سورة الأنعام | للقراءة من المصحف بخط كبير واضح
استماع mp3 | الجلالين&الميسر | تفسير الشوكاني |
إعراب الصفحة | تفسير ابن كثير | تفسير القرطبي |
التفسير المختصر | تفسير الطبري | تفسير السعدي |
تفسير الشوكاني تفسير الصفحة 128 من المصحف
قال الثعلبي: سورة الأنعام مكية إلا ست آيات نزلت بالمدينة وهي "وما قدروا الله حق قدره" إلى آخر ثلاث آيات، و "قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم" إلى آخر ثلاث آيات. قال ابن عطية: وهي الآيات المحكمات، يعني في هذه السورة. وقال القرطبي: هي مكية إلا آيتين هما "وما قدروا الله حق قدره" نزلت في مالك بن الصيف وكعب بن الأشرف اليهوديين، وقوله تعالى: "وهو الذي أنشأ جنات معروشات" نزلت في ثابت بن قيس بن شماس. وأخرج أبو الشيخ وابن مردويه والبيهقي في الدلائل عن ابن عباس قال: أنزلت سورة الأنعام بمكة. وأخرج أبو عبيد وابن المنذر والطبراني وابن مردويه عنه، قال: أنزلت سورة الأنعام بمكة ليلاً جملة وحولها سبعون ألف ملك يجأرون حولها بالتسبيح. وأخرج ابن مردويه عن ابن مسعود قال: نزلت سورة الأنعام يشيعها سبعون ألفاً من الملائكة. وأخرج ابن مردويه عن أسماء قال: نزلت سورة الأنعام على النبي صلى الله عليه وسلم وهو في مسير في زجل من الملائكة. وقد نظموا ما بين السماء والأرض. وأخرج الطبراني وابن مردويه عن أسماء بنت يزيد نحوه. وأخرج الطبراني وابن مردويه عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "نزلت علي سورة الأنعام جملة واحدة يشيعها سبعون ألف ملك لهم زجل بالتسبيح والتحميد" وهو من طريق إبراهيم بن نائلة شيخ الطبراني عن إسماعيل بن عمرو عن يوسف بن عطية بن عون عن نافع عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذكره. وابن مردويه رواه عن الطبراني عن إسماعيل المذكور به. وأخرج الطبراني وابن مردويه وأبو الشيخ والبيهقي في الشعب عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "نزلت سورة الأنعام ومعها موكب من الملائكة يسد ما بين الخافقين، لهم زجل بالتسبيح والتقديس، والأرض ترتج، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: سبحان الله العظيم سبحان الله العظيم". وأخرج الحاكم وقال: صحيح على شرط مسلم، والإسماعيلي في معجمه والبيهقي عن جابر قال: لما نزلت سورة الأنعام سبح رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال: "لقد شيع هذه السورة من الملائكة ما سد الأفق". وأخرج البيهقي وضعفه والخطيب في تاريخه عن علي بن أبي طالب قال: أنزل القرآن خمساً خمساً، ومن حفظه خمساً خمساً لم ينسه، إلا سورة الأنعام فإنها نزلت جملة يشيعها من كل سماء سبعون ملكاً حتى أدوها إلى النبي صلى الله عليه وسلم، ما قرئت على عليل إلا شفاه الله. وأخرج أبو الشيخ عن أبي بن كعب مرفوعاً نحو حديث ابن عمر. وأخرج النحاس في تاريخه عن ابن عباس قال: سورة الأنعام نزلت بمكة جملة واحدة، فهي مكية إلا ثلاث آيات منها نزلن بالمدينة "قل تعالوا أتل ما حرم" إلى تمام الآيات الثلاث. وأخرج الديلمي بسند ضعيف عن أنس مرفوعاً "ينادي مناد: يا قارئ سورة الأنعام هلم إلى الجنة بحبك إياها وتلاوتها". وأخرج ابن المنذر عن أبي جحيفة قال: نزلت سورة الأنعام جميعها معها سبعون ألف ملك كلها مكية إلا "ولو أننا نزلنا إليهم الملائكة" فإنها مدنية. وأخرج أبو عبيد في فضائله والدارمي في مسنده ومحمد بن نصر في كتاب الصلاة وأبو الشيخ عن عمر بن الخطاب قال: الأنعام من نواجب القرآن. وأخرج محمد بن نصر عن ابن مسعود مثله. وأخرج السلفي بسند واه عن ابن عباس مرفوعاً: "من قرأ إذا صلى الغداة ثلاث آيات من أول سورة الأنعام إلى "ويعلم ما تكسبون" نزل إليه أربعون ألف ملك يكتب له مثل أعمالهم، ونزل إليه ملك من فوق سبع سموات ومعه مرزبة من حديد، فإن أوحى الشيطان في قلبه شيئاً من الشر ضربه ضربة حتى يكون بينه وبينه سبعون حجاباً، فإذا كان يوم القيامة، قال الله تعالى: أنا ربك وأنت عبدي، امش في ظلي واشرب من الكوثر واغتسل من السلسبيل وادخل الجنة بغير حساب ولا عذاب". وأخرج الديلمي عن ابن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من صلى الفجر في جماعة وقعد في مصلاه وقرأ ثلاث آيات من أول سورة الأنعام وكل الله به سبعين ملكاً يسبحون الله ويستغفرون له إلى يوم القيامة". وفي فضائل هذه السورة روايات عن جماعة من التابعين مرفوعة وغير مرفوعة. قال القرطبي: قال العلماء: هذه السورة أصل في محجة المشركين وغيرهم من المبتدعين ومن كذب بالبعث والنشور، وهذا يقتضي إنزالها جملة واحدة لأنها في معنى واحد من الحجة وإن تصرف ذلك بوجوه كثيرة، وعليها بنى المتكلمون أصول الدين. بدأ سبحانه هذه السورة