تفسير الطبري تفسير الصفحة 144 من المصحف

 تفسير الطبري - صفحة القرآن رقم 144
145
143
 الآية : 125
القول في تأويل قوله تعالى: {فَمَن يُرِدِ اللّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيّقاً حَرَجاً كَأَنّمَا يَصّعّدُ فِي السّمَآءِ كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللّهُ الرّجْسَ عَلَى الّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ }.
يقول تعالى ذكره: فَمَنْ يُرِدِ اللّهُ أنْ يَهْدِيَهُ للإيمان به وبرسوله وما جاء به من عند ربه فيوفقه له, يَشْرَحْ صَدْرَهُ للإسْلامِ يقول: فسح صدره لذلك وهوّنه عليه وسهله له بلطفه ومعونته, حتى يستنير الإسلام في قلبه, فيضيء له ويتسع له صدره بالقبول. كالذي جاء الأثر به عن رسول الله صلى الله عليه وسلم, الذي:
10854ـ حدثنا سوار بن عبد الله العنبري, قال: حدثنا المعتمر بن سليمان, قال: سمعت أبي يحدّث, عن عبد الله بن مرّة, عن أبي جعفر, قال: لما نزلت هذه الاَية: فَمَنْ يُرِدَ اللّهُ أنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ للإسْلامِ قالوا: كيف يشرح الصدر؟ قال: «إذا نَزَلَ النّورُ في القَلْبِ انْشَرَحَ له الصّدْرُ وانْفَسَحَ». قالوا: فهل لذلك آية يعرف بها؟ قال: «نَعَمْ, الإنَابَةُ إلى دَار الخُلُودِ, والتّجَافي عن دَارِ الغُرُورِ, والاسْتِعْدَادُ للمَوْتِ قَبْلَ الفَوْتِ».
10855ـ حدثنا الحسن بن يحيى, قال: أخبرنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا الثوريّ, عن عمرو بن قيس, عن عمرو بن مرّة, عن أبي جعفر, قال: سئل النبيّ صلى الله عليه وسلم: أيّ المؤمنين أكيس؟ قال: «أكْثَرُهُمْ للْمَوْت ذكْرا, وأحْسَنُهُمْ لمَا بَعْدَهُ اسْتِعْدَادا». قال: وسئل النبيّ صلى الله عليه وسلم عن هذه الاَية: فَمُنْ يُرِدِ اللّهُ أنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ للإسْلامِ قالوا: كيف يشرح صدره يا رسول الله؟ قال: «نُورٌ يُقْذَفُ فِيهِ فَيَنْشَرِحُ لَهُ ويَنْفَسِحُ» قالوا: فهل لذلك من أمارة يُعرف بها؟ قال: «الإنابَةُ إلى دارِ الخُلُودِ, والتّجافِي عَنْ دَار الغُرور, وَالاسْتِعْدادُ للْمَوْت قَبْلَ المَوْت».
حدثنا هناد, قال: حدثنا قبيصة, عن سفيان, عن عمرو بن مرّة, عن رجل يكني أبا جعفر كان يسكن المدائن, قال: سئل النبيّ صلى الله عليه وسلم عن قوله: فَمَنْ يُرِدِ اللّهُ أنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ للإسْلامِ قال: «نُورٌ يُقْذَفُ فِي القَلْبِ فَيَنْشَرِحُ ويَنْفَسِحُ». قالوا: يا رسول الله, هل له من أمارة يُعرف بها؟ ثم ذكر باقي الحديث مثله.
10856ـ حدثني محمد بن العلاء, قال: حدثنا سعيد بن عبد الملك بن واقد الحراني, قال: قال: حدثنا محمد بن سلمة, عن أبي عبد الرحيم, عن زيد بن أبي أنيسة, عن عمرو بن مرّة, عن أبي عبيدة, عن عبد الله بن مسعود, قال: قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم حين نزلت هذه الاَية: فَمَنْ يُرِدِ اللّهُ أنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ للإسْلامِ؟ قال: «إذَا دَخَلَ النّورُ القَلْبَ انْفَسَحَ وانْشَرَحَ» قالوا: فهل لذلك من أمارة يُعرف بها؟ قال: «الإنابَةُ إلى دارِ الخُلُودِ, والتّنَحّي عَنْ دَارِ الغُرُورِ, والاِسْتِعْدَادُ للمَوْتِ قَبْلَ المَوْتِ».
حدثني سعيد بن الربيع الرازي, قال: حدثنا سفيان بن عيينة, عن خالد بن أبي كريمة, عن عبد الله بن المسور, قال: قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم: فَمَنْ يُرِدِ اللّهُ أنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ للإسْلامِ ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذَا دَخَلَ النورُ القَلْبَ انْفَسَحَ وانْشَرَحَ». قالوا: يا رسول الله, وهل لذلك من علامة تُعرف؟ قال: «نَعَمْ, الإنابَةُ إلى دَارِ الخُلُودِ, والتّجافِي عَنْ دَارِ الغُرُورِ, وَالاِسْتِعْدَادُ للمَوْتِ قَبْلَ نُزُولِ المَوْتِ».
