تفسير ابن كثير تفسير الصفحة 144 من المصحف



تفسير ابن كثير - صفحة القرآن رقم 144

144 : تفسير الصفحة رقم 144 من القرآن الكريم

** فَمَن يُرِدِ اللّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيّقاً حَرَجاً كَأَنّمَا يَصّعّدُ فِي السّمَآءِ كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللّهُ الرّجْسَ عَلَى الّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ
يقول تعالى: {فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام} أي ييسره له وينشطه ويسهله, لذلك فهذه علامات على الخير, كقوله تعالى: {أفمن شرح الله صدره للإسلام فهو على نور من ربه} الاَية, وقال تعالى: {ولكن الله حبب إليكم الإيمان وزينه في قلوبكم وكره إليكم الكفر والفسوق والعصيان أولئك هم الراشدون} وقال ابن عباس رضي الله عنهما: في قوله {فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام} يقول تعالى: يوسع قلبه للتوحيد والإيمان به, وكذا قال أبو مالك وغير واحد وهو ظاهر.
وقال عبد الرزاق, أخبرنا الثوري عن عمرو بن قيس, عن عمرو بن مرة, عن أبي جعفر, قال, سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم أي المؤمنين أكيس ؟ قال «أكثرهم ذكراً للموت وأكثرهم لما بعده استعداداً» قال: وسئل النبي صلى الله عليه وسلم عن هذه الاَية {فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام} قالوا: كيف يشرح صدره يا رسول الله ؟ قال «نور يقذف فيه فينشرح له وينفسح» قالوا: فهل لذلك من أمارة يعرف بها ؟ قال «الإنابة إلى دار الخلود والتجافي عن دار الغرور, والاستعداد للموت قبل لقاء الموت» وقال ابن جرير: حدثنا هناد, حدثنا قبيصة عن سفيان يعني الثوري, عن عمرو بن مرة, عن رجل يكنى أبا جعفر كان يسكن المدائن, قال: سئل النبي صلى الله عليه وسلم, عن قول الله تعالى: {فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام} فذكر نحو ما تقدم.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو سعيد الأشج, حدثنا ابن إدريس, عن الحسن بن الفرات القزاز, عن عمرو بن مرة, عن أبي جعفر, قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم {فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام} قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إذا دخل الإيمان القلب انفسح له القلب وانشرح» قالوا: يا رسول الله هل لذلك من أمارة ؟ قال «نعم الإنابة إلى دارالخلود والتجافي عن دار الغرور, والاستعداد للموت قبل الموت» وقد رواه ابن جرير: عن سوار بن عبد الله العنبري, حدثنا المعتمر بن سليمان, سمعت أبي يحدث عن عبد الله بن مرة, عن أبي جعفر فذكره.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو سعيد الأشج, حدثنا أبو خالد الأحمر, عن عمرو بن قيس, عن عمرو بن مرة, عن عبد الله بن المسوّر, قال: تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الاَية {فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام} قالوا: يا رسول الله ما هذا الشرح ؟ قال «نور يقذف به في القلب» قالوا: يا رسول الله فهل لذلك من أمارة تعرف ؟ قال «نعم» قالوا: وما هي ؟ قال «الإنابة إلى دار الخلود والتجافي عن دار الغرور, والاستعداد للموت قبل الموت».
وقال ابن جرير أيضاً: حدثني هلال بن العلاء, حدثنا سعيد بن عبد الملك بن واقد, حدثنا محمد بن سلمة, عن أبي عبد الرحيم عن زيد بن أبي أنيسة, عن عمرو بن مرة, عن أبي عبيدة بن عبد الله بن مسعود, قال: قال رسول الله «إذا دخل النور القلب انفسح وانشرح» قالوا: فهل لذلك من علامة يعرف بها ؟ قال «الإنابة إلى دار الخلود والتنحي عن دار الغرور, والاستعداد للموت قبل لقاء الموت» وقد رواه من وجه آخر عن ابن مسعود متصلاً مرفوعاً فقال: حدثني ابن سنان القزاز, حدثنا محبوب بن الحسن الهاشمي, عن يونس, عن عبد الرحمن بن عبيد الله بن عتبة, عن عبد الله بن مسعود, عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال {فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام} قالوا: يا رسول الله وكيف يشرح صدره ؟ قال «يدخل فيه النور فينفسح» قالوا: وهل لذلك علامة يا رسول الله ؟ قال «التجافي عن دار الغرور والإنابة إلى دار الخلود, والاستعداد للموت قبل أن ينزل الموت» فهذه طرق لهذا الحديث مرسلة ومتصلة, يشد بعضها بعضاً, والله أعلم.