بالحمد لله، للدلالة على أن الحمد كله له، ولإقامة الحجة على الذين هم بربهم يعدلون. وقد تقدم في سورة الفاتحة ما يغني عن الإعادة له هنا، ثم وصف نفسه بأنه الذي خلق السموات والأرض إخباراً عن قدرته الكاملة الموجبة لاستحقاقه لجميع المحامد، فإن من اخترع ذلك وأوجده هو الحقيق بإفراده بالثناء وتخصيصه بالحمد، والخلق يكون بمعنى الاختراع، وبمعنى التقدير وقد تقدم تحقيق ذلك، وجمع السموات لتعدد طباقها، وقدمها على الأرض لتقدمها في الوجود "والأرض بعد ذلك دحاها". قوله: 1- "وجعل الظلمات والنور" معطوف على خلق، ذكر سبحانه خلق الجواهر بقوله: "خلق السموات والأرض" ثم ذكر خلق الأعراض بقوله: "وجعل الظلمات والنور" لأن الجواهر لا تستغني عن الأعراض. واختلف أهل العلم في المعنى المراد بالظلمات والنور، فقال جمهور المفسرين: المراد بالظلمات سواد الليل، وبالنور ضياء النهار. وقال الحسن: الكفر والإيمان. قال ابن عطية: وهذا خروج عن الظاهر انتهى. والأولى أن يقال: إن الظلمات تشمل كل ما يطلق عليه اسم الظلمة، والنور يشمل كل ما يطلق عليه اسم النور فيدخل تحت ذلك ظلمة الكفر ونور الإيمان "أو من كان ميتاً فأحييناه وجعلنا له نوراً يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات" وأفرد النور لأنه جنس يشمل جميع أنواعه، وجمع الظلمات لكثرة أسبابها وتعدد أنواعها. قال النحاس: جعل هنا بمعنى خلق: وإذا كانت بمعنى خلق لم تتعد إلا إلى مفعول واحد. وقال القرطبي: جعل هنا بمعنى خلق لا يجوز غيره. قال ابن عطية: وعليه يتفق اللفظ والمعنى في النسق، فيكون الجمع معطوفاً على الجمع، والمفرد معطوفاً على المفرد، وتقديم الظلمات على النور لأنها الأصل، ولهذا كان النهار مسلوخاً من الليل. قوله: "ثم الذين كفروا بربهم يعدلون" معطوف على الحمد لله، أو على خلق السموات والأرض، وثم لاستبعاد ما صنعه الكفار من كونهم بربهم يعدلون مع ما تبين من أن الله سبحانه حقيق بالحمد على خلقه السموات والأرض والظلمات والنور، فإن هذا يقتضي الإيمان به وصرف الثناء الحسن إليه، لا الكفر به واتخاذ شريك له، وتقديم المفعول للاهتمام، ورعاية الفواصل، وحذف المفعول لظهوره: أي يعدلون به ما لا يقدر على شيء مما يقدر عليه، وهذا نهاية الحمق وغاية الرقاعة حيث يكون منه سبحانه تلك النعم، ويكون من الكفرة الكفر.
قوله: 2- "هو الذي خلقكم من طين" في معناه قولان: أحدهما: وهو الأشهر، وبه قال الجمهور: أن المراد آدم عليه السلام، وأخرجه مخرج الخطاب للجميع، لأنهم ولده ونسله. الثاني: أن يكون المراد جميع البشر باعتبار أن النطفة التي خلقوا منها مخلوقة من الطين، ذكر الله سبحانه خلق آدم وبنيه بعد خلق السموات والأرض إتباعاً للعالم الأصغر بالعالم الأكبر، والمطلوب بذكر هذه الأمور دفع كفر الكافرين بالبعث ورد لجحودهم بما هو مشاهد لهم لا يمترون فيه. قوله: "ثم قضى أجلاً وأجل مسمى عنده" جاء بكلمة ثم لما بين خلقهم وبين موتهم من التفاوت. وقد اختلف السلف ومن بعدهم في تفسير الأجلين، فقيل "قضى أجلاً" يعني الموت "وأجل مسمى عنده" يعني القيامة، وهو مروي عن ابن عباس وسعيد بن جبير والحسن وقتادة والضحاك ومجاهد وعكرمة وزيد بن أسلم وعطية والسدي وخصيف ومقاتل وغيرهم، وقيل الأول ما بين أن يخلق إلى أن يموت، والثاني ما بين أن يموت إلى أن يبعث، وهو قريب من الأول. وقيل الأول مدة الدنيا، والثاني عمر الإنسان إلى حين موته. وهو مروي عن ابن عباس ومجاهد. وقيل الأول قبض الأرواح في النوم، والثاني قبض الروح عند الموت. وقيل الأول ما يعرف من أوقات الأهلة والبروج وما يشبه ذلك، والثاني أجل الموت. وقيل الأول لمن مضى، والثاني لمن بقي ولمن يأتي. وقيل إن الأول الأجل الذي هو محتوم، والثاني الزيادة في العمر لمن وصل رحمه، فإن كان براً تقياً وصولاً لرحمه زيد في عمره، وإن كان قاطعاً للرحم لم يزد له، ويرشد إلى هذا قوله تعالى: "وما يعمر من معمر ولا ينقص من عمره إلا في كتاب" وقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن صلة الرحم تزيد في العمر، وورد عنه أن دخول البلاد التي قد فشا بها الطاعون والوباء من أسباب الموت، وجاز الابتداء بالنكرة في قوله: "وأجل مسمى عنده" لأنها قد تخصصت بالصفة. قوله: "ثم أنتم تمترون" استبعاد لصدور الشك منهم مع وجود المقتضى لعدمه: أي كيف تشكون في البعث مع مشاهدتكم في أنفسكم من الابتداء والانتهاء ما يذهب بذلك ويدفعه، فإن من خلقكم من طين وصيركم أحياء تعلمون وتعقلون وخلق لكم هذه الحواس والأطراف، ثم سلب ذلك عنكم فصرتم أمواتاً وعدتم إلى ما كنتم عليه من الجمادية، لا يعجزه أن يبعثكم ويعيد هذه الأجسام كما كانت، ويرد إليها الأرواح التي فارقتها بقدرته وبديع حكمته.