حدثني ابن سنان القزاز, قال: حدثنا محبوب بن حسن الهاشمي, عن يونس, عن عبد الرحمن بن عبد الله بن عتبة, عن عبد الله بن مسعود, عن رسول الله صلى الله عليه وسلم, قال: فَمَنْ يُرِدِ اللّهُ أنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ للإسْلامِ قالوا: يا رسول الله, وكيف يشرح صدره؟ قال: «يُدْخَلُ فيهِ النّورُ فَيَنْفَسِحُ». قالوا: وهل لذلك من علامة يا رسول الله؟ قال: «التّجافِي عَنْ دَارِ الغُرُورِ, والإنابَةُ إلى دَارِ الخُلُودِ, وَالاِسْتِعْدَادَ للمَوْتِ قَبْلَ أنْ يَنْزِلَ المَوْتُ».
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:
10857ـ حدثني محمد بن الحسين, قال: حدثنا أحمد بن المفضل, قال: حدثنا أسباط, عن السديّ: فَمَنْ يُرِدِ اللّهُ أنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ للإسْلامِ أما يشرح صدره للإسلام: فيوسع صدره للإسلام.
10858ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الحسين, قال: ثني حجاج, عن ابن جريج, قوله: فَمَنْ يَرِدِ اللّهُ أنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ للإسْلامِ ب«لا إلَهَ إلاّ اللّهُ».
حدثني المثنى, قال: حدثنا سويد بن نصر, قال: أخبرنا ابن المبارك, عن ابن جريج قراءة: فَمَنْ يُرِدِ اللّهُ أنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ للإسْلامِ ب«لا إلَهَ إلاّ اللّهُ» يَجْعَلْ لَهَا فِي صَدْرِهِ مُتّسَعا.
القول في تأويل قوله تعالى: وَمَنْ يُرِدْ أنْ يُضِلّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيّقا حَرَجا.
يقول تعالى ذكره: ومن أراد الله إضلاله عن سبيل الهدى يشغله بكفره وصدّه عن سبيله, ويجعل صدره بخذلانه وغلبة الكفر عليه حرجا. والحرج: أشدّ الضيق, وهو الذي لا ينفذ من شدّة ضيقه, وهو ههنا الصدر الذي لا تصل إليه الموعظة ولا يدخله نور الإيمان لرَيْنِ الشرك عليه. وأصله من الحرج, والحَرَجُ جمع حَرَجة: وهي الشجرة الملتفّ بها الأشجار, لا يدخل بينها وبينها شيء لشدّة التفافها بها. كما:
10859ـ حدثني المثنى, قال: حدثنا الحجاج بن المنهال, قال: حدثنا هشيم, قال: حدثنا عبد الله بن عمار رجل من أهل اليمن, عن أبي الصلت الثقفي: أنّ عمر بن الخطاب رحمة الله عليه قرأ هذه الاَية: وَمَنْ يُرِدْ أنْ يُضِلّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيّقا حَرَجا بنصب الراء. قال: وقرأ بعض من عنده من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم «ضَيّقا حَرِجا». قال صفوان: فقال عمر: ابغوني رجلاً من كنانة واجعلوه راعيا, وليكن مدلجيّا قال: فأتوه به, فقال له عمر: يا فتى ما الحَرَجة؟ قل: الحرجة فينا: الشجرة تكون بين الأشجاء التي لا تصل إليها راعية ولا وحشية ولا شيء. قال: فقال عمر: كذلك قلب المنافق لا يصل إليه شيء من الخير.
10860ـ حدثني محمد بن سعد, قال: ثني أبي, قال: ثني عمي, قال: ثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس: وَمَنْ يُرِدْ أنْ يُضِلّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيّقا حَرَجا يقول: من أراد الله أن يضله يضيق عليه صدره حتى يجعل الإسلام عليه ضيقا والإسلام واسع, وذلك حين يقول: وَما جَعَلَ عَلَيْكُم فِي الدّينِ مِنْ حَرَجٍ يقول: ما جعل عليكم في الإسلام من ضيق.
واختلف أهل التأويل في تأويل ذلك, فقال بعضهم: معناه: شاكّا. ذكر من قال ذلك:
10861ـ حدثنا عمران بن موسى, قال: حدثنا عبد الوارث بن سعيد, قال: حدثنا حميد, عن مجاهد: ضَيّقا حَرَجا قال: شاكّا.
10862ـ حدثني محمد بن الحسين, قال: حدثنا أحمد بن المفضل, قال: حدثنا أسباط, عن السديّ: ضَيّقا حَرَجا أما حرجا: فشاكّا.
وقال آخرون: معناه: ملتبسا. ذكر من قال ذلك:
10863ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة: يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيقا حَرَجا قال: ضيقا: ملتبسا.
حدثنا عبد الوارث بن عبد الصمد, قال: ثني أبي, قال: ثني عمي, قال: ثني أبي, عن الحسن, عن قتادة أنه كان يقرأ: ضَيقا حَرَجا يقول: ملتبسا.
وقال آخرون: معناه أنه من شدّة الضيق لا يصل إليه الإيمان. ذكر من قال ذلك:
10864ـ حدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا جرير, عن حبيب بن أبي عمرة, عن سعيد بن جبير: يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيقا حَرَجا قال: لا يجد مسلكا إلا صُعُدا.