وقوله تعالى: {ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقاً حرج} قرىء بفتح الضاد وتسكين الياء, والأكثرون ضيقاً بتشديد الياء وكسرها, وهما لغتان كهين وهين, وقرأ بعضهم حرجاً بفتح الحاء وكسر الراء قيل بمعنى آثم, قاله السدي, وقيل: بمعنى القراءة الأخرى حرجاً بفتح الحاء والراء, وهو الذي لا يتسع لشيء من الهدى, ولا يخلص إليه شيء ما ينفعه من الإيمان, ولا ينفذ فيه.
وقد سأل عمر بن الخطاب رضي الله عنه رجلاً من الأعراب من أهل البادية من مدلج عن الحرجة, فقال: هي الشجرة تكون بين الأشجار, لا تصل إليها راعية ولا وحشية ولا شيء, فقال عمر رضي الله عنه: كذلك قلب المنافق لا يصل إليه شيء من الخير. وقال العوفي: عن ابن عباس, يجعل الله عليه الإسلام ضيقاً, والإسلام واسع, وذلك حين يقول {ما جعل عليكم في الدين من حرج} يقول: ما جعل عليكم في الإسلام من ضيق, وقال مجاهد والسدي: ضيقاً حرجاً شاكاً, وقال عطاء الخراساني: ضيقاً حرجاً أي ليس للخير فيه منفذ, وقال ابن المبارك عن ابن جريج: ضيقاً حرجاً بلا إله إلا الله حتى لا يستطيع أن تدخل قلبه, {كأنما يصعد في السماء} من شدة ذلك عليه. وقال سعيد بن جبير: يجعل صدره ضيقاً حرجاً, قال: لا يجد فيه مسلكاً إلا صعداً. وقال السدي {كأنما يصعد في السماء} من ضيق صدره.
وقال عطاء الخراساني {كأنما يصعد في السماء} يقول مثله كمثل الذي لا يستطيع أن يصعد إلى السماء, وقال الحكم بن أبان: عن عكرمة عن ابن عباس {كأنما يصعد في السماء} يقول: فكما لا يستطيع ابن آدم أن يبلغ السماء, فكذلك لا يستطيع أن يدخل التوحيد والإيمان قلبه, حتى يدخله الله في قلبه, وقال الأوزاعي {كأنما يصعد في السماء} كيف يستطيع من جعل الله صدره ضيقاً أن يكون مسلماً.
وقال الإمام أبو جعفر بن جرير: وهذا مثل ضربه الله لقلب هذا الكافر في شدة ضيقه عن وصول الإيمان إليه, يقول: فمثله في امتناعه من قبول الإيمان وضيقه عن وصوله إليه, مثل امتناعه عن الصعود إلى السماء وعجزه عنه, لأنه ليس في وسعه وطاقته, وقال: في قوله {كذلك يجعل الله الرجس على الذين لا يؤمنون} يقول: كما يجعل الله صدر من أراد إضلاله ضيقاً حرجاً, كذلك يسلط الله الشيطان عليه وعلى أمثاله, ممن أبى الإيمان بالله ورسوله فيغويه ويصده عن سبيل الله, وقال ابن أبي طلحة عن ابن عباس: الرجس الشيطان, وقال مجاهد: الرجس: كل مالا خير فيه, وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: الرجس العذاب.

** وَهَـَذَا صِرَاطُ رَبّكَ مُسْتَقِيماً قَدْ فَصّلْنَا الاَيَاتِ لِقَوْمٍ يَذّكّرُونَ * لَهُمْ دَارُ السّلاَمِ عِندَ رَبّهِمْ وَهُوَ وَلِيّهُمْ بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ
لما ذكر تعالى طريق الضالين عن سبيله الصادين عنها, نبه على شرف ما أرسل به رسوله من الهدى ودين الحق, فقال تعالى: {وهذا صراط ربك مستقيم} منصوب على الحال, أي هذا الدين الذي شرعناه لك يا محمد بما أوحينا إليك هذا القرآن هو صراط الله المستقيم, كما تقدم في حديث الحارث عن علي في نعت القرآن: هو صراط الله المستقيم وحبل الله المتين وهو الذكر الحكيم, رواه أحمد والترمذي بطوله, {قد فصلنا الاَيات} أي وضحناها وبيناها وفسرناها {لقوم يذكرون} أي لمن له فهم ووعي يعقل عن الله ورسوله {لهم دار السلام} وهي الجنة {عند ربهم} أي يوم القيامة, وإنما وصف الله الجنة ههنا بدار السلام, لسلامتهم فيما سلكوه من الصراط المستقيم المقتفي أثر الأنبياء وطرائقهم, فكما سلموا من آفات الاعوجاج أفضوا إلى دار السلام {وهو وليهم} أي حافظهم وناصرهم ومؤيدهم {بما كانوا يعملون} أي جزاء على أعمالهم الصالحة, تولاهم وأثابهم الجنة بمنه وكرمه.