قوله: 3- "وهو الله في السموات وفي الأرض يعلم سركم وجهركم ويعلم ما تكسبون" قيل إن في السموات وفي الأرض متعلق باسم الله باعتبار ما يدل عليه من كونه معبوداً ومتصرفاً ومالكاً: أي هو المعبود أو المالك أو المتصرف في السموات والأرض كما تقول: زيد الخليفة في الشرق والغرب: أي حاكم أو متصرف فيهما، وقيل المعنى: وهو الله يعلم سركم وجهركم في السموات وفي الأرض فلا تخفى عليه خافية، فيكون العامل فيهما ما بعدهما. قال النحاس: وهذا من أحسن ما قيل فيه. وقال ابن جرير: هو الله في السموات ويعلم سركم وجهركم في الأرض. والأول أولى، ويكون "يعلم سركم وجهركم" جملة مقررة لمعنى الجملة الأولى، لأن كونه سبحانه في السماء والأرض يستلزم علمه بأسرار عباده وجهرهم، وعلمه بما يكسبونه من الخير والشر وجلب النفع ودفع الضرر. وقد أخرج ابن أبي حاتم عن علي أن هذه الآية أعني الحمد لله إلى قوله: "ثم الذين كفروا بربهم يعدلون" نزلت في أهل الكتاب. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وأبو الشيخ عن عبد الرحمن بن أبزى عن أبيه نحوه. وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن مجاهد قال: نزلت هذه الآية في الزنادقة، قالوا: إن الله لم يخلق الظلمة ولا الخنافس ولا العقارب ولا شيئاً قبيحاً، وإنما يخلق النور وكل شيء حسن، فأنزلت فيهم هذه الآية. وأخرج أبو الشيخ عن ابن عباس "وجعل الظلمات والنور" قال: الكفر والإيمان. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن قتادة قال: إن الذين بربهم يعدلون هم أهل الشرك. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن السدي مثله. وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن مجاهد قال: "يعدلون" يشركون. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن زيد في قوله: "ثم الذين كفروا بربهم يعدلون" قال: الآلهة التي عبدوها عدلوها بالله، وليس لله عدل ولا ند، وليس معه آلهة ولا اتخذ صاحبة ولا ولداً. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس "هو الذي خلقكم من طين" يعني آدم "ثم قضى أجلاً" يعني أجل الموت "وأجل مسمى عنده" أجل الساعة والوقوف عند الله. وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ والحاكم وصححه عنه في قوله: "ثم قضى أجلاً" قال: أجل الدنيا، وفي لفظ أجل موته "وأجل مسمى عنده" قال: الآخرة لا يعلمه إلا الله. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عنه "قضى أجلاً" قال: هو اليوم يقبض فيه الروح ثم يرجع إلى صاحبه من اليقظة "وأجل مسمى عنده" قال: هو أجل موت الإنسان.
قوله: 4- "وما تأتيهم" إلخ، كلام مبتدأ لبيان بعض أسباب كفرهم وتمردهم، وهو الإعراض عن آيات الله التي تأتيهم كمعجزات الأنبياء، وما يصدر عن قدرة الله الباهرة مما لا يشك من له عقل أنه فعل الله سبحانه، والإعراض: ترك النظر في الآيات التي يجب أن يستدلوا بها على توحيد الله و من في "من آية" مزيدة للاستغراق و من في "من آيات" تبعيضية: أي وما تأتيهم آية من الآيات التي هي بعض آيات ربهم إلا كانوا عنها معرضين.