10865ـ حدثنا محمد بن عبد الأعلى, قال: حدثنا محمد بن ثور, عن معمر, عن عطاء الخراساني: ضَيقا حَرَجا قال: ليس للخير فيه منفذ.
حدثني المثنى, قال: حدثنا سويد بن نصر, قال: أخبرنا ابن المبارك, عن معمر, عن عطاء الخراساني مثله.
10866ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الحسين, قال: ثني حجاج عن ابن جريج, قوله: وَمَنْ يُرِدْ أنْ يُضِلّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيقا حَرَجا بلا إله إلا الله لا يجد لها في صدره مساغا.
حدثني المثنى, قال: حدثنا سويد بن نصر, قال: أخبرنا ابن المبارك, عن ابن جريج قراءة, في قوله: وَمَنْ يُرِدْ أنْ يُضِلّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيقا بلا إله إلا الله, حتى لا يستطيع أن تدخله.
واختلفت القرّاء في قراءة ذلك, فقرأه بعضهم: ضَيقا حَرَجا بفتح الحاء والراء من حَرَجا, وهي قراءة عامة المكيين والعرقيين, بمعنى: حَرَجة على ما وصفت. وقرأ ذلك عامة قرّاء المدينة: «ضَيقا حَرِجا» بفتح الحاء وكسر الراء.
ثم اختلف الذين قرءوا ذلك في معناه, فقال بعضهم: هو بمعنى الحَرَج, وقالوا: الحَرَج بفتح الحاء والراء, والحَرِج بفتح الحاء وكسر الراء بمعَنى واحد, وهما لغتان مشهورتان, مثل الدّنَف والدّنِف, والوَحَد والوَحِد, والفَرَد والفَرِد.
وقال آخرون منهم: بل هو بمعنى الإثم من قولهم: فلان آثمٌ حَرِجٌ. وذكر عن العرب سماعا منها: حَرِجٌ عليك ظلمي, بمعنى: ضِيقٌ وإثم.
والقول عندي في ذلك أنهما قراءتان مشهورتان ولغتان مستفيضتان بمعنى واحد, وبأيتهما قرأ القارىء فهو مصيب لاتفاق معنييهما, وذلك كما ذكرنا من الروايات عن العرب في الوحَد والفَرَد بفتح الحاء من الوَحَد والراء من الفَرَد وكسرهما بمعنى واحد. وأما الضّيّق, فإن عامة القرّاء على فتح ضاده وتشديد يائه, خلا بعض المكيين فإنه قرأه: «ضَيْقا» بفتح الضاد وتسكين الياء وتخفيفه. وقد يتجه لتسكينه ذلك وجهان: أحدهما أن يكون سكنه وهو ينوي معنى التحريك والتشديد, كما قيل: هَيْن لَين, بمعنى: هَيّن لَيّن. والاَخر أن يكون سكنّه بنية المصدر من قولهم: ضاق هذا الأمر يضيق ضَيْقا, كما قال رؤبة:
وَقَدْ عَلِمْنا عندَ كُلّ مَأْزِقِضَيْقٍ بوَجْهِ الأمرِ أيّ مَضْيَقِ
ومنه قول الله: وَلا تَكُ فِي ضيْقٍ مِمّا يَمْكُرُونَ. وقال رؤبة أيضا:
وشَفّها اللّوْحُ بِمأزُولٍ ضَيَقْ
بمعنى: ضيق. وحُكي عن الكسائي أنه كان يقول: الضيق بالكسر: في المعاش والموضع, وفي الأمر الضيق.
وفي هذه الاَية أبين البيان لمن وفق لفهمها عن أن السبب الذي به توصل إلى الإيمان والطاعة غير السبب الذي به توصل إلى الكفر والمعصية, وأن كلا السببين من عند الله وذلك أن الله جلّ ثناؤه أخبر عن نفسه أنه يشرح صدر من أراد هدايته للإسلام, ويجعل صدر من أراد إضلاله ضيقا عن الإسلام حرجا, كأنما يصعد في السماء. ومعلوم أن شرح الصدر للإيمان خلاف تضييقه له, وأنه لو كان توصل بتضييق الصدر عن الإيمان إليه لم يكن بين تضييقه عنه وبين شرحه له فرق, ولكان من ضيق صدره عن الإيمان قد شرح صدره له ومن شرح صدره له فقد ضيق عنه, إذ كن موصولاً بكلّ واحد منهما, أعني من التضييق والشرح إلى ما يوصل به إلى الاَخر. ولو كان ذلك كذلك, وجب أن يكون الله قد كان شرح صدر أبي جهل للإيمان به وضيّق صدر رسول الله صلى الله عليه وسلم عنه وهذا القول من أعظم الكفر بالله. وفي فساد ذلك أن يكون كذلك الدليل الواضح على أن السبب الذي به آمن المؤمنون بالله ورسله وأطاعه المطيعون, غير السبب الذي كفر به الكافرون بالله وعصاه العاصون, وأن كلا السببين من عند الله وبيده, لأنه أخبر جلّ ثناؤه أنه هو الذي يشرح صدر هذا المؤمن به للإيمان إذا أراد هدايته, ويضيق صدر هذا الكافر عنه إذا أراد إضلاله.
القول في تأويل قوله تعالى: كأنّمَا يَصّعّدُ فِي السّماءِ.