** وَيَوْمَ يِحْشُرُهُمْ جَمِيعاً يَامَعْشَرَ الْجِنّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مّنَ الإِنْسِ وَقَالَ أَوْلِيَآؤُهُم مّنَ الإِنْسِ رَبّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَآ أَجَلَنَا الّذِيَ أَجّلْتَ لَنَا قَالَ النّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَآ إِلاّ مَا شَآءَ اللّهُ إِنّ رَبّكَ حَكِيمٌ عَليمٌ
يقول تعالى واذكر يا محمد فيما تقصه عليهم وتنذرهم به {ويوم يحشرهم جميع} يعني الجن وأولياءهم من الإنس الذين كانوا يعبدونهم في الدنيا, ويعوذون بهم ويطيعونهم, ويوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غروراً, {يا معشر الجن قد استكثرتم من الإنس} أي ثم يقول: يا معشر الجن, وسياق الكلام يدل على المحذوف, ومعنى قوله {قد استكثرتم من الإنس} أي من إغوائهم, وإضلالهم, كقوله تعالى: {ألم أعهد إليكم يا بني آدم أن لا تعبدوا الشيطان إنه لكم عدو مبين * وأن اعبدوني هذا صراط مستقيم * ولقد أضل منكم جبلاً كثيراً أفلم تكونوا تعقلون} وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس {يا معشر الجن قد استكثرتم من الإنس} يعني أضللتم منهم كثيراً, وكذا قال مجاهد والحسن وقتادة, {وقال أولياؤهم من الإنس ربنا استمتع بعضنا ببعض} يعني أن أولياء الجن من الإنس قالوا: مجيبين لله تعالى عن ذلك بهذا.
قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي, حدثنا أبو الأشهب هوذة بن خليفة, حدثنا عوف عن الحسن في هذه الاَية, قال استكثرتم من أهل النار يوم القيامة, فقال أولياؤهم من الإنس: ربنا استمتع بعضناببعض, قال الحسن وما كان استمتاع بعضهم ببعض, إلا أن الجن أمرت وعملت الإنس, وقال محمد بن كعب في قوله {ربنا استمتع بعضنا ببعض} قال الصحابة: في الدنيا.
وقال ابن جريج: كان الرجل في الجاهلية ينزل الأرض فيقول: أعوذ بكبير هذا الوادي, فذلك استمتاعهم فاعتذروا به يوم القيامة, وأما استمتاع الجن بالإنس فإنه كان فيما ذكر, ما ينال الجن من الإنس من تعظيمهم إياهم في استعانتهم بهم, فيقولون: قد سدنا الإنس والجن {وبلغنا أجلنا الذي أجلت لن} قال السدي: يعني الموت, {قال النار مثواكم} أي مأواكم ومنزلكم أنتم وإياهم وأولياؤكم, {خالدين فيه} أي ماكثين فيها مكثاً مخلداً إلا ما شاء الله, قال بعضهم: يرجع معنى الاستثناء إلى البرزخ, وقال بعضهم: هذا رد إلى مدة الدنيا, وقيل غير ذلك من الأقوال التي سيأتي تقريرها, عند قوله تعالى في سورة هود, {خالدين فيها ما دامت السموات والأرض إلا ما شاء ربك إن ربك فعال لما يريد} وقد روى ابن جرير وابن أبي حاتم في تفسيره هذه الاَية, من طريق عبد الله بن صالح كاتب الليث, حدثني معاوية بن صالح, عن علي بن أبي حاتم بن أبي طلحة, عن ابن عباس, قال {النار مثواكم خالدين فيها إلا ما شاء الله إن ربك حكيم عليم} قال: إن هذه الاَية آية لا ينبغي لأحد أن يحكم على الله في خلقه ولا ينزلهم جنة ولا ناراً.