والفاء في 5- "فقد كذبوا" جواب شرط مقدر: أي إن كانوا معرضين عنها فقد كذبوا بما هو أعظم من ذلك وهو الحق "لما جاءهم" قيل المراد بالحق هنا القرآن، وقيل محمد صلى الله عليه وسلم " فسوف يأتيهم أنباء ما كانوا به يستهزئون " أي أخبار الشيء الذي كانوا به يستهزئون وهو القرآن أو محمد صلى الله عليه وسلم، على أن ما عبارة عن ذلك تهويلاً للأمر وتعظيماً له: أي سيعرفون أن هذا الشيء الذي استهزأوا به ليس بموضع للاستهزاء، وذلك عند إرسال عذاب الله عليهم، كما يقال: اصبر فسوف يأتيك الخبر عن إرادة الوعيد والتهديد، وفي لفظ الأنباء ما يرشد إلى ذلك فإنه لا يطلق إلا على خبر عظيم.
قوله: 6- "ألم يروا كم أهلكنا من قبلهم من قرن" كلام مبتدأ لبيان ما تقدمه، والهمزة للإنكار، و كم يحتمل أن تكون الاستفهامية وأن تكون الخبرية وهي معلقة لفعل الرؤية عن العمل فيما بعده، و "من قرن" تمييز، والقرن يطلق على أهل كل عصر، سموا بذلك لاقترانهم: أي ألم يعرفوا بسماع الأخبار ومعاينة الآثار كم أهلكنا من قبلهم من الأمم الموجودة في عصر بعد عصر لتكذيبهم أنبياءهم. وقيل القرن مدة من الزمان. وهي ستون عاماً أو سبعون أو ثمانون أو مائة على اختلاف الأقوال، فيكون ما في الآية على تقدير مضاف محذوف: أي من أهل قرن. قوله: "مكناهم في الأرض ما لم نمكن لكم" مكن له في الأرض جعل له مكاناً فيها، ومكنه في الأرض: أثبته فيها، والجملة مستأنفة جواب سؤال مقدر كأنه قيل: كيف ذلك، وقيل إن هذه الجملة صفة لقرن، والأول أولى، و ما في "ما لم نمكن" نكرة موصوفة بما بعدها: أي مكناهم تمكيناً لم نمكنه لكم، والمعنى: إنا أعطينا القرون الذين هم قبلكم ما لم نعطكم من الدنيا وطول الأعمار وقوة الأبدان وقد أهلكناهم جميعاً، فإهلاككم وأنتم دونهم بالأولى. قوله: "وأرسلنا السماء عليهم مدراراً" يريد المطر الكثير، عبر عنه بالسماء، لأنه ينزل من السماء، ومنه قول الشاعر: إذا نزل السماء بأرض قوم والمدرار صيغة مبالغة تدل على الكثرة كمذكار للمرأة التي كثرت ولادتها للذكور، وميناث للتي تلد الإناث، يقال در اللبن يدر: إذا أقبل على الحالب بكثرة وانتصاب "مدراراً" على الحال، وجريان الأنهار من تحتهم معناه من تحت أشجارهم ومنازلهم: أي أن الله وسع عليهم النعم بعد التمكين لهم في الأرض فكفروها، فأهلكهم الله بذنوبهم "وأنشأنا من بعدهم" أي من بعد إهلاكهم "قرناً آخرين" فصاروا بدلاً من الهالكين، وفي هذا بيان لكمال قدرته سبحانه وقوة سلطانه وأنه يهلك من يشاء ويوجد من يشاء.
قوله: 7- "ولو نزلنا عليك كتاباً في قرطاس فلمسوه بأيديهم لقال الذين كفروا إن هذا إلا سحر مبين" في هذه الجملة بيان شدة صلابتهم في الكفر، وأنهم لا يؤمنون ولو أنزل الله على رسوله كتاباً مكتوباً في قرطاس بمرأى منهم ومشاهدة "فلمسوه بأيديهم" حتى يجتمع لهم إدراك الحاستين: حاسة البصر، وحاسة اللمس "لقال الذين كفروا" منهم "إن هذا إلا سحر مبين" ولم يعملوا بما شاهدوا ولمسوا، وإذا كان هذا حالهم في المرئي المحسوس، فكيف فيما هو مجرد وحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بواسطة ملك لا يرونه ولا يحسونه؟ والكتاب مصدر بمعنى الكتابة، والقرطاس: الصحيفة.
قوله: 8- "وقالوا لولا أنزل عليه ملك" هذه الجملة مشتملة على نوع آخر من أنواع جحدهم لنبوته صلى الله عليه وسلم وكفرهم بها: أي قالوا هلا أنزل الله عليك ملكاً نراه ويكلمنا أنه نبي حتى نؤمن به ونتبعه؟ كقولهم: "لولا أنزل إليه ملك فيكون معه نذيراً". "ولو أنزلنا ملكاً لقضي الأمر" أي لو أنزلنا ملكاً على الصفة التي اقترحوها بحيث يشاهدونه ويخاطبونه ويخاطبهم "لقضي الأمر" أي لأهلكناهم إذ لم يؤمنوا عند نزوله ورؤيتهم له، لأن مثل هذه الآية البينة، وهي نزول الملك على تلك الصفة إذا لم يقع الإيمان بعدها فقد استحقوا الإهلاك والمعالجة بالعقوبة "ثم لا ينظرون" أي لا يمهلون بعد نزوله ومشاهدتهم له، وقيل إن المعنى: إن الله سبحانه لو أنزل ملكاً مشاهداً لم تطق قواهم البشرية أن يبقوا بعد مشاهدته أحياء، بل تزهق أرواحهم عند ذلك فيبطل ما أرسل الله له رسله وأنزل به كتبه من هذا التكليف الذي كلف به عباده "لنبلوهم أيهم أحسن عملاً".