وهذا مثل من الله تعالى ذكره ضربه لقلب هذا الكافر في شدّة تضييقه إياه عن وصوله إليه, مثل امتناعه من الصعود إلى السماء وعجزه عنه لأن ذلك ليس في وسعه.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:
10867ـ حدثنا محمد بن عبد الأعلى, قال: حدثنا محمد بن ثور, عن معمر, عن عطاء الخراساني: كأنّمَا يَصّعّدُ فِي السّماءِ يقول: مثله كمثل الذي لا يستطيع أن يصعد في السماء.
حدثني المثنى, قال: حدثنا سويد, قال: أخبرنا ابن المبارك, عن معمر, عن عطاء الخراساني, مثله.
10868ـ وبه قال: أخبرنا ابن المبارك, عن ابن جريج قراءة: يجعل صدره ضيقا حرجا بلا إله إلا الله, حتى لا يستطيع أن تدخله, كأنما يصّعد في السماء من شدّة ذلك عليه.
حدثنا القاسم, قال: حدثنا الحسين, قال: ثني حجاج, عن ابن جريج, مثله.
10869ـ حدثني محمد بن الحسين, قال: حدثنا أحمد بن مفضل, قال: حدثنا أسباط, عن السديّ: كأنّمَا يَصّعّد فِي السّمَاءِ من ضيق صدره.
واختلفت القرّاء في قراءة ذلك, فقرأته عامة قرّاء أهل المدينة والعراق: كأنّمَا يَصّعّدُ بمعنى: يتصعدُ, فأدغموا التاء في الصاد, فلذلك شدّدوا الصاد. وقرأ ذلك بعض الكوفيين: «يَصّاعَدُ» بمعنى: يتصاعد, فأدغم التاء في الصاد وجعلها صادا مشدّدة. وقرأ ذلك بعض قراء المكيين: «كأنّمَا يَصْعَد» من صَعِدَ يَصْعَد. وكل هذه القراءات متقاربات المعاني وبأيها قرأ القارىء فهو مصيب, غير أني أختار القراءة في ذلك بقراءة من قرأه: كأنّمَا يَصّعّدُ بتشديد الصاد بغير ألف, بمعنى: يتصعد, لكثرة القراء بها, ولقِيلِ عمر بن الخطاب رضي الله عنه: «ما تصعّدني شيء ما تصعّدني خُطْبَة النكاح».
القول في تأويل قوله تعالى: كَذَلِكَ يَجْعَلُ الله الرّجْسَ على الّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ.
يقول تعالى ذكره: كما يجعل الله صدر من أراد إضلاله ضيقا حَرَجا, كأنما يصعد في السماء من ضيقه عن الإيمان, فيجزيه بذلك, كذلك يسلط الله الشيطان عليه وعلى أمثاله ممن أبى الإيمان بالله ورسوله, فيغويه ويصدّه عن سبيل الحقّ.
وقد اختلف أهل التأويل في معنى الرجس, فقال بعضهم: هو كلّ ما لا خير فيه. ذكر من قال ذلك:
10870ـ حدثني محمد بن عمر, قال: حدثنا أبو عاصم, عن عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, قال: الرجس: ما لا خير فيه.
حدثني المثنى, قال: حدثنا أبو حذيفة, قال: حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: يَجْعَل اللّهُ الرّجْسَ على الّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ قال: ما لا خير فيه.
وقال آخرون: الرجس: العذاب. ذكر من قال ذلك:
10871ـ حدثني يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد: كَذَلِكَ يَجْعَلُ الله الرّجْسَ على الّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ قال: الرجس: عذاب الله.
وقال آخرون: الرجس: الشيطان. ذكر من قال ذلك:
10872ـ حدثني المثنى, قال: حدثنا عبد الله بن صالح, قال: ثني معاوية بن صالح, عن عليّ بن أبي طلحة, عن ابن عباس, قوله: الرّجْسَ قال: الشيطان.
وكان بعض أهل المعرفة بلغات العرب من الكوفين يقول: الرّجْس والنّجْس لغتان. ويحكى عن العرب أنها تقول: ما كان رِجْسا, ولقد رَجُسَ رجاسة, ونَجُس نَجَاسة. وكان بعض نحويي البصريين يقول: الرّجْس والرّجْز سوَاء, وهما العذاب.
والصواب في ذلك من القول عندي ما قاله ابن عباس, ومن قال: إن الرجس والنجس واحد, للخبر الذي رُوي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول إذا دخل الخلاء: «اللّهُمّ إنّي أعُوذ بِكَ مِنَ الرّجْسِ النّجْسِ الخَبِيثِ المُخْبِثِ الشّيْطانِ الرّجِيمِ».
10873ـ حدثني بذلك عبد الرحمن بن البختريّ الطائي, قال: حدثنا عبد الرحمن بن محمد المحاربي, عن إسماعيل بن مسلم, عن الحسن وقتادة, عن أنس, عن النبيّ صلى الله عليه وسلم.
وقد بَيّن هذا الخبر أن الرجس هو النجس القذر الذي لا خير فيه, وأنه من صفة الشيطان.