** وَكَذَلِكَ نُوَلّي بَعْضَ الظّالِمِينَ بَعْضاً بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ
قال سعيد عن قتادة في تفسيرها: إنما يولي الله الناس بأعمالهم, فالمؤمن وليّ المؤمن أين كان وحيث كان, والكافر وليّ الكافر أينما كان وحيثما كان, وليس الإيمان بالتمني ولا بالتحلي واختاره ابن جرير, وقال معمر عن قتادة في تفسير الاَية: يولي الله بعض الظالمين بعضاً في النار, يتبع بعضهم بعضاً. وقال مالك بن دينار: قرأت في الزبور, إني أنتقم من المنافقين بالمنافقين, ثم أنتقم من المنافقين جميعاً, وذلك في كتاب الله قول الله تعالى: {وكذلك نولي بعض الظالمين بعض} وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: في قوله {وكذلك نولي بعض الظالمين بعض} قال: ظالمي الجن وظالمي الإنس, وقرأ {ومن يعش عن ذكر الرحمن نقيض له شيطاناً فهو له قرين} قال: ونسلط ظلمة الجن على ظلمة الإنس, وقد روى الحافظ ابن عساكر في ترجمة عبد الباقي بن أحمد, من طريق سعيد بن عبد الجبار الكرابيسي, عن حماد بن سلمة, عن عاصم, عن ذر, عن ابن مسعود, مرفوعاً «من أعان ظالماً سلطه الله عليه» وهذا حديث غريب, وقال بعض الشعراء:
وما من يد إلا يد الله فوقهاولا ظالم إلا سيبلى بظالم
ومعنى الاَية الكريمة, كما ولينا هؤلاء الخاسرين من الإنس تلك الطائفة التي أغوتهم من الجن, كذلك نفعل بالظالمين نسلط بعضهم على بعض ونهلك بعضهم ببعض وننتقم من بعضهم ببعض, جزاء على ظلمهم وبغيهم.

** يَامَعْشَرَ الْجِنّ وَالإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مّنْكُمْ يَقُصّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي وَيُنذِرُونَكُمْ لِقَآءَ يَوْمِكُمْ هَـَذَا قَالُواْ شَهِدْنَا عَلَىَ أَنْفُسِنَا وَغَرّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدّنْيَا وَشَهِدُواْ عَلَىَ أَنْفُسِهِمْ أَنّهُمْ كَانُواْ كَافِرِينَ
وهذا أيضاً مما يقرع الله به كافري الجن والإنس يوم القيامة, حيث يسألهم وهو أعلم هل بلغتهم الرسل رسالاته ؟ وهذا استفهام تقرير {يا معشر الجن والإنس ألم يأتكم رسل منكم} أي من جملتكم, والرسل من الإنس فقط وليس من الجن رسل, كما قد نص على ذلك مجاهد وابن جريج وغير واحد من الأئمة من السلف والخلف, وقال ابن عباس: الرسل من بني آدم ومن الجن نذر. وحكى ابن جرير عن الضحاك بن مزاحم: أنه زعم أن في الجن رسلاً واحتج بهذه الاَية الكريمة, وفيه نظر, لأنها محتملة وليست بصريحة, وهي ـ والله أعلم ـ كقوله {مرج البحرين يلتقيان * بينهما برزخ لا يبغيان * فبأي آلاء ربكما تكذبان} إلى أن قال {يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان} ومعلوم أن اللؤلؤ والمرجان إنما يستخرجان من الملح لا من الحلو, وهذا واضح ولله الحمد, وقد ذكر هذا الجواب بعينه ابن جرير, والدليل على أن الرسل إنما هم من الإنس, قوله تعالى: {إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده ـ إلى قوله ـ رسلاً مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل}.
وقوله تعالى: عن إبراهيم {وجعلنا في ذريته النبوة والكتاب} فحصر النبوة والكتاب بعد إبراهيم في ذريته, ولم يقل أحد من الناس: إن النبوة كانت في الجن قبل إبراهيم الخليل, ثم انقطعت عنهم ببعثته, وقال تعالى: {وما أرسلنا قبلك من المرسلين إلا إنهم ليأكلون الطعام ويمشون في الأسواق} وقال {وما أرسلنا من قبلك إلا رجالاً نوحي إليهم من أهل القرى} ومعلوم أن الجن تبع للإنس في هذا الباب, ولهذا قال تعالى إخباراً عنهم {وإذ صرفنا إليك نفراً من الجن يستمعون القرآن فلما حضروه قالوا أنصتوا فلما قضي ولوا إلى قومهم منذرين * قالوا يا قومنا إنا سمعنا كتاباً أنزل من بعد موسى مصدقاً لما بين يديه يهدي إلى الحق وإلى طريق مستقيم * يا قومنا أجيبوا داعي الله وآمنوا به يغفر لكم من ذنوبكم ويجركم من عذاب أليم * ومن لا يجب داعي الله فليس بمعجز في الأرض وليس له من دونه أولياء, أولئك في ضلال مبين} وقد جاء في الحديث الذي رواه الترمذي وغيره: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تلا عليهم سورة الرحمن وفيها قوله تعالى: {سنفرغ لكم أيها الثقلان * فبأي آلاء ربكما تكذبان}.