فتح القدير - صفحة القرآن رقم 128
127قال الثعلبي: سورة الأنعام مكية إلا ست آيات نزلت بالمدينة وهي "وما قدروا الله حق قدره" إلى آخر ثلاث آيات، و "قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم" إلى آخر ثلاث آيات. قال ابن عطية: وهي الآيات المحكمات، يعني في هذه السورة. وقال القرطبي: هي مكية إلا آيتين هما "وما قدروا الله حق قدره" نزلت في مالك بن الصيف وكعب بن الأشرف اليهوديين، وقوله تعالى: "وهو الذي أنشأ جنات معروشات" نزلت في ثابت بن قيس بن شماس. وأخرج أبو الشيخ وابن مردويه والبيهقي في الدلائل عن ابن عباس قال: أنزلت سورة الأنعام بمكة. وأخرج أبو عبيد وابن المنذر والطبراني وابن مردويه عنه، قال: أنزلت سورة الأنعام بمكة ليلاً جملة وحولها سبعون ألف ملك يجأرون حولها بالتسبيح. وأخرج ابن مردويه عن ابن مسعود قال: نزلت سورة الأنعام يشيعها سبعون ألفاً من الملائكة. وأخرج ابن مردويه عن أسماء قال: نزلت سورة الأنعام على النبي صلى الله عليه وسلم وهو في مسير في زجل من الملائكة. وقد نظموا ما بين السماء والأرض. وأخرج الطبراني وابن مردويه عن أسماء بنت يزيد نحوه. وأخرج الطبراني وابن مردويه عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "نزلت علي سورة الأنعام جملة واحدة يشيعها سبعون ألف ملك لهم زجل بالتسبيح والتحميد" وهو من طريق إبراهيم بن نائلة شيخ الطبراني عن إسماعيل بن عمرو عن يوسف بن عطية بن عون عن نافع عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذكره. وابن مردويه رواه عن الطبراني عن إسماعيل المذكور به. وأخرج الطبراني وابن مردويه وأبو الشيخ والبيهقي في الشعب عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "نزلت سورة الأنعام ومعها موكب من الملائكة يسد ما بين الخافقين، لهم زجل بالتسبيح والتقديس، والأرض ترتج، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: سبحان الله العظيم سبحان الله العظيم". وأخرج الحاكم وقال: صحيح على شرط مسلم، والإسماعيلي في معجمه والبيهقي عن جابر قال: لما نزلت سورة الأنعام سبح رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال: "لقد شيع هذه السورة من الملائكة ما سد الأفق". وأخرج البيهقي وضعفه والخطيب في تاريخه عن علي بن أبي طالب قال: أنزل القرآن خمساً خمساً، ومن حفظه خمساً خمساً لم ينسه، إلا سورة الأنعام فإنها نزلت جملة يشيعها من كل سماء سبعون ملكاً حتى أدوها إلى النبي صلى الله عليه وسلم، ما قرئت على عليل إلا شفاه الله. وأخرج أبو الشيخ عن أبي بن كعب مرفوعاً نحو حديث ابن عمر. وأخرج النحاس في تاريخه عن ابن عباس قال: سورة الأنعام نزلت بمكة جملة واحدة، فهي مكية إلا ثلاث آيات منها نزلن بالمدينة "قل تعالوا أتل ما حرم" إلى تمام الآيات الثلاث. وأخرج الديلمي بسند ضعيف عن أنس مرفوعاً "ينادي مناد: يا قارئ سورة الأنعام هلم إلى الجنة بحبك إياها وتلاوتها". وأخرج ابن المنذر عن أبي جحيفة قال: نزلت سورة الأنعام جميعها معها سبعون ألف ملك كلها مكية إلا "ولو أننا نزلنا إليهم الملائكة" فإنها مدنية. وأخرج أبو عبيد في فضائله والدارمي في مسنده ومحمد بن نصر في كتاب الصلاة وأبو الشيخ عن عمر بن الخطاب قال: الأنعام من نواجب القرآن. وأخرج محمد بن نصر عن ابن مسعود مثله. وأخرج السلفي بسند واه عن ابن عباس مرفوعاً: "من قرأ إذا صلى الغداة ثلاث آيات من أول سورة الأنعام إلى "ويعلم ما تكسبون" نزل إليه أربعون ألف ملك يكتب له مثل أعمالهم، ونزل إليه ملك من فوق سبع سموات ومعه مرزبة من حديد، فإن أوحى الشيطان في قلبه شيئاً من الشر ضربه ضربة حتى يكون بينه وبينه سبعون حجاباً، فإذا كان يوم القيامة، قال الله تعالى: أنا ربك وأنت عبدي، امش في ظلي واشرب من الكوثر واغتسل من السلسبيل وادخل الجنة بغير حساب ولا عذاب". وأخرج الديلمي عن ابن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من صلى الفجر في جماعة وقعد في مصلاه وقرأ ثلاث آيات من أول سورة الأنعام وكل الله به سبعين ملكاً يسبحون الله ويستغفرون له إلى يوم القيامة". وفي فضائل هذه السورة روايات عن جماعة من التابعين مرفوعة وغير مرفوعة. قال القرطبي: قال العلماء: هذه السورة أصل في محجة المشركين وغيرهم من المبتدعين ومن كذب بالبعث والنشور، وهذا يقتضي إنزالها جملة واحدة لأنها في معنى واحد من الحجة وإن تصرف ذلك بوجوه كثيرة، وعليها بنى المتكلمون أصول الدين. بدأ سبحانه هذه السورة بالحمد لله، للدلالة على أن الحمد كله له، ولإقامة الحجة على الذين هم بربهم يعدلون. وقد تقدم في