الآية : 126
القول في تأويل قوله تعالى: {وَهَـَذَا صِرَاطُ رَبّكَ مُسْتَقِيماً قَدْ فَصّلْنَا الاَيَاتِ لِقَوْمٍ يَذّكّرُونَ }.
يقول تعالى ذكره: وهذا الذي بينا لك يا محمد في هذه السورة وغيرها من سور القرآن, هو صراط ربك, يقول: طريق ربك ودينه الذي ارتضاه لنفسه دينا وجعله مستقيما لا اعوجاج فيه, فاثبت عليه وحرّم ما حرمته عليك وأحلل ما أحللته لك, فقد بينا الاَيات والحجج على حقيقة ذلك وصحته لقوم يذّكّرون, يقول: لمن يتذكر ما احتجّ الله به عليه من الاَيات والعبر, فيعتبر بها. وخصّ بها الذين يتذكرون, لأنهم هم أهل التمييز والفهم وأولو الحجا والفضل, فقيل: يذّكّرون.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:
10874ـ حدثني محمد بن سعد, قال: ثني أبي, قال: ثني عمي, قال: ثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس, قوله: وَهَذَا صِراطُ رَبّكَ مُسْتَقِيما يعني به الإسلام.
الآية : 127
القول في تأويل قوله تعالى: {لَهُمْ دَارُ السّلاَمِ عِندَ رَبّهِمْ وَهُوَ وَلِيّهُمْ بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ }.
يعني تعالى ذكره بقوله لهم للقوم الذين يذكرون آيات الله فيعتبرون بها ويوقنون بدلالتها على ما دلت عليه من توحيد الله, ومن نبوّة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم, وغير ذلك, فيصدّقون بما وصلوا بها إلى علمه من ذلك. وأما دار السلام, فهي دار الله التي أعدّها لأوليائه في الاَخرة جزاء لهم على ما أبلوا في الدنيا في ذات الله وهي جنته. والسلام: اسم من أسماء الله تعالى, كما قال السديّ.
10875ـ حدثني محمد بن الحسين, قال: حدثنا أحمد بن مفضل, قال: حدثنا أسباط, عن السديّ: لَهُمْ دَارُ السّلامِ عِنْدَ رَبّهِمْ الله هو السلام, والدار: الجنة.
وأما قوله: وَهُوَ وَلِيّهُمْ فإنه يقول: والله ناصر هؤلاء القوم الذين يذكرون آيات الله. بِمَا كانُوا يَعْمَلُونَ يعني جزاء بما كانوا يعملون من طاعته الله, ويتبعون رضوانه.
الآية : 128
القول في تأويل قوله تعالى: {وَيَوْمَ يِحْشُرُهُمْ جَمِيعاً يَامَعْشَرَ الْجِنّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مّنَ الإِنْسِ وَقَالَ أَوْلِيَآؤُهُم مّنَ الإِنْسِ رَبّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَآ أَجَلَنَا الّذِيَ أَجّلْتَ لَنَا قَالَ النّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَآ إِلاّ مَا شَآءَ اللّهُ إِنّ رَبّكَ حَكِيمٌ عَليمٌ }.
يعني تعالى ذكره بقوله: وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعا: ويوم يحشر هؤلاء العادلين بالله الأوثان والأصنام وغيرهم من المشركين مع أوليائهم من الشياطين الذين كانوا يوحون إليهم زخرف القول غرورا ليجادلوا به المؤمنين, فيجمعهم جميعا في موقف القيامة. يقول للجنّ: يا مَعْشَرَ الجِنّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الإنْسِ وحذف «يقول للجنّ» من الكلام اكتفاءً بدلالة ما ظهر من الكلام عليه منه.
وعني بقوله: قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الإنْسِ استكثرتم من إضلالهم وإغوائهم. كما:
10876ـ حدثني المثنى, قال: حدثنا عبد الله بن صالح, قال: ثني معاوية بن صالح, عن عليّ بن أبي طلحة عن ابن عباس: قوله: وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعا يا مَعْشَرَ الجِنّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الإنْسِ يعني: أضللتم منهم كثيرا.
10877ـ حدثنا محمد بن عبد الأعلى, قال: حدثنا محمد بن ثور, عن معمر, عن قتادة: يا مَعْشَرَ الجِنّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الإنْسِ قال: قد أضللتم كثيرا من الإنس.
10878ـ حدثني محمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد في قول الله: قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الإنْسِ قال: كثر من أغويتم.
حدثني المثنى, قال: حدثنا أبو حذيفة, قال: حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, مثله.
10879ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الحسين, قال: حدثنا أبو سفيان, عن معمر, عن الحسن: قَدِ اسْتَكْثَرتُمْ مِنَ الإنْسِ يقول: أضللتم كثيرا من الإنس.
القول في تأويل قوله تعالى: وَقالَ أوْلِياؤُهُمْ مِنَ الإنْسِ رَبّنا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنا ببَعْضٍ.
يقول تعالى ذكره: فيجيب أولياء الجنّ من الإنس, فيقولون: ربنا استمتع بعضنا ببعض في الدنيا. فأما استمتاع الإنس بالجنّ, فكان كما:
10880ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الحسين, قال: ثني حجاج, عن ابن جريج, قوله: رَبّنا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنا بِبَعْضٍ قال: كان الرجل في الجاهلية ينزل الأرض فيقول: أعوذ بكبير هذا الوادي فذلك استمتاعهم, فاعتذروا يوم القيامة.
