالوا" معطوف على ما قبله والباء سببية: أي أبعدوا من رحمة الله بسبب قولهم: "يد الله مغلولة"، ثم رد سبحانه بقوله: "بل يداه مبسوطتان" أي بل هو في غاية ما يكون من الجود، وذكر اليدين مع كونهم لم يذكروا إلا اليد الواحدة مبالغة في الرد عليهم بإثبات ما يدل على غاية السخاء، فإن نسبة الجود إلى اليدين أبلغ من نسبته إلى اليد الواحدة، وهذه الجملة الإضرابية معطوفة على جملة مقدرة يقتضيها المقام: أي كلا ليس الأمر كذلك "بل يداه مبسوطتان" وقيل المراد بقوله: "بل يداه مبسوطتان" نعمة الدنيا الظاهرة ونعمتها الباطنة، وقيل نعمة المطر والنبات، وقيل الثواب والعقاب. وحكى الأخفش عن ابن مسعود أنه قرأ بل يداه بسيطتان: أي منطلقتان كيف يشاء. قوله: "ينفق كيف يشاء" جملة مستأنفة مؤكدة لكمال جوده سبحانه: أي إنفاقه على ما تقتضيه مشيئته، فإن شاء وسع، وإن شاء قتر، فهو الباسط القابض، فإن قبض كان ذلك لما تقتضيه حكمته الباهرة لا لشيء آخر، فإن خزائن ملكه لا تفنى ومواد جوده لا تتناهى. قوله: "وليزيدن كثيراً منهم" إلخ، اللام هي لام القسم: أي ليزيدن كثيراً من اليهود والنصارى ما أنزل إليك من القرآن المشتمل على هذه الأحكام الحسنة "طغياناً وكفراً" أي طغياناً إلى طغيانهم وكفراً إلى كفرهم. قوله: "وألقينا بينهم" أي بين اليهود "العداوة والبغضاء" أو بين اليهود والنصارى. قوله: "كلما أوقدوا ناراً للحرب أطفأها الله" أي كلما جمعوا للحرب جمعاً وأعدوا له عدة شتت الله جمعهم، وذهب بريحهم فلم يظفروا بطائل ولا عادوا بفائدة، بل لا يحصلون من ذلك إلا على الغلب لهم، وهكذا لا يزالون يهيجون الحروب ويجمعون عليها، ثم يبطل الله ذلك، والآية مشتملة على استعارة بليغة، وأسلوب بديع "ويسعون في الأرض فساداً" أي يجتهدون في فعل ما فيه فساد، ومن أعظمه ما يريدونه من إبطال الإسلام وكيد أهله، وقيل المراد بالنار هنا الغضب: أي كلما أثاروا في أنفسهم غضباً أطفأه الله بما جعله من الرعب في صدورهم والذلة والمسكنة المضروبتين عليهم. قوله: "والله لا يحب المفسدين" إن كانت اللام للجنس فهم داخلون في ذلك دخولاً أولياً، وإن كانت للعهد فوضع الظاهر موضع المضمر لبيان شدة فسادهم وكونهم لا ينفكون عنه.