سورة الفاتحة ما يغني عن الإعادة له هنا، ثم وصف نفسه بأنه الذي خلق السموات والأرض إخباراً عن قدرته الكاملة الموجبة لاستحقاقه لجميع المحامد، فإن من اخترع ذلك وأوجده هو الحقيق بإفراده بالثناء وتخصيصه بالحمد، والخلق يكون بمعنى الاختراع، وبمعنى التقدير وقد تقدم تحقيق ذلك، وجمع السموات لتعدد طباقها، وقدمها على الأرض لتقدمها في الوجود "والأرض بعد ذلك دحاها". قوله: 1- "وجعل الظلمات والنور" معطوف على خلق، ذكر سبحانه خلق الجواهر بقوله: "خلق السموات والأرض" ثم ذكر خلق الأعراض بقوله: "وجعل الظلمات والنور" لأن الجواهر لا تستغني عن الأعراض. واختلف أهل العلم في المعنى المراد بالظلمات والنور، فقال جمهور المفسرين: المراد بالظلمات سواد الليل، وبالنور ضياء النهار. وقال الحسن: الكفر والإيمان. قال ابن عطية: وهذا خروج عن الظاهر انتهى. والأولى أن يقال: إن الظلمات تشمل كل ما يطلق عليه اسم الظلمة، والنور يشمل كل ما يطلق عليه اسم النور فيدخل تحت ذلك ظلمة الكفر ونور الإيمان "أو من كان ميتاً فأحييناه وجعلنا له نوراً يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات" وأفرد النور لأنه جنس يشمل جميع أنواعه، وجمع الظلمات لكثرة أسبابها وتعدد أنواعها. قال النحاس: جعل هنا بمعنى خلق: وإذا كانت بمعنى خلق لم تتعد إلا إلى مفعول واحد. وقال القرطبي: جعل هنا بمعنى خلق لا يجوز غيره. قال ابن عطية: وعليه يتفق اللفظ والمعنى في النسق، فيكون الجمع معطوفاً على الجمع، والمفرد معطوفاً على المفرد، وتقديم الظلمات على النور لأنها الأصل، ولهذا كان النهار مسلوخاً من الليل. قوله: "ثم الذين كفروا بربهم يعدلون" معطوف على الحمد لله، أو على خلق السموات والأرض، وثم لاستبعاد ما صنعه الكفار من كونهم بربهم يعدلون مع ما تبين من أن الله سبحانه حقيق بالحمد على خلقه السموات والأرض والظلمات والنور، فإن هذا يقتضي الإيمان به وصرف الثناء الحسن إليه، لا الكفر به واتخاذ شريك له، وتقديم المفعول للاهتمام، ورعاية الفواصل، وحذف المفعول لظهوره: أي يعدلون به ما لا يقدر على شيء مما يقدر عليه، وهذا نهاية الحمق وغاية الرقاعة حيث يكون منه سبحانه تلك النعم، ويكون من الكفرة الكفر.
قوله: 2- "هو الذي خلقكم من طين" في معناه قولان: أحدهما: وهو الأشهر، وبه قال الجمهور: أن المراد آدم عليه السلام، وأخرجه مخرج الخطاب للجميع، لأنهم ولده ونسله. الثاني: أن يكون المراد جميع البشر باعتبار أن النطفة التي خلقوا منها مخلوقة من الطين، ذكر الله سبحانه خلق آدم وبنيه بعد خلق السموات والأرض إتباعاً للعالم الأصغر بالعالم الأكبر، والمطلوب بذكر هذه الأمور دفع كفر الكافرين بالبعث ورد لجحودهم بما هو مشاهد لهم لا يمترون فيه. قوله: "ثم قضى أجلاً وأجل مسمى عنده" جاء بكلمة ثم لما بين خلقهم وبين موتهم من التفاوت. وقد اختلف السلف ومن بعدهم في تفسير الأجلين، فقيل "قضى أجلاً" يعني الموت "وأجل مسمى عنده" يعني القيامة، وهو مروي عن ابن عباس وسعيد بن جبير والحسن وقتادة والضحاك ومجاهد وعكرمة وزيد بن أسلم وعطية والسدي وخصيف ومقاتل وغيرهم، وقيل الأول ما بين أن يخلق إلى أن يموت، والثاني ما بين أن يموت إلى أن يبعث، وهو قريب من الأول. وقيل الأول مدة الدنيا، والثاني عمر الإنسان إلى حين موته. وهو مروي عن ابن عباس ومجاهد. وقيل الأول قبض الأرواح في النوم، والثاني قبض الروح عند الموت. وقيل الأول ما يعرف من أوقات الأهلة والبروج وما يشبه ذلك، والثاني أجل الموت. وقيل الأول لمن مضى، والثاني لمن بقي ولمن يأتي. وقيل إن الأول الأجل الذي هو محتوم، والثاني الزيادة في العمر لمن وصل رحمه، فإن كان براً تقياً وصولاً لرحمه زيد في عمره، وإن كان قاطعاً للرحم لم يزد له، ويرشد إلى هذا قوله تعالى: "وما يعمر من معمر ولا ينقص من عمره إلا في كتاب" وقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن صلة الرحم تزيد في العمر، وورد عنه أن دخول البلاد التي قد فشا بها الطاعون والوباء من أسباب الموت، وجاز الابتداء بالنكرة في قوله: "وأجل مسمى عنده" لأنها قد تخصصت بالصفة. قوله: "ثم أنتم تمترون" استبعاد لصدور الشك منهم مع وجود المقتضى لعدمه: أي كيف تشكون في البعث مع مشاهدتكم في أنفسكم من الابتداء والانتهاء ما يذهب بذلك ويدفعه، فإن من خلقكم من طين وصيركم أحياء تعلمون وتعقلون وخلق لكم هذه الحواس والأطراف، ثم سلب ذلك عنكم فصرتم أمواتاً وعدتم إلى ما كنتم عليه من الجمادية، لا يعجزه أن يبعثكم ويعيد هذه الأجسام كما كانت، ويرد إليها الأرواح التي فارقتها بقدرته وبديع حكمته.