وقال تعالى في هذه الاَية الكريمة {يا معشر الجن والإنس ألم يأتكم رسل منكم يقصون عليكم آياتي وينذرونكم لقاء يومكم هذا قالوا شهدنا على أنفسن} أي أقررنا أن الرسل قد بلغونا رسالاتك وأنذرونا لقاءك, وأن هذا اليوم كائن لا محالة, وقال تعالى: {وغرتهم الحياة الدني} أي وقد فرطوا في حياتهم الدنيا, وهلكوا بتكذيبهم الرسل ومخالفتهم للمعجزات, لما اغتروا به من زخرف الحياة الدنيا وزينتها وشهواتها, {وشهدوا على أنفسهم} أي يوم القيامة {أنهم كانوا كافرين} أي في الدنيا, بما جاءتهم به الرسل صلوات الله وسلامه عليهم.

** ذَلِكَ أَن لّمْ يَكُنْ رّبّكَ مُهْلِكَ الْقُرَىَ بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ * وَلِكُلّ دَرَجَاتٌ مّمّا عَمِلُواْ وَمَا رَبّكَ بِغَافِلٍ عَمّا يَعْمَلُونَ
يقول تعالى: {ذلك أن لم يكن ربك مهلك القرى بظلم وأهلها غافلون} أي إنما أعذرنا إلى الثقلين بإرسال الرسل وإنزال الكتب, لئلا يؤاخذ أحد بظلمه وهو لم تبلغه دعوة, ولكن أعذرنا إلى الأمم, وما عذنبا أحداً إلا بعد إرسال الرسل إليهم, كما قال تعالى: {وإن من قرية إلا خلا فيها نذير} وقال تعالى: {ولقد بعثنا في كل أمة رسولاً أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت} كقوله {وما كنا معذبين حتى نبعث رسول} وقال تعالى: {كلما ألقي فيها فوج سألهم خزنتها ألم يأتكم نذير ؟ قالوا بلى قد جاءنا نذير فكذبن} والاَيات في هذا كثيرة.
قال الإمام أبو جعفر بن جرير: ويحتمل قوله تعالى: {بظلم} وجهين (أحدهما) {ذلك} من أجل {أن لم يكن ربك مهلك القرى بظلم} أهلها بالشرك ونحوه وهم غافلون, ويقول: إن لم يكن يعاجلهم بالعقوبة حتى يبعث إليهم رسولاً ينبههم على حجج الله عليهم, ينذرهم عذاب الله يوم معادهم, ولم يكن بالذي يؤاخذهم غفلة, فيقولوا: ما جاءنا من بشير ولا نذير (والوجه الثاني) {ذلك أن لم يكن ربك مهلك القرى بظلم} يقول: لم يكن ربك. ليهلكهم دون التنبيه والتذكير بالرسل والاَيات والعبر فيظلمهم بذلك, والله غير ظلام لعبيده, ثم شرع يرجح الوجه الأول, ولا شك أنه أقوى, والله أعلم.
قال: وقوله تعالى: {ولكل درجات مما عملو} أي ولكل عامل في طاعة الله أو معصيته مراتب ومنازل من عمله, يبلغه الله إياها ويثيبه بها, إن خيراً فخير وإن شراً فشرٌ, (قلت) ويحتمل أن يعود قوله {ولكل درجات مما عملو} أي من كافري الجن والإنس, أي ولكل درجة في النار بحسبه, كقوله {قال لكل ضعف} وقوله {الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله زدناهم عذاباً فوق العذاب بما كانوا يفسدون} {وما ربك بغافل عما يعملون} قال ابن جرير: أي وكل ذلك من عملهم يا محمد بعلم من ربك, يحصيها ويثبتها لهم عنده, ليجازيهم عليها عند لقائهم إياه ومعادهم إليه.