وأما استمتاع الجنّ بالإنس, فإنه كان فيما ذكر, ما ينال الجنّ من الإنس من تعظيمهم إياهم في استعاذتهم بهم, فيقولون: قد سدنا الجنّ والإنس.
القول في تأويل قوله تعالى: وَبَلَغْنا أجَلَنَا الّذِي أجّلْتَ لَنا.
يقول تعالى ذكره: قالوا: وبلغنا الوقت الذي وقّت لموتنا. وإنما يعني جلّ ثناؤه بذلك أنهم قالوا: استمتع بعضنا ببعض أيام حياتنا إلى حال موتنا. كما:
10881ـ حدثني محمد بن الحسين, قال: حدثنا أحمد بن المفضل, قال: حدثنا أسباط, عن السدّي, وأما قوله: وَبَلَغْنا أجَلَنا الّذِي أجّلْتَ لنَا فالموت.
القول في تأويل قوله تعالى: قال النّارُ مَثْوَاكُمْ خالِدِينَ فِيها إلاّ ما شاءَ اللّهُ إنّ رَبّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ.
وهذا خبر من الله تعالى ذكره عما هو قائل لهؤلاء الذين يحشرهم يوم القيامة من العادلين به في الدنيا الأوثان ولقرنائهم من الجنّ, فأخرج الخبر عما هو كائن مخرج الخبر عما كان لتقدّم الكلام قبله بمعناه والمراد منه, فقال: قال الله لأولياء الجنّ من الإنس الذين قد تقدم خبره عنهم: النّارُ مَثْوَاكُمْ يعني نار جهنم مثواكم الذي تثوون فيه: أي تقيمون فيه. والمثوى: هو المفعل, من قولهم: ثَوَى فلان بمكان كذا, إذا أقام فيه. خالدينَ فِيها يقول: لابثين فيها, إلاّ ما شاءَ اللّهُ يعني: إلا ما شاء الله من قدر مدة ما بين مبعثهم من قبورهم إلى مصيرهم إلى جهنم, فتلك المدة التي استثناها الله من خلودهم في النار. إنّ رَبّكَ حَكِيمٌ في تدبيره في خلقه, وفي تصريفه إياهم في مشيئته من حال إلى حال وغير ذلك من أفعاله. عَلِيمٌ بعواقب تدبيره إياهم, وما إليه صائر أمرُهم من خير وشرّ. ورُوي عن ابن عباس أنه كان يتأوّل في هذا الاستثناء أن الله جعل أمر هؤلاء القوم في مبلغ عذابه إياهم إلى مشيئته.
10882ـ حدثني المثنى, قال: حدثنا عبد الله بن صالح, قال: ثني معاوية بن صالح, عن عليّ بن أبي طلحة, عن ابن عباس: قالَ النّارُ مَثْوَاكُمْ خالِدِينَ فِيها إلاّ ما شاءَ اللّهُ إنّ رَبّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ قال: إن هذه الاَية آية لا ينبغي لأحد أن يحكم على الله في خلقه أن لا ينزلهم جنة ولا نارا.
الآية : 129
القول في تأويل قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ نُوَلّي بَعْضَ الظّالِمِينَ بَعْضاً بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ }.
اختلف أهل التأويل في تأويل نُوَلّي فقال بعضهم: معناه: نجعل بعضهم لبعض وليّا على الكفر بالله. ذكر من قال ذلك:
10883ـ حدثنا يونس, قال: حدثنا بشر بن معاذ, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, قوله: وكذلكَ نُوَلّي بَعْضَ الظّالِمِينَ بَعْضا بِمَا كانُوا يَكْسِبُونَ وإنما يولّي الله بين الناس بأعمالهم. فالمؤمن وليّ المؤمن أي كان وحيث كان, والكافر وليّ الكافر أينما كان وحيثما كان. ليس الإيمان بالتمني ولا بالتحّلي.
وقال آخرون: معناه: نُتْبع بعضهم بعضا في النار من الموالاة, وهو المتابعة بين الشيء والشيء, من قول القائل: واليت بين كذا وكذا: إذا تابعت بينهما. ذكر من قال ذلك:
10884ـ حدثني محمد بن عبد الأعلى, قال: حدثنا محمد بن ثور, عن معمر, عن قتادة: وكذلكَ نُوَلّي بعَضَ الظّالِمِينَ بَعْضا في النار يتبع بعضهم بعضا.
وقال آخرون: معنى ذلك: نسلط بعض الظلمة على بعض. ذكر من قال ذلك:
10885ـ حدثني يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, في قوله: وكذلكَ نُوَلّي بَعْضَ الظّالِمِينَ بَعْضا قال: ظالمي الجن وظالمي الإنس. وقرأ: وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرّحْمَنِ نُقَيّضْ لَهُ شَيْطانا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ قال: نسلط ظلمة الجنّ على ظلمة الإنس.