قوله: 3- "وهو الله في السموات وفي الأرض يعلم سركم وجهركم ويعلم ما تكسبون" قيل إن في السموات وفي الأرض متعلق باسم الله باعتبار ما يدل عليه من كونه معبوداً ومتصرفاً ومالكاً: أي هو المعبود أو المالك أو المتصرف في السموات والأرض كما تقول: زيد الخليفة في الشرق والغرب: أي حاكم أو متصرف فيهما، وقيل المعنى: وهو الله يعلم سركم وجهركم في السموات وفي الأرض فلا تخفى عليه خافية، فيكون العامل فيهما ما بعدهما. قال النحاس: وهذا من أحسن ما قيل فيه. وقال ابن جرير: هو الله في السموات ويعلم سركم وجهركم في الأرض. والأول أولى، ويكون "يعلم سركم وجهركم" جملة مقررة لمعنى الجملة الأولى، لأن كونه سبحانه في السماء والأرض يستلزم علمه بأسرار عباده وجهرهم، وعلمه بما يكسبونه من الخير والشر وجلب النفع ودفع الضرر. وقد أخرج ابن أبي حاتم عن علي أن هذه الآية أعني الحمد لله إلى قوله: "ثم الذين كفروا بربهم يعدلون" نزلت في أهل الكتاب. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وأبو الشيخ عن عبد الرحمن بن أبزى عن أبيه نحوه. وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن مجاهد قال: نزلت هذه الآية في الزنادقة، قالوا: إن الله لم يخلق الظلمة ولا الخنافس ولا العقارب ولا شيئاً قبيحاً، وإنما يخلق النور وكل شيء حسن، فأنزلت فيهم هذه الآية. وأخرج أبو الشيخ عن ابن عباس "وجعل الظلمات والنور" قال: الكفر والإيمان. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن قتادة قال: إن الذين بربهم يعدلون هم أهل الشرك. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن السدي مثله. وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن مجاهد قال: "يعدلون" يشركون. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن زيد في قوله: "ثم الذين كفروا بربهم يعدلون" قال: الآلهة التي عبدوها عدلوها بالله، وليس لله عدل ولا ند، وليس معه آلهة ولا اتخذ صاحبة ولا ولداً. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس "هو الذي خلقكم من طين" يعني آدم "ثم قضى أجلاً" يعني أجل الموت "وأجل مسمى عنده" أجل الساعة والوقوف عند الله. وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ والحاكم وصححه عنه في قوله: "ثم قضى أجلاً" قال: أجل الدنيا، وفي لفظ أجل موته "وأجل مسمى عنده" قال: الآخرة لا يعلمه إلا الله. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عنه "قضى أجلاً" قال: هو اليوم يقبض فيه الروح ثم يرجع إلى صاحبه من اليقظة "وأجل مسمى عنده" قال: هو أجل موت الإنسان.
قوله: 4- "وما تأتيهم" إلخ، كلام مبتدأ لبيان بعض أسباب كفرهم وتمردهم، وهو الإعراض عن آيات الله التي تأتيهم كمعجزات الأنبياء، وما يصدر عن قدرة الله الباهرة مما لا يشك من له عقل أنه فعل الله سبحانه، والإعراض: ترك النظر في الآيات التي يجب أن يستدلوا بها على توحيد الله و من في "من آية" مزيدة للاستغراق و من في "من آيات" تبعيضية: أي وما تأتيهم آية من الآيات التي هي بعض آيات ربهم إلا كانوا عنها معرضين.
والفاء في 5- "فقد كذبوا" جواب شرط مقدر: أي إن كانوا معرضين عنها فقد كذبوا بما هو أعظم من ذلك وهو الحق "لما جاءهم" قيل المراد بالحق هنا القرآن، وقيل محمد صلى الله عليه وسلم " فسوف يأتيهم أنباء ما كانوا به يستهزئون " أي أخبار الشيء الذي كانوا به يستهزئون وهو القرآن أو محمد صلى الله عليه وسلم، على أن ما عبارة عن ذلك تهويلاً للأمر وتعظيماً له: أي سيعرفون أن هذا الشيء الذي استهزأوا به ليس بموضع للاستهزاء، وذلك عند إرسال عذاب الله عليهم، كما يقال: اصبر فسوف يأتيك الخبر عن إرادة الوعيد والتهديد، وفي لفظ الأنباء ما يرشد إلى ذلك فإنه لا يطلق إلا على خبر عظيم.
قوله: 6- "ألم يروا كم أهلكنا من قبلهم من قرن" كلام مبتدأ لبيان ما تقدمه، والهمزة للإنكار، و كم يحتمل أن تكون الاستفهامية وأن تكون الخبرية وهي معلقة لفعل الرؤية عن العمل فيما بعده، و "من قرن" تمييز، والقرن يطلق على أهل كل عصر، سموا بذلك لاقترانهم: أي ألم يعرفوا بسماع الأخبار ومعاينة الآثار كم أهلكنا من قبلهم من الأمم الموجودة في عصر بعد عصر لتكذيبهم أنبياءهم. وقيل القرن مدة من الزمان. وهي ستون عاماً أو سبعون أو ثمانون أو مائة على اختلاف الأقوال، فيكون ما في الآية على تقدير مضاف محذوف: أي من أهل قرن. قوله: "مكناهم في الأرض ما لم نمكن لكم" مكن له في الأرض جعل له مكاناً فيها، ومكنه في الأرض: أثبته فيها، والجملة مستأنفة جواب سؤال مقدر كأنه قيل: كيف ذلك، وقيل إن هذه الجملة صفة لقرن، والأول أولى، و ما في "ما لم نمكن" نكرة موصوفة بما بعدها: أي مكناهم تمكيناً لم نمكنه لكم، والمعنى: إنا أعطينا القرون الذين هم قبلكم ما لم نعطكم من الدنيا وطول الأعمار وقوة الأبدان وقد أهلكناهم جميعاً، فإهلاككم وأنتم دونهم بالأولى. قوله: "وأرسلنا السماء عليهم مدراراً" يريد المطر الكثير، عبر عنه بالسماء، لأنه ينزل من السماء، ومنه قول الشاعر: إذا نزل السماء بأرض قوم والمدرار صيغة مبالغة تدل على الكثرة كمذكار للمرأة التي كثرت ولادتها للذكور، وميناث للتي تلد الإناث، يقال در اللبن يدر: إذا أقبل على الحالب بكثرة وانتصاب "مدراراً" على الحال، وجريان الأنهار من تحتهم معناه من تحت أشجارهم ومنازلهم: أي أن الله وسع عليهم النعم بعد التمكين لهم في الأرض فكفروها، فأهلكهم الله بذنوبهم "وأنشأنا من بعدهم" أي من بعد إهلاكهم "قرناً آخرين" فصاروا بدلاً من الهالكين، وفي هذا بيان لكمال قدرته سبحانه وقوة سلطانه وأنه يهلك من يشاء ويوجد من يشاء.
قوله: 7- "ولو نزلنا عليك كتاباً في قرطاس فلمسوه بأيديهم لقال الذين كفروا إن هذا إلا سحر مبين" في هذه الجملة بيان شدة صلابتهم في الكفر، وأنهم لا يؤمنون ولو أنزل الله على رسوله كتاباً مكتوباً في قرطاس بمرأى منهم ومشاهدة "فلمسوه بأيديهم" حتى يجتمع لهم إدراك الحاستين: حاسة البصر، وحاسة اللمس "لقال الذين كفروا" منهم "إن هذا إلا سحر مبين" ولم يعملوا بما شاهدوا ولمسوا، وإذا كان هذا حالهم في المرئي المحسوس، فكيف فيما هو مجرد وحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بواسطة ملك لا يرونه ولا يحسونه؟ والكتاب مصدر بمعنى الكتابة، والقرطاس: الصحيفة.
قوله: 8- "وقالوا لولا أنزل عليه ملك" هذه الجملة مشتملة على نوع آخر من أنواع جحدهم لنبوته صلى الله عليه وسلم وكفرهم بها: أي قالوا هلا أنزل الله عليك ملكاً نراه ويكلمنا أنه نبي حتى نؤمن به ونتبعه؟ كقولهم: "لولا أنزل إليه ملك فيكون معه نذيراً". "ولو أنزلنا ملكاً لقضي الأمر" أي لو أنزلنا ملكاً على الصفة التي اقترحوها بحيث يشاهدونه ويخاطبونه ويخاطبهم "لقضي الأمر" أي لأهلكناهم إذ لم يؤمنوا عند نزوله ورؤيتهم له، لأن مثل هذه الآية البينة، وهي نزول الملك على تلك الصفة إذا لم يقع الإيمان بعدها فقد استحقوا الإهلاك والمعالجة بالعقوبة "ثم لا ينظرون" أي لا يمهلون بعد نزوله ومشاهدتهم له، وقيل إن المعنى: إن الله سبحانه لو أنزل ملكاً مشاهداً لم تطق قواهم البشرية أن يبقوا بعد مشاهدته أحياء، بل تزهق أرواحهم عند ذلك فيبطل ما أرسل الله له رسله وأنزل به كتبه من هذا التكليف الذي كلف به عباده "لنبلوهم أيهم أحسن عملاً".
الصفحة رقم 128 من المصحف تحميل و استماع mp3