وأولى هذه الأقوال في تأويل ذلك بالصواب, قول من قال: معناه: وكذلك نجعل بعض الظالمين لبعض أولياء. لأن الله ذكر قبل هذه الاَية ما كان من قول المشركين, فقال جلّ ثناؤه: وَقالَ أوْلِياؤُهُم مِنَ الإنْسِ رَبّنا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنا بِبَعْضٍ, وأخبر جلّ ثناؤه أن بعضهم أولياء بعض, ثم عقّب خبره ذلك بخبره عن أن ولاية بعضهم بعضا بتوليته إياهم, فقال: وكما جعلنا بعض هؤلاء المشركين من الجنّ والإنس أولياء بعض يستمتع بعضهم ببعض, كذلك نجعل بعضهم أولياء بعض في كلّ الأمور بما كانوا يكسبون من معاصي الله ويعملونه.
الآية : 130
القول في تأويل قوله تعالى: {يَامَعْشَرَ الْجِنّ وَالإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مّنْكُمْ يَقُصّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي وَيُنذِرُونَكُمْ لِقَآءَ يَوْمِكُمْ هَـَذَا قَالُواْ شَهِدْنَا عَلَىَ أَنْفُسِنَا وَغَرّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدّنْيَا وَشَهِدُواْ عَلَىَ أَنْفُسِهِمْ أَنّهُمْ كَانُواْ كَافِرِينَ }.
وهذا خبر من الله جلّ ثناؤه عما هو قائل يوم القيامة لهؤلاء العادلين به من مشركي الإنس والجنّ, يخبر أنه يقول لهم تعالى ذكره يومئذٍ: يا مَعْشَرَ الجِنّ والإنْسِ ألَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصّونَ عَلَيْكُمْ آياتِي يقول: يخبرونكم بما أوحي إليهم من تنبيهي إياكم على مواضع حججي وتعريفي لكم أدلتي على توحيدي, وتصديق أنبيائي, والعمل بأمري والانتهاء إلى حدودي. وَيُنْذِرُونَكُم لِقاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا يقول: يحذّرونكم لقاء عذابي في يومكم هذا وعقابي على معصيتكم إياي, فتنتهوا عن معاصيّ. وهذا من الله جلّ ثناؤه تقريع وتوبيخ لهؤلاء الكفرة على ما سلف منهم في الدنيا من الفسوق والمعاصي, ومعناه: قد أتاكم رسل منكم ينبهونكم على خطإ ما كنتم عليه مقيمين بالحجج البالغة, وينذرونكم وعيد الله على مقامكم على ما كنتم عليه مقيمين, فلم تقبلوا ذلك ولم تتذكروا ولم تعتبروا.
واختلف أهل التأويل في الجنّ, هل أرسل منهم إليهم أم لا؟ فقال بعضهم: قد أرسل إليه رسل كما أرسل إلى الإنس منهم رسل. ذكر من قال ذلك:
10886ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا يحيى بن واضح, قال: حدثنا عبيد بن سليمان, قال: سئل الضحاك عن الجنّ: هل كان فيهم نبيّ قبل أن يبعث النبيّ صلى الله عليه وسلم؟ فقال: ألم تسمع إلى قول الله: يا مَعْشَرَ الجِنّ والإنْسِ ألَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصّونَ عَلَيْكُمْ آياتِي يعني بذلك: رسلاً من الإنس ورسلاً من الجنّ؟ فقالوا: بلى.
وقال آخرون: لم يرسل منهم إليهم رسول, ولم يكن له من الجنّ قطّ رسول مرسل, وإنما الرسل من الإنس خاصة. فأما من الجنّ فالنّذْر. قالوا: وإنما قال الله: ألَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنكُمْ والرسل من أحد الفريقين, كما قال: مَرَجَ البَحْرَيْنِ يَلْتَقِيانِ ثم قال: يَخْرُجُ مِنْهُما اللّؤْلُؤُ وَالمَرْجانُ وإنما يخرج اللؤلؤ والمرجان من المِلح دون العذب منهما وإنما معنى ذلك: يخرج من بعضهما أو من أحدهما. قال: وذلك كقول القائل لجماعة أدؤر إن في هذه الدور لشرّا, وإن كان الشرّ في واحدة منهنّ, فيخرج الخبر عن جميعهنّ والمراد به الخبر عن بعضهنّ, وكما يقال: أكلت خبزا ولبنا: إذا اختلطا ولو قيل: أكلت لبنا, كان الكلام خطأ, لأن اللبن يشرب ولا يؤكل. ذكر من قال ذلك:
10887ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الحسين, قال: ثني حجاج, عن ابن جريج, قوله: يا مَعْشَرَ الجِنّ والإنْسِ ألَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ قال: جمعهم كما جمع قوله: وَمِنْ كُلَ تَأْكُلُونَ لَحْما طَرِيّا وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَها ولا يخرج من الأنهار حلية. قال ابن جريج: قال ابن عباس: هم الجن لَقُوا قومهم, وهم رسل إلى قومهم.
فعلى قول ابن عباس هذا, أن من الجنّ رسلاً للإنس إلى قومهم.
فتأويل الاَية على هذا التأويل الذي تأوّله ابن عباس: ألم يأتكم أيها الجنّ والإنس رسل منكم؟ فأما رسل الإنس, فرسل من الله إليهم وأما رسل الجنّ, فرسل رسل الله من بني آدم, وهم الذين إذ سمعوا القرآن ولّوا إلى قومهم منذرين.
وأما الذين قالوا بقول الضحاك, فإنهم قالوا: إن الله تعالى ذكره أخبر أن من الجنّ رسلاً أرسلوا إليهم, كما أخبر أن من الإنس رسلا أرسلوا إليهم. قالوا: ولو جاز أن يكون خبره عن رسل الجنّ بمعنى أنهم رسلا الإنس, جاز أن يكون خبره عن رسل الإنس بمعنى أنهم رسل الجنّ. قالوا: وفي فساد هذا المعنى ما يدلّ على أن الخبرين جميعا بمعنى الخبر عنهم أنهم رسل الله, لأن ذلك هو المعروف في الخطاب دون غيره.
القول في تأويل قوله تعالى: قالُوا شَهِدْنا على أنْفُسِنا وَغَرّتْهُمُ الحَياةُ الدّنْيا وَشَهِدُوا على أنْفُسِهِمْ أنّهُمْ كانُوا كافِرِينَ.
وهذا خبر من الله جلّ ثناؤه عن قول مشركي الجنّ والإنس عند تقريعه إياهم بقوله لهم أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصّونَ عَلَيْكُمْ آياتِي وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا أنهم يقولون شَهِدْنا على أنْفُسِنا بأن رسلك قد أتتنا بآياتك, وأنذرتنا لقاء يومنا هذا, فكذّبناها وجحدنا رسالتها, ولم نتبع آياتك ولم نؤمن بها. قال الله خبرا مبتدأً: وغرّت هؤلاء العادلين بالله الأوثان والأصنام وأولياءهم من الجنّ, الحَياةُ الدّنيا يعني: زنية الحياة الدنيا وطلب الرياسة فيها والمنافسة عليها, أن يسلموا لأمر الله فيطيعوا فيها رسله, فاستكبروا وكانوا قوما عالين. فاكتفى بذكر الحياة الدنيا من ذكر المعاني التي غرّتهم وخدعتهم فيها, إذ كان في ذكرها متكفى عن ذكر غيرها لدلالة الكلام على ما ترك ذكره, يقول الله تعالى: وَشَهِدُوا على أنْفُسِهِمْ يعني هؤلاء العادلين به يوم القيامة أنهم كانوا في الدنيا كافرين به وبرسله, لتتمّ حجة الله عليهم بإقرارهم على أنفسهم بما يوجب عليهم عقوبته وأليم عذابه.
الآية : 131
القول في تأويل قوله تعالى: {ذَلِكَ أَن لّمْ يَكُنْ رّبّكَ مُهْلِكَ الْقُرَىَ بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ }.
يقول تعالى ذكره: ذَلِكَ أنْ لَمْ يَكُنْ رَبّكَ مُهْلِكَ القُرَى بِظُلْمٍ: أي إنما أرسلنا الرسل يا محمد إلى من وصفت أمره, وأعلمتك خبره من مشركي الإنس والجنّ يقصون عليهم آياتي وينذرونهم لقاء معادهم إليّ, من أجل أن ربك لم يكن مهلك القرى بظلم.
وقد يتجه من التأويل في قوله: «بظلم» وجهان: أحدهما: ذَلِكَ أنْ لَمْ يَكُنْ رَبّكَ مُهْلِكَ القُرَى بِظُلْمٍ: أي بشرك من أشرك, وكُفْر من كفر من أهلها, كما قال لقمان: إنّ الشّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ. وأهْلُها غافِلُونَ يقول: لم يكن يعاجلهم بالعقوبة حتى يبعث إليهم رسلاً تنبههم على حجج الله عليهم, وتنذرهم عذاب الله يوم معادهم إليه, ولم يكن بالذي يأخذهم غفلة فيقولوا ما جاءنا من بشير ولا نذير.
والاَخر: ذَلِكَ أنْ لَمْ رَبّكَ يَكُنْ مُهْلِكَ القُرَى بظُلْمٍ يقول: لم يكن ليهلكهم دون التنبيه والتذكير بالرسل والاَيات والعبر, فيظلمهم بذلك, والله غير ظلام للعبيد.
وأولى القولين بالصواب عندي القول الأوّل, أن يكون معناه: أن لم يكن ليهلكهم بشركهم دون إرسال الرسل إليهم والإعذار بينه وبينهم, وذلك أن قوله: ذَلِكَ أنْ لَمْ يَكُنْ رَبّكَ مُهْلِكَ القُرَى بِظُلْمٍ عقيب قوله: ألَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصّونَ عَلَيْكُمْ آياتِي فكان في ذلك الدليل الواضح على أن نص قوله: ذَلِكَ أنْ لَمْ يَكُنْ رَبّكَ مُهْلِكَ القُرَى بِظُلْمٍ إنما هو إنما فعلنا ذلك من أجل أنا لا نهلك القُرَى بغير تذكير وتنبيه. وأما قوله: ذَلِكَ فإنه يجوز أن يكون نصبا, بمعنى: فعلنا ذلك, ويجوز أن يكون رفعا بمعنى الابتداء, كأنه قال: ذلك كذلك. وأما «أن» فإنها في موضع نصب بمعنى: فعلنا ذلك من أجل أن لم يكن ربك مُهْلِك القرى, فإذا حذف ما كان يخفضها تعلق بها الفعل